د. الشيخ رضا برنجكار(*)
الخلاصة
تُعتبر حرية الإرادة والاختيار منطلقاً للعديد من المدارس الأخلاقية، بما في ذلك مدرسة كانْط الأخلاقية. يناقش كانْط حرية الإرادة من جهتين: نظرية؛ وعملية. ويعتقد ـ بناءً على مبادئ الفلسفة التقليدية ـ أن حرية الإرادة هي مسألة «متناقضة»، يمكن أن يقوم البرهان الفلسفي على إثباتها ونَفْيها في آنٍ معاً. وهكذا يقودنا مبحث حرية الإرادة في الفلسفة الشائعة إلى التناقض. ويعرض كانط، استناداً إلى أسسه الفلسفية، طريقةً لحلّ هذا التناقض، لكنه يجد أن من المستحيل إثبات حرية الإرادة من خلال العقل النظري. لذلك يثبت الاختيار في مسائل العقل العملي. ووفقاً له، فإن غاية الأخلاق هي الإرادة الخيّرة، وهذه الأخيرة فرعٌ من حرّية الإرادة. لذلك، فإن حرية الإرادة هي الافتراض القَبْلي لوجود الأخلاق، وبما أن الأخلاق بديهية ومقبولة فيجب أيضاً قبول الحرية.
مقدّمةٌ
تُعتبر مسألة كيفية صدور الإرادة، وما إذا كان الإنسان يتمتّع بقوة الإرادة والاختيار الحرّ في أفعاله أم أن إرادته صادرةٌ بالجبر والإكراه نتيجة لعلل وعوامل خارجية، من أهمّ الأسئلة الفكرية والعقائدية، وأكثرها تعقيداً.
هذه المسألة، التي عُرفَتْ في الثقافة الإسلامية بمسألة «الجبر والاختيار»، هي من أقدم المسائل النظرية التي تمّ طرحها بأشكال متعدّدة في مختلف مجالات العلوم والثقافة الإنسانية، مثل: الفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والقانون، والأخلاق، وعلم النفس، والفيزياء.
تعتبر مسألة الجبر والاختيار من أولى القضايا التي أُثيرت في مجال الثقافة الإسلامية، وخاصّة في علم الكلام، وساهمَتْ في تأسيس بعض المدارس الكلامية. وبالنظر إلى أن عقلانية العديد من المبادئ والعقائد الدينية تعتمد على وجود صورة صحيحة لهذه المسألة فقد قدّمَتْ كلّ مدرسة كلامية نظرية محددة في هذا الصدد.
ولطالما كانت هذه المسألة محلّ نقاش بين الفلاسفة الغربيين.
فديكارت ـ الذي يعدّونه مؤسس الفلسفة المعاصرة في الغرب ـ يعتبر أن الفكر ماهية الإنسان، ويعتقد بأن «لدينا نوعين من التفكير: إدراك الفهم؛ وفعل الإرادة»([1])، وهكذا، بحَسَب ديكارت، فإن النفس البشرية لها بُعْدان أساسيان: الفهم؛ والإرادة، والجوانب الأخرى تعود إلى هذين البُعْدين.
كما يناقش إيمانويل كانط ـ أحد أعظم فلاسفة العصر الغربي الحديث ـ مسألة الإرادة. وتكمن الأهمية الرئيسة للإرادة بالنسبة له في أن حرية الإرادة برأيه هي الافتراض القَبْلي للواجب والمسؤولية الأخلاقية. للأخلاق والحكمة العملية أهمّية خاصة بالنسبة لكانط، وفي هذا المجال فقط يثبت وجود الله والعالم والنفس وخلودها. ويعتقد من ناحيةٍ أخرى أن وجود الأخلاق والحكمة العملية يعتمد على إثبات حرية الإرادة. وأثار كانط أيضاً مسألة الإرادة في إطار أبحاث العقل النظري، على الرغم من اعتقاده أن الفلسفة التقليدية لا يمكن أن تحلّها، ولا يمكن أن تُحلّ إلاّ من خلال قبول مبادئ فلسفته النقدية.
وقد طرحنا للبحث هنا، بدايةً، مجموعةً من مبادئ فلسفة كانط التي تتعلّق بفهم نظريته حول الحرّية واختيار الإنسان، وبعد ذلك ستتمّ دراسة مسألة الاختيار من منطلق العقل النظري؛ وأخيراً سنعرّج على مسألة الاختيار من منظور العقل العملي.
1ـ مكانة مفهوم الاختيار في فلسفة كانط
ليس أمام الإنسان ـ وفقاً لكانط ـ خيارٌ لفهم العالم الخارجي سوى المعرفة الحسِّية. ومن ناحيةٍ أخرى يوجد في المعرفة الحسِّية مفاهيم غير مستمدّة من الحواسّ، ولكنها موجودةٌ في العقل البشري بداهةً وقبل التجربة الحسِّية. ما يتلقاه العقل في شكل تأثيرات حسّية من الخارج هو مادة الإدراك، وما يخلعه العقل لهذه المادة من نفسه هو صورة الإدراك، والمعرفة هي نتيجة تركيب مادة الإدراك وصورته.
يعتبر كانط مفهومي الزمان والمكان كمفاهيم قَبْلية للحسّ. والمفاهيم القبلية الاثنا عشر الأخرى ـ والتي يسمِّيها المقولات، كمفاهيم قَبْلية الفهم أو ملَكَة الحكم ـ تنطبق هذه المقولات على الكثرة الحسِّية، ولذلك تُعدّ القواعد التجريبية والعينية. ولكنْ يعتقد كانط، بغضّ النظر عن هذه المفاهيم، بوجود مجموعةٍ أخرى من المفاهيم القَبْلية التي ـ على عكس المقولات ـ لا تنطبق على المعطيات الحسّية، وبالتالي لا مصداقية لها في التجربة، وهكذا لا يمكن إدراكها وتفسيرها بالتجربة. تنتمي هذه الفئة من المفاهيم القبلية إلى العقل، وعادةً ما تسمّى «الصور العقلية» أو « تصورات العقل». والحرية والاختيار من هذه التصوّرات.
2ـ أهمّية مسألة الاختيار في رؤية كانط الفلسفية
يعدّ فصل «المنطق المتعالي» أهمّ الفصول في كتاب (نقد العقل النظري)، لكانط، ويقسّم إلى: «التحليل المتعالي»؛ و«الجدل المتعالي».
يثبت كانط في التحليل المتعالي، أثناء استنتاجه المقولات من الأحكام، أن المقولات هي شروط ضرورية للمعرفة. ويجهد في الجدل المتعالي، أثناء استنتاج الصور العقلية، لإظهار أن العقل بطبيعته يستخدم مفاهيم قَبْلية في مجالٍ يتجاوز ما هو معروف لنا في الزمان والمكان، وبالتالي يحاول حلّ المسائل الميتافيزيقية. ولكنْ بما أنه، وفقاً لكانط، لا يمكن تطبيق المفاهيم القَبْلية إلا على المشاهدات الحسّية الزمانية والمكانية فإن تخطي العقل لهذا المبدأ سيؤدّي إلى وَهْمٍ متعالٍ.
يعتبر كانط أن القضايا الميتافيزيقية للفلاسفة هي من هذا النوع. عمل العقل هو استنتاج بالوساطة أو استنتاج قياسي.
يحاول كانط في قسم الجدل اكتشاف تصوّرات العقل وفقاً لصور مختلفة من القياس. ويوجِّه اهتمامه، بناءً على المنطق التقليدي، لأنواع القياس الثلاثة، وهي: القياس العملي؛ والاستثنائي؛ والمنفصل، ويكتشف تصوّر النفس والعالم والله على أنها ثلاث صور عقلية. ونظراً لأنه لا يوجد شيءٌ محسوس يكون مصداقاً لهذه التصوُّرات، وفقاً لكانط، فإن هذه الأمور لا يمكن معرفتها معرفةً عينية. وإضفاء الطابع العيني على هذه التصوّرات الثلاثة في الفلسفة النظرية عبارةٌ عن سفسطة. لكنه يثبت هذه التصوّرات الثلاثة بطرق أخرى في بحث العقل العملي، ويقبل عينيتها.
تشكّل الأبحاث الفلسفية والاستنتاجات القياسية المتعلقة بهذه التصورات العقلية الثلاثة الأجزاء الثلاثة المهمّة للميتافيزيقيا، وهي: معرفة الإنسان؛ والعالم؛ والله. في القسم الخاصّ بالجدل المتعالي، من أجل إظهار مغالطة هذه القضايا، في ثلاثة فصول مستقلّة، تمَّتْ مناقشة المغالطات والتعارض المتعلّق بهذه القضايا الثلاثة.
ووفقاً لكانط، يتعرَّض العقل في الميتافيزيقيا، في فهم العالم وتفسيره، إلى مسائل جدلية، ويعدِّد أربعة أشكال من المسائل متناقضة التضادّ (antinomy)، يوجد في كلٍّ منها زوج من القضايا المتناقضة في الظاهر. ثمّ يعرض الحلّ في كلّ حالة، بناءً على فلسفته النقدية. والاختيار هو أحدّ تناقضات معرفة العالم.
في ما يتعلَّق بأهمية تناقضات معرفة العالم يكفي أن يعتبر كانط في إحدى رسائله أن تلك التناقضات كانت أصل تحوّله إلى الفلسفة النقدية. يقول: «كانت هذه التناقضات هي التي أيقظتني من سباتي الجزمي، ودفعتني تجاه عقلنا النقدي، حتى أنظّف عيب التناقض الذي يملكه العقل في الظاهر»([2]).
ويقول في ما يتعلَّق بالمكانة المركزية للتناقضات في نظريته المعرفية: «ربما يكون من غير المناسب بحثها (التناقضات) هنا في بداية العمل، خصوصاً أن الأرضية غير ممهّدة لها بعد، ولولا ذلك لجعلت فصل التناقضات في بداية الكتاب»([3]).
يناقش كانط العلة والاختيار في التناقض الثالث من التناقضات المتعلقة بالعالم. وبعد ذكره لنظريتين متناقضتين حول الاختيار وعلاقتهما بالعلّية، وكذلك شرح الحجج المقدّمة لكلّ نظريّةٍ بناءً على مبادئ فلسفته، يقدّم حلاًّ بهذه الطريقة: الاختيار أمرٌ ممكن، ويمكن دمجه مع العلة الطبيعية. وبالتالي فإن الاختيار ليس مفهوماً يقود إلى التناقض. لكنْ لا يمكن إثبات تحقيق الاختيار في الفلسفة النظرية. يعتبر كانط أن إثبات الاختيار ممكنٌ من خلال العقل العملي، وفي القضايا الأخلاقية، ويشير إلى كتبه الأخلاقية.
وهو يلخِّص موقفه من وجهة نظر العقل النظري حول الاختيار، في كتابه تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق، كما يلي: «لا يمكننا توضيح أيّ شيء ما لم نحوِّله إلى قوانين يمكن العثور على موضوعها في التجربة الممكنة. لكنّ الاختيار مفهوم مَحْض لا يمكن الحصول على واقعه العيني بأيّ شكلٍ من الأشكال من خلال قوانين الطبيعة، بل فقط من خلال التجربة الممكنة. وبما أنه لا يمكن توفير تمثّل أو تصوّر حسّي للاختيار فلا يمكن أبداً فهمه أو ملاحظته. يكون الاختيار معتبراً فقط إذا كان بمنزلة افتراض قبلي ضروري للعقل لدى الكائن الذي يؤمن بوَعْيه للإرادة كموهبةٍ متميّزة عن موهبة الرغبة والميول»([4]).
ويردّ كانط على أولئك الذين يعتبرون إرادة الإنسان الحرّة متعارضة مع قوانين الطبيعة، وبالتالي مستحيلة، قائلاً: «إن خطأ هؤلاء الناس هو جعلهم الإنسان ظاهرةً مثل غيرها من الظواهر في الطبيعة، ومحكوماً بقوانينها، ولكنْ يمكن اعتبار الإنسان وإرادته الحرّة كائناً يتجاوز الظواهر الطبيعية، ولا يخضع لقوانين الطبيعة»([5]).
والآن سوف نشرح نظرية كانط، بناءً على كتاب نقد العقل النظري:
3ـ تعريف الإرادة والحرّية
يقول كانط عن الإرادة والحرّية: الإرادة نوعٌ من العلية للكائنات الحيّة بقدر ما هي عاقلة. الحرّية هي سمةٌ من سمات هذه العلية بحيث يمكنها التصرُّف بشكلٍ مستقلّ عن المحدّدات المتأتِّية من الأسباب الخارجية، تماماً كما أن الضرورة الطبيعية هي الصفة العلية لجميع الكائنات غير العاقلة التي أجبرت على التصرُّف بأسباب غريبة. ماذا ستكون حرِّية الإرادة غير الاستقلال، يعني مزية الإرادة، لتكون قانوناً في حدّ ذاته بالنسبة لنفسها؟([6]).
وبالتالي يمكن أن تتحقق الإرادة بحرّية، ويمكن تحديدها من خلال علل خارجية. القسم الأوّل: الإرادة (will)، الإرادة الحرّة (freewill)، أو الاختيار (freedom)؛ والقسم الثاني: قَسْر وجبر. لذلك فإن نسبة بين الإرادة والاختيار هي العموم والخصوص المطلق، أي إن كلّ اختيار هو نوعٌ من الإرادة، ولكنْ ليس كلّ إرادة اختياراً، لأن الإرادة قد تكون محدّدة وناتجة عن علل خارجية.
4ـ العلِّية والاختيار في كتاب نقد العقل النظري
يذكر كانط ـ كما أشَرْنا سابقاً ـ في كتاب نقد العقل النظري مسألة الجبر والاختيار بصفتها مسألة متناقضة في الفلسفة التقليدية، والتي في حالة القضية الأصلية أو الفرضية يتمّ إثبات الاختيار كنوعٍ من العلّة، ولكنّ القضية المعاكسة أو نقض الفرضية هي أنه لا يوجد حرّيةٌ واختيار، وكلّ شيء في العالم يحدث فقط وفقاً لقوانين الطبيعة.
والآن نتتبّع شرح الفكرة من كتاب نقد العقل النظري([7]).
أـ الفرضيّة
وفقاً لقوانين الطبيعة فإن مبدأ العلِّية ليس هو العلِّية الوحيدة التي يمكن من خلالها استنتاج كلّ ظواهر العالم.
ومن أجل تفسير هذه الظواهر يجب قبول نوعٍ آخر من العلِّية، وهو الاختيار.
البرهان
لنفترض أنه لا توجد علية غير العلية وفقاً لقوانين الطبيعة، في هذه الحالة قبل حدوث أيّ شيءٍ يجب افتراض حالةٍ قَبْلية، بحيث وفقاً للقاعدة تحدث بعدها تلك الحالة. لكنْ يجب أن تكون تلك الحالة القَبْلية موجودة في وقتٍ لم تكن موجودةً من قبل؛ لأنه إذا كانت تلك الحالة موجودةً دائماً فلن يحدث معلولها، بل كان سيظلّ موجوداً دائماً، وهذا يتعارض مع الافتراض الأصلي. ولكنْ بما أن هذه الحالة نفسها هي ظاهرةٌ زمانية فإنها بدَوْرها تفترض الحالة القَبْلية التي هي سببها، وهذه الحالة أيضاً تفترض حالةً أخرى، وهكذا. لذلك إذا حدثت الظواهر وفقاً لقوانين الطبيعة فقط فلن يكون لدينا سلسلةٌ كاملة من العلل ذات المبدأ المحدّد، في حين أن قانون الطبيعة هو أن لا شيء يحدث ما لم نصل إلى علّةٍ كافية أو أصل محدّد، وهكذا([8]).
لذا فإن القول بأن «كلّ علّةٍ لا تكون ممكنةً إلاّ وفقاً لقوانين الطبيعة» يقودنا إلى التناقض. ولهذا يجب أن نقبل نوعاً آخر من العلّية يحدث من خلالها شيءٌ ما، دون أن تتحدّد علّته وفقاً للقوانين الضرورية عن طريق علّةٍ سابقة، أي «تلقائية مطلقة» (absolute spontaneity) للعلل التي تتعاقب عن طريقها سلسلة من الظواهر من تلقاء نفسها وفقاً لقوانين الطبيعة. هذه التلقائية المطلقة للعلل هي «الاختيار المتعالي» (transcendental freedom)، التي لا يمكن أن تكتمل أبداً بدونها سلسلة العلل والنتائج، حتى في صيرورة الطبيعة.
ملاحظاتٌ حول الفرضيّة
يفسِّر كانط هذا الاختيار، الذي تمّ إثباته استناداً إلى البرهان المتقدِّم، بناءً على مبادئه الفلسفية في عدّة نقاط، وهي:
1ـ الاختيار ليس مفهوماً تجريبياً ونفسياً، الاختيار عبارةٌ عن التلقائية المطلقة للفعل كأساسٍ للمسؤولية. والسبب الذي يجعل كانط لا يعتبر الاختيار مفهوماً تجريبياً هو أن الاختيار ليس أمراً زمانياً ومكانياً، ولا يمكن إدراكه بالحسّ. يدعو كانط اختياراً كهذا بالمتعالي، والتعالي يعني هنا المفهوم الذي ليس له مصداق في التجربة، لأنه لا يتعلق بالزمان والمكان، ولكنْ لتبرير المسؤولية الأخلاقية فإن افتراض مثل هذا المفهوم ضروريّ. ينبغي الانتباه أن مصطلح التعالي له معنيان في أعمال كانط: أحدهما: هو تعالي العقل، والذي سنناقشه في قسم الجَدَل أو ديالكتيك العقل النظري، والاختيار واحد منه؛ والآخر: هو تعالي الفهم، الذي هو المقولات الاثني عشر للفهم، والتي تحمل على الخارج.
2ـ يتمّ قبول القوة التلقائية في هذا البرهان فقط لبدء سلسلةٍ من الأشياء، ولكنْ لا توجد ضرورةٌ لطرح هذا السؤال والجواب عنه، وهو: كيف تكون هذه القوة ممكنةً؟ ولا تتمّ مناقشة ذلك.
3ـ إن قبول أصل السلسلة الأولى من الظواهر ـ يعني الاختيار ـ ضروريّ فقط لفهم منشأ العالم ومنشأ أصل سلسلة الظواهر. بينما يمكن تفسير بقية السلسلة من خلال العلل الطبيعية والقوانين الطبيعة وحدها.
4ـ تمّ إثبات البداية المطلقة لكلّ سلسلة من الظواهر من حيث العلية، وليس من حيث الزمان، في برهان الفرضية. وبالنظر إلى الزمان فإن الاختيار ليس سوى بداية نسبية، أي إنه يعتبر أصل سلاسل معينة، لكنّ هذا الأصل نفسه من حيث الزمان مسبوقٌ بظوهر أخرى. على سبيل المثال: إذا نهضتُ من مقعدي في هذه اللحظة بحرّية تامة، وبدون الأسباب الضرورية للعلل الطبيعية الجارية عليّ، فقد بدأت سلسلةً جديدة، على الرغم من أن هذه الظاهرة بالنظر إلى الزمان تُعتبر استمراراً للسلسلة السابقة. وبعبارةٍ أخرى: إن اختيار النهوض من الكرسيّ يحدث في الزمن بعد ظاهرة أخرى، ولكنْ من حيث العلية لا يكون نتيجةً ومعلولاً لتلك الظاهرة السابقة، ويمكن اعتبار هذه الملاحظة دليلاً على هذا الأمر، وهي أن العلية على أساس الزمان هي نفسها علية الظواهر أو العلية الطبيعية، ووفقاً للعلية الطبيعية فإن كل شيءٍ بما فيه الاختيار مسبوقٌ بعلّةٍ تعمل على ظهوره.
5ـ يؤكّد الاعتقاد بالمحرّك الأول بين الفلاسفة القدامى حاجة العقل إلى افتراض مبدأ أوّل، أي الاختيار. لقد أُجبِر الفلاسفة القدامى ـ ماعدا الأبيقوريين ـ على قبول مبدأ أوّل يكون بداية سلسلة حالات العالم؛ من أجل تفسير ظواهر عالمهم.
ب ـ نقض الفرضيّة
لا توجد حرّيةٌ واختيار، وكلّ شيء في العالم يحدث فقط وفقاً لقوانين الطبيعة.
البرهان
إذا قبلنا بوجود الحرّية المتعالية كنوعٍ خاصّ من العلية في البداية المطلقة، وعلى رأس سلسلة الظواهر، ففي هذه الحالة نواجه ظاهرةً ضمن سلسلة الظواهر ليس لها علة، وهذا يتعارض مع قانون العلية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن العلية هي إحدى مقولات الفهم الاثني عشر، وهي تلك التي توحّد الكثرة الحسّية وتنطبق على المحسوسات، وبالتالي يوجد لها مصاديق في التجربة. وفي حال لم يكن للحرّية والاختيار مصداق في التجربة والحسّ فإنه في التعارض بين العلية والحرية يجب التخلّي عن الحرية.
ملاحظاتٌ حول نقض الفرضيّة
1ـ بالرغم من أن الحرية تحرِّرنا من الجبر، إلا أنها تستتبع أيضاً التحرُّر من قوانين الطبيعة. إن التعارض بين الطبيعة والحرّية هو في الواقع تعارض بين القانون واللا قانون. تقدم قوانين الطبيعة التعددية التجريبية في وحدة كاملة ومنظمة، لكنها لا تقودنا إلى أصل ونشأة الكون. وفي المقابل تقودنا الحرية والاختيار إلى أصل الظواهر، ولكنهما لا يبرِّران وحدة العالم ونظامه([9]).
2ـ يقول منكر الاختيار، ردّاً على استدلال القائل بالاختيار: أنت الذي تقبل أن سلسلة العلل ليس لها بداية من حيث الزمن، تقبل أيضاً أنه لا توجد بداية وأصل من حيث العلية. صحيح أن العقل لا يستطيع أن يقبل سلسلة العلل بدون الأصل، وهو يطمئنّ بقبول الأصل الأوّل، لكنّ قبول مثل هذا الأصل سيخلق العديد من المشاكل. إذا كنت تريد إثبات الأصل الأوّل (أي الاختيار)؛ لأن العالمَ بدون أصلٍ غيرُ مبرّر وضربٌ من اللغز فإن الخصائص المجهولة وألغاز الطبيعة الأخرى، مثل: التغيرات المتتالية المستمرّة للوجود والعدم، والتي هي مجهولة الكيفية والتفسير العقلي، يجب أن تُنْكَر أيضاً.
3ـ حتى لو كان من الضروري الاعتراف بالاختيار، فيجب قبوله خارج العالم وخارج مجموعة المشاهدات الحسّية كلّها، ويجب أن لا تُنسب قوة الاختيار إلى الجواهر في العالم، وإلاّ فإن ارتباط الظواهر ـ التي هي ضرورية، ويتمّ تعيينها طبقاً للقوانين، وتظهر التجربة أيضاً مثل هذا الارتباط ـ سوف يتزعزع؛ لأن الاختيار والحرية خارجان عن القانون، ومع وجود مثل هذه القوة يصبح من الصعب تخيل قوانين الطبيعة؛ لأنه من خلال تأثير الاختيار ستكون هذه القوانين عرضةً للتغيير باستمرار.
ج ـ حلّ التعارض بين العلِّية والاختيار([10])
بعد أن ذكر كانط أنواع العلية والاختيار، ومعاني كلٍّ منهما في هذا القسم، يعمل الآن على حلّ التعارض بين العلية الطبيعية والاختيار على أساس مبادئ فلسفته. يوجد نوعان فقط من العلية في ما يتعلَّق بأحداث العالم: العلية الطبيعية؛ والعلية الاختيارية. العلية الطبيعية عبارةٌ عن ارتباط حالةٍ ما في العالم الحسّي بحالةٍ تسبقها، حيث تنتج الحالة التالية على أساس قاعدةٍ ما، وبالضرورة من الحالة السابقة، وبما أن علية الظواهر متعلّقة بالظروف الزمانية، وإذا كانت الحالة السابقة موجودةً دائماً، فلا يمكن أن تكون قد أوجدَتْ المعلول الذي هو حادثٌ في الزمان. والعلة السابقة أيضاً ظاهرةٌ حادثة ومحتاجة إلى علّةٍ قبلها، وهكذا.
أما العلية الاختيارية فتقسَّم إلى قسمين: نظرية أو كوسمولوجية؛ وعملية. العلية الاختيارية النظرية أو الكوسمولوجية هي القدرة على بدء حالة ما بشكلٍ تلقائي (spontaneously).
هذا النوع من العلية متعلق بعلةٍ أخرى لا يتمّ تحديدها في الزمان. الاختيار بهذا المعنى فكرة متعالية مَحْضة لا تتضمن شيئاً من التجربة، ومتعلّقها لا يمكن أن يتحدّد من خلال التجربة، ولكنها شرطُ إمكان أيّ نوعٍ من التجارب؛ لأن العقل يهدأ ويطمئنّ عندما يعيد كلّ الأشياء المشروطة إلى شيءٍ غير مشروط يكون مبدأ الأمور المشروطة، ويجد العقل مثل هذا الشيء في فكرة الاختيار المتعالية.
والاختيار بالمعنى العمليّ مبنيٌّ على الاختيار بالمعنى المتعالي، وهو عبارةٌ عن استقلال الإرادة عن جَبْر المحفّزات والدوافع الحسّية. وعندما تخضع الإرادة بشكلٍ مرضي وانفعالي لتأثير الرغبات الحسية تكون إرادةً حسّية (arbitrium sensitivum)، وإذا اتَّخذت صفة الضرورة بشكلٍ مرضي وانفعالي فهي إرادةٌ حيوانية (arbitrium brutum). إرادة الإنسان هي بالتأكيد إرادةٌ حسية، لكنها ليست إرادةً حيوانية، بل هي إرادة مستقلّة (arbitrium liberum)؛ لأن الدوافع الحسية لا تتطلّب ذلك، ولدى الإنسان قوة محدّدة مستقلة عن الجبر الناشئ عن الدوافع الحسّية.
وقبل مواصلة البحث نذكر نقطتين في ملخّص هذا القسم:
أوّلاً: كما نرى، يقسِّم كانط العلية إلى نوعين: العلية الطبيعية؛ والعلية الاختيارية. كما يأخذ بعين الاعتبار معنيين للعلة الاختيارية: نظري (كوسمولوجي)؛ وعملي. والمفهوم النظري للاختيار أي المبادرة التلقائية هو مفهومٌ إيجابي، بينما المفهوم العملي للاختيار أي الاستقلال وعدم التعلُّق بالدوافع الحسية هو مفهومٌ سلبي، وسنعود إلى هذا لاحقاً في البحث التالي.
والنقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام هي اعتقاد كانط أن حرّية الإرادة لا تتنافى مع كونها حسّية، بينما الإرادة الحيوانية لا تجتمع مع الإرادة المستقلّة؛ لأن الحرية تجتمع مع تأثير الدوافع الحسية، ولكنها لا تتوافق مع إكراه وضرورة هذه الدوافع.
من الواضح أنه إذا كانت علية العالم المحسوس هي علية طبيعية فقط فإن كلّ حَدَث يتحدّد بحَدَث آخر وفقاً للقوانين الضرورية. لذلك؛ لأن الظواهر في موقع تعيين الإرادة تستلزم كلّ فعل كمعلولٍ طبيعيّ خاصّ بها، فإن اختفاء الاختيار المتعالي، في نفس الوقت، يلغي أيّ نوعٍ من الاختيار العملي؛ لأن الاختيار العملي يفترض أنه في حال لم يتمّ القيام بعملٍ ما (مثل: الصدق) فيجب (ought to) القيام بهذا العمل.
وبناءً عليه فإن علة الأمر الموجود (مثلاً: الكذب) لم تكن لديها قوّة تعيين تمنع إرادتنا المستقلة عن العمل الطبيعي، وحتّى المخالفة لقوى وتأثير تلك العلل من إيجاد شيء تعيّن وفق القوانين التجريبية في نظام الزمان، وبالتالي بدأ بسلسلةٍ من الاحداث من تلقاء نفسه تماماً.
المسألة هنا أن العقل تخطّى نطاق التجربة الممكنة، ووقع في التعارض، وانخرط في استدلالاتٍ جَدَلية حول هذه القضية، والحلّ يكمن في الفلسفة المتعالية، ومن أجل ذلك علينا أوّلاً تحديد الطريق وطريقة هذه الفلسفة.
الفكرة في هذا التعارض المذكور حول ما إذا كانت قضيّةٌ منفصلة «في العالم يجب أن ينشأ كلّ معلول إما من الطبيعة أو من الاختيار» هي قضيّة صادقة، أو أن كلا الطبيعة والاختيار، بالطبع بنسب متفاوتة، يمكن أن يتعايشا معاً؟
أثبت التحليل المتعالي([11]) صحّة مبدأ «الارتباط غير المنفصل لجميع أحداث العالم المحسوس، وفقاً لقوانين الطبيعة الثابتة». وهذا المبدأ ليس له حدود. لذا فإن المسألة الوحيدة يمكن أن تكون: هل يمكن العثور، على الرغم من هذا المبدأ، على الاختيار في نفس المعلول كما تحدِّده الطبيعة، أو أن الاختيار مرفوضٌ تماماً؟
والافتراض الشائع هنا في (الفلسفة التقليدية) ـ مع أنه مغالطةٌ ـ أن «الواقع المطلق» (absolute reality) يظهِر تأثيره المدمّر على ارتباك العقل.
يريد كانط هنا أن يأخذ بعين الاعتبار أسس الفلسفة التقليدية والشائعة في علة تعارض العقل. يقصد كانط من افتراض الواقع المطلق تطابق العين والذهن، الذي هو أحد أسس الفلسفة الواقعية. بناءً على هذا الافتراض أو الأساس فإن الذي يظهر لقوى الإنسان الإدراكية موجودٌ في الخارج بشكلٍ عيني، والظواهر والزمان والمكان أمور واقعية وأشياء في نفسها. يسمّي كانط هذه الرؤية بالواقعية المتعالية في مناقشته للمذاهب المختلفة لعلم المعرفة، ويقترح بدَوْره نظرية الواقعية التجريبية، والتي بموجبها يتمّ قبول وجود للمادة، لكنها ليست أكثر من الحسّ، بل مجرّد طبقة من التصوُّرات، هذه التصوُّرات التي يتم النظر إليها على أنها أمرٌ واقعي، وليس شيئاً يفوق التصورات([12]).
إذا كانت الظواهر أشياء في نفسها، فلا يمكن حفظ الاختيار؛ [لأنه في هذه الحالة سيكون عالم الظواهر وعالم الأمر في نفسه عالماً واحداً، ولأنه في عالم الظواهر، وهو عالم التجربة الحسية، فقط قوانين الطبيعة هي التي تسود، ولا يوجد مصداق للاختيار، لذلك في عالم الأمر في نفسه ستكون قوانين الطبيعة نفسها هي الحاكمة أيضاً]، ولكن إذا اعتبرنا الظواهر مجرد تصورات، كما هي هكذا فعلاً، والتي ترتبط ببعضها وفقاً للقوانين التجريبية، يجب أن يكون لها علةٌ غير ظواهرية. لكن علّةً كهذه معقولةً، من حيث العلية، لا تتعين بواسطة الظواهر، ومع ذلك فإن آثارها ظاهرة، وبالتالي يمكن تحديدها من خلال ظواهر أخرى. وهكذا، فإن هذه العلة المعقولة مع عليتها خارج سلسلة الظواهر، [وتنتمي إلى العالم المعقول والأمر في نفسه]. وعليه، يمكن اعتبار ذلك المعلول اختيارياً من حيث علته المعقولة، وفي الوقت نفسه من حيث الظواهر، وفقاً لضرورة الطبيعة. وبعبارةٍ أخرى: يمكن النظر إلى علية معلولٍ ما من زاويتين: إحداهما: من الجانب المعقول، أي العلية في نفسها و«الأمر في نفسه»؛ والأخرى: من الجانب المحسوس والعلية الظاهرية.
كان هذا هو حلّ كانط للتعارض بين العلية الطبيعية والاختيارية، الذي كان قد بحثه في كتابه نقد العقل النظري.
ويلخِّص هذا الحلّ في كتابه الآخر (التمهيدات) على النحو التالي: سوف نقع في تناقضٍ أكيد إذا وضعنا أشياء العالم المحسوس مكان الأشياء في نفسها، والقوانين الطبيعة المذكورة أعلاه بدلاً من قوانين أشياء الأمر في نفسه. وبالمثل، سوف نقع في التناقض أيضاً إذا اعتبرنا الفاعل المختار مثل سائر الأشياء، مجرّد ظاهرة؛ لأننا أثبتنا شيئاً واحداً بمعنى واحد، بخصوص شيءٍ واحد، وفي الوقت نفسه نفيناه عنه؛ ولكنْ إذا نسبنا الضرورة الطبيعية إلى الظواهر فقط، والاختيار إلى الأمر في نفسه فحَسْب، فلن يكون هناك تناقضٌ في افتراض أو قبول كلا النوعين من العلية في زمانٍ واحد، على الرغم من أنه قد يكون صعباً أو من المستحيل تخيُّل النوع الأخير من العلية([13]).
د ـ توضيحاتٌ حول هذا الحلّ
يذكر كانط ـ بعد اقتراح حلِّه في كتاب نقد العقل النظري ـ النقاط التي يقوم عليها هذا الحلّ([14]):
1ـ هذا القانون الذي يرى لكلّ ما يحدث علةً ظاهرية، وبالتالي يتمّ تعين جميع الأحداث في النظام الطبيعي ـ هو أحد قوانين الفاهمة، ولا توجد ظاهرةٌ مستثناة منه؛ لأنه بخلاف ذلك يجب إخراج هذه الظاهرة من نطاق التجربة، ونعتبرها خيالاً صرفاً.
2ـ لا يوجد شيءٌ من بين العلل الظاهرية يمكن أن يكون مصدراً لسلسلةٍ ما؛ لأن كل شيء، من حيث كونه ظاهرة، يحتاج إلى علّةٍ سابقة له.
3ـ لكنْ أليس من الممكن الافتراض أنه في سلسلة العلل والمعلولات، وكلّها ظواهر، يمكن أن تكون علية إحدى العلل الظاهرية غير ظاهرية؟
يحتاج كلام كانط هذا إلى توضيحٍ. لنفترض أن (أ) هو علة (ب)، و(ب) هو علة (ج)، وهكذا. .في هذه الحالة، على الرغم من أن (أ) شيء ظاهري، وله علية ظاهرية، وحتى أنه حدث زمانياً بعد حالةٍ أخرى، وتلك الحالة علة (أ) من حيث الظاهرية، في هذه الحالة، أليس من الممكن افتراض علية غير ظاهرية لـ (أ)، ليست شيئاً آخر من حيث المعلول، وهي بحدّ ذاتها بداية السلسلة المعنية؟ وفقاً لهذا الافتراض، تتمتَّع بعض العلل الطبيعية بقوّةٍ وقدرة معقولة تماماً، ولا تستند عليتها إلى ظروف تجريبية. فمثلاً: حركة كرةٍ ما معلولة لتصادمها بكرةٍ أخرى، وتلك بدَوْرها معلولة للإنسان. في هذه الحالة، على الرغم من أن الإنسان أمرٌ مشهود، وتجريبي، وظاهري، وحتى لديه علية ظاهرية، وهذه العلية من الناحية التجريبية معلولةٌ لعلة ظاهرية أخرى، مثل: الرغبة والميول، وهذه الرغبة كذلك معلولةٌ لعلل أخرى، لكنْ من الممكن أن نفترض في الإنسان علية غير ظاهرية وعقلية، أي الاختيار والإرادة الحرّة، والتي هي ليست نتيجةً لعلل تجريبية أخرى، وهي نفسها البادئة لسلسلة من الظواهر.
4ـ لكنّ هذا الافتراض غير صحيحٍ على أساس مبادئ علم المعرفة للفلسفة العامة والتقليدية، أي الواقعية المتعالية، التي تطابق بين العين والذهن، وتعتبر التصوّرات عبارة عن صور الأشياء الخارجية؛ لأن الواقع والأمر في نفسه ينحصران في الطبيعة والظواهر، ولا معنى للاختيار في سلسلة العلل الطبيعية. هذا الافتراض ممكنٌ فقط على أساس الواقعية التجريبية، التي على أساسها يتمّ التمييز بين الظواهر والأمر في نفسه.
5ـ العلية الظاهرية تابعة للظروف الزمانية والمكانية، لكنّ العلية المعقولة تحدث خارج الزمان والمكان، وبالتالي فهي ليست مشروطةً بشروط الفاهمة. لذلك فإن علية الاختيار أو العلية المعقولة مستقلّةٌ عن الظروف التجريبية. بالطبع لا ينبغي النظر إلى الاختيار بالمعنى السلبي فقط، أي الاستقلال عن الظروف التجريبية، ولكنْ أيضاً بالمعنى الإيجابي، أي كقوّةٍ بادئة لسلسلةٍ ما من الأحداث بالطبع([15]).
6ـ بما أن العلية المعقولة خارج الزمان والمكان والظروف التجريبية فإن الفاهمة غير قادرةٍ على إدراكها وفهمها؛ لأن شرط ومقدّمة إدراك الفاهمة وكلّ أنواع المعرفة النظرية هو الوقوع تحت قوانين الزمان والمكان. وبالتالي لا يمكن للعقل النظري سوى إظهار عقلانية الاختيار وقابليّته على الاندماج مع القوانين الطبيعية، لكنّه لا يستطيع تحليله وإثباته. وإنما يمكن إثباته فقط من خلال العقل العملي بصفته أرضيّةً للأخلاق والمسؤولية الأخلاقية.
7ـ أما لماذا أوجد الاختيار مثل هذه الظاهرة المعينة، وليس ظاهرةً أخرى، فتوضيحه يتجاوز قدرة العقل، وهذا السؤال يشبه أن نسأل: لماذا يتعلّق الشهود الحسّي بشيءٍ زماني ومكاني؟ لأنه لا يوجد علّة لذلك. وعلى هذا النحو أيضاً إيجاد فعلٍ معين عن طريق الاختيار؛ إذ لا يوجد له علّة، والاختيار نفسه يقتضي أن لا يكون حاملاً للعلّة([16]).
وهكذا نرى أن كانط يحلّ التعارض بين الاختيار والقوانين الطبيعية على أساس مبادئه الخاصّة، ويبرِّر الاختيار على أنه أمرٌ ممكن.
وحان الآن دَوْر المرحلة الثانية من البحث، أي إثبات الاختيار كشيءٍ عيني وواقعي. وكما ذكَرْنا سابقاً فإن هذه المرحلة غير مرتبطة أساساً بالعقل النظري، وتقع في نطاق العقل العملي والأخلاقي. ولكنْ بما أن كانط قد قدَّم ملخصاً لهذا البحث أثناء حلّ التعارض بين الاختيار وقانون الطبيعة يتمّ تقديم هذا الملخَّص أوّلاً كدليلٍ على إثبات الاختيار، ثم يتمّ اقتباس توضيحه من الأبحاث الأخلاقية لكانط.
هـ ـ إثبات الاختيار
يتمّ إثبات أن العقل يمتلك علية خاصّة به (الاختيار) من خلال الأوامر التي نفرضها على قوانا العاملة كقواعد في جميع الأمور العملية. تمثِّل كلمة «يجب» نوعاً من الضرورة والعلاقة السببية التي لا نجدها في أيّ مكانٍ آخر في العالم الطبيعي. الفاهمة تدرك من الطبيعة: (كان موجوداً، وموجود الآن)، وليس (كان يجب، ويجب الآن). إذا نظرنا إلى حركة الطبيعة فلن نعثر على أيّ معنى لكلمة «يجب». لا يمكن للمرء أن يسأل عما يجب أن يكون في الطبيعة، تماماً كما لا يستطيع المرء أن يسأل عن الصفات التي يجب أن تتمتّع بها الدائرة. يمكن للمرء أن يسأل فقط عمّا يحدث في الطبيعة أو ما هي صفات الدائرة؟ كلمة «يجب» هذه تعبِّر عن فعلٍ ممكن، لا يمكن أن يكون أساسه سوى مفهوم عقلي مَحْض، في حين أن أساس جميع الأفعال الطبيعية هو دائماً ظاهريّ. صحيح أن ذلك الفعل الذي يمكن أن نستخدم فيه كلمة «يجب» ينبغي أن يكون ممكناً وفق الشروط الطبيعية، لكنّ هذه الظروف الطبيعية لا تؤثِّر على تعين الإرادة ذاتها، وإنما على معلولات الإرادة ونتائجها الظواهرية. هناك العديد من القواعد الطبيعية والهواجس الحسّية التي يمكن أن تتدخّل وتجعلني أريد وأرغب، لكنها لا تستطيع أبداً خلق هذه الـ «يجب»، وإنما تخلق الإرادة فقط التي هي دائماً شرطية، وليست ضروريّةً. هذه الـ «يجب» التي يعلنها العقل تفرض معاييرها وأمرها ونهيها على هذه الإرادة المشروطة. لا يسلِّم العقل للدوافع التي تحصل بنحو تجريبي، ولا يخضع لترتيب الأشياء كما تظهر، سواء كان بإزاء متعلّقات حسّية مَحْضة (اللذّة) أو عقلية مَحْضة (الخير)، لكنّه يبني نظامه الخاصّ بشكلٍ عفويّ، ووفقاً لطبيعته، وعلى أساس الأفكار. يكيِّف العقل الظروف التجريبية مع الأفكار، ووفقاً لهذه الأفكار يستدعي الأفعال الضرورية التي لم تحدث بَعْدُ، وقد لا تحدث أبداً([17]).
قد لا ينبغي من وجهة نظر العقل أن يحدث الفعل الذي لا مفرّ من حدوثه وفقاً لقوانين الطبيعة([18]). لهذا السبب نعتبر الذي يقوم بفعل الكذب ـ على سبيل المثال ـ مُلاماً. يستند هذا اللوم إلى قانونٍ عقلي يأخذ بعين الاعتبار علةً للعقل مستقلّة عن جميع الظروف التجريبية، يمكن ويجب أن تتصرّف بشكلٍ مختلف، حتى لو كان الدافع الحسّي هو العكس تماماً([19]).
5ـ توضيحاتٌ حول إثبات الاختيار
يثبت كانط في الجزء الثالث والأخير من كتاب تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق الاختيارَ من منظور العقل العملي والأخلاق.
ولكنْ قبل التطرُّق إلى هذه القضايا سنشير إلى بعض النقاط التي أُثيرت في القسم السابق من الكتاب.
وفقاً لكانط، لا يوجد شيءٌ في العالم، وحتّى خارج العالم، يمكن اعتباره جيّداً بشكلٍ مطلق وغير مشروط، باستثناء (النوايا) أو الإرادة الخيِّرة. فالقدرات العقلية والحالات المزاجية الجيدة، على الرغم من أنها خيراتٌ، ولكنْ يمكن أن تكون سيئة ومضرّة إذا لم تكن مصحوبةً بالنوايا الحسنة. ومن ثم يعتبر العقل أن تحصيل النية الحسنة والإرادة الخيِّرة هي أسمى أهدافه العملية([20]).
من ناحيةٍ أخرى تكون الإرادة خيِّرةً وحسنة عندما تعمل من أجل الواجب نفسه، وبدافع معرفة وظيفتها. بهذه الطريقة تتجلّى الإرادة الحسنة في الواجب، الواجب الذي يكون مبنياً على أساس القانون العامّ والضروري للعقل ومستقلاًّ عن دوافع الفرد ومصالحه ومفاسده. وبعبارةٍ أخرى: يجب القيام بالواجب لأجل الواجب، وليس من أجل شيءٍ آخر. ولا يُستمدّ واجبٌ كهذا من التجربة، ولكنه ينبع من العقل العملي([21]). لذلك، تعود الإرادة الخيِّرة إلى العقل العملي([22])، وبتعبير كانط: «الإرادة هي القدرة على اختيار ما يراه العقل ـ بغضّ النظر عن الرغبة ـ ضرورياً من الناحية العملية، أي ما هو خيرٌ»([23]).
والنتيجة أن نهاية الأخلاق هي الإرادة الخيِّرة، والإرادة الخيِّرة ترجع إلى الواجب والقانون الأخلاقيّ العامّ، وهذا الواجب أيضاً مستقلٌّ عن التجربة والرغبات، وينشأ من العقل العملي. يقول كانط في بداية الجزء الثالث من بحثه الأخلاقي: «إن مفهوم الحرّية هو المفتاح لتفسير استقلال الإرادة»([24]).
يوضِّح كانط في هذا القسم هذه النقطة، وهي أن الإرادة الخيِّرة والواجب الأخلاقي مستقلاّن عن التجربة والطبيعة، وأن استقلال الإرادة ليس سوى حرّية الإرادة أو الاختيار بصفته العلّة المعقولة والمستقلّة. لذلك، فإن الافتراض المسبق للواجب والمسؤولية الأخلاقية هو قبول حرّية الإرادة أو الاختيار، وبدون الاختيار فإن الأخلاق ستكون بلا معنى. «إذا كانت حرّية الإرادة مفترضةً مسبقاً فإن الأخلاق، مع مبدئها، يتمّ الحصول عليها من خلال تحليل مفهوم الحرّية»([25]).
وفي الأساس، أن يكون المرء عاقلاً يعني قبوله للحرّية؛ لأنه لدى العاقل «نأخذ العقلانية بعين الاعتبار حيث تكون عمليّةً، أي العقلانية لها علاقة سببية في ما يتعلّق بموضوعاتها، لكنْ لا يمكن أن نجد شخصاً يسترشد بوَعْيٍ من الخارج بأحكامه؛ لأنه في هذه الحالة لن ينسب الإنسان بعد الآن مصير حكمه إلى عقله، بل إلى دافعٍ ما. يجب على العقل أن ينظر إلى نفسه على أنه خالقٌ لمبادئه، بغضّ النظر عن التأثيرات الخارجية. لذلك يجب أن تُنسَب هذه الإرادة التي تقع تحت تأثير فكرة الحرّية إلى جميع المخلوقات العاقلة من الناحية العملية»([26]).
وهكذا فإن وجود العقل العملي والأخلاق متعلّق بالحرّية والاختيار، ومع التصوّرات التي تخطر علينا بشكلٍ لا إرادي فإننا نحصل فقط على معرفة الظواهر التي تنتمي إلى عالم الحسّ، ولكننا لن نحصل إطلاقاً على معرفة الأمور في نفسها؛ لأن هذا العلم ينتمي إلى العالم المعقول([27]).
وهكذا فإن لدى الانسان وجهتَيْ نظر يمكنه أن يتأمَّل نفسه من خلالهما، وأن يعرف قوانين ممارسة ملكاته، وبالتالي قوانين أفعاله جميعاً؛ فهو من ناحية انتمائه لعالم محسوس يخضع لقوانين الطبيعة (التنافر)؛ وهو من ناحية انتمائه لعالم معقول يخضع لقوانين مستقلّة عن الطبيعة، غير تجريبية، بل قائمة على أساس العقل وحده. إن الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً، ولكونه تبعاً لذلك عضواً منتمياً إلى عالمٍ معقول، لا يمكنه أن يتصوَّر علية إرادته الذاتية إلاّ من خلال فكرة الحرّية؛ لأن الاستقلال عن العلل المعينة في العالم المحسوس (وهو ما ينبغي على العقل أن ينسبه لنفسه على الدوام) هو الحرّية بعينها. ولكنّ فكرة الحرية مرتبطة بتصوّر «الاستقلال الذاتي» ارتباطاً لا ينفصم، كما أن تصوّر الاستقلال الذاتي مرتبطٌ بالمبدأ الشامل للأخلاق، الذي يعدّ من الناحية الفكرية الأساس الذي تقوم عليه جميع أفعال الكائنات العاقلة، مثلما يعدّ القانون الطبيعي الأساس الذي تقوم عليه جميع الظواهر([28]).
رأينا أن كانط في بحث حلّ التعارض بين العلية الطبيعية والاختيار قد أكّد على عدم القدرة على التعرُّف على كيفية الاختيار. يقول في نهاية بحث إثبات الاختيار على أساس الأخلاق والعقل العملي: أما كيف يمكن للعقل الخالص أن يصبح عقلاً عملياً؟ فذلك ما يعجز كلّ عقلٍ بشري عجراً مطلقاً عن تفسيره، وكلّ جهدٍ يبذل في البحث عن تفسير له هو جهدٌ ضائع… يدّل مفهوم الحرية حصراً على شيءٍ يظلّ باقياً بعد أن أستبعد من مبادئ تعيين إرادتي كلّ ما يتصل بالعالم الحسّي… وهذا المفهوم يخلق فينا، عن طريق المثال الرائع لمملكة شاملة للغايات في ذاتها (أي الكائنات العاقلة نفسها)، ارتباطاً حيّاً بالقانون الأخلاقي، لا نستطيع أن نكون أعضاء فيها حتى نحرص على الاهتداء في سلوكنا بمسلمات الحرّية كما لو كانت هذه المسلَّمات قوانين طبيعية([29]).
6ـ الدراسة النقديّة
1ـ يعتقد كانط أنه إذا تمّ تحديد الإرادة من خلال علل خارجية فإنها تكون قَسْرية، وإذا حدثَتْ بحُرِّيةٍ فإنها تسمّى إرادةً حرّة أو اختياراً.
من وجهة نظر كانط فإن الإرادة الحرّة في الفلسفة التقليدية هي مسألة متناقضة؛ بسبب وجود برهانٍ مفاده: إن جميع ظواهر الكون، بما في ذلك الإرادة، يتمّ تحديدها وفقاً للعلية والقوانين الطبيعية، ومن ناحيةٍ ثانية، وفقاً لبرهانٍ آخر، فإن الإرادة الحرّة هي نوعٌ آخر من العلية، لا تحكمها العلل الخارجية. إذن فإن الاختبار يتعارض مع الضرورة ومجمل العلية.
تشبه وجهة نظر كانط هنا وجهة نظر المتكلِّمين المسلمين وبعض الأصوليين المعاصرين تجاه الفلاسفة المسلمين. فالمتكلِّمون يعتبرون أن الاختيار بمعنى حرية الإرادة، وليس مطلق الحرّية. ويعرِّفون الاختيار على أنه الحرّية في القيام بالفعل أو تركه (صحّة الفعل والترك)، وبالتالي يستبعدون الإرادة الحرّة من شمولية ضرورة العلية([30]).
لم يكن الفلاسفة المسلمون يقبلون بهذا الرأي، ولكنهم يرَوْن أن ضرورة العلية حاكمةٌ أيضاً على إرادة الإنسان، والاختياري بمعنى الإرادي([31]).
2ـ يقدّم كانط في فلسفته النظرية تفسيراً يمكن على أساسه إثبات أن الاختيار أمرٌ ممكن. إنه يعتبر العلية ذات معنيين: عملي؛ ونظري. المعنى النظري هو إيجابيّ، بمعنى التلقائية؛ والمعنى العملي هو سلبيّ، بمعنى الاستقلال وعدم التعلُّق بالدوافع الحسّية، على الرغم من أنه يمكن أن يتأثر بالدوافع الحسّية.
وفقاً لكانط، فإن العلية الاختيارية النظرية هي فكرةٌ متعالية لا تحتوي على أمرٍ تجريبي، ولا يمكن تعيُّن متعلقها من خلال التجربة، ولكنها شرطٌ لإمكانية أيّ نوع من التجربة؛ لأن العقل يهدأ عندما ترجع كلّ الأمور المشروطة إلى أمرٍ غير مشروطٍ يكون مبدأ الأمور المشروطة.
يعتبر كانط أن الاختيار بهذا المعنى المتعارف في الفلسفة الشائعة أمرٌ جَدَلي ومتناقض مع العلية؛ لأن عالم الظواهر والأمر في نفسه في الفلسفة التقليدية شيء واحد، ولا مكان في العالم الواحد لشيئين متعارضين. لكنّ الاختيار أمرٌ ممكن في فلسفة كانط؛ لأنه ينتمي إلى عالمٍ آخر غير عالم العلية. فالعلية تتحقَّق في العالم التجريبي والظواهري، والاختيار في عالم المعقول والأمر في نفسه.
وينبغي القول، في نقد كلام كانط، أن ما دفعه إلى هذا الموقف هو عدم ملاءمة مفهوم العلية في الفلسفة التقليدية من ناحيةٍ، وعدم الاعتراف بالتجربة الداخلية والعقل في اكتشاف الواقع في فلسفة كانط من ناحيةٍ أخرى.
وتوضيحُ ذلك: يمتلك البشر نوعين من الحسّ والتجربة: أحدهما: هو الحسّ الداخلي؛ والآخر: هو الحسّ الخارجي. بالمعنى الخارجي نصل إلى معرفة الواقع بالحواسّ الخمس، وفي المعنى الداخلي بالضمير والعلم الحضوري يعثر الفاعل المختار على العلية الاختيارية بواسطة التجربة الداخلية والعلم الحضوري([32]). ويفهم العقل العلية الطبيعية بمساعدة الحسّ في عالم الحسّ. ومن ثمّ يمكن اختبار الحرّية، وأيضاً يمكن قبولها كشرطٍ ضروري للأخلاق. إذن العالم الواقعي واحدٌ، لكنْ هناك نوعان من العلية فيه.
بما أن كانط، مثل الفلاسفة التقليديين، لا يقبل الاختيار في العالم الواقعي، فهو يبحث عنه في مكانٍ آخر.
وبالتالي، هناك حلاّن لإثبات الاختيار: أحدهما: هو افتراض عالمين، وهي نظرية كانط؛ والآخر: هو افتراض نوعين من الوجود ونوعين من العلية في عالمٍ واحد. يطرح [فريدريك] كوبلستون [Frederick Charles Copleston] أيضاً على كانط إشكالاً مشابهاً لهذا الإشكال، يقول: «إذا كان الافتراض الرئيس هو أنه يمكن إثبات أن علة الحرّية تكون لسلسلةٍ كاملة من المتواليات الظاهراتية، وهذه العلة الحرّة تقع خارج السلسلة، بينما الافتراض المعاكس هو أن العلية الحرّة ليست داخل سلسلة الظواهر، في هذه الحالة لن يكون هناك تعارضٌ في الأحكام»([33]).
يعتقد [كارل] ياسبرس [Karl Jaspers] أيضاً أن استدلال كانط لا يفضي بالضرورة إلى عالمين، وإنما هما نظرتان إلى واقعٍ واحد، يقول: «يمكن اعتبار الفاعل حرّاً بالنظر إلى علّته المعنوية، وتابعاً لصيرورة الطبيعة بالنظر إلى جانبه الظاهري»([34]).
إذا تمّ قبول هذا الافتراض فلن يبقى مكانٌ لحلّ كانط.
3ـ يثبت كانط في فلسفته النظرية فقط إمكانية العلية الاختيارية، وليس تحقّقها؛ لأن التحقق في عالم الظواهر يتمّ اكتشافه بالفاهمة، والفاهمة تدرك فقط الكائنات الزمانية والمكانية، بينما الاختيار ليس أمراً متعلقاً بالزمان والمكان، ولا يمكن إثبات الاختيار إلاّ في الفلسفة العملية.
يمكن انتقاد هذا الكلام على أساس قوّة الحسّ، وأيضاً على أساس قوّة العقل.
وكما قلنا: يتمتع الإنسان، بالإضافة إلى الحواس الخارجية، بحسٍّ باطني، وبهذا الحسّ يمكنه أن يعثر على الاختيار في نفسه، ويثبت وجوده.
ومن ناحيةٍ أخرى إذا كان العقل يقبل الاختيار كمصدرٍ لجميع العلل، بما في ذلك العلل الطبيعية، ويبرهن على ذلك، وهو ما يقبله كانط، فلماذا لا نعترف باستدلال العقل بشكلٍ رسمي، ونقبل بوجود الاختيار بناءً عليه؟ وبعبارةٍ أخرى: نفس الاستدلال الذي يعتقد كانط أنه يثبت الاختيار يمكنه أيضاً إثبات وقوعه وتحقُّقه، بالطبع، بشرط أن لا نعتبر ـ مثل التجريبيين المتطرِّفين، كـ (هيوم) ـ أن المدخل الوحيد للمعرفة هو الحواس الظاهرية، كما كان كانط يؤمن بهذه الفرضية الخاطئة؛ تأثُّراً بـ (هيوم).
4ـ يثبت برهان فرضية كانط أن السلسلة الكاملة من العلل والمعلولات تنتهي إلى علّةٍ أولية واجبة الوجود مختارة، ويثبت ضمنياً أنه إذا كان هناك علّة اختيارية للتسلسل الكامل للمتواليات العلية للظواهر يمكننا أن نعترف بالعلل الحرّة داخل الكون لسلسلةٍ مختلفة من الظواهر([35]).
يمكن تصحيح الفكرة الأساسية، بغضّ النظر عن حجّة كانط والنقاط التي أُثيرت في الانتقادات السابقة، باستخدام البيان التالي: إن الله القادر المختار علّة العلل، وهو الذي منح الإنسان القدرة على الاختيار، وتحوز العلل والمعلولات الطبيعية أيضاً على علّية على أساس القوانين والسنن التي قدَّرها الله. ومن هنا في المعجزات ينكسر باب هذه السنن؛ لأجل إثبات النبوة.
إذن فالله القادر المختار هو المبدأ والأساس في العالم، والعلل الأخرى ـ بما في ذلك العلل الطبيعية والعلل الاختيارية للبشر ـ تعود إليه، وإنْ كان بطريقتين مختلفتين.
5ـ على الرغم من أن كانط في الفلسفة النظرية لا يذهب إلى أن للعقل دَوْراً في كشف الواقع، لكنه في الفلسفة العملية يؤمن بهذا الدَّوْر، ويظهر ـ كما في تعبير بعض المفسِّرين ـ أنه أيضاً يعتبر أن الفصل المميِّز للإنسان هو العقل باعتباره مكتشفاً للواقع([36]).
يُلخّص ياسبرس استدلال كانط في إثبات الاختيار على الشكل التالي: «(الواجب) دليلٌ على القدرة، ومن ثمّ فهناك (حرّية)»([37]).
وفقاً لكانط فإن الافتراض المسبق للواجب والمسؤولية الأخلاقية هو حرّية الإرادة، وبما أنه تمّ افتراض العقل العملي، ويجب ولا يجب، فينبغي أيضاً قبول الحرّية.
ويمكن للمرء أن يطرح إشكالاً: لماذا يجب افتراض الأخلاق؟
والجواب: إن الضمير الأخلاقي أمرٌ مسلَّم به.
ويمكن أن يُطْرَح إشكالٌ على هذه الإجابة، وهو أن الضمير نفسه الذي يدرك ما يجب وما لا يجب يعثر على الاختيار أيضاً، وبعبارةٍ أخرى: يمكن أن يكون متعلّق الضمير هو ما يجب وما لا يجب، ويمكن أن يكون وجود الأشياء وعدمها. لماذا في الفلسفة العملية يجب قبول الضمير، ومن خلاله يجب قبول افتراضه القَبْلي، أي الاختيار، ولكنْ في الفلسفة النظرية لا يُقْبَل الضمير إلى أن يتمّ الاعتراف بالاختيار بصفته أمراً واقعياً؟
أولئك الذين يفرضون العلّية الضرورية على كلّ شيءٍ، بما في ذلك الاختيار، لا يقبلون الخير والشرّ وما يجب فعله وما لا يجب بالمعنى التقليدي. والمثال على هذا الرأي هو [باروخ] سبينوزا [Baruch Spinoza]، الذي لا يقيم اعتباراً للضمير الأخلاقي([38]).
ولذلك إما يجب أن نزيح الضمير جانباً بشكلٍ كامل، كما فعل سبينوزا، أو أن نقبل إدراكه في كلّ المجالات التي يدركها، سواء كانت عملية أو نظرية.
6ـ أشار بعض شارحي كانط إلى أن المفهوم الذي يقصده من الاختيار في نقد العقل المَحْض يختلف عن معنى الاختيار في كتاب تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق، وهذان المفهومان في كتاب نقد العقل العملي تسبَّبا في ارتباك وغموض مفهوم الاختيار؛ فقد تمّ تقديم مفهوم الحرية والاختيار في نقد العقل المَحْض كتلقائية (spontaneity) وقوة بدء لسلسلة العلية الجديدة في الزمان. ويشير كانط إلى هذا المفهوم بكلمة (Willkur)؛ وفي كتاب تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق تمّ تقديم مفهوم الحرّية كاستقلالية داخلية (atonomy) في التشريع، أي الاستقلال عن أيّ قانون مُفترض مسبقاً، وأصل إصدار القوانين الأخلاقية. يستخدم كانط مصطلح (Wille) بهذا المعنى([39]).
يمكن تسمية هذين المعنيين للاختيار بالحرّية التكوينية والحرية التشريعية. الحرية التكوينية هي المبدأ والعلة الخارجية، والحرّية التشريعية هي السلطة التشريعية أو إدراك حُسْن وقُبْح الأفعال وما يجب وما لا يجب. وبالطبع فقد ورد المعنى الثالث للاختيار أيضاً في كتاب نقد العقل النظري، بالمعنى العملي للاختيار، وله معنى سلبي، وهو يعني عدم التعلّق بالدوافع والدواعي. ويمكن أيضاً إرجاع هذا المعنى إلى الحرّية التكوينية.
يبدو أن كانط في بحثه الأخلاقي يثبت الحرّية التشريعية فحَسْب، بل يجعل الحرّية التشريعية وسيلةً لإثبات الحرّية التكوينية. إنه يفترض الإرادة الخيِّرة والواجب بدايةً بوصفهما الغاية المطلقة للأخلاق، ثمّ يعتبر الإرادة الخيِّرة والواجب نتيجة العقل العملي والحرّية التشريعية للبشر. وأخيراً يعتبر أن الحرّية التشريعية تقوم على الحرّية التكوينية. وهكذا فإن الحرّية والاختيار التكويني هي الافتراضات المسبقة للحرّية التشريعية وسنّ القوانين، والحرّية التشريعية هي الافتراض المسبق للواجب والمسؤولية الأخلاقية.
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعدٌ في الفلسفة والكلام، وعضو الهيئة العلميّة، في جامعة طهران، ومناصرٌ معروفٌ للمدرسة التفكيكيّة.
([1]) رينيه ديكارت، مبادئ الفلسفة: 60، ترجمة: منوشهر صانعي درة بيدي، منشورات الهدى العالمية، طهران، 1992م ـ 1371هـ.ش.
([2]) يوستوس هرتناك، نظرية المعرفة في فلسفة كانط: 146، ترجمة: غلام علي حداد عادل، منشورات فكر روز (الفكر المعاصر)، طهران، 1376هـ.ش.
([4]) Kant, Immanuel, 1996, the Cambridge Edition of the Works of Immanuel Kant, America, Cambridge Universi Press. p 105.
([6]) إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق: 104، ترجمة: حميد عنايت وعلي قيصري، منشورات خوارزمي، طهران، 1990م ـ 1369هـ.ش.
([7]) مطالب هذا القسم ملخَّصة من:
Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. pp 409 – 515.
([8]) في بعض النـزاعات الأخرى تمّت الاستفادة أيضاً من عدم الإمكان اللامتناهي بالفعل، وهو ما كان موضعاً للخلاف بين المفسِّرين، ما بين مؤيِّدٍ ومعارض (راجِعْ: يوئينغ، إي. سي.، شرح قصير لنقد العقل الخالص لكانط: 250، 258، ترجمة: إسماعيل سعادتي خمسه، دار هرمس للنشر، طهران، 1388هـ.ش)، وتحقيق ذلك خارجٌ عن موضوع هذا البحث.
([9]) أثبت كانط هذه الفكرة في تتمّة البرهان، ولكنْ بالنظر إلى أنها ليست جزءاً من البرهان فقد تمّ ذكرها كأولى الملاحظات عليه.
([10]) مطالب هذا القسم ملخَّصة من:
Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. pp 464 – 479.
([11]) والمقصود هو قسمٌ من كتاب نقد العقل النظري، حيث أثبت كانط أن المقولات الاثني عشر للفهم هي من جملة مقولات العلّية، كمفاهيم سابقة تنطبق على الأمثلة التجريبية.
([12]) Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. p 346.
([13]) إيمانويل كانط، التمهيدات: 192، ترجمة: غلام علي حداد عادل، مركز النشر الجامعي، طهران، 1988م ـ 1367هـ.ش.
([14]) مطالب هذا القسم ملخَّصة من:
Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. pp 469 – 479.
([15]) Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. p 476.
إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق: 104، 128؛ إيمانويل كانط، التمهيدات: 196.
([16]) Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. p 476.
([17]) Kant, Immanuel, 1970, Critique of Pure Reason, Translated by Norman Kemp Smith, London, Macmillan. p 472.
([18]) المصدر السابق: 574؛ إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق: 122.
([20]) إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق: 12، 18.
([21]) إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق: 24، 27، 35، 38، 122.
([22]) Reese, William L., 1995, Dictionary of Philosophy and Religion, London, Humanities Press. p 626.
كريم مجتهدي، فلسفة كانط النقدية: 105، مؤسسة هُما للنشر، طهران، 1363هـ.ش.
([23]) إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق: 46.
([26]) المصدر السابق: 107، 108، 126.
([27]) المصدر السابق: 112، 113.
([29]) المصدر السابق: 135، 136، 137.
([30]) حسن الحلي، كشف المراد: 308، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1407هـ؛ السيد أبو القاسم الخوئي، أجود التقريرات: 90، مكتبة مصطفوي، قم؛ محمد باقر الصدر، مباحث الدليل اللفظي 2: 37، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم، 1417هـ؛ السيد محمود الهاشمي، بحوث في الأصول: 34، 36، مركز الغدير للدراسات الإسلامية قم، 1417هـ؛ محمد إسحاق الفياض، محاضرات في أصول الفقه: 47، 57، دار الهادي للمطبوعات، قم، 1410هـ.
([31]) محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 6: 310، 388، منشورات مصطفوي، قم، 1386هـ.ش؛ حسين ابن سينا، التعليقات: 19، 22، 50، 131، 150، مكتب التبليغات الإسلامية، قم.
([32]) محمد تقي مصباح، دروس الفلسفة: 130، معهد دراسات العلوم الإنسانية والمطالعات الثقافية، طهران، 1996م؛ محمد باقر الصدر، مباحث الدليل اللفظي 2: 36.
([33]) فريدريك كابلستون، كانط: 142، ترجمة: منوشهر بزرگمهر، مركز النشر الجامعي، طهران، 1360هـ.ش.
([34]) كارل ياسبرس، كانط: 183، ترجمة: مير عبد الحسين نقيب زاده، مكتبة طهوري، طهران، 1372هـ.ش.
([35]) فريدريك كابلستون، كانط: 141 ـ 142.
([36]) كريم مجتهدي، فلسفة كانط النقدية: 181.
([37]) كارل ياسبرس، كانط: 181.
([38]) Elwes, R. H. M (Trans), 1933, Spinosa, Philosophy of Benedict De Spinosa, New York, Tudor Publishing Co. pp 76 – 77, 191.
([39]) Beck , L. W., 1960, A commentary on Kant`s Critique of Pratical Reason, Chicago, the University of Chicago Press. p 176 – 178.