الشيخ مجتبى المسعودي(*)
الشيخ مسلم الداوري(**)
ترجمة: حسن علي مطر
مقدّمةٌ
مع تقدّم البشرية في كافّة المجالات تمثل أمام الإنسان عقودٌ لم تكن موجودةً في السابق؛ لتقع مورداً لإمضاء الشارع. ومن هنا فإن من بين التحدّيات الماثلة أمام الفقهاء إضفاء المشروعية على هذا النوع من العقود المستَحْدَثة، وقد وضعت أمام الفقهاء هذا السؤال القائل: هل العقود منحصرةٌ في تلك العقود التي كانت متداولة ومتعارف عليها في عصر الشارع فقط، وفي هذه الحالة، إذا تمّ الشكّ في صحّة وإمضاء عقدٍ جديد كان البناء على فساده، أم أن العقود غير منحصرةٍ في العقود المتعارف عليها في عصر الشارع فقط، وإن الشارع قد صحَّح بالأدلة العامّة وأمضى جميع المعاملات التي يتمّ إبرامها في ضوء العقود السائدة بين العقلاء والعُرْف العام، ما لم تتنافى مع القواعد المشتركة بين أبواب المعاملات؟ وفي مثل هذه الحالة إذا شكَكْنا في إمضاء وصحّة معاملةٍ ما كان البناء على صحّتها، ما لم يتمّ إحراز تنافيها مع القواعد المشتركة بين أبواب المعاملات.
إن مسألة توقيفية العقود وعدم توقيفيّتها من المسائل الهامّة؛ حيث يمكن أن تنطوي على آثار أساسية في إضفاء المشروعية على العقود المستحدثة. ومن ناحية أخرى علينا أن نرى ما هي الأمور التي تتوقَّف عليها العقود؟ وهل مجرّد عدم تصرُّف الشارع في عقدٍ ما، وأن يكون موقفه منه كسائر العقلاء، يُعَدّ في حدّ ذاته إمضاءً لتلك العقود، أم يجب في تحقُّق الإمضاء أن يعمد الشارع إلى إنشاء حكمٍ مماثل لما عليه العُرْف والعقلاء؟ ومن هنا ينبغي البحث في مساحتين، وهما: مشروعية العقود؛ وتوقيفيّة العقود.
مشروعيّة العقود بإمضاء الشارع
إن الأحكام والتعاليم الإلهية على قسمين، وهما: الأحكام التأسيسية؛ والأحكام الإمضائية. والأحكام التأسيسية هي الأحكام الصادر والمجعولة ابتداءً من قِبَل الشارع، ولم يكن لها سابقةٌ في العُرْف وبين العقلاء. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الطائفة من الأحكام هي من الأحكام الإبداعية للشارع. وأما الأحكام الإمضائية فهي من الأمور الاعتبارية التي تمّ اعتبارها من قِبَل العُرْف والعقلاء، من قبيل: المِلْكية، والزوجية، وغيرهما من منشآت العقود والإيقاعات. إن هذه الأمور الاعتبارية كانت موجودةً في المجتمع البشري قبل ظهور الشريعة أيضاً، وكان النظام الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع قائماً عليها، وقد أيَّدها الشارع بدَوْره وأمضاها؛ لأن الدين في تعاطيه مع الحياة اليومية للناس والأساليب المتداولة بينهم، لم يتَّخذ موقفاً سلبياً أو إيجابياً بالمطلق؛ بل كان في بعض الموارد يرتضي طريقة العقد ويعمل على تأييدها، وذلك حيث لا يتنافى وجود تلك السِّيَر مع الحفاظ على النظم الاجتماعي وتسهيل معاش الناس، أو كان ذلك ضرورياً لأيّ مصلحةٍ أخرى، من قبيل: أكثر الأحكام والمقرَّرات المتعلقة بالعقود؛ وتكون أحياناً بحاجةٍ إلى إصلاح وإلى إعادة نظرٍ، وفي هذا النوع من الموارد قام الشارع بتقبُّل بناء العقلاء، بعد إضافة بعض القيود والشروط عليه،. وبطبيعة الحال فقد رفض بعض هذه السِّيَر؛ بسبب اشتمالها على المفاسد والأضرار التي خفيَتْ عن عين الناس، أو خضعَتْ لتأثير غرائزهم الشخصية ومصالحهم الربحية الخاصّة، كما هو الحال بالنسبة إلى الرِّبا([1]).
بَيْدَ أن هناك اختلافاً بين الفقهاء حول حقيقة الإمضاء؛ وهل مصدرُ الإمضاء هو العُرْف، والشارع بدَوْره مجرَّدُ واحدٍ من العقلاء، أو أن الأحكام الإمضائية منسوبةٌ إلى الشارع بنحوٍ من الأنحاء، وفي الحقيقة فإن للشارع شأن التشريع في هذا المجال، وإنْ كان هذا التشريع على نحو الإمضاء والتنفيذ؟ وبعبارةٍ أخرى: هل في باب الأحكام الإمضائية تنحصر ردّة فعل الشارع في عدم التصرُّف في هذه الأحكام، وأن الشارع بدَوْره واحدٌ من العقلاء، ويسير على ذات نهجهم، أو أن إمضاء الشارع في الحقيقة والواقع يشتمل على جعل الحكم المماثل لما هو سائد في العُرْف وبين العقلاء؟
ذهب بعض الفقهاء ـ من أمثال: الإمام الخميني ـ إلى الرأي الأوّل، قائلاً: لا يوجد أيّ حكمٍ مجعول، لا في باب الأحكام الإمضائية، ولا في باب الأمارات والطرق العقلائية، ومفهوم إمضاء الشارع بدَوْره ليس بمعنى إنشاء الحكم المماثل.
قال&، في الردّ على نظريّة الميرزا النائيني ـ في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ـ بجعل الحجِّية والوسطية في الإثبات، حيث كان يراه أمراً عقلائياً: «وفيه: إنه ليس في باب الأمارات والطرق الإمضائية غالباً حكمٌ مجعول أصلاً، لا الحجِّية، ولا الوسطية في الإثبات، ولا الحكم التكليفي التعبُّدي. وليس معنى الإمضاء هو إنشاء حكمٍ إمضائي، بل الشارع لم يتصرَّف في الطرق العقلائية، وكان الصادع بالشرع يعمل بها كما يعمل العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم»([2]).
ومال آخرون، من أمثال: المحقِّق الإصفهاني، إلى الرأي الثاني؛ حيث يعتقد بأن اختيار أيّ مساحةٍ اعتبارية يعود إلى معتبرها، وأن الأحكام العقلائية والعُرْفية إذا أرادَتْ أن تدخل في المساحة الشرعية، وتُعَدّ جزءاً من الشريعة، يجب اعتبارها من قِبَل الشارع، ولو لم يتحقَّق مثل هذا الاعتبار لن تترتَّب أيّ شرعيةٍ على هذه الأحكام. يقول&: «لا معنى لإمضاء الاعتبارات إلاّ باعتبارٍ يُماثل ذلك الاعتبار، وترتُّب أثر يوافق ذلك الأثر، وإلاّ فترتُّب الأثر العقلائي لا يتوقَّف إلاّ على بنائهم واعتبارهم، لا على اعتبار الشارع»([3]).
يرى الكاتب أن كلام المحقّق الإصفهاني يبدو صحيحاً؛ إذ إن الأحكام الإمضائية بدَوْرها تُعَدّ ـ في نظر جميع العلماء ـ جزءاً من المنظومة الشرعية للشارع، ولها تأثيرٌ في مساحة الشرع. وعليه فإن مجرّد الرضا مع افتراض أيّ اعتبارٍ لا يصلح إذناً لدخول الحكم إلى منظومة الحكم الشرعي، ولا سيَّما في باب المعاملات؛ إذ إن تصحيح الشارع لهذه المعاملات يستوجب ترتُّب الآثار المطلوبة من تلك المعاملات عليها، ولذلك فإن أدلةً من قبيل: ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ (البقرة: 275)، و﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، و﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (النساء: 128)، وما إلى ذلك، هي في الحقيقة بصدد إضفاء الشرعية على هذه المعاملات.
والشاهد على هذه المسألة يكمن في اختيار مصطلح «إمضاء الشارع»، وهو اختيارٌ حاذقٌ جدّاً؛ لتصحيح المعاملات؛ إذ لو التفَتْنا إلى مفهوم الإمضاء نجد أنه يعني الإنفاذ([4]) والتطبيق، والذي يقتضي من ناحيةٍ وجوب وجود حكمٍ آخر؛ كي يُمضى من قِبَل الشارع بواسطة إجرائه وتنفيذه، ولا يكون تنفيذه وإجراؤه إلاّ من طريق الجعل، ومجرَّد إظهار الرضا لا يحظى بدعامةٍ متينة؛ ليمكن اعتبارها ضمانةً إجرائية وتنفيذية لتلك الأحكام.
تظهر ثمار هذين الرأيين في بعض الموارد، ومنها:
أـ لو قلنا بعدم وجود أيّ تصرُّفٍ أو جعلٍ من قِبَل الشارع في الأحكام الإمضائية ففي مثل هذه الحالة؛ حيث لا تنسب هذه الأحكام إلى الشارع، لا تُعَدّ مخالفةُ العُرْف لجميع الآيات المبيِّنة للأحكام الإمضائية مخالفةً للكتاب. وثمرةُ ذلك هي القول بصحّة اشتراط الشرائط المخالفة للأحكام الإمضائية في ضمن المعاملات؛ لأنها لا تُعَدّ حينئذٍ مخالفةً للكتاب؛ لأن هذا النوع من الأحكام، على الرغم من ذكره في الكتاب أو السنّة، لا يُعَدّ جزءاً من الكتاب والسنّة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن عدم الضمان في الإجارة والعارية أمرٌ عقلائيّ وعُرْفي بَحْت، ونتيجة لذلك فإن اشتراط الضمان في هذه الموارد جائزٌ؛ لأنه إنما يحتوي على مجرَّد مخالفةٍ لأمرٍ عقلائي، وليس فيه مخالفةٌ للكتاب والسنّة([5]).
ب ـ الأثر الآخر المترتِّب على هذين الرأيين يظهر في شمول حديث الرفع، ببيان: إن الحكم الإمضائي إذا كان مجرّد أمرٍ عقلائيٍّ عُرْفي فإن موارد حديث الرفع لا تشمل هذه الطائفة من الأحكام؛ لأن التضييق الحاصل منها لا يستند إلى التشريع الإلهيّ والإسلام، بل هو حاصلٌ من قِبَل العُرْف والعقلاء، وحديث الرفع إنما يرفع الأمور التي يتمّ إعمالها على البشر من قِبَل الله سبحانه وتعالى فقط. ومن هنا لو اضطرّ شخصٌ إلى إتلاف مال الغير كان ضامناً، ولا يكون حديث الرفع رافعاً لضمانه؛ لأن الضمان في هذا الرأي حكمٌ إمضائيّ عُرْفي وعقلائي بَحْت. وأما إذا قلنا بأن الأحكام الإمضائية مجعولةٌ بالجعل الشرعي ـ ولو على النحو التنفيذي ـ عندها سيكون الإتلاف الاضطراريّ مشمولاً لحديث الرفع([6]).
توقيفيّة العقود
إن للعقود دَوْراً هامّاً في حياة الإنسان. وبالنظر إلى ظهور الاحتياجات الجديدة في الحياة الاجتماعية تظهر عقودٌ ومعاملاتٌ جديدة لم تكن موجودةً في الأزمنة السابقة. وعليه يَرِدُ هنا السؤال القائل: هل العقود منحصرةٌ في تلك العقود التي كانت مبيَّنة في عصر الشارع أم أن الشارع إنما يمضي ويصحِّح العقود السائدة بين الناس فقط؟ وفي حالة القول بعدم الانحصار يجب الحكم بأن صحّة العقود المستَحْدَثة يجب أن تحظى بإمضاء الشارع وتأييده أيضاً؛ لأن الملاك في مشروعية العقود يكمن في إمضائها من قِبَل الشارع.
1ـ نظريّة «العقود المحصورة»
ذهب الكثير من فقهاء الإمامية ـ ولا سيَّما المتقدّمون منهم ـ إلى القول بالانحصار. وبعبارةٍ أخرى: ذهبوا إلى القول بتوقيفية عناوين العقود والمعاملات، وقالوا باعتبار القرارات في إطار عقود معيّنة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الشهيد الثاني في مورد بيان علّة بطلان المغارسة قال: «وإن عقود المعارضة موقوفةٌ على إذن الشارع، وهي منتفيةٌ هنا»([7]).
وقال صاحب مفتاح الكرامة، بعد نقل إجماع الفقهاء على بطلان المغارسة: «وحجّةُ المعظم أن عقود المعاوضات موقوفةٌ على إذن الشارع، وهي منتفيةٌ هنا»([8]).
تذهب هذه الطائفة من الفقهاء إلى الاعتقاد بأن إطلاقات النصوص والعمومات الدالّة على صحّة وإمضاء العقود منصرفةٌ إلى العقود في عصر الشارع، ومن ذلك أنهم قالوا في ردّ عقدية الإباحة المعوَّضة، على سبيل المثال: لا شَكَّ في أن عنوان البيع لا يصدق عليها؛ لأن البيع عبارةٌ عن تبديل مالٍ بمالٍ، وليس تبديل إباحةٍ بمالٍ. ولا يمكن القول بعنوانٍ مستقلّ له؛ لأنه لو كان له عنوانٌ مستقلّ فليس هناك من دليلٍ على صحّته؛ إذ لا يمكن تصحيح الإباحة المعوَّضة من طريق التمسُّك بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)؛ إذ لو تحقَّق على نحوٍ فعليّ لن يترتَّب عليه عنوان العقد؛ ليشمله حكم الوجوب والوفاء؛ وإنْ كان منعقداً على نحوٍ قوليّ فلن يكون من العقود المتعارف عليها؛ لكي يشمله إمضاء الشارع([9]).
وعلى هذا الأساس يذهب العلاّمة الحلّي إلى الاعتقاد بضرورة أن يكون هناك إيجابٌ وقبولٌ في عقد البيع، ولا يمكن لصرف المعاطاة أن تحقِّق عنوان العقد([10]).
وقال الخوانساري بشأن صحّة صدق عنوان العقد على المعاطاة: «يُفْهَم من إطلاق الكتاب والسنّة أن المعاملة وانتقال المال تختصّ بالعقود، وصرف التراضي العُرْفي لا يُعَدّ جزءاً من مصاديق العقود، ولو شكَكْنا في اعتبار المعاطاة عقداً أم لا فالأصل عدم صدق عنوان العقد عليها، والنتيجة هي عدم صحّة المعاطاة»([11]).
إن الأصل الأوّلي في العقود ـ طبقاً لرأي هؤلاء الفقهاء ـ هو الفساد، إلاّ إذا كان هناك دليلٌ شرعيّ على صحتها؛ إذ لا يمكن نسبة الأحكام إلى الشارع إلاّ إذا تمّ جعل دليلٍ عليها من قِبَل الشارع، وإلاّ كان انتقال ذلك المال موضع شكٍّ. وعلى هذه القاعدة تجري أصالة عدم النقل والانتقال، وهو ما يتمّ التعبير عنه بأصالة الفساد. وعلى هذا الأساس لا يصحّ سوى العقود التي تكون أحكامها وآثارها ثابتةً، وإلاّ ففي غير هذه الحالة حتّى لو حصل قبضٌ وإقباض بموجب عقدٍ غير ثابتٍ في الشرع كان المال الذي امتلكه الشخص في حكم المقبوض بالعقد الفاسد، وتجب إعادة عين ذلك المال إلى صاحبه([12]).
2ـ نظريّة «العقود العُرفيّة والعقلائيّة»
لقد ذهب أكثر الفقهاء المعاصرين، والكثير من المفسِّرين([13])، إلى الاعتقاد بأن العقود المؤيَّدة من قِبَل الشارع لا تنحصر بالعقود التي كانت متداولةً في عصره، ويُستفاد من الأدلة اللفظية أن الشارع قد أيَّد وأمضى جميع العقود العقلائية، والتي تمسّ الحاجة إليها من قِبَل الناس، بحَسَب ضروراتهم.
قال العلاّمة الطباطبائي في معرض تفسير الآية الأولى من سورة المائدة: «لما كان العقد ـ وهو العهد ـ يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء، كالتوحيد وسائر المعارف الأصلية والأعمال العبادية والأحكام المشروعة، تأسيساً أو إمضاءً، ومنها: عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضاً جَمْعاً محلّىً باللام، لا جَرَمَ كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعمّ كلّ ما يصدق عليه أنه عقدٌ. وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسِّرين من أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه، كعقد اليمين»([14]).
إن الدليلَ الأهمّ الذي تمسّك به القائلون بهذه النظرية قولُه تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1). إن العهد على قول بعض اللغويين يعني مطلق العهد([15])، وفي قول بعض اللغوين الآخرين يعني العهد المؤكَّد والوثيق([16]).
وعلى أيّ حال فإن مفردة العقد تشمل جميع المعاملات والعقود، وعلى هذا الأساس فإن مفاد هذه الآية هو وجوب الوفاء بكلّ ما يصدق عليه عنوان العقد عُرْفاً. وإن معنى الوفاء بالعقد عبارةٌ عن العمل طبق مقتضاه([17]). ولذلك يمكن لنا أن نستنبط من ذلك أن كلّ عقدٍ يُعتبر من الناحية العُرْفية مصداقاً للعقد فهو معتبرٌ، ويجب الوفاء به.
وبالإضافة إلى الفقهاء المعاصرين، هناك من الفقهاء السابقين مَنْ يجيز التمسُّك بالعمومات؛ لإثبات صحّة واعتبار العقود غير المعيَّنة. ومن ذلك أن المحقق الأردبيلي يذهب في مورد عقد «المغارسة» ـ على سبيل المثال ـ إلى الاعتقاد بأنه لولا إجماع العلماء على بطلانه لأمكن الحكم ـ بمقتضى عموم الأدلّة ـ بصحّة عقد المغارسة([18]).
وكذلك يمكن إثبات عدم انحصار العقود بالعقود المتعارف عليها من خلال التمسُّك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29)؛ فهذه الآية من جملة العمومات؛ حيث إنه بالنظر إلى دلالتها على لزوم الوفاء بالعهد والعقود يمكن لها أن تكون دليلاً على نظرية عدم توقيفية العقود. إن عبارة ﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ من حيث نوع وماهية المعاملة تشمل العقود المتعارفة وغير المتعارفة، التي يكون موضوعها بشكلٍ عامّ هو المال أو التعهُّد بالقيام بعملٍ يؤدّي إلى نقل مالٍ. وتأييد اعتبار ومشروعية كلّ عقدٍ ناشئٌ عن تراضٍ من الطرفين أو الأطراف المرتبطة به؛ لأن لفظ التجارة ليس له حقيقةٌ شرعية، والمراد به مطلقُ الأعمال التي يطلق عليها عنوان التجارة عُرْفاً، ولا دليل على تقييدها بالعقود المتعارفة.
لقد تمسَّك الفقهاء القائلون بهذه النظرية بهذه العمومات؛ من أجل إثبات مشروعية واعتبار العقود المستَحْدَثة، وعمدوا إلى تصحيحها.
وفي ما يلي نشير ـ على سبيل المثال ـ إلى موارد ثلاثة، وهي:
أـ عقد الضمان الاجتماعيّ
إن من بين العقود المستَحْدَثة التي يتعهَّد أحد الطرفين بموجبها ـ في مقابل دفع الطرف الآخر للمال ـ أنه لو وقع حادثٌ أو ضررٌ أو خسارةٌ فإن الطرف الأول يتدارك ذلك أو يدفع بإزائه مبلغاً من المال. وقد شاع هذا العقد بين العقلاء، وقد وضع أمام الفقهاء سؤالاً يقول: هل يكتسب هذا النوع من العقود مشروعيةً واعتباراً أم لا؟ وقد سعى الفقهاء في بادئ الأمر إلى العمل بشكلٍ وآخر على وضع عقد الضمان الاجتماعي ضمن أحد العقود المعيَّنة والمعروفة، ولكنهم واجهوا جملةً من التحديات الجادّة والإشكالات الأساسية، ومنها:
أـ الجهل بالعوضين، واستلزام الغَرَر.
ب ـ تعليق دفع الخسارة في عقد الضمان الاجتماعي على حادثٍ محتَمَل في المستقبل.
ج ـ التعهُّد بالقيام بأمرٍ لم يتحقَّق بعد «التزام ما لا يلزم».
وما إلى ذلك من الأمور الأخرى. وقد ذهب أغلب الفقهاء المعاصرين إلى اعتبار عقد الضمان الاجتماعي عقداً مستقلاًّ، واستندوا في إثبات مشروعيّته واعتباره إلى العمومات.
قال الإمام الخميني& في هذا العقد: «الظاهر أن التأمين عقدٌ مستقلّ، وما هو الرائج ليس صلحاً، ولا هبةً معوَّضة، بلا شبهةٍ»([19]). وقال فقيهٌ آخر حول هذا العقد: «لو قلنا بأنه عقدٌ مستقلّ، كسائر العقود؛ لاشتماله على جميع ما يُعتَبَر في العقد من الأركان والشرائط، فيشمله كلّ ما يدلّ على صحّة العقود من العمومات: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29)، و«الناس مسلَّطون على أموالهم»، و«المؤمنون عند شروطهم». ولا يضير كون التأمين أمراً مستَحْدَثاً في شمول العمومات؛ لعدم اختصاصها بما كان معهوداً في زمن الشارع، وعدم كون عناوين العقود توقيفيّةً»([20]).
يرى هذا الفقيه أن عقد التأمين والضمان الاجتماعي؛ حيث يشتمل على جميع الأركان والشرائط المطلوبة في العقد، يُعَدّ عقداً صحيحاً، وأن عمومات صحّة العقود ـ من قبيل: الأدلّة المذكورة أعلاه ـ تشمله أيضاً، ولا يمكن اعتبار الأدلة مختصّةً بالعقود المتعارفة في عصر الشارع؛ لأن عناوين العقود ليست توقيفيّةً وانحصارية.
ب ـ التقسيم بالتراضي
لو تراضى جميع الشركاء فيما بينهم على التقسيم بالتوافق عُدَّ ذلك من التقسيم بالتراضي، وقد اختلفَتْ الآراء في خصوص ماهيّة عمل التقسيم.
وفي ما يلي نشير إلى موردين من ذلك:
المورد الأوّل: أن يكون التقسيم بيعاً. فلتحويل المال المشاع إلى مالٍ مفروز (معيّن) يتنازل كلّ واحدٍ من الشركاء عن سهمه المشاع في الحصّة المتعلّقة بشريكه؛ ليتمكّن من امتلاك سهمه الخاصّ. ولا يمكن لهذا الفعل والانفعال أن يتمّ دون تحقُّق مبادلةٍ عملية. ومن ذلك، على سبيل المثال: لو كان هناك طنٌّ من القمح ملكاً مشاعاً لشخصين، وأرادا فرز هذا القمح بواسطة التقسيم، حصل كلّ واحدٍ منهما على خمسمئة كيلوغرام من القمح، ولكنْ بالنظر إلى أن كلّ ذرّةٍ وحبّةٍ من ذرّات المال المشاع متعلّقٌ بجميع الشركاء، ففي هذه الحالة عندما يأخذ أحد الشركاء ما مقداره خمسمئة كيلوغرام من القمح، يكون منها ما مقداره مئتان وخمسون كيلوغراماً متعلّقة به فقط، وذات هذا الأمر ينطبق على الطرف الآخر أيضاً، ولذلك؛ لكي يصبح كلّ واحدٍ من الطرفين مالكاً مستقلاًّ للخمسمئة كيلوغرام من القمح، يجب عليه أن يتنازل عن حقِّه في ذرّات القمح الافتراضية له في الكمّية التي حاز عليها الطرف الآخر، وهذا التنازل إنما يتحقَّق في الواقع فيما لو تنازل الطرف الآخر بدَوْره عن حقِّه في ذرّات القمح الموجودة عند شريكه، وهذا الأمر لا يكون إلاّ نتيجةً لنوع من المبادلة بين الشركاء في واقع الأمر.
المورد الثاني: أن يكون التقسيم تمييزاً للحقّ، ببيان: إن مال الشركاء قبل التقسيم يكون مشاعاً، ولا يمكن تحديد السهم الخاصّ لكلّ واحدٍ منهم، ولكنْ بفعل التقسيم تمتاز حصص الشركاء من بعضها.
ذهبت جماعةٌ من أهل السنّة ـ كالشافعية ـ في بعض أقوالهم إلى اعتبار هذا التقسيم من البيع([21]).
بَيْدَ أن أغلب فقهاء الشيعة قالوا بأن التقسيم معاملةٌ منفصلة ومستقلّة عن البيع. يرى هؤلاء أن «التقسيم» معاملةٌ مستقلّة عن العقود المتعارفة؛ والدليل على ذلك هو العمومات والإطلاقات التي يمكن التمسُّك بها في باب المعاملات.
قال الشهيد الأوّل في (اللمعة الدمشقية)، وشارحها الشهيد الثاني في (الروضة البهية): «القول في القسمة: وهي تمييز أحد النصيبين فصاعداً عن الآخر، وليست بيعاً عندنا، وإنْ كان فيها ردٌّ؛ لأنها لا تفتقر إلى صيغةٍ، ويدخلها الإجبار، ويلزمها، ويتقدَّر أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع ليس فيه شيءٌ من ذلك، واختلاف اللوازم يدلّ على اختلاف الملزومات… وتظهر الفائدة في عدم ثبوت الشفعة للشريك بها، وعدم بطلانها بالتفرُّق قبل القبض([22]) فيما يُعتَبَر فيه التقابض في البيع، وعدم خيار المجلس، وغير ذلك»([23]).
وقال الشيخ التبريزي، في كتاب (أسس القضاء والشهادات)، بشأن التقسيم: «إن القسمة عقدٌ مفاده تعيين الحصص في البعض المعيَّن من المال المشترك. ولا تدخل في البيع، بأن يُقال ـ كما هو المنسوب إلى بعضٍ ـ: إن القسمة مبادلةُ حصّة الآخرين في بعض المال المشترك بحصّةٍ في بعضٍ آخر من ذلك المال، ويلزم على ذلك أن يترتَّب على القسمة ما يترتَّب على البيع والمعاوضة، من ثبوت خيار المجلس وحرمة الرِّبا ـ فيما كان العوضان من جنسٍ واحد، مكيلاً أو موزوناً ـ، بخلاف ما ذكرنا من أنها في حقيقتها لتعيين الحصص في الأبعاض الخارجية من المال المشترك. نعم، التعاوض لازم القسمة، لا أن مفادها المعاوضة. ويكفي في مشروعية القسمة ولزومها، مضافاً إلى سيرة العقلاء وبنائهم في المال المشترك، قولُه عزَّّ وجلَّ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ حيث إن المراد بالعقد العهد والالتزام المؤكَّد، والتقسيم بهذه الكيفية نوعٌ من الالتزام أيضاً»([24]).
بالنظر إلى ما تقدَّم من النقاط يتَّضح أن التقسيم هو تمييز الحقّ، والمعاوضة الحاصلة من التقسيم معاوضةٌ شرعية مستقلّة. وفي الحقيقة فإن تغييرَ طريقة السلطة المِلْكيّة أثرٌ لتمييز الحقّ. وعلى الرغم من أن التقسيم بالتراضي عقدٌ، بَيْدَ أن المعاملة ليست بمفهوم المبادلة والتمليك والتملُّك لمالين.
ج ـ البيع الزماني (المِلْكيّة الزمنيّة)
إن من بين العقود المستَحْدَثة ما يُعْرَف بعقد «التايم شير»، أو بعبارةٍ أخرى: «عقد المشاركة الزمنية» أو «التملُّك الزمني»؛ حيث يبدو أن صحّة هذا النوع من المعاملة يتوقَّف على شمول الإطلاقات والعمومات لمثل هذا العقد، وهذا الأمر بدَوْره يتوقَّف على عدم توقيفية العقود.
يعمد مالك العين في هذا العقد إلى نقل ملكيّته إلى مجموعةٍ من الأشخاص، بحيث يتمكّن كلّ واحدٍ منهم خلال فترةٍ محدّدة ـ كأن يتمّ تحديدها بعامٍ واحد ـ من أن يصبح مالكاً للمال في مدّةٍ زمنية معيَّنة ومحدَّدة من ذلك العام.
وعلى هذا الأساس تكون خصائص هذا العقد كما يلي:
أـ إن الخصيصة الأصلية لهذا العقد تكمن في انتقال المِلْكيّة من مالكٍ إلى آخر، ومن هنا يكون هذا العقد من العقود والمعاملات التمليكية.
ب ـ يتمّ في هذا العقد تمليكُ العين لآخرٍ، وتنتقل المنافع إليه تَبَعاً لانتقال العين إليه. وعلى هذا الأساس فإن هذا العقد من حيث التحديد والتحصيص الزمنيّ يبدو شبيهاً بعقد الإجارة، إلاّ أن وجود تمليك العين في البين يجعل هذا العقد مختلفاً عن الإجارة.
ج ـ على الرغم من انتقال العين إلى عددٍ من الأشخاص، ولكنْ؛ حيث لا يكون هذا الانتقال بالتوازي فيما بينهم، وفي وقتٍ واحد، فإن هذا العقد سيكون مختلفاً عن البيع المشاع من هذه الناحية.
د ـ إن مِلْكيّة كلّ شخصٍ في الحقيقة تُعَدّ مِلْكيّة مؤقَّتة ومحدَّدة؛ إذ العين لا تبقى في مِلْكيّة أحد المالكين بشكلٍ دائم أبداً، فهي تنتقل على التوالي من شخصٍ إلى آخر.
والآن، بعد النظر في هذه الخصائص، يَرِدُ في هذا الشأن سؤالٌ يقول: ما هو نوع العلاقة بين عددٍ من المالكين الذين يشتركون في تعاقبهم زمنيّاً على مِلْكيّة عينٍ واحدة؟
يمكن، طبقاً لمبنى الشيخ الأنصاري& في مسألة الوقف؛ حيث يتمّ وقف المال على عددٍ من طبقات الموقوف عليهم، حيث تدخل العين الموقوفة في مِلْكيّة الطبقة الأولى من الموقوف عليهم، وبعد انقضاء الطبقة الأولى تدخل العين الموقوفة في مِلْكيّة الطبقة الثانية، وهكذا دواليك، ولذلك يمكن القول بثبوت المِلْكيّة الشأنية للطبقة اللاحقة؛ حيث قال الشيخ الأنصاري بأن الطبقة اللاحقة لها حقّ الاختصاص المؤقَّت، نظير: اختصاص البطن الموجود الذي تم إنشاؤه وإيجاده بصيغة الوقف، غاية ما هنالك أنه متأخِّرٌ في التحقُّق والوجود الخارجي فقط([25]).
وعليه، فإن ملكية المالكين في عقد البيع الزمنيّ مؤقَّتة أيضاً؛ حيث يمتلكون العين على التوالي، كما هو الحال بالنسبة إلى طبقات الموقوف عليهم. وعلى هذا الأساس، يمكن القول في المسألة مورد البحث ـ في ضوء مبنى الشيخ الأنصاري ـ بالمِلْكيّة الفعلية والمِلْكيّة الشأنية، ببيان: إن المالكين المؤقَّتين في زمان مِلْكيّتهم لهم مِلْكيّة فعليّة، وفي غير زمان مِلْكيّتهم لهم مِلْكيّة شأنية. فلو فرضنا مثلاً أن شقّةً سكنية كانت مملوكةً لأربعة أشخاص على نحو المِلْكيّة الزمنية، ففي فصل الربيع؛ حيث تكون مِلْكيّتها من حصّة المالك (X)، تكون مِلْكيّته لها في فصل الربيع مِلْكيّة فعلية، وتكون مِلْكيّة الشركاء الثلاثة الآخرين لها في هذا الفصل مِلْكيّة شأنية.
وفي المقابل ذهبَتْ مجموعةٌ من الفقهاء الآخرين، من أمثال: المحقق الغروي الإصفهاني، إلى رفض المِلْكيّة الشأنية للطبقة المعدومة في باب الوقف، وقال في هذا الشأن: «قد عرفْتَ سابقاً أنه لا حقَّ مجعولاً من الشرع للمعدومين، وليست المِلْكيّة الشأنية سِنْخاً من اعتبار المِلْكيّة؛ بحيث تكون المِلْكيّة ـ التي حقيقتها عين اعتبار الشرع والعُرْف ـ سِنْخين: بالفعل؛ وبالقوّة، بل المِلْكيّة الشأنية مجرَّد القابلية»([26]).
في ضوء رؤية هؤلاء الفقهاء سوف نواجه إشكالاً في تفسير مِلْكيّة المالكين بعد وقبل المالك الفعليّ. ولذلك لا يمكن في المثال المذكور ـ على مبنى الجماعة الثانية من الفقهاء ـ تصوير مِلْكيّةٍ شأنية للمالكين الآخرين؛ إذ إن المِلْكيّة الشأنية في رؤية هذه الجماعة ليست شيئاً آخر سوى قابلية الشخص للامتلاك. وعلى هذا الأساس، لا يكون هناك حقٌّ في المال للمالكين الآخرين في مدّة امتلاك المالك الفعليّ لها.
ويرى الكاتب أنه يمكن القول في الجواب عن هذا الكلام: لا يمكن في المالكيّة الزمنية اعتبار علقة المالكين الآخرين بالعين منقطعةً بالكامل، والقول باعتبار العين مِلْكاً مطلقاً للمالك الفعلي، بل المِلْكية أمرٌ عقلائي، والعقلاء كما يعتبرون المِلْكية لشخصٍ بشكلٍ مؤقَّت، لا يرَوْن ارتباط وعلاقة المالكين الآخرين بالعين منقطعةً أو منتفيةً، ولذلك فإن هذه العلاقة تستوجب تقييد وتحديد دائرة صلاحيات المالك الفعلي؛ بمعنى أن كلّ واحدٍ من المالكين يمكنه في فترة مِلْكيّته الفعلية أن يقوم بجميع أنواع التصرُّفات التي تُباح للمالك؛ أي يمكنه أن ينقلها إلى شخصٍ آخر، أو أن يهبها له، وما إلى ذلك. وإن هذه المِلْكيّة تنتقل إلى الوارث. ولكنْ؛ حيث يكون هناك حتّى في هذه الفترة مِلْكيّةٌ شأنية للآخرين أيضاً، فإن تصرُّف المالك الفعليّ يكون في الوقت نفسه مقيَّداً بعدم الإضرار بحقّ الآخرين؛ لأن العين حتّى في هذه الحالة تكون متعلّقاً لحقّ الآخرين أيضاً.
وبعبارةٍ أخرى: إن هذا المورد من مصاديق تعارض قاعدة «التسليط» وقاعدة «لا ضَرَر»؛ إذ إن حدود صلاحيات المالك [الفعليّ] تستنبط من قاعدة التسليط: «الناس مسلَّطون على أموالهم»([27])، وهذه القاعدة تبيح للمالك جميع أنواع التصرُّف والانتفاع؛ وأما قاعدة لا ضرر فإنها تعمل على تحديد دائرة اختيارات هذا المالك. وبعبارة فنية: إن قاعدة «لا ضَرَر» فتعمل كقاعدةٍ ثانوية حاكمةٍ على قاعدة التسليط، وسوف تستوجب تضييق دائرة تلك القاعدة. ولذلك يمكن القول في بحث المِلْكية الزمنيّة بأن تصرُّفاتٍ من قبيل: إتلاف المال من قِبَل أحد المالكين المؤقَّتين؛ حيث ينطوي على إضرارٍ بالمالكين الآخرين، لا يكون جائزاً.
وبالنظر إلى مسألة عدم توقيفية العقود يمكن إثبات مشروعيّة هذه العقود. وهذا، إنما يكون بطبيعة الحال في صورة عدم تنافي هذه العقود مع القواعد الثابتة والمسلَّمة في عموم المعاملات. ولذلك، فإن البحث فيما إذا كان كلّ واحدٍ من موارد هذه العقود ينطوي على موانع من هذا القبيل أو لا يجب إيكاله إلى مجالٍ آخر. إلاّ أن المسلَّم هنا هو وجود المقتضي لشمول العمومات والإطلاقات لهذه العقود أيضاً.
عقد الصلح الابتدائيّ بابٌ لتشريع العقود المستَحْدَثة
يرى الكاتب أن إضفاء المشروعية على هذا النوع من المعاملات المستَحْدَثة لا يأتي من طريق الالتزام بعدم توقيفية العقود فقط، بل حتّى لو التزمنا بتوقيفية العقود يمكن لنا إضفاء المشروعية على العقود المستَحْدَثة من طريق الصلح الابتدائي أو الصلح في مقام المعاملة. والصلح بدَوْره من العقود المتعارفة، وكان شائعاً بين الناس في عصر نزول وصدور المطلقات والعمومات. إن هذه المعاملات إذا كانت تحتوي على شرائط عقد الصلح؛ بمعنى أن يتَّصف الطرفان بالأهلية، ويكون لموضوع الصلح مشروعية ومنفعة عقلائية، ويقع ذلك بالتراضي بين الطرفين، فإنها سوف تكون من مصاديق عقد الصلح. وفي الحقيقة فإن توصيف عقد الصلح بأنه «أنفع العقود» يعود في الواقع إلى أنه يستطيع نشر مظلّته على جميع العقود المتعارفة والمستَحْدَثة، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى توفُّر الشرائط الخاصّة في المعاملات المتداولة والمعهودة.
قال الإمام الخميني& في تحرير الوسيلة في تعريف الصلح: «هو التراضي والتسالم على أمرٍ؛ من تمليك عينٍ أو منفعةٍ أو إسقاط دَيْنٍ أو حقٍّ، وغير ذلك. ولا يُشترط بكونه مسبوقاً بالنزاع، ويجوز إيقاعه على كلّ أمرٍ إلاّ ما استُثني، كما يأتي بعضها، وفي كلّ مقامٍ إلاّ إذا كان محرِّماً لحلالٍ أو محلِّلاً لحرامٍ»([28]). وقال أيضاً: «الصلح عقدٌ مستقلّ بنفسه، وعنوانٌ برأسه، فلم يلحقه أحكام سائر العقود، ولم تجْرِ فيه شروطها، وإنٍ أفاد فائدتها. فما أفاد فائدة البيع لا تلحقه أحكامه وشروطه، فلا يجري فيه الخيارات المختصّة بالبيع، كخياري المجلس والحيوان، ولا الشفعة»([29]). ولذلك يمكن الادّعاء في بيان حدود دائرة عقد الصلح بإمكانية إجراء عقد الصلح في كلّ عقدٍ متعارف لا تتوفَّر فيه شروط الالتزام بذلك العقد؛ وذلك من أجل ترتيب فائدته دون الالتزام بالشرائط الخاصّة لذلك العقد. ومن هنا قال الشهيد الثاني، في مسألة «بيع اللبن في الضرع مع ضميمة اللبن المحلوب»، بعدم جواز هذه المعاملة في إطار البيع؛ بسبب عدم معلوميّة المبيع، ولكنه أجاز ذلك ضمن عقد الصلح([30]). ومن هنا فقد صرَّح بعض الفقهاء المتأخِّرين بأن عقد الصلح يمكن أن ينطوي على فوائد ونتائج مضافة إلى نتائج عقد البيع والإبراء والعارية والإجارة والهبة. وقد أكَّد السيد محمد الطباطبائي، صاحب كتاب «المناهل»، صراحةً أن عقد الصلح يمكن أن ينطوي على ثمار ونتائج جميع العقود، وأن العقد الوحيد الذي تمّ استثناؤه من بين هذه العقود هو عقد النكاح، حيث لا يتطرَّق إليه الصلح([31]).
وقد ذهب السيد محمد الصدر ـ من الفقهاء المعاصرين ـ إلى استثناء عقد النكاح من بين العقود، والطلاق من بين الإيقاعات، وقال في ذلك: «وقد يُفيد [الصلح] فوائد المزارعة والمساقاة والقرض والرهن إلى غير ذلك من المعاملات… بل يُفيد أيضاً فائدة الإيقاعات، كالإبراء، وإنْ كان نفوذه في العتق والطلاق والنكاح ممّا لم يقُلْ به أحدٌ»([32]).
سؤالٌ: في ضوء الرجوع إلى عبارات اللغويين ندرك أن بعض اللغويين قد فسَّر الصلح بالسلم والوفاق. كما فسَّروا مفردة السلم في معرض بيانها وإيضاحها بالصلح([33]). وهذه المقابلة بين هاتين الكلمتين تساهم في توضيح مفهوم الصلح بالنسبة إلى الناطقين باللغة العربية؛ فلقد قال بعض اللغويين في بيان معنى الحرب: إنها ضد السلم ونقيضه([34])، ويمكن التوصُّل من خلال ذلك إلى أن هناك ضدّية وتقابل في معنى الصلح مع الحرب. وعليه، كيف يمكن اعتبار مشروعية الصلح الابتدائي مع أن مفردة الصلح تقتضي سَبْق الخصومة؟
وفي الجواب عن هذا السؤال يجب القول: لا يتمّ التمسّك في إثبات مشروعية الصلح بالروايات المشتملة على مفردة الصلح، بل حيث إن قوام الصلح بالتراضي بين الطرفين فإن المنظور هو حقيقة الصلح بالحمل الشائع. وبعبارةٍ أخرى: يجب أن يكون القصد الأصلي في الصلح هو التسالم، وأما الأمور الأخرى، من قبيل: التمليك والتملُّك، إذا كانت موجودةً، فيجب أن تكون مرادةً بالتَّبَع. ولذلك فإننا نتمسّك بالأدلّة التي تمّ الاستناد فيها إلى مجرّد التراضي بين الطرفين، ومنها:
1ـ صحيحة محمد بن مسلم: «محمد بن عليّ بن الحسين، بإسناده عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× أنه قال، في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعامٌ عند صاحبه، ولا يدري كلُّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحدٍ منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي، فقال: لا بأس بذلك، إذا تراضيا وطابَتْ أنفسهما»([35]).
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية: إنها تذكر رجلين لدى كلّ واحدٍ منهما طعامٌ للآخر، ولا أحد منهما يعلم مقدار ذلك الطعام، ثمّ تراضيا على أن يكون كلّ واحدٍ منهما مالكاً لذلك المقدار من الطعام الذي بحوزته. وكما هو واضحٌ فإن هذه الرواية لا تشتمل على أيّ نزاعٍ بين الطرفين، وإنما يصل كلّ واحدٍ منهما إلى حقِّه بالتراضي والمصالحة فقط، ولا سيَّما أنه لم يَرِدْ التعبير في ذيل الرواية بلفظ الصلح؛ كي يُدّعى أن ظهورها اللغوي والمتفاهم العُرْفي منها يحكي عن سبق النزاع، بل تمّ الاستناد في الرواية إلى عنوان التراضي وطيب النفس، الأمر الذي يدلّ على أنه حيثما كان هناك إنشاء للتراضي، وكان لدى الطرفين طيبُ نفسٍ، كان ذلك كافياً، ولا تندرج هذه المعاملة تحت أيّ عنوانٍ آخر غير عنوان الصلح.
ومنها:
2ـ صحيحة عبد الله بن سنان: «محمد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محجوب، عن عبد الله بن سنان قال: سألتُ أبا عبد الله× عن رجلٍ دفع إلى رجلٍ غنمه بسمنٍ ودراهم معلومة، لكلّ شاةٍ كذا وكذا في كلٍ شهر؟ قال: لا بأس بالدراهم، فأما السمن فلا أحبّ ذلك، إلاّ أن تكون حوالب فلا بأس بذلك»([36]).
وتقريب الاستدلال: إنه يُستفاد من هذه الرواية، والروايات المشابهة لها، أنه يجوز لمالك الخراف أن يعطي قطيعَه إلى راعٍ مدّةً من الزمن؛ ليحفظها له، ويستفيد من منافعها، من قبيل: الصوف واللبن طوال تلك المدّة، على أن يعطيه المالك في المقابل شيئاً من النقود والسمن.
لو اعتبَرْنا هذا الفرض مصداقاً لعقد الإجارة؛ بمعنى أن يصبح الراعي أجيراً عند المالك، فإن الإشكال الذي سيَرِدُ هو أن أجرة عمله التي هي اللبن والصوف غير متعيِّنة، في حين أن الأجرة يجب أن تكون معلومةً ومحدَّدةً في عقد الإجارة، فلو افترَضْنا أن المالك قد أجَّر خرافه إلى الراعي؛ ليستفيد من منافعها، سوف تكون المشكلة هي أن الراعي قد استفاد من لبن وصوف الخراف، وهي أعيان، والحال أن عقد الإجارة إنما يقع على تمليك المنافع، دون الأعيان، وقال الفقهاء في باب الإجارة: إن متعلَّق الإجارة هو الأعيان التي يبقى أصلها ثابتاً بعد استيفاء منافعها؛ فإذا كان المراد الأصليّ من إجارة الخراف هو أصوافها وألبانها فإن عينها سوف تزول عند الاستفادة من منافعها أيضاً([37]).
ولذلك فقد ذهب بعض الفقهاء، من أمثال: الشهيد الأوّل، إلى القول بجواز العقد المذكور في الرواية ضمن عقد الصلح([38])؛ لأنها لا تنسجم مع موازين عقد الإجارة.
يُضاف إلى ذلك أن الروايات الخاصّة، وعموماتٍ من قبيل: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29)، و«المؤمنون عند شروطهم»، والإجماعات التي نقلت بشكلٍ مستفيض،سوف تكون دليلاً على مشروعية هذا العقد.
ادّعاءٌ مرفوض
وقد يدَّعي شخصٌ فيقول: «حيث إن هذه الرواية لم تشتمل على مفردة الصلح إذن لا يمكن الادّعاء بأنها ترتبط بالصلح الابتدائي، وإن عدم وجود سبق الخصومة فيها دليلٌ على عدم لزوم سبق الخصومة»([39]).
ولكنّنا نجيب عن هذا الادّعاء بالقول: إن كلامنا ليس في خصوص الصلح الابتدائي بالحمل الأوّلي، بل في مورد مشروعية الصلح الابتدائي بالحمل الشائع، والعنصر المقوِّم في الرواية المتقدِّمة هو ذات التراضي، والصلح الابتدائي يقوم بدَوْره على أساس عنصر التراضي.
إشكالٌ وجواب
إن الإشكال المطروح هنا هو أن الالتزام بمشروعية الصلح الابتدائي لا ينسجم مع التعاريف التي ذكرها الفقهاء لعقد الصلح؛ إذ يأخذون سبق النزاع أمراً مفروغاً عنه؛ يقول السيد علي الطباطبائي، في كتاب (رياض المسائل)، في تعريف عقد الصلح: «الصلح، وهو مشروعٌ في الأصل؛ لقطع المنازعة السابقة أو المتوقَّعة…»([40]).
وفي توجيه هذا الاعتراض قال جماعةٌ من الفقهاء، من أمثال: المقدَّس الأردبيلي، بأن هذا النوع من التعريفات المذكورة في كتب الفقهاء مأخوذةٌ من أهل السنّة؛ لأنهم يشترطون سبق الخصومة في الصلح([41]).
وقد ذهبَتْ مجموعةٌ أخرى من الفقهاء، في معرض الجواب عن التعارض المتقدِّم، إلى وصف سبق الخصومة بالحكمة. ويبدو أن أوّل مَنْ أبدى هذا الجواب هو المحقِّق الكركي في شرح القواعد؛ فإنه عندما ذكر تعريف العلاّمة الحلّي في قواعد الأحكام، حيث قال [في تعريف الصلح]: «عقدٌ شُرِّع لقطع التجاذب»([42])، قال في الجواب عن إشكال التعارض: «رُبَما يُقال: إن هذا يقتضي اشتراطه سبق الخصومة، كما يراه بعض العامّة؛ لأن القاطع للتجاذب مسبوقٌ بالتجاذب، فيُجاب بأن أصل شرعيته لذلك، ولا يلزم ثبوت التجاذب في كلّ فردٍ من أفراد الصلح، كما في القصر للمشقّة في السفر. فإنْ قيل: السفر المخصوص مظنّةُ المشقة، والقصرُ تابعٌ له، بخلاف الصلح؛ فإن الحكم لا يتعلَّق بما هو مظنّةُ التجاذب، كما هو ظاهرٌ، قلنا: حيث تثبت شرعيته لنقل الملك مع الخصومة تثبت شرعيته، والأصل عدم كون الخصومة شرطاً له»([43]).
وحاصل كلامه: إن أصل مشروعية الصلح لفصل الخصومة، وهذا لا يعني أنه يجب أن تكون هناك خصومةٌ في جميع موارد الصلح، كما هو الحال بالنسبة إلى قصر الصلاة في السفر، والذي تمّ تشريعه من جهة المشقّة، إلاّ أن حكم القصر ليس دائراً مدار المشقّة، ولذلك فإن الصلاة تقصر في السفر حتّى إذا لم يكن فيه مشقّةٌ. ومن ناحيةٍ أخرى، حتّى إذا شكَكْنا في لزوم سبق الخصومة فإن الأصل هو عدم اشتراط سبق الخصومة في صحّة الصلح»([44]).
ويبدو أن هذا الكلام منسجمٌ مع ما قيل في بيان معيار تشخيص العلّة من الحكمة؛ إذ يذهب بعض المحقِّقين إلى الاعتقاد بأن تعليل الحكم بالنتيجة له ظهور في الحِكْمة، دون العلّة؛ قال السيد كاظم الحائري، في مقام بيان الضابطة للتمييز بين العلّة والحكمة: «إن التعليل الموجب للتعدّي هو التعليل بصفةٍ مشتركة بين موضوع الحكم والمتعدّى إليه؛ لاستظهار العُرْف أن تلك الصفة هي الموضوع، وليس المتعدّى منه، كما في مثل: (لا تأكل الرمان؛ لأنه حامض)؛ حيث نتعدّى إلى كلّ حامضٍ، أو (لا تشرب الخمر؛ لأنه مسكر)؛ حيث نتعدّى إلى كلّ مسكرٍ، لا التعليل بحكمةٍ ليست وصفاً للموضوع، بل كانت نتيجةً من نتائج العمل بالحكم، كأنْ يقال مثلاً: (إن الله أوجب الزكاة؛ لأنها ترفيهٌ على الفقراء بفضل مال الأغنياء)، فيُتعدّى إلى كلّ عطاءٍ فيه ترفيهٌ على الفقراء بفضل مال الأغنياء، أو يُقال مثلاً: (صوموا؛ حتّى تصحّوا)، فيثبت بذلك وجوب كلّ ما يؤثِّر في صحّة البدن، أو يُقال: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7)، فيُقال: متى ما تجمَّع مالٌ كثير لدى أحدٍ يجب توزيعه وتفتيته؛ كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء، ونحو ذلك. فالتعليل بملاكٍ ما لا يعني أن ذاك الملاك أينما وُجد سرى الحكم؛ إذ نحتمل أن المولى لم يهتمّ بذاك الملاك، إلاّ بمقدار الحكم المعلَّل، ولو لمانعٍ في غير مورد الحكم، وإنما نتعدّى في مورد التعليل بالصفة المشتركة بين موضوع الحكم وشيءٍ آخر؛ وذلك لاستظهار العُرْف كونها هي الموضوع، لا ما فيه الصفة… نعم، قد تقتضي المناسبة والارتكاز عَدَّ شيءٍ موضوعاً، ولو ذُكر بصيغة الملاك، من قبيل: (لا تشرب الخمر؛ كي لا تسكر)، فإن العُرْف يفهم منه بمناسبات الحكم والموضوع والارتكاز معنى (لا تشرب الخمر؛ لأنه مسكر)»([45]).
وهكذا في مسألة الصلح أيضاً؛ حيث التعليل برفع الخصومة والنزاع إنما هو تعليلٌ بالنتيجة.
وقد أعاد الفقهاء، بعد المحقِّق الكركي، ذات هذا الجواب أيضاً. وفي الحقيقة إنهم قد عملوا على تكميل كلام المحقِّق الكركي ببيانٍ فنِّي، ثمّ عرَّفوا عن سبق الخصومة بوصفها حكمةً، وليست علّةً؛ ليكون الحكم الشرعي دائراً مدارها([46]).
وبطبيعة الحال فإنه منذ عصر الشيخ الأنصاري؛ حيث تمّ تقديم تعريفٍ جديد للصلح، لم يعُدْ إشكالُ التعارض وارداً على ذلك التعريف؛ لأنه& قال في تعريف الصلح: «إن حقيقة الصلح، ولو تعلَّق بالعين، ليس هو التمليك على وجه المقابلة والمعاوضة، بل معناه الأصليّ التسالم»([47]). يرى& أن حقيقة الصلح تعود إلى ذات التسالم والتراضي، وعلى الرغم من لزوم وجود التراضي في جميع المعاملات المشروعة، بَيْدَ أن عقد الصلح هو ذات التراضي والتسالم. وفي ضوء هذا التعريف يصبح تصوير الصلح الابتدائي أيسر.
شبهةٌ وردّ
فإنْ قيل: «إن القول بالصلح الابتدائي في فقه الشيعة، بالنظر إلى رؤية هذه المدرسة الفقهية في مورد أصالة واستقلال هذا العقد، الذي أدّى إلى عدم تَبَعيّة عقد الصلح للعقود الأخرى في الأحكام الخاصّة لكلّ واحدٍ من تلك العقود، وكذلك التوسُّع الكبير في دائرة هذا العقد بالنسبة إلى نتائج العقود والإيقاعات، يُعَدّ أمراً مخالفاً للعقل والحكمة؛ لأنه يستوجب بَعْثَرة القوانين والأحكام الخاصّة بالعقود، ويجعل وَضْع وتشريع هذا النوع من القوانين مع تشريع عقد الصلح الابتدائي عَبَثاً ولَغْواً؛ إذ كيف يمكن للشارع أن يعمل من جهةٍ على وضع أحكامٍ وعقودٍ خاصّة لكلّ واحدٍ من المعاملات على أساسٍ من المصالح والمفاسد الواقعية، ويعمد في الوقت نفسه من جهةٍ أخرى إلى السماح للمكلَّفين بالهروب من هذه الأحكام والعقود الخاصّة، من خلال تغيير ظواهر هذه العقود تحت عنوان الصلح؛ كي لا يجري أيُّ واحدٍ من تلك العقود بعد تحقُّق هذا التغيير الظاهري»([48]).
قلنا: في ضوء تشريع الصلح الابتدائي ينفتح أمام المكلَّفين أفقٌ لاحب، حتّى إذا وقعوا في ضيقٍ؛ بسبب رعاية الشروط في بعض العقود والمعاملات، منحهم الشارع المقدَّس فسحةً من الحرّية، فلا يواجهون طريقاً مسدوداً، ويعمل على تشريع المعاملات السائدة بينهم من طريقٍ آخر. إلاّ أن هذا لا يعني أن الصلح الابتدائي هو حيلةٌ شرعية وطريقة للتهرُّب من الالتزام بالشروط العامّة للعقود، وإنما يلجأ العقلاء إلى هذا العقد في موارد خاصّةٍ جدّاً، وذلك حيث يواجهون طريقاً مسدوداً وضيِّقاً من ناحية بعض الشروط، ومن ذلك، على سبيل المثال: الصلح على الأعيان المجهولة، فحيث يشترط في البيع العلم بالعوضين، ويكون المكلَّف مضطرّاً إلى شراء العين المجهولة، وعليه لا يمكنه اللجوء إلى آليّة عقد البيع، ولكنْ مع تشريع عقد الصلح الابتدائي يمكن للمكلَّف أن يصل إلى مراده ومبتغاه. ومن هنا فإنه في العقود المذكورة سابقاً تحت عنوان العقود المستَحْدَثة، من قبيل: عقد الضمان، والملكية الزمنية، وما إلى ذلك، لم يكن بالإمكان ضمان ملاكات العقود المتعارفة، ولكنْ يمكن لنا تشريعها في إطار عقد الصلح الابتدائي، دون الوقوع في الحيرة والمتاهة.
وبعبارةٍ أخرى: يرى الكاتب أن مشروعية عقد الصلح الابتدائي يُعَدّ واحداً من إبداعات فقه الشيعة، ويثبت حيوية الفقه الشيعي، الأمر الذي حُرِم منه أهل السنّة، ويمكن ـ في ضوء هذا العقد ـ أن نجد حلاًّ بالنسبة إلى الكثير من العقود المتعارفة التي قد يواجه المكلَّفون المتديِّنون ـ بسبب ضوابطها وشرائطها ـ طريقاً مسدوداً، ومن هنا فإن الشارع المقدَّس قد شرَّع هذا العقد بوصفه حلاًّ يضعه بيد المكلَّفين لعلاج تلك الحالات.
النتيجة
لإضفاء الشرعية على العقود المستَحْدَثة لا حاجة بنا إلى كسر حصار العقود المتداولة والشائعة بين الناس في عصر الشارع، حتّى إذا فسّرنا إمضاء الشارع لها بجعل الحكم المماثل، بل يمكن ـ من خلال القول بمشروعيّة الصلح الابتدائي للعقود المستَحْدَثة، والتي تشتمل على التراضي بين الطرفين ـ إدراجُها ضمن عقد الصلح الابتدائي.
وفي الحقيقة، فإن فقهاء الشيعة، من خلال القول بمشروعيّة عقد الصلح الابتدائي، قد عملوا على حلّ مشروعية العقود المستَحْدَثة، مع الإبقاء والحفاظ على توقيفية العقود المتداولة الأخرى. إن أدلة مشروعية هذا العقد لا يجب أن تكون مشتملةً على لفظ الصلح؛ ليَرِدَ إشكال لزوم تضمُّن مادّة الصلح لسبق النزاع، بل يمكن لإطلاقات وعمومات صحّة العقود، بالإضافة إلى الروايات الخاصّة المرتبطة بالصلح الابتدائي، أن تضفي المشروعية على هذه العقود أيضاً. وكذلك إن ذكر لزوم سبق الخصومة والنزاع في كلمات الفقهاء إنما يمثِّل بدَوْره إشارةً إلى الحكمة من مشروعية عقد الصلح، دون علّته.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في قم.
(**) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في قم، وأحد أبرز تلامذة الإمام الخوئيّ في علم الرجال والحديث. شارك في تدوين موسوعة الرجال، للخوئيّ. وله مجموعةٌ من المؤلَّفات.
([2]) روح الله الموسوي الخميني، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1: 204، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1413هـ.
([3]) محمد حسين الغروي الإصفهاني، نهاية الدراية في التعليقة على الكفاية 2: 126، منشورات سيد الشهداء، 1376هـ.ش.
([4]) انظر: الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 4: 210، دفتر نشر فرهنگ إسلامي، ط5، 1378هـ.ش.
([5]) انظر: روح الله الموسوي الخميني، البيع 5: 174، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1421هـ؛ السيد مصطفى الموسوي الخميني، الخيارات 2: 72 ـ 73، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1376هـ.ش.
([6]) انظر: السيد مصطفى الموسوي الخميني، البيع 1: 294، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1418هـ.
([7]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 5: 71، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1413هـ.
([8]) السيد جواد بن محمد الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة 7: 372، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([9]) انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 3: 28، مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1415هـ.
([10]) الحسن بن يوسف بن المطهّر (العلامة الحلّي)، مختلف الشيعة 5: 51، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412هـ.
([11]) السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 2: 71، مكتبة الصدوق، ط2، طهران، 1406هـ. ملاحظة: لم نعثر على مضمون هذا الكلام في موضع الإحالة. (المعرِّب).
([12]) انظر: الملاّ أحمد بن محمد النراقي، عوائد الأيام: 165، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1375هـ.ش.
([13]) انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 158، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط5، 1417هـ.
([15]) «والعقد: الضمان والعهد، وجمعه العقود». السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي، تاج العروس 2: 426.
([16]) «قوله [تعالى]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، هي جمع عقد، بمعنى المعقود، وهو أوكد العهود. والفرق بين العهد والعقد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشدّ، ولا يكون إلا من متعاقدين، والعهد قد يتفرّد به الواحد، فكلّ عهدٍ عقدٌ، ولا يكون كل عقدٍ عهداً». الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 3: 103، 1378هـ.ش.
([17]) انظر: روح الله الموسوي الخميني، البيع 1: 70، 1421هـ.
([18]) «دليل البطلان عدم الدليل على الجواز مع الغرور والجهالة، بل الإجماع أيضاً عندنا. ولولا ذلك لأمكن القول بالصحة لبعض العمومات». أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 10: 144، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1405هـ.
([19]) السيد روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة 2: 583، مؤسسة مطبوعات دار العلم، قم.
([20]) السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، فقه الشركة على نهج الفقه والقانون وكتاب التأمين: 54، منشورات مكتبة أمير المؤمنين×، قم، 1414هـ.
([21]) انظر: عبد الله بن أحمد (ابن قدامة المقدسي)، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل 10: 197، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
([22]) في الموارد التي تحتاج إلى تقابضٍ في المجلس، مثل: المعاوضة على الدرهم والدينار.
([23]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 3: 115، تحقيق: السيد محمد كلانتر، ط2، 1386هـ.ش.
([24]) الميرزا جواد التبريزي، أسس القضاء والشهادات: 277.
([25]) عبارته كالتالي: «وممّا ذكرنا يظهر أن الثمن على تقدير البيع لا يخصّ به البطن الموجود…؛ لاقتضاء البدلية ذلك، فإن المبيع إذا كان ملكاً للموجودين بالفعل وللمعدومين بالقوّة كان الثمن كذلك، فإن الملكية اعتبارٌ عرفي أو شرعي، يلاحظها المعتبر عند تحقُّق أسبابها، فكما أن الموجود مالكٌ له فعلاً ما دام موجوداً بتمليك الواقف، فكذلك المعدوم مالكٌ له شأناً بمقتضى تمليك الواقف. وعدم تعقُّل الملك للمعدوم إنما هو في الملك الفعليّ، لا الشأنيّ». الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 4: 63، 1415هـ.
([26]) محمد حسين الغروي الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 120، أنوار الهدى، قم، 1418هـ.
([27]) انظر: ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ العزيزية 1: 222 ـ 457، دار سيد الشهداء للنشر، قم، 1405هـ.
([28]) السيد روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة 1: 561، مؤسّسة دار العلم للمطبوعات، قم.
([30]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 3: 282، تحقيق: السيد محمد كلانتر، 1386هـ.ش.
([31]) وعبارته في هذا الشأن كما يلي: «هل يفيد الصلح فائدة كلّ عقدٍ، عدا النكاح، أو يختص بالعقود الخمس التي تقدَّمت إليها الإشارة، أو يختصّ بالبيع؟ الأقرب عندي هو الأوّل، والظاهر أنه متَّفقٌ عليه بين القائلين بالمختار». السيد محمد بن علي الطباطبائي، مناهل الصلاة: 342، مؤسّسة آل البيت^.
([32]) السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه 5: 112، دار الأضواء، بيروت ـ لبنان.
([33]) انظر: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الصحاح ـ تاج اللغة وصحاح العربية 5: 1951، دار العلم للملايين، بيروت، 1410هـ؛ أبو الفضل جمال الدين محمد بن المكرّم ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب 2: 428، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ دار صادر، ط3، بيروت، 1414هـ.
([34]) انظر: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الصحاح ـ تاج اللغة وصحاح العربية 1: 108؛ ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب 1: 302.
([35]) محمد بن علي الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 33، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، قم، 1413هـ؛ محمد بن الحسن الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 445، مؤسسة آل البيت^، 1414هـ.
([36]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 5: 224، دار الكتب الإسلامية، ط 4، طهران، 1407هـ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 17: 350.
([37]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 4: 331، تحقيق: السيد محمد كلانتر، 1386هـ.ش.
([38]) انظر: محمد بن مكي العاملي (الشهيد الأول)، الدروس الشرعية في فقه الإمامية 3: 197، مؤسسة النشر الإسلامي، ط 2، قم، 1417هـ.
([39]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلّة فقه أهل البيت^ 34: 134، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي على مذهب أهل البيت^، قم. (مصدر فارسي).
([40]) السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل 9: 35، مؤسسة آل البيت^، قم، 1418هـ.
([41]) انظر: أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 9: 333، 1405هـ.
([42]) الحسن بن يوسف الحلّي، قواعد الأحكام 2: 172.
([43]) الشيخ عليّ بن الحسين المحقِّق الكركي، جامع المقاصد في شرح القواعد 5: 407، مؤسّسة آل البيت^.
([44]) يرى الكاتب أن الأصل المذكور لا يمكن أن يكون حاكماً على أصل الفساد في باب المعاملات، ومن جملة ذلك الصلح الابتدائي؛ لأن الموضوع في باب المعاملات للصحّة هو نفوذ وإمضاء ذلك العقد، وليس عدم جعل اشتراط سبق الخصومة في عقد الصلح؛ بمعنى أن الشارع يجب أن يمضي معاملةً ما؛ لكي تكون موضوعاً للصحّة الشرعية، وإن مجرّد عدم جعل الشرطية ليس بمعنى صحّة المعاملة،؛ لأن عدم جعل الشرطية يتناغم حتّى مع السالبة بانتفاء الموضوع أيضاً، بمعنى أنه من الممكن أن لا يكون الشارع قد جعل صحّة معاملةٍ أصلاً، لكي يجعل الشرطية أو لا يجعلها، والذي يكون له تأثيرٌ هو جعل النفوذ والصحّة، وليس عدم جعل الشرطية. وإذا كان المراد من عدم جعل الشرطية هو أن يكون الشارع قد جعل النفوذ للصلح بشكلٍ مطلق سوف تكون أصلاً مثبتاً، وإثبات جعل النفوذ غير مشروطٍ بأصل عدم جعل الشرطية من مصاديق الأصل المُثْبِت، ولذلك يبدو أن الأصل المذكور لا يمكن التمسُّك به.
([45]) السيد كاظم الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 314 ـ 315، مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1415هـ.
([46]) انظر: الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 26: 211؛ السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك 3: 393.
([47]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 3: 13، 1415هـ.
([48]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 134.