د. محمد يسري أبو هدور(*)
كانت وفاة الرسولﷺ بمثابة المصيبة الكبرى التي حلَّتْ بالمسلمين، فأذهلتهم وصرفتهم عن تدبُّر الواقع المحيط بهم لبرهةٍ، حتّى إذا ما أفاقوا مما هم فيه وجدوا أنفسهم مطالبين باختيار زعيمٍ سياسي يخلف الرسولﷺ، ويتابعه في خططه وسياساته، وينهض بأعباء دولة الإسلام، وينظِّم أمورها وشؤونها الداخلية والخارجية.
وفي سقيفة بني ساعدة حدث أوّل اجتماعٍ سياسيّ بين المسلمين بعد وفاة الرسولﷺ، فظهر الخلاف بين المهاجرين والأنصار، وحاول كلٌّ من الفريقين أن يستأثر بالحكم والسلطان دون الطرف الآخر، فأتى كلُّ طرفٍ منهما بالحُجَج والأدلة التي تقوِّي موقفه، وتعضد من رأيه ومنطقه، حتى استقرّ الأمر في نهايته على مبايعة أبي بكر الصدِّيق بالخلافة، وبذلك تمّ إعطاء السلطة للقريشيين، دوناً عن إخوانهم من أهل المدينة، من الأوس والخزرج.
وقد أثَّرت تلك المبايعة تأثيراً كبيراً في مستقبل الأمة الإسلامية السياسي فيما بعد، فقد ساد الاعتقاد بعد ذلك بين الفقهاء والعلماء من أهل السنّة والجماعة أن الأصل والجذر القرشي من أهمّ الصفات اللازمة الواجبة في شخص الإمام والخليفة.
وكما كانت السقيفة مكاناً لأول اجتماعٍ سياسي بين المسلمين، فقد كانت في الوقت ذاته سبباً في ظهور أوّل الأحزاب المعارضة للسلطة الإسلامية الحاكمة؛ ذلك أن الكثير من الروايات المتناثرة في كتب التاريخ تثبت أن هناك عدداً من الصحابة اعترض على بيعة أبي بكر، وأن منهم مَنْ رفض أن يبايعه، ومنهم مَنْ تأخَّر في تلك البيعة.
ولعلّ أشهر مَنْ اهتمَّتْ المصادر التاريخية بذكر موقفه من بيعة أبي بكر كان هو عليّ بن أبي طالب، ابن عمّ الرسولﷺ، وزوج ابنته، والمقدَّم عنده؛ ذلك أن الروايات اختلفت في مسألة مبايعته لأبي بكر، وكيفية تلك المبايعة، وتوقيتها.
فهناك عددٌ من الروايات التي ذكرت أن عليّاً قد سارع إلى مبايعة أبي بكر؛ وهناك رواياتٌ أخرى ترى أنه قد تأخَّر في تلك البيعة لبعض الوقت؛ أما النسق الثالث من الروايات فيرى أن عليّ بن أبي طالب لم يَرْضَ باختيار أبي بكر، وأنه اعترض على ذلك بشدّةٍ، وأنه كان يرى نفسه الأحقّ بخلافة الرسولﷺ، وأنه حاول أن يحشد عدداً من أتباعه ومناصريه ضدّ أبي بكر، حتى تمّ إجباره في النهاية على البيعة، بعد أن تمّ تهديده صراحةً بالقتل إنْ لم يفعل.
وقد حاولْتُ في هذا البحث أن أتطرَّق لتلك الاشكالية، وهي: أحداث السقيفة، والنتائج المترتِّبة عليها، وخصوصاً موقف عليّ بن أبي طالب منها؛ وذلك لما في ذلك الموضوع من أهمّية كبرى، تتمثَّل بإلقاء الضوء على الحياة السياسية في عصر صدر الإسلام، وأشكال المعارضة المختلفة حينذاك.
وقد قصرت البحث على الروايات الواردة في مصدرَيْن من مصادر التاريخ الإسلامي، وهما: كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي؛ وكتاب تاريخ الرسل والملوك، لابن جرير الطبري.
وقد اختَرْتُ هذين المصدرين بالتحديد؛ لعددٍ من الأسباب، وهي:
التنوُّع والشمول
فكتاب سُلَيْم من أهمّ الكتب المعتبرة الموثَّقة عند الشيعة الإمامية، وهو من الكتب التي يرجع إليها العلماء الشيعة في الأحداث التاريخية المبكِّرة، وخصوصاً أن سُلَيْم بن قيس كان من الشيعة الأوائل الذين قُدِّر لهم أن يصاحبوا خمسةً من الأئمة، وهم: عليّ بن أبي طالب، ثمّ ابناه الحسن ثمّ الحسين، ثمّ عليّ زين العابدين بن الحسين، وأخيراً محمد الباقر بن عليّ بن الحسين.
أما تاريخ الطبري فهو واحدٌ من أهمّ كتب التاريخ المعتبرة عند أهل السنّة والجماعة، رغم أن هناك عدداً من الروايات التي توجد فيه تختلف مع الروايات الرسميّة التقليديّة لأهل السنّة والجماعة.
الأقدميّة
كان سُلَيْم بن قيس الهلالي واحداً من كبار التابعين الذين عاصروا الرسولﷺ ولم يرَوْه، فقد جاء إلى المدينة المنورة بعد وفاة الرسولﷺ، وصاحَبَ عليّ بن أبي طالب، وأضحى واحداً من شيعته وكبار أصحابه، واشترك في حروب عليّ بن أبي طالب ضدّ الخارجين عليه في معارك الجمل وصفّين والنهروان.
وقد عاصر سُلَيْم الكثير من الأحداث السياسية المبكِّرة في الدولة الإسلامية، وكان شاهداً عليها، ومشاركاً فيها، وهو الأمر الذي يعطي لكتابه قيمةً كبيرة من الناحية التاريخية.
أما تاريخ الطبري فقد احتوى بين دفَّتَيْه على مجموعة كبيرة جدّاً من الروايات التي أخذها الطبري عن عددٍ من الأخباريّين المتقدِّمين عليه، والمعروفين بخبرتهم ودرايتهم بأخبار الإسلام الأولى، والفتوحات والخلافات السياسية، من أمثال: ابن شهاب الزهري، وأبي مخنف لوط بن يحيى، والمدائني، وسيف بن عمر التميمي.
المتابَعة
إن الكثير من الكتابات الشيعية والسنّية التي تناولَتْ موضوع السقيفة قد رجعَتْ إلى كتابَيْ سُلَيْم بن قيس والطبري، وهو الأمر الذي يؤكِّد أهمِّيتهما، وإحاطتهما بموضوع السقيفة والخلاف الذي حدث فيها.
أما عن منهجي في هذا البحث فقد اعتمَدْتُ على ذكر الروايات التاريخية، ثم التعرُّض لها بالتحليل والتفنيد والمناقشة، ونَقْدها بشكلٍ ظاهري وباطني، في محاولة للوصول إلى أدقّ الروايات، وأكثرها قُرْباً من الحقيقة.
وقد قمْتُ بتقسيم البحث إلى عددٍ من المحاور الرئيسة، وهي:
أوّلاً: أهمّ الرواة في الكتابين.
ثانياً: الروايات المتعلِّقة بأحداث السقيفة.
ثالثاً: موقف عليّ بن أبي طالب من نتائج السقيفة.
أوّلاً: أهمّ الرواة في الكتابين
سُلَيْم بن قيس الهلاليّ
أصله من بني عامر بطن من عامر بن صعصعة، ولد قبل الهجرة بسنتين، ولم يَرَ الرسولﷺ؛ لأنه لم يقدم إلى المدينة إلاّ في أوائل خلافة عمر بن الخطّاب.
واستقرّ سليم في المدينة في الفترة ما بين عامي 27 و35هـ، وكان في تلك الفترة من أقرب الناس إلى عليّ بن أبي طالب، ومن خواصّ أصحابه.
بعد تولّي علي بن أبي طالب للخلافة انضمّ سُلَيْم إلى جيش عليّ، فحارب معه أعداءه في الجمل وصفّين والنهروان. وبعد مقتل عليّ بن أبي طالب كان سُلَيْم قريب الصلة بابنَيْه الحسن والحسين، واستقرّ بعد مقتل الحسين في الكوفة.
وفي عام 75هـ قدم الحجّاج والياً على الكوفة، وكان من عادته متابعة الشيعة وقتلهم، وكان سُلَيْم ممَّنْ طلبه الحجّاج، فهرب سُلَيْم إلى البصرة، ثمّ إلى فارس، ووصل إلى مدينة (نوبندجان)، وآوى في تلك البلدة إلى (أبان بن أبي عيّاش)، وحدَّثه بالكثير من الروايات والأحاديث التي سمعها من عليّ بن أبي طالب وعدد من أصحابه، وبعد فترةٍ قليلة مرض سُلَيْم، ثمّ توفي بعد ذلك.
وقد تمّ جمع تلك الروايات التي نقلها سُلَيْم إلى أبان بن أبي عيّاش في كتابٍ عُرف باسم (كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي). وقد حظي هذا الكتاب باهتمامٍ كبير من الباحثين في مصادر التاريخ الإسلامي، حيث إن الكثير من الباحثين قد تعرَّض له بالنقد أو التوثيق.
وعموماً، فإن معظم الباحثين من السنّة قد جرحوا ذلك الكتاب وأسقطوه، وأعلنوا أنه غير موثَّقٍ، وأنه قد دُوِّن في مرحلةٍ متأخِّرة، وإنْ تمَّتْ نسبتُه إلى سُلَيْم بن قيس.
أما الباحثون الشيعة فقد وثَّقوا ذلك الكتاب، وجعلوا منه حجّةً على الكثير من الأحداث التاريخية المبكِّرة، واستندوا في ذلك إلى كون الكثير من كتب الرجال الشيعية الإمامية قد ذكرَتْ هذا الكتاب، وعدَّلته، ووثَّقته.
ونلاحظ أن الروايات التي يرويها سُلَيْم في كتابه عن أحداث السقيفة، وموقف عليّ بن أبي طالب وأصحابه منها، ترجع إلى اثنين من هؤلاء الصحابة، وهما:
ـ البراء بن عازب.
ـ سلمان الفارسي.
ابن جرير الطبريّ
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري. وينتسب ابنُ جرير إلى إقليم طبرستان، وهي ولاية تشتمل على مناطق واسعة، وأكبر أقاليمها هي: آمل. ووُجد العديد من العلماء المسلمين الذين نُسبوا إلى طبرستان على مدار التاريخ الإسلامي.
وكان الطبري من كبار الفقهاء المشتغلين بالفقه وتفسير القرآن والسنّة النبوية، وبالإضافة إلى ذلك كان مؤرِّخاً عظيماً واسع المعرفة والاطلاع.
وكان للطبري رأيٌ خاصّ في الفقه، ممّا أدخله في خصوماتٍ عديدة مع بعض الفِرَق الإسلامية، مثل: الحنابلة، والخوارج، والروافض. وكذلك فإنه عارض آراء داوود بن عليّ الأصفهاني، صاحب المذهب الظاهري.
وتاريخ الطبري هو أحد أهمّ وأشهر كتب الطبري التي خلَّفها لنا، بل إنه أحد أهمّ كتب التاريخ الإسلامي قاطبةً، وعنوان هذا الكتاب العظيم هو (تاريخ الرُّسُل والملوك)، ويسمِّيه البعض (تاريخ الأمم والملوك).
وقد استعان الطبري بعددٍ كبير من المصادر المهمة عند تدوين تاريخه، وكذلك فقد استخدم قدرته الفائقة على الدراسة والتحصيل والتعلُّم، ومن ثَمَّ فقد رجع للعديد من الكتب قبل أن يُقْدِم على كتابة تاريخ الرسل والملوك.
وتوجد بعض الملاحظات على أسلوب الطبري في الكتابة التاريخية، ومنها:
ـ إن الطبري قد اعتاد أن ينقل الروايات التاريخية بنصّها الحَرْفي، بدون أيّ تعديلٍ أو إضافةٍ أو نقصانٍ، كما إنه لم يقُمْ بالتعديل والتعليق على الرواة. وهذا المنهاج يخالف ما كان الطبري يتبعه في الكثير من الأحيان عند رواية الحديث. ورُبَما كان هذا التناقض بسبب أن الطبري نظر إلى الحديث نظرةً شرعية دينية، أما التاريخ فلم ينظر إليه نفس النظرة.
ـ إن الطبري قد انتهج في كتابته للتاريخ نهج المحدِّثين، فهو يورد الروايات التاريخية، ويضع قبلها أسانيدها، التي ترجع في بعض الأحيان إلى شهودٍ عيان.
ـ إن الطبري كان دائماً ما يكتفي بوضع الروايات التاريخية دون أن يقوم بالتعليق عليها، أو ترجيح بعضها على بعضٍ، ولذلك فهو يظهر دائماً بمظهر المحايد.
ـ إن الطبري اتبع المنهج الحَوْلي في تاريخه، فقد كان يؤرِّخ لأحداث كلّ سنةٍ على حدة، وكلّما انتهى من حوادث سنةٍ معيَّنة قام بالبدء في التاريخ لحوادث السنة التي تليها.
ـ إن الطبري قد استفاض في التأريخ لأحداث العصر الأمويّ، وكذلك أحداث العصر العبّاسي الأول، أما أحداث عصره ـ أي أحداث القرن الثالث الهجري ـ فقد جاءت في كتابه على نحوٍ مقتضب وسريع.
ـ إن الطبري قد استخدم مهارته كمحدِّث في انتقاء واختيار مادّته التاريخية.
ـ إن الطبري قد ذكر الكثير من الروايات والحقائق التاريخية في تاريخ الفرس، مما لا نجده عند غيره من المؤرِّخين الأوائل.
وقد حظي تاريخ الرسل والملوك بشهرةٍ واسعة؛ وذلك لأنه ـ كما أوضَحْنا ـ قد حوى بين دفَّتَيْه مجموعةً كبيرة من كتب ومؤلَّفات الأخباريين السابقين، ولذلك فإن الناس قد اكتفوا بتاريخ الطبري عن جميع الكتب الصغيرة المتفرِّقة. ومما يدلّ على علم الطبري واجتهاده في تصنيف مؤلَّفاته أنه قد قيل: إن بعض تلاميذه قد حسبوا أيام حياته، منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ستّ وثمانين عاماً، وقاموا بتقسيم أوراق مصنَّفاته على أيّام حياته، فصار نصيب كلّ يومٍ حوالي أربع عشرة ورقة.
سيف بن عمر
هو سيف بن عمر التميمي الضبي، المتوفّى في بغداد، في عام 200هـ. كان من كبار الأخباريين الكوفيين. وذكر له الطبري العديد من الروايات في تاريخه.
فما هو رأي علماء الجرح والتعديل وعلماء الحديث في (سيف بن عمر)؟
يرى (أبو زرعة الرازي)(264هـ) أن (سيف بن عمر) (ضعيف الحديث)([1]).
ويضع (أحمد بن شعيب النسائي)(303هـ) سيفاً في قائمة الضعفاء([2]).
وكذلك يضعه (ابن حمّاد العقيلي المكي)(322هـ) في كتابه الضعفاء الكبير([3]).
أما (ابن حِبّان البستي)(354هـ) فيرى أن سيفاً (كان يضع الحديث، واتُّهم بالزندقة)([4]).
ويضع (الجرجاني)(365هـ) سيفاً في قائمة الضعفاء، في كتابه الكامل في ضعفاء الرجال([5]).
اما (ابن شاهين)(385هـ) فيروي عن (يحيى بن معين) تضعيفه لسيف، وقوله عنه: (فلسٌ خير منه)([6]).
وكذلك يرى (الدارقطني)(385هـ) أن سيفاً (متروك الحديث)([7]).
أما (الحاكم النيسابوري)(405هـ) فيذكر أن سيفاً (اتُّهم بالزندقة، وهو ساقط في رواية الحديث)([8]).
ويرى (أبو نعيم الإصبهاني)(430هـ) أن سيفاً (متَّهمٌ في دينه، مرميٌّ بالزندقة، ساقطُ الحديث، لا شيء)([9]).
أما (الذهبي)(748هـ) فيذكر، في كتابه (المغني في الضعفاء)، أن سيفاً (متروكٌ باتِّفاق)([10]). وفي كتابه الأشهر (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) يذكر أن سيفاً (يروي عن هشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وجابر الجعفي، وخلقٍ كثير من المجهولين)([11]).
أما (ابن حجر العسقلاني)(852هـ) فيذكر أن سيفاً كان (يروي المقاطيع)([12]).
ومعنى ذلك كلِّه أن (سيف بن عمر التميمي) ليس بثقةٍ، ولا يمكن أن نسلِّم بروايته، دون أن نعمل فيها النقد والفحص والتمحيص.
ثم إن أمانة سيف ليست هي النقطة الوحيدة التي أخذها عليه علماء الجرح والتعديل، بل إننا وجَدْنا من العلماء مَنْ اتَّهمه بالزندقة، والخروج عن الدين نفسه.
الزُّهْريّ
هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي. أصله من قريش، ولكنه سكن في المدينة المنورة في بداية حياته. وفي عام 82هـ انتقل إلى دمشق، وصاحب الخليفة (عبد الملك بن مروان)، وتقرَّب إليه، وبعد وفاة (عبد الملك) استمرَّتْ مكانة (الزهري) في البلاط الأموي في عهد الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك.
وكان الزهري قريب الصلة بهؤلاء الخلفاء، فمنحوه الكثير من الأموال والعطايا. وقد عرف (محمد بن مسلم الزهري) بعمله في مجالاتٍ متعدِّدة، منها: التاريخ والأنساب والقرآن والفقه والحديث. وكانت وفاة الزهري في عام 124هـ، في خلافة هشام بن عبد الملك([13])
أبو مخنف
هو أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم بن الحارث. كان جدُّه (مخنف بن سليم) من أصحاب الرسولﷺ، وشهد معه حجّة الوداع. ثمّ كان في صفّ عليّ بن أبي طالب بعد خلافته، فحارب في صفِّه في معركة الجمل، ثم ّتولى له أمارة (إصبهان). وبعد ذلك انتقل إلى الكوفة، حيث كان زعيم قبيلة الأَزْد بها. وبعد مقتل الحسين في كربلاء ندم على عدم نصرته له، فانضمّ إلى حركة التوّابين، التي تزعَّمها (سليمان بن صرد الخزاعي)، وحارب معه ضدّ جيش الشام في معركة (عين الوردة)، في عام 65هـ، وقُتل يومها([14]).
أما أبو مخنف لوط بن يحيى فكان شيعيّ الهوى، مثل جدِّه، فعُرف بكونه أحد أهم الأخباريين بها، وصنَّف العديد من الكتب، ومنها: كتاب السقيفة؛ كتاب الردّة؛ كتاب الشورى؛ كتاب الحَكَمين؛ كتاب قتل الحسين؛ وغيرها من الكتب([15]).
وقد توفي أبو مخنف في عام 157هـ.
وقد ورد تصنيف (أبي مخنف) والاعتماد على روايته في عددٍ من كتب الرجال وكتب الجرح والتعديل الشيعيّة([16]). أما على الجانب السنّي فنجد أن الكثير من علماء الجرح والتعديل قد جرحوه، وطعنوا فيه؛ فعلى سبيل المثال:
يصفه (العقيلي المكّي) بأنه (ليس بشيء…، ليس بثقة)([17]).
أما الجرجاني فيصفه بأنه (ليس بشيء)، ويعلِّل ذلك بقوله: (حدَّث بأخبار من تقدم من السَّلَف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق، صاحب أخبارهم. وإنما وصفتُه ليستغنى عن ذكر حديثه، فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره، وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحبّ ذكره)([18]).
ويذكر (ابنُ شاهين)، في كتابه (تاريخ أسماء الضعفاء والكذّابين)، أن (يحيى بن معين) قد وصف (أبا مخنف) بــ (ليس حديثه بشيء…، وأنه ليس بثقة)([19]).
أما (الدارقطني) فيصف أبا مخنف بأنه (أخباري ضعيف)([20]).
والذهبي كذلك يضعِّفه ويجرحه؛ ففي كتابه ميزان الاعتدال يذكر عنه أنه (أخباري تالفٌ لا يوثق به)([21])؛ وفي كتابه المغني في الضعفاء يذكر أنه (ساقط)([22]).
ويتابع (ابن حجر العسقلاني) الذهبي في وصفه لأبي مخنف بأنه (أخباري تالفٌ لا يوثق به)([23]).
ونخلص من كلّ ما سبق إلى أن علماء الجرح والتعديل السنّة قد ضعَّفوا (أبا مخنف) وجرحوه، وأن القليل منهم قد بين أن ذلك بسبب كونه (شيعياً)، أما معظمهم فقد برَّروا طعنهم فيه بأنه أخباريّ ضعيف، وأنه لا يجدر الثقة به.
ثانياً: الروايات المرتبطة بأحداث السقيفة
أـ في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلاليّ
لم يتطرَّق (سُلَيْم بن قيس) في كتابه للحديث عن الأحداث والمواقف التي دارَتْ بين الأنصار والمهاجرين يوم السقيفة، فنحن لا نكاد نلمس أيّ أثرٍ لما حدث في السقيفة في الروايات التي يوردها؛ ذلك أنه توجد روايةٌ واحدة فقط تذكر ـ باختصارٍ ـ ما دار بين الأطراف المتعارضة في السقيفة، وتلك الرواية هي عن (أبان بن أبي عيّاش)، عن (سُلَيْم بن قيس) قال: سمعتُ سليمان الفارسي قال: (لما أن قُبض النبيّﷺ، وصنع الناس ما صنعوا، جاءهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح، فخاصموا الأنصار بحجّة عليٍّ×، فقالوا: يا معشر الأنصار، قريش أحقّ بالأمر منكم؛ لأن رسول اللهﷺ من قريش، والمهاجرون خيرٌ منكم؛ لأن الله بدأ بهم في كتابه، وفضَّلهم، وقد قال رسول اللهﷺ: الأئمة من قريش)([24]).
وباقي الروايات الواردة في الكتاب عن تلك الفترة الزمنية ـ التي حدثَتْ فيها حادثة السقيفة ـ نجدها تتعلَّق بأحداث أخرى قد وقعَتْ بشكلٍ موازٍ لأحداث السقيفة، فتلك الروايات تعلَّقت بحادثة تغسيل الرسولﷺ، وكيفية حدوث ذلك، والأشخاص الذين شاركوا في تلك العملية، وكيف تمّ أداء الصلاة على الرسولﷺ، وأسماء من قاموا بالصلاة عليه.
وهناك روايةٌ ـ غيبيّة الطابع ـ يتحدَّث فيها الإمام عليّ بن أبي طالب عن مشاركة (إبليس) في أحداث السقيفة، ففي تلك الرواية يسأل (عليٌّ) سلمان الفارسي عن أوّل شخصٍ بايع أبا بكر، فردَّ عليه سلمان بأسماء عددٍ ممَّنْ شاهدهم يبايعون أبا بكر، فردَّ عليه عليّ قائلاً: (لستُ أسألك عن هؤلاء، ولكنْ هل تدري مَنْ أوّل مَنْ بايعه حين صعد المنبر؟ قلتُ: لا، ولكنّي رأيتُ شيخاً كبيراً، يتوكّأ على عصاه، بين عينَيْه سجّادة شديدة التشمير، صعد المنبر أوّل مَنْ صعد، وخرّ وهو يبكي ويقول: (الحمد لله الذي لم يُمِتْني حتَى رأيتُك في هذا المكان، ابسُطْ يدك)، فبسط يده، فبايعه، ثمّ قال: (يومٌ كيوم آدم)، ثمّ نزل، فخرج من المسجد، فقال عليٌّ: يا سلمان، أتدري مَنْ هو؟ قلتُ: لا، لقد ساءَتْني مقالته كأنه شامتٌ بموت رسول اللهﷺ، قال عليٌّ: فإن ذلك إبليس لعنه الله)([25]).
ملاحظاتٌ بيانيّة
1ـ في الرواية الأولى يظهر أن المهاجرين قد احتجّوا على الأنصار في السقيفة بحديث رسول اللهﷺ بأن (الأئمّة من قريش)، ومعنى ذلك أن هناك نوعاً من الوصاية بالخلافة وتولي أمر المسلمين، وأن الرسولﷺ قد مهَّد لخلافته في حياته.
2ـ إن تلك الرواية تبين أن صاحبها قد اعتقد بأحقِّية (عليّ بن أبي طالب) بخلافة الرسولﷺ؛ بموجب نظرية الوصاية؛ وذلك لأنه قد ورد في تلك الرواية أن المهاجرين قد خاصموا الأنصار، واحتجّوا عليهم، وغلبوهم (بحجّة عليٍّ)، ومعنى ذلك أن راوي تلك الرواية (وهو سلمان الفارسي) كان يعتقد بوصاية عليٍّ للرسولﷺ.
3ـ في الرواية الثانية يظهر الأثر الغيبيّ الذى يُلقي بنتائج السقيفة على كاهل (إبليس)، الذي هو رمزٌ للشرّ الخالص في العقيدة الإسلامية. كما أن تلك الرواية تثبت أن (عليّ بن أبي طالب) كان عنده من المَلَكات والقدرات ما يمكنه من معرفة أحداث ووقائع لم تحدث ولم تَجْرِ في حضوره، حيث تُستكمل الرواية معلِّلةً كيفية إحاطة (عليّ) بما حدث في السقيفة بقوله لسلمان مفسِّراً: (أخبرني رسول اللهﷺ أن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول اللهﷺ إيّاي يوم غدير خمّ بأمر الله، وأخبرهم بأنّي أَوْلى بهم من أنفسهم، وأمرهم أن يبلِّغ الشاهد الغائب، فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه، فقالوا: (إن هذه الأمّة أمّةٌ مرحومة معصومة، فما لك ولا لنا عليهم سبيلٌ، وقد أُعْلِموا مفزعهم وإمامهم بعد نبيِّهم)، فانطلق إبليس كئيباً حزيناً، قال أمير المؤمنين: أخبرني رسول اللهﷺ بعد ذلك، وقال: يبايع الناس أبا بكر في ظلّة بني ساعدة، بعد تخاصمهم بحقِّنا وحجَّتنا، ثمّ يأتون المسجد، فيكون أوّل مَنْ يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخٍ كبير مشمّر يقول: كذا وكذا)([26]).
ونلاحظ أنه حتى في تلك الرواية المفسّرة (عليٌّ) يذكر أن الحجّة التي احتجّ بها المهاجرون على الأنصار هي حجّته وحقّه، ويقصد بذلك (الوصاية).
ب ـ في كتاب تاريخ الرُّسُل والملوك، للطَبَريّ
في كتابه تاريخ الرسل والملوك يتناول (الطبري) ما جرى من أحداثٍ في السقيفة، بشيءٍ من التفصيل والإسهاب.
وهناك أربع روايات يوردها الطبري عن تفاصيل الخلاف الذى جرى ما بين المهاجرين والأنصار في السقيفة، ولكلّ روايةٍ من الروايات الأربع سندٌ مختلف.
الرواية الأولى، وسندها (جرير، عن مغيرة، عن أبي معشر زياد بن كليب، عن أبي أيّوب، عن إبراهيم).
الرواية الثانية، وسندها (زكريا بن يحيى الضرير، عن أبي عوانة، عن داوود بن عبد الله الأدوي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري).
الرواية الثالثة، وسندها (عليّ بن مسلم، عن عبّاد بن عبّاد، عن عبّاد بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس).
الرواية الرابعة، وسندها (هشام بن محمد، عن أبي مخنف، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري).
والحقيقة أن أهمّ تلك الروايات، وأكثرها إحاطة وتفصيلاً وذكراً للكثير من الدقائق والأحداث التي جرَتْ في السقيفة، هما: الرواية الثالثة؛ والرواية الرابعة. ومما يزيد من أهمِّية تلك الروايتين أن (الرواية الثالثة) عن الإمام الزُّهْري، الذى يوثِّقه علماء الجرح والتعديل السنّة، ويرجِّحون رواياته، اما (الرواية الرابعة) فهي عن (أبي مخنف لوط بن يحيى)، الذي يعتبر أحد الأخباريين المعتبرين في المذهب الشيعيّ.
ولذلك فإننا سوف نذكر كلا الروايتين بنصَّيْهما، ثمّ نعلِّق على كلٍّ منهما، ونقارن بين الروايتين والروايات التي ذكَرْناها من قبلُ في كتاب (سُلَيْم بن قيس الهلالي).
رواية الزُّهْريّ
في تلك الرواية يتحدَّث (عمر بن الخطّاب) عن أحداث السقيفة، فيقول: إنه انطلق مع أبي بكر إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع الأنصار، (فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة، فقام رجلٌ منهم، فحمد الله، وقال: أما بعد، فنحن الأنصار، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط نبيِّنا… قال (أي عمر): فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر، وقد كنتُ زورت في نفسي مقالة أقدِّمها بين يدَيْ أبي بكر… وكان هو أوقر منّي وأحلم، فلمّا أردْتُ أن أتكلَّم قال: على رسلك…، فقام، فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئاً كنتُ زورتُ في نفسي أن أتكلَّم به لو تكلّمتُ إلاّ قد جاء به أو بأحسن منه، وقال: أما بعد، يا معشر الأنصار، فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلاّ وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش، وهو أوسط العرب داراً ونسباً، ولكنْ قد رضيتُ لكم أحد هذَيْن الرجلَيْن، فبايعوا أيّهما شئتم…، قال (أي عمر): فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، فلما أشفقْتُ الاختلاف قلتُ لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار)([27]).
رواية أبي مخنف
(إن النبيّﷺ لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولّي هذا الأمر بعد محمد× سعدَ بن عبادة، وأخرجوا سعداً إليهم، وهو مريض… فقال (أي سعد بن عبادة)، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلةٍ من العرب، إن محمداً× لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ رجالٌ قليل، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله، ولا أن ينصروا دينه، ولا أن يرفعوا عن أنفسهم ضَيْماً عموا به، حتّى اذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه منكم، وأثقله على عدوّه من غيركم، حتّى استقامَتْ العرب لأمر الله طَوْعاً وكرهاً…، فأجابوه (أي الأنصار) بأجمعهم أن قد وُفِّقْتَ في الرأي، وأصبْتَ في القول، ولن نعدو ما رأيْتَ، ونولِّيك هذا الأمر… وأتى عمر الخبر، فأقبل إلى منزل النبيّﷺ، فأرسل إلى أبي بكر، وأبو بكر في الدار، وعليّ بن أبي طالب دائبٌ في جهاز رسول اللهﷺ، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إليّ…، فخرج إليه، فقال (أي عمر): أما علمْتَ أن الأنصار قد اجتمعَتْ في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولّوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالةً مَنْ يقول: منّا أميرٌ، ومن قريش أميرٌ! فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بن الجرّاح، فتماشوا إليهم ثلاثتهم)([28]).
ثمّ تستكمل الرواية الأحداث بأن أبا بكر قد بدأ يعدِّد فضائل المهاجرين وحقّهم أمام الأنصار، فقال: (هم (أي المهاجرين) أوّل مَنْ عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالمٌ، وأنتم، يا معشر الأنصار، مَنْ لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحدٌ بمنزلتكم، فنحن الأمراء؛ وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورةٍ، ولا نقضي دونكم الأمور).
وعندما طالب (الحباب بن المنذر بن الجموح) بأن يتمّ تعيين أميرين: أحدهما من المهاجرين؛ والآخر من الأنصار، فإن الرواية تقول بأن عمر بن الخطاب قد عارض ذلك قائلاً: (هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمِّروكم ونبيّها من غيركم، ولكنّ العرب لا تمتنع أن تولي أمرها مَنْ كانت النبوّة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على مَنْ أبى من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. مَنْ ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاّ مدل بباطل، أو متجانف لإثم، ومتورّط في هَلَكة!).
وبعد حدوث الكثير من الخلافات بين المهاجرين والأنصار قام (بشير بن سعد)، وقال: (إلا إن محمداًﷺ من قريش، وقومه أحقُّ به وأَوْلى، وأيم الله، لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم، ولا تنازعوهم)،
(فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا، فقالا: لا والله، لا نتولّى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمَنْ ذا ينبغي له أن يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك؟! ابسط يدك نبايعك، فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحبّاب بن المنذر: يا بشير بن سعد، عقتك عقاق، ما أحوجك إلى ما صنعْتَ، أنفست على ابن عمِّك الإمارة؟! فقال: لا والله، ولكنّي كرهْتُ أن أنازع قوماً حقّاً جعله الله لهم)([29]).
تأمُّلاتٌ نقديّة
1ـ في الروايتين السابقتين هناك اتفاقٌ على أن (عمر بن الخطّاب) هو الذي عرف أوّلاً بأمر اجتماع الأنصار في السقيفة، وأنه هو الذي أرسل إلى أبي بكر؛ ليعلمه بذلك. وبينما لا تذكر لنا رواية الزُّهْري المكان الذي كان يوجد فيه أبو بكر وقت بدء الأنصار لاجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، فإننا نجد أن رواية (أبي مخنف) تصرح بأن أبا بكر كان في دار الرسولﷺ، وأنه كان منشغلاً مع عليّ بن أبي طالب في تجهيز الرسولﷺ. ونلاحظ أن الروايات المتعدِّدة التي يذكرها (سُلَيْم بن قيس) في كتابه عن تجهيز الرسولﷺ لم تذكر على الإطلاق أن أبا بكر قد اشترك في تلك العملية، بل إن هناك اتفاقاً على أن عليّ بن أبي طالب هو الذى تولّى تلك المسألة، بمساعدة عددٍ من أقارب الرسولﷺ، مثل: العبّاس بن عبد المطّلب وابنه الفضل بن العبّاس، كما أن رواية سُلَيْم تفيد أن جبريل وبعض الملائكة قد اشتركوا مع هؤلاء النَّفَر في تغسيل الرسولﷺ([30]).
إذن هناك شذوذٌ في رواية (أبي مخنف) في كون أبي بكر كان موجوداً في الدار مع عليّ بن أبي طالب وقتما عرف (عمر) بما يحدث في السقيفة، فكيف يمكن أن نفسِّر ذلك الشذوذ؟ وهل هناك سببٌ يستدعي أن نعتقد أن (أبا مخنف) قد أضاف تلك الجملة (فأرسل إلى أبي بكر، وأبو بكر في الدار، وعليّ بن أبي طالب دائب في جهاز رسول اللهﷺ)؟
الحقيقة أننا نعتقد أن تلك الجملة قد أضافها (أبو مخنف) إلى الرواية بشكلٍ متعمَّد؛ حتّى يبين أن عمر بن الخطّاب أراد أن يُعْلِم أبا بكر وحده بمسألة اجتماع الأنصار في السقيفة، وفي الوقت نفسه لم يشأ أن يُعْلِم عليّاً بتلك المسألة، فتركه في ما هو فيه من تجهيز وتغسيل الرسولﷺ، بينما شدَّد على أبي بكر في الخروج إليه، وأعاد طلبه لأكثر من مرّةٍ. ويوضِّح ذلك أن (أبا مخنف) كان يعتقد بأن كلاًّ من أبي بكر وعمر قد حرصا منذ البداية على تجاهل عليّ بن أبي طالب، وعدم استدعائه معهما إلى اجتماع السقيفة؛ لأنه في حال وجود عليٍّ مع المهاجرين والأنصار في السقيفة فبلا شَكٍّ كانت نتائج تلك الحادثة سوف تتغيَّر، ولن تنتهى على النحو الذي انتهت إليه.
2ـ إذا ما قارنّا الروايات الثلاث (رواية سُلَيْم؛ رواية الزُّهْري؛ رواية أبي مخنف) وجَدْنا تبايناً واختلافاً في تبيان وجهة نظر الأنصار، واعتقادهم بحقِّهم في الخلافة. ففي رواية (سُلَيْم) لا يوجد أيّ ذكرٍ لأيّ حجّةٍ من حجج الأنصار في ادّعائهم بأحقِّية توليهم لمنصب الخلافة؛ أما في رواية (الزُّهْري) فقد ورد ذكر حجّة الأنصار بشكلٍ مختصر وسريع، فالزهري يذكر أن أحد الأنصار من الحاضرين في السقيفة قد أشاد بدَوْر الأنصار في قيام دولة الإسلام وحماية الرسالة، ولم يذكر الزُّهْري اسم ذلك الرجل، ولم يفصِّل مقالته، بل إنه سرعان ما ينتقل إلى الجانب الآخر (المهاجرين)، فيذكر أن عمر بن الخطاب كان قد حضَّر كلاماً؛ للردّ به على الأنصار.
فإذا ما انتقَلْنا إلى الرواية الثالثة (رواية أبي مخنف) فسنجد أن تلك الرواية هي أكثر الروايات التي ذكَرَتْ حججاً للأنصار يوم السقيفة؛ ذلك أن الرواية تبدأ بمقالة سعد بن عبادة زعيم الخزرج، وتذكر الرواية الأسباب التي يحتجّ بها الأنصار في مطالبتهم بمنصب الخليفة. ومن الممكن أن نحصر تلك الأسباب في النقاط التالية:
ـ السبق في الإسلام.
ـ الجهاد ضدّ الكفّار والمشركين.
إذن فرواية (أبي مخنف) هي أكثر الروايات قرباً للموضوعية والحياد، وهي أهمّ روايةٍ تبين حجّة الأنصار، والسبب الذي دفعهم للمطالبة بالخلافة.
3ـ إذا رجعنا إلى الروايات الثلاثة وجَدْنا أن هناك اختلافاً في الأسباب التي تقدّمها كلّ روايةٍ؛ لتبرير رأي المهاجرين في أحقِّيتهم بخلافة الرسولﷺ:
ـ في رواية (سُلَيْم بن قيس) يبرِّر المهاجرون أحقيتهم بالخلافة بثلاثة أسباب، وهي:
السبب الأوّل: إن رسول اللهﷺ من قريش.
السبب الثاني: إن الله بدأ بالمهاجرين في كتابه قبل الأنصار.
السبب الثالث: حديث رسول اللهﷺ: (الأئمّة من قريش).
ـ في رواية (الزُّهْري) برَّر (أبو بكر) مطالبة المهاجرين بالخلافة بسببين، وهما:
السبب الأوّل: إن العرب سوف تخضع لحكم قريش.
السبب الثاني: إن قريش هم (أوسط العرب داراً ونسباً).
ـ أما في رواية (أبي مخنف) فإن (أبا بكر) يبرِّر أحقية المهاجرين بسببين، وهما:
السبب الأوّل: إن المهاجرين أوّل مَنْ عبد الله وآمن بالإسلام.
السبب الثاني: قرابة المهاجرين للرسولﷺ، فهم (أولياؤه وعشيرته).
ثمّ تستكمل الرواية بأن (عمر بن الخطّاب) قد أكَّد على قول (أبي بكر) بأحقِّية المهاجرين بـ:
السبب الأوّل: إن العرب سوف تخضع لحكم قريش.
السبب الثاني: إن قريش هم أولياء الرسولﷺ وعشيرته.
وبعد ذلك تستكمل الرواية بأن (بشير بن سعد الأنصاري) قد أعلن تأييده لتولّي المهاجرين لمنصب الخلافة، مبرِّراً ذلك بأن محمداًﷺ من قريش، (وقومه أحقُّ به وأَوْلى).
تلك هي الحجج التي ساقها المهاجرون ومَنْ أيَّدهم في اجتماع السقيفة في الروايات الثلاثة السابقة، وتظهر الحجج السابقة الكثير من الآراء والاعتقادات لكلّ راوٍ في مسألة الخلافة وشروطها. فالزُّهْري (الذى خدم السلطة الأمويّة وصاحب الخليفة عبد الملك بن مروان وأبناءه) برَّر أحقِّية خلافة قريش بخضوع العرب لهم، وبأنهم أفضل العرب نسباً، فهو بتلك المقالة يسقط هذا الموقف على واقعه، فكأنّه يبرِّر حكم الأمويين، ويعلِّل شرعيتهم، ولا سيَّما أن (بني أمية) كانوا من أعظم قبائل قريش، وأكثرها شرفاً ونُبْلاً.
أما (رواية سُلَيْم) فهي تثبت أن حقّ قريش في الخلافة سببه حديث رسول اللهﷺ الذى يعلن فيه أن (الأئمّة من قريش)، ومعنى ذلك أن الرواية تبرِّر أحقِّية قريش (بالوصيّة) الواجبة التي أوصى بها الرسولﷺ، وبذلك تثبت الرواية فكرة الوصيّة، وهي فكرةٌ متأصِّلة في الفكر الشيعي الإمامي، الذي يعتقد بأن الرسولﷺ قد أوصى بالخلافة إلى عليّ بن أبي طالب وأبنائه من بعده. فالرواية استخدمَتْ فكرة الوصاية لقريش في إطارٍ عام؛ حتّى تمهِّد بذلك للكثير من الروايات التي ستأتي في الكتاب بعد ذلك، والتي ستحدِّد الشخص الموصى إليه من قريش خصوصاً، وهو (عليّ بن أبي طالب).
أما رواية (أبي مخنف) فهي تميل إلى رواية الزُّهْري، وإنْ كانت في نفس الوقت توضِّح أحقِّية عليٍّ بالخلافة، كما ترى رواية سليم.
فـ (أبو مخنف) يعدِّد أسباب احتجاج المهاجرين على الأنصار في السقيفة على لسان كلٍّ من: أبي بكر وعمر وبشير بن سعد، وتنحصر حجج هؤلاء في روايته على أمرَيْن رئيسيين، وهما:
1ـ الأسبقيّة إلى الإسلام.
2ـ صلة القرابة من الرسولﷺ.
ولا نجد أيّ أثرٍ لمفهوم (الوصاية) في رواية (أبي مخنف)، سواء كانت تلك الوصاية بمفهومها العامّ (الإطار القرشي) أو مفهومها الخاصّ (شخص عليّ بن أبي طالب). وأعتقد أن غياب فكرة الوصاية في رواية أبي مخنف يمكن تفسيره بعقيدة لوط بن يحيى نفسه، فهو وإنْ كان شيعيّ الهوى والعقيدة، إلاّ أنه يمكن أن نصفه بأنه كان شيعيّاً في الإطار العام الأوّلي للتشيُّع، ذلك الإطار السياسي ـ الاجتماعي، الذى كان مَنْ فيه يرَوْن أحقِّية عليّ بن أبي طالب بالخلافة من باب أفضليته على غيره من الصحابة، وليس على سبيل أن هناك وصيّةً واجبةً من الرسولﷺ في حقِّه.
ولذلك ساق (أبو مخنف) على لسان المهاجرين الدليلين السابقين، اللذين لو تمّ إعمال العقل والتفكُّر فيهما لتوصَّلنا إلى أحقِّية (عليّ بن أبي طالب) بالخلافة كنتيجةٍ طبيعيّة ومنطقيّة لا جدال فيها ولا شَكَّ.
فبالنسبة إلى السبب الأوّل (الأسبقيّة إلى الإسلام) هناك شبهُ إجماعٍ على كون (عليّ بن أبي طالب) أوّل مَنْ أسلم وآمن بالرسولﷺ. وأما بالنسبة إلى السبب الثاني (صلة القرابة من الرسولﷺ) فلا جدال في أن عليّ بن أبي طالب كان أقرب الناس إلى الرسولﷺ، فقد كان ابن عمّه وزوج ابنته فاطمة (التي كانت أحبّ بنات الرسولﷺ إلى نفسه)، كما أن الرسولﷺ قد بين قرب ابن عمّه منه في الكثير من الأحاديث والمواقف، ومنها: قوله له: (أنتَ مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي)، ومنها: ما ورد من أن الرسولﷺ قد عقد مؤاخاةً بينه وبين عليٍّ، بعد أن هاجر المسلمون إلى المدينة.
وخلاصة القول في تلك المسألة: إن الروايات التي أوردها (سُلَيْم بن قيس الهلالي) و(الزُّهْري) و(أبو مخنف) في الأحداث التي دارَتْ بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة تجعلنا نلتفت إلى أن شخصية كلّ راوٍ وعقيدته وأفكاره قد ظهرَتْ وبانَتْ في روايته بشكلٍ ملحوظ، بحيث لا يمكن أن يتمّ فصل الرواية عن الراوي.
فرواية (سُلَيْم) تثبت أن راويها شيعيٌّ يؤمن بالوصيّة.
ورواية (الزُّهْري) تثبت أنه كان يحاول ان يجد في أحداث السقيفة ما يبرِّر به شرعيّة حكم بني أميّة.
أما رواية (أبي مخنف) فتثبت أنه، رغم كونه شيعيَّ الهَوَى، لم يكن يؤمن بفكرة الوصيّة.
ثالثاً: موقف عليّ بن أبي طالب وأصحابه من نتائج اجتماع السقيفة
أـ في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي
توجد روايتان طويلتان في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، تتحدَّث كلّ واحدةٍ منهما عن موقف عليّ بن أبي طالب وشيعته من نتائج اجتماع السقيفة؛ والرواية الأولى يرويها أبان بن أبي عيّاش، عن سُلَيْم بن قيس، عن الصحابي (البراء بن عازب)؛ أما الرواية الثانية فيرويها أبان بن أبي عيّاش، عن سُلَيْم بن قيس، عن الصحابي (سلمان الفارسي).
رواية البراء بن عازب
في تلك الرواية يذكر (البراء بن عازب) ما حدث بعد وفاة الرسولﷺ، وكيف تمّ تغسيله؟ ومفاجأة بني هاشم بما فعله أصحاب السقيفة من مبايعة أبي بكر بالخلافة، وكيف كانت ردة فعل شيعة عليّ بن أبي طالب من الصحابة؟ وكيف حاول أبو بكر وعمر أن يضعفا الحزب الهاشمي؛ بتطميع العباس بن عبد المطَّلب ببعض المناصب؛ لإبعاده عن نصرة ابن أخيه عليّ؟
وسوف أحاول في السطور القادمة أن أذكر عدداً من المواطن والاقتباسات المهمة في تلك الرواية.
يبدأ (البراء بن عازب) الرواية بذكر محبّته (لبني هاشم)، فيقول: (كنت أحبّ بني هاشم حبّاً شديداً في حياة رسول اللهﷺ، وبعد وفاته). ثمّ يذكر وقت بيعة أبي بكر، فيقول: (ثم لم ألبث حتى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرّ بهم أحدٌ إلاّ خبطوه، فإذا عرفوه مدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر، شاء ذلك أم أبى).
وقد أثار ذلك الموقف دهشة (البراء)، وإنكاره، فأسرع إلى بيت العباس، وضرب الباب ضرباً عنيفاً، وقال (يا أهل البيت، فخرج إليّ الفضل بن العبّاس، فقلتُ: قد بايع الناس أبا بكر، فقال العبّاس: قد تربت أيديكم منها إلى آخر الدهر، أما إنى قد أمرتكم فعصيتموني)([31])
وبعد ذلك خرج (البراء) إلى المسجد، ثمّ تركه، ليجد مجموعةً من الصحابة يجتمعون ويتناجون فيما بينهم، وذكر البراءُ أسماءَهم، فيقول: إنهم المقداد بن عمرو؛ ابو ذرّ الغفاري؛ سلمان الفارسي؛ عمّار بن ياسر؛ عبادة بن الصامت؛ حذيفة بن اليمان؛ الزبير بن العوام.
فلمّا رأى هؤلاء الرجال (البراء بن عازب) بقربهم نادَوْه، فجلس معهم، وشارك في حديثهم، ويذكر (البراء) محور الحديث الذى كان يدور بين هؤلاء الرجال، وهو أنهم كانوا (يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين والأنصار).
ثم انطلق هؤلاء النفر إلى بيت (أبيّ بن كعب). أما عن السبب الذي جعلهم يتَّجهون لمنزل (أبيّ بن كعب) فهو كما جاء على لسان (حذيفة بن اليمان)، في الرواية، أنه (أي أبيّ) (قد علم مثل ما علمت)([32]). وعندما وصلوا إلى بيت أبيّ بن كعب رفض أن يفتح لهم الباب، بالرغم من قول المقداد له: (إن الأمر الذي جئنا فيه أعظم من أن يجري وراء الباب).
فأصرّ (أبيّ) على عدم فتح الباب، وأكَّد أنه يعرف سبب زيارة هؤلاء الرجال له، وهو أنهم أرادوا النظر في هذا العقد (يقصد بذلك عقد الخلافة لأبي بكر)، ثم سال (أبيّ) زوّاره إذا كان فيهم (حذيفة بن اليمان)، فلما أجابوا بنعم قال (أبيّ بن كعب): (القول ما قال حذيفة، فأما أنا فلا أفتح بابي حتّى يجرى عليّ ما هو جارٍ عليه، ولما يكون بعدها شرّ منها، وإلى الله جلَّ ثناؤه المشتكى).
ويستكمل (البراء بن عازب) روايته بأنه عقب انصراف هؤلاء الرجال عن بيت أبيّ بن كعب فإن خبرهم قد وصل إلى أبي بكر وعمر بن الخطّاب، فاستدعيا كلاًّ من: أبي عبيدة بن الجرّاح والمغيرة بن شعبة، وأخذا رأيَيْهما في ما يفعلان، فأشار عليهما المغيرة بقوله: (أرى أن تلقوا العبّاس بن عبد المطّلب، فتطمعوه في أن يكون له في هذا الأمر نصيب، يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعوا عنكم بذلك ناحية عليّ بن أبي طالب؛ فإن العبّاس بن عبد المطّلب لو صار معكم كانت الحجّة على الناس، وهان عليكم أمر عليّ بن أبي طالب وحده).
فانطلق الرجال الأربعة إلى منزل (العبّاس)، وبدأ أبو بكر بالحديث إلى العباس، فكان مما قاله له: (إن الله بعث لكم محمداً نبيّاً، وللمؤمنين وليّاً، فمَنَّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتّى اختار له ما عنده، وترك للناس أمرهم؛ ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم، متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم والياً، ولأمورهم راعياً…). وبعدها تحدَّث عمر بن الخطّاب، وأكَّد على كلام أبي بكر، وكان مما قاله عمر للعبّاس: (إي والله، وأخرى، يا بني هاشم على رسلكم، فإن رسول اللهﷺ منا ومنكم، وإنا لم نأتكم لحاجةٍ منا إليكم، ولكنْ كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم وللعامّة، ثم سكت)([33]).
وتستكمل الرواية بأن (العبّاس بن عبد المطَّلب) قد ردّ على أبي بكر وعمر، فكان مما قاله لأبي بكر: (فإنْ كنتَ برسول اللهﷺ طلبْتَ هذا الأمر فحقَّنا أخذْتَ؛ وإنْ كنتَ بالمؤمنين طلبْتَ فنحن من المؤمنين، ما تقدَّمنا في أمرك، ولا تشاورنا، ولا تأمرنا، ولا نحبّ لك ذلك؛ إذ كنّا من المؤمنين، وكنا لك من الكارهين). ثمّ ردّ العبّاس على عمر، فقال: وأما قولك يا عمر: (إن رسول اللهﷺ منّا ومنكم) فإن رسول الله شجرةٌ نحن أعضاؤها، وأنتم جيرانها، فنحن أَوْلى به منكم).
وبعد أن خرج الرجال الأربعة من منزل العبّاس تورد الرواية أن العبّاس قد أنشد قائلاً:
ما كنتُ أحسب هذا الأمر منحرفاً *** عن هاشم ثمّ منهم عن أبي حَسَنِ
أليس أوّل مَنْ صلّى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالآثار والسُّنَنِ
وأقرب الناس عهداً بالنبيّ ومَنْ *** جبريل عونٌ له في الغسل والكَفَنِ
مَنْ فيه ما في جميع الناس كلِّهم *** وليس في الناس ما فيه من الحَسَن
مَنْ ذا الذي ردَّكم عنه فنعرفه *** ها إن بغيتكم من أوّل الفِتنِ([34])
وهنا تنتهي رواية (البراء بن عازب).
تعليقٌ وبيان
1ـ مَنْ هو (البراء بن عازب) الذي ينقل عنه سُلَيْم بن قيس الرواية السابقة؟
البراء بن عازب هو أحد الصحابة من الأنصار، وأصله من الخرزج، وُلد قبل هجرة الرسولﷺ من مكّة إلى المدينة بعشرة أعوام، وانضم إلى صفوف المقاتلين المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام الثاني الهجريّ، ولكنّ رسول اللهﷺ ردّه؛ لصغر سنّه، كما ردّ عدداً من أبناء الصحابة.
وقد شهد (البراء) العديد من المشاهد والغزوات مع الرسولﷺ، وكان ممَّنْ بايع الرسولﷺ تحت الشجرة في بيعة الرضوان، وفي العام الثامن الهجريّ بعثه الرسولﷺ إلى اليمن ضمن سريّة خالد بن الوليد، فمكث مع خالد لمدّة ستّة أشهر، وبعدها أرسل الرسولﷺ بعليّ بن أبي طالب إلى اليمن، بديلاً لخالد، فمكث (البراء) مع عليّ بن أبي طالب لمدّة ستة أشهر أخرى، حيث تمّ في تلك الفترة دخول قبيلة همدان إلى الإسلام، وانتشار الإسلام في اليمن. ولا بُدَّ أن تلك الفترة التي قضاها البراء بصحبة عليٍّ قد أثَّرت كثيراً على توجُّهه السياسيّ فيما بعد، فقد كان من أشدّ المؤيِّدين لحقّ بني هاشم وعليّ بن أبي طالب بخلافة الرسولﷺ.
ورغم ذلك، فإننا نجد أن البراء بن عازب قد اشترك في تولّي بعض المناصب والمهامّ في عهد الخلفاء الأوائل أبي بكر وعمر؛ فقد اشترك في حركة الفتوحات الإسلامية في منطقة فارس، وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان تمّ تعيينه والياً على مدينة (الريّ)، في عام 24هـ.
وبعد مقتل عثمان قام البراء بمبايعة (عليّ بن أبي طالب) بالخلافة، وانضم إلى جيشه، فحارب معه في معارك الجمل وصفّين والنهروان، ثمّ استقر في مدينة الكوفة (التي كانت معقل التشيُّع)، ومكث بها حتّى وفاته في عام 72هـ([35]).
وبعد تلك النبذة المختصرة عن حياة البراء بن عازب من الممكن أن نلمح الكثير من الإشارات لرأيه وعقيدته من خلال روايته؛ ذلك أن البراء ـ وإنْ كان من هؤلاء النفر الذين تشيَّعوا لعليّ بن أبي طالب وتعصَّبوا له وأعلنوا عن حقِّه في خلافة ابن عمِّهﷺ ـ إلا أنه كان ينظر إلى ذلك كلّه على كونه حقّاً سياسياً، لا حقّاً دينيّاً، ولذلك نجده ـ أي البراء ـ قد اقترب كثيراً من دوائر السلطة وصنع القرار في الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الأوائل، ولم يقُمْ باعتزال تلك الدولة كما اعتزلها غيرُه ممَّنْ رفض وشكَّك في شرعية حكم أبي بكر، بل إننا نجد أن البراء كان والياً على الريّ في بدايات حكم عثمان، وهو الأمر الذي يؤكِّد على مشاركة البراء السياسيّة لدولة الخلفاء الأوائل.
2ـ أكَّدَتْ الرواية أن بيعة أبي بكر لم تكن بالشيء اليسير أو الهيِّن، بل ذكَرَت الرواية أنه قد تمّ إجبار الناس على البيعة، وأنه قد تمّ الاستعانة بجماعةٍ من الأعراب لإكراه الرافضين على البيعة لأبي بكر.
3ـ كان هوى (البراء بن عازب) هاشميّاً قبل أن يكون علويّاً، فهو عندما وجد أبا بكر وعمر يُكْرِهان الناس على البيعة انطلق إلى منزل (العبّاس بن عبد المطّلب)، ولم يذهب إلى بيت (عليّ بن أبي طالب)، أو إلى بيت الرسولﷺ، حيث كان (عليّ) قائماً في ذلك الوقت على تجهيز الرسولﷺ وتغسيله، ومعنى ذلك أن البراء كان ينظر إلى (العبّاس) على كونه عميد البيت الهاشميّ، والذي آلت إليه رئاسة هذا البيت بعد وفاة الرسولﷺ.
4ـ إن الرواية قد حملَتْ تعريضاً ونقداً خفيّاً لعليّ بن أبي طالب؛ ذلك أن (البراء) يذكر أنه عندما أخبر العبّاس بنتيجة اجتماع السقيفة، وخبر اختيار أبي بكر للخلافة، فإن (العبّاس) قد قال عندها: (قد تربَتْ أيديكم منها إلى آخر الدهر، أما إني قد أمرتُكم فعصيتموني). وبالرغم من أن الرواية لا توضِّح ما هو الأمر الذي كان العبّاس قد وجَّهه؟ وإلى مَنْ وجَّه هذا الأمر؟ ومَنْ عصاه؟ إلا أننا نجد أن ذلك الخبر قد ذكر في عددٍ من الروايات الأخرى المذكورة في بعض الكتب والمصادر، والتي تذكر أن العباس قد نصح عليّ بن أبي طالب في الأيام الأخيرة من حياة الرسولﷺ بأن يسأله عن خلافته من بعده، ولكنّ عليّاً رفض ذلك، مبرِّراً ثقته بأنه مَنْ سيخلفه. ومن هنا فإن الرواية قد أظهرَتْ فطنة العباس وذكاءه وبُعْد نظره وبصيرته، وفي نفس الوقت عرَّضَتْ بعليٍّ، دون أن تذكر اسمه.
5ـ إن رواية (البراء بن عازب) تذكر أسماء ثمانية من الصحابة الذين ساءهم أن تتمّ مبايعة أبي بكر بالخلافة، ولكنّ في نفس الوقت لم تذكر الرواية أن هؤلاء الصحابة كانوا يريدون أن يصرفوا أمر الخلافة إلى (عليّ بن أبي طالب)؛ ذلك أنه لم يأتِ ذكرٌ لاسم (عليّ) خلال الحديث الذي دار بين البراء والصحابة الثمانية.
6ـ يوجد ملمحٌ غيبيّ في الرواية، وهو الذي يتعلَّق بحديث الصحابة الثمانية مع (أبيّ بن كعب)؛ ذلك أن أبيّ قد سألهم عن (حذيفة بن اليمان)، هل هو موجودٌ بينهم أم لا؟ كما أن (حذيفة) هو الذي طلب من رفاقه أن ينطلقوا إلى منزل (أبيّ)؛ ليشاركهم برأيه، مبرِّراً ذلك بأن (أبيّ) يعلم مثل ما يعلمه هو. والواقع أن التفسير الوحيد لذلك أن (حذيفة) كان يعرف بما سيحدث في السقيفة، وما سينتج عنها من من نتائج، وأن مصدر معرفته بذلك كان الرسولﷺ نفسه، فقد كان الرسولﷺ يستأمن حذيفة على أسراره، ويخبره بالكثير من الأخبار والأحداث المستقبليّة التي ستحدث بعد وفاته. واشتهر أمر حذيفة بين الصحابة بكونه (كاتم سرّ الرسولﷺ). ويبدو من الرواية أن الرسولﷺ قد أخبر حذيفة عمّا سيحدث في السقيفة في حضور (أبيّ بن كعب)، ولذلك حرص حذيفة على إشراك (أبيّ) في المشورة.
7ـ إن معارضة ذلك النفر من الصحابة لخلافة (أبي بكر) قد انتشرَتْ ووجَدَتْ صدىً وقبولاً بين الكثير من المسلمين في المدينة، حيث إن (البراء بن عازب) يبرِّر إقدام أبي بكر وعمر على استدعاء أبي عبيدة بن الجرّاح والمغيرة بن شعبة، وذهابهم إلى العبّاس عبد المطّلب، بأنه قد بلغهم خبر اجتماع المعارضين لهم، ومسيرهم إلى منزل أبيّ بن كعب، وما دار هناك من حديث.
8ـ إن الرواية تشيد بالعبّاس بن عبد المطّلب، وتمتدحه في ردِّه على أبي بكر وعمر، وعدم استجابته لما عرضاه عليه من مناصب وأمنيات بتولّي الخلافة بعدهما.
9ـ إن الرواية، من أولها إلى آخرها، تظهر فيها الكثير من الجمل والعبارات التي تؤكِّد أن صاحبها كان مقتنعاً أن أمر الخلافة من أمور الدنيا والسياسة، لا من أمور الدين والعقيدة، وأن عقد الخلافة يتمّ بالتشاور والرضا والاختيار بين المسلمين. فالبراء بن عازب يتحدَّث عن هدف اجتماع الصحابة الثمانية المعارضين لخلافة أبي بكر، فيقول: (وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين والأنصار).
كما نجد أن أبا بكر، في خلال لقائه وحديثه إلى العبّاس بن عبد المطّلب، يعرب عن وجهة نظره في طريقة اختيار الخليفة في الإسلام بقوله: (وترك للناس أمرهم؛ ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم، متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم والياً، ولأمورهم راعياً).
وكذلك يظهر مفهوم الشورى والاختيار في ردّ العبّاس على أبي بكر؛ إذ إنه يردّ عليه بنفس منطقه وحجّته، فيقول له: (فإنْ كنْتَ برسول اللهﷺ طلبْتَ هذا الأمر فحقَّنا أخذْتَ، وإنْ كنْتَ بالمؤمنين طلبْتَ فنحن من المؤمنين، ما تقدّمنا في أمرك، ولا تشاورنا، ولا تأمرنا، ولا نحبّ لك ذلك؛ إذ كنا من المؤمنين، وكنّا لك من الكارهين).
وعلى هذا نستطيع أن نؤكِّد أن راوي تلك الرواية لم يكن من الذين يعتقدون بأن خلافة عليّ بن أبي طالب عن طريق الوصيّة والاختيار الإلهيّ، الذي لا دَوْر للناس والمسلمين فيه.
إن الرواية لم تتعرَّض مطلقاً لرأي عليّ بن أبي طالب في نتائج اجتماع السقيفة، بل إن الرواية ذكَرَتْ مواقف عددٍ من الشخصيّات المهمّة التي شاركَتْ في صناعة وخلق الأحداث والوقائع السياسيّة في تلك الفترة.
رواية سلمان الفارسيّ
في تلك الرواية يذكر الصحابيّ (سلمان الفارسي) الكثير من التفاصيل حول تجهيز وتغسيل الرسولﷺ بعد وفاته، ومبايعة أبي بكر بالخلافة في سقيفة بني ساعدة، وموقف عليّ بن أبي طالب الرافض لذلك، وكيف ناشد المسلمين نصرته والقيام معه؟ ثمّ جمعه للقرآن، وعرضه على الناس؛ ليقيم عليهم الحجّة، وما حدث بعد ذلك من مهاجمة أبي بكر وعمر لبيت فاطمة الزهراء، ومحاولة إحراق البيت، وإجبار عليّ بن أبي طالب وأصحابه بعد ذلك على البيعة، ودفاع هؤلاء الأصحاب عن عليٍّ، وإعلانهم أنه هو الأحقّ بالخلافة بعد وفاة الرسولﷺ.
وسوف أحاول في السطور القادمة أن أذكر عدداً من المواطن والاقتباسات المهمّة التي قد وردت في تلك الرواية:
تذكر الرواية أن سلمان الفارسي هو أوّل مَنْ أخبر عليّ بن أبي طالب بما أحدثه المهاجرون والأنصار في السقيفة، حيث نجده (أي سلمان) يقول: (فأخبرْتُ عليّاً ـ وهو يغسِّل رسول الله ـ بما صنع القوم، وقلتُ: إن أبا بكر الساعة لعلى منبر رسول اللهﷺ، ما يرضون يبايعونه بيدٍ واحدة، وإنهم ليبايعونه بيدَيْه جميعاً، بيمينه وشماله).
(فقال عليٌّ: يا سلمان، وهل تدري مَنْ أوّل مَنْ بايعه على منبر رسول اللهﷺ؟ قلتُ: لا، إلاّ أني رأيته في ظلّة بني ساعدة، حين خصمت الأنصار، وكان أوّل مَنْ بايعه المغيرة بن شعبة، ثمّ بشير بن سعيد، ثمّ أبا عبيدة بن الجرّاح، ثمّ عمر بن الخطّاب، ثمّ سالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل)([36]).
وبعد ذلك تأخذ الرواية منحىً غيبيّاً أشَرْنا إليه من قَبْلُ، عندما يفسِّر عليّ بن أبي طالب لصاحبه أن (إبليس) هو أول مَنْ بايع أبا بكر، وأنه بذلك ينتقم ويردّ على ما حدث يوم غدير خمّ، عندما تمّ تنصيب (عليّ بن أبي طالب) كخليفةٍ للرسول (بأمر الله)([37]).
وبعد ذلك يستكمل سلمان الرواية بأن عليّ بن أبي طالب طلب النصرة من المسلمين: (فلما أن كان الليل حمل عليٌّ فاطمةَ على حمارٍ، وأخذ بيدَيْ ابنَيْه الحسن والحسين، فلم يَدَعْ أحداً من أهل بدر من المهاجرين، ولا من الأنصار، إلاّ أتاه في منزله، فذكَّرهم حقَّه، ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم إلاّ أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن يصبحوا بكرةً، محلِّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم؛ ليبايعوه على الموت، فأصبحوا، فلم يوافِ منهم أحدٌ إلاّ أربعة).
ويذكر سلمان بعد ذلك أن هؤلاء الأربعة هم: أبو ذرّ الغفاري؛ المقداد بن الأسود؛ الزبير بن العوّام؛ سلمان الفارسي.
ويذكر سلمان أن مناشدة عليّ بن أبي طالب لأهل بدر ممَّنْ وعدوه بأن يوافوه ولم يفعلوا قد تكرَّرت في ليلتين متعاقبتين، ولكنْ في كلّ مرّةٍ لم يحضر سوى الرجال الأربعة، الذين ذكَرْنا أسماءهم.
وبعد أن رأى عليّ بن أبي طالب غدر وقلّة وفاء مَنْ وعدوه بنصرته، ولم يفعلوا، (لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلِّفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه، وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع).
ويشرح سلمان ما فعله عليٌّ في عملية جمع القرآن، بأنه (أي عليّ) قد (جمعه كلّه، وكتبه بيده، على تنزيله وتأويله، والناسخ منه والمنسوخ).
وفي أثناء عمليّة جمع القرآن بعث أبو بكر إلى عليٍّ؛ ليخرج لمبايعته، فردّ عليّ بن أبي طالب عليه قائلاً: (إني لمشغولٌ، وقد آلَيْتُ على نفسي يميناً أن لا أرتدي رداءً إلا للصلاة حتّى أؤلِّف القرآن وأجمعه)([38]).
وبعد عدّة أيام انتهى (عليٌّ) من عملية جمع القرآن، فأخذه معه، وخرج إلى الناس، وهم مجتمعون في المسجد النبويّ، في حضور (أبي بكر)، ونادى بأعلى صوته: (يا أيّها الناس، إني لم أزَلْ منذ قُبض رسول اللهﷺ مشغولاً بغسله، ثمّ بالقرآن، حتى جمعتُه كله في هذا الثوب الواحد، فلم ينزل الله تعالى على رسول اللهﷺ آيةً إلاّ وقد جمعتُها، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول اللهﷺ، وعلَّمني تأويلها). ثمّ قال لهم عليٌّ: لئلاّ تقولوا غداً: (إنا كنّا عن هذا غافلين)، ثمّ قال لهم عليٌّ: لئلا تقولوا يوم القيامة: إني لم أَدْعُكم إلى نصرتي، ولم أذكِّركم حقّي، ولم أَدْعُكم إلى كتاب الله، من فاتحته إلى خاتمته، فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، ثمّ دخل عليٌّ بيته([39]).
ويستكمل (سلمان) روايته بأن عمر بن الخطّاب قد ألحّ على أبي بكر في استدعاء عليّ بن أبي طالب للمبايعة، مفسِّراً ذلك بقوله: (فإنا لسنا في شيءٍ حتّى يبايع، ولو قد بايع أَمِنّاه).
وبالفعل أرسل أبو بكر في استدعاء عليّ بن أبي طالب ليحضر عنده، فأرسل له مَنْ يقول له: (أجِبْ خليفة رسول اللهﷺ)، وفى مرّةٍ أخرى أرسل له مَنْ يقول: (أجِبْ أمير المؤمنين أبا بكر)، ولكنّ عليّاً رفض الحضور في المرّتين، وأبدى اندهاشه واعتراضه لاستخدام أبي بكر مصطلح الخليفة وأمير المؤمنين، فكان ممّا قاله عليٌّ للرُّسُل التي أتَتْه: (سبحان الله، ما والله طال العهد فينسى، فوالله إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي، ولقد أمره رسول الله، وهو سابع سبعة، فسلَّموا عليَّ بإمرة المؤمنين، فاستفهم هو وصاحبه عمر من بين السبعة، فقالا: أحقٌّ من الله ورسوله؟ فقال لهما رسول اللهﷺ: نعم، حقّاً حقّاً من الله ورسوله، إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغرّ المحجلين، يقعده الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة على الصراط، فيدخل أولياءه الجنّة وأعداءه النار)([40]).
ثمّ يعود (سلمان) إلى ذكر مناشدة عليّ بن أبي طالب للصحابة، وأنه حمل فاطمةَ على حمارٍ، وأخذ بيدَيْ ابنَيْه الحسن والحسين، وناشد الناس نصرته مرّةً أخرى، ولكنْ لم يأتِه أحدٌ إلاّ الأربعة الذين تمّ ذكرُهم من قَبْلُ([41]).
وتظهر رواية سلمان ردّ فعل عليٍّ بعدما يئس من إجابة الناس له: (فلمّا رأى عليٌّ خذلان الناس إيّاه، وتركهم نصرته، واجتماع كلمتهم مع أبي بكر، وطاعتهم له، وتعظيمهم إيّاه، لزم بيته)([42])
وكان عمر بن الخطّاب في تلك الأثناء يحرّض أبا بكر على إجبار عليٍّ على البيعة، هو وأصحابه الأربعة الذين وقفوا معه وأيَّدوه. ويصف سلمان موقف كلٍّ من أبي بكر وعمر من ذلك بقوله: (وكان أبو بكر أرقّ الرجلين، وأرفقهما وأدهاهما، وأبعدهما غَوْراً، والآخر (أي عمر) أفظّهما وأغلظهما وأجفاهما).
واستقرّ رأي الخليفة ومستشاره في نهاية الأمر على أن يبعثوا إلى عليٍّ برجلٍ يُدْعَى (قنفذ)، ومعه عددٌ من الأتباع؛ لإحضار عليّ بن أبي طالب إلى مجلس أبي بكر، وعندما ذهب هؤلاء إلى بيت عليٍّ، وطلبوا إذنه للدخول إليه، رفض، فرجعوا إلى أبي بكر، وعندها قال لهم عمر: (اذهبوا، فإنْ أذن لكم، وإلاّ فادخلوا عليه بغير إذنٍ)([43]).
وعندما ذهب هؤلاء الرجال إلى بيت عليٍّ مرّةً أخرى رفضَتْ (فاطمة الزهراء) دخولهم إلى بيتها، وقالت لهم: (أحرِّج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذنٍ)، فرجعوا، وثبت (قنفذ)، وقالا لعمر: إن فاطمة منعتهم من دخول بيتها، وقالت: كذا وكذا، فغضب (عمر)، وقال: (ما لنا وللنساء)([44]). وانطلق ومعه عددٌ من الرجال إلى منزل عليٍّ وفاطمة، وأمر أن يحمل الناس الحطب، ووضعوه حول منزل عليٍّ، ثمّ نادى (عمر) قائلاً: (والله، لتخرجَنَّ، يا عليّ، ولتبايعَنَّ خليفة رسول الله، وإلاّ أضرمْتُ عليكَ بيتك النار)، فقالت فاطمة (يا عمر، ما لنا ولك؟)، فقال: افتحي الباب، وإلاّ أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: (يا عمر، أما تتَّقي الله، تدخل عليَّ بيتي؟).
ولكن الرواية تذكر أن عمر رفض أن ينصرف، واستمر في حصاره لبيت عليٍّ، وأشعل النار في باب البيت، فاستقبلَتْه فاطمة، وصاحت: (يا أبتاه، يا رسول الله)، فرفع عمر سيفه، (فوجأ به جَنْبَها)، ثمّ ضربها بالسَّوْط على ذراعها، فنادَتْ: (يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر)([45]).
وعندها قام عليّ بن أبي طالب بالدفاع عن زوجه، فجذب عمر، (فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته)، وهَمَّ بقتله، ولكنه تذكَّر وصيّة الرسولﷺ، فتركه، وقال له (والذى كرَّم محمداً بالنبوّة ـ يا بن صهاك ـ، لولا كتابٌ من الله سبق، وعهدٌ عهده إليَّ رسول اللهﷺ، لعلمْتَ أنكَ لا تدخل بيتي).
وأمام تلك الأحداث المتلاحقة ذهب قنفذ إلى أبي بكر؛ ليعلمه بما يجري، فقال له أبو بكر: (ارجِعْ؛ فإنْ خرج وإلاّ فاقتحم عليه بيته؛ فإنْ امتنع فأضرِمْ عليهم بيتهم النار).
وأطاع قنفذ أمر أبي بكر، فذهب ومعه الكثير من الناس إلى بيت عليٍّ، فكاثروه، ومنعوا عنه سيفه، واستطاعوا أن يضعوا حبلاً في عنقه، وعندما حاولَتْ فاطمة أن تمنعهم مما يفعلونه بزوجها ضربها قنفذ بالسَّوْط، فكانت تلك الضربة سبباً في موتها بعد ذلك.
وتكمل رواية (سلمان) الأحداث، بأنه قد تمّ اقتياد عليّ بن أبي طالب إلى أبي بكر، الذي كان يجلس حوله عددٌ من أنصاره الذين يحملون السلاح، ومنهم: عمر بن الخطّاب؛ خالد بن الوليد؛ أبو عبيدة بن الجرّاح؛ سالم مولى أبي حذيفة؛ معاذ بن جبل؛ المغيرة بن شعبة؛ أسيد بن حضير؛ بشير بن سعيد، فلمّا نادَتْ فاطمة أمامهم: (واأبتاه، وارسول الله! يا أبتاه، فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر، وعيناك لم تتفقأ في قبرك)، بكى جميع الرجال، ما عدا (عمر بن الخطّاب) وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة، وقال الأوّل: (إنا لسنا من النساء ورأيهنّ في شيء).
أما (عليٌّ) فقد وجَّه خطابه إلى أبي بكر، فقال: (أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم، ولو كنتُ استمكَنْتُ من الأربعين رجلاً لفرَّقْتُ جماعتكم، ولكنْ لعن الله أقواماً بايعوني ثمّ خذلوني)، ثمّ قال: (يا أبا بكر، ما أسرع ما توثَّبتم على رسول الله! بأيّ حقٍّ وبأيّ منزلةٍ دعوْتَ الناس إلى بيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله؟).
ووجَّه عليٌّ كلامه إلى المسلمين، قائلاً: (يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار، أنشدكم الله، أسمعتم رسول اللهﷺ يقول يوم غدير خمّ: كذا وكذا، وفي غزوة تبوك: كذا وكذا؟ فلم يَدَعْ شيئاً قاله فيه رسول اللهﷺ علانيةً للعامّة إلاّ ذكَّرهم إيّاه، قالوا: اللهمّ نعم)([46]).
ولما شاهد أبو بكر موافقة الناس على كلام عليٍّ قال له: (ما قلتَ حقٌّ قد سمعناه بآذاننا، ووعَتْه قلوبنا، ولكنْ قد سمعتُ رسول اللهﷺ يقول بعد هذا: (إنا أهل بيتٍ اصطفانا الله وأكرمنا، واختار لنا الآخرة على الدنيا، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوّة والخلافة)([47]).
وأيَّده في ذلك كلٌّ من: عمر وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل، حيث شهدوا كلّهم أن الرسولﷺ قد قال ذلك الحديث.
فردّ عليهم (عليٌّ)، وقال لهم: إنهم هم الخمسة كانوا قد اتَّفقوا فيما بينهم على أن يصرفوا أمر الخلافة عن أهل بيت الرسولﷺ بعد وفاته، وأنهم قد تعاقدوا على ذلك وكتبوه في صحيفةٍ في الكعبة، ثمّ استشهد (عليٌّ) بكلٍّ من: المقداد وأبي ذرّ وسلمان والزبير، وأن الرسولﷺ قد قال أمامهم: إن أصحاب الصحيفة قد خطَّطوا لصرف أمر الخلافة عن عليٍّ بعد وفاته، وأن عليّاً سأله عما يفعل حينها، فقال له الرسولﷺ: (إنْ وجَدْتَ عليهم أعواناً فجاهِدْهم ونابِذْهم، وإنْ أنت لم تجِدْ أعواناً فبايِعْ واحْقِنْ دمك)([48]).
ثمّ تلا عليٌّ عليهم قول الله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54)، وفسَّر تلك الآية بأن الكتاب هو النبوّة، والحكمة هي السنّة، والملك هو الخلافة، وأن آل البيت هم آل إبراهيم.
بعد ذلك توضِّح الرواية موقف أصحاب عليّ بن أبي طالب مما يحدث؛ فالمقداد بن الأسود يعرض عليه أن يرفع سيفه لنصرته؛ وكذلك سلمان يعرض مثل ذلك، ولكنّ عليّاً يأمرهما بالكفّ عن ذلك.
ثم تذكر الرواية موقف (أبي ذرّ)، فتورد أنه قال: (أيّتها الأمّة المتحيِّرة بعد نبيِّها، المخذولة بعصيانها، إن الله يقول: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم، والصفوة والسلالة من إسماعيل، وعترة النبي محمد، أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وهم كالسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، والكعبة المستورة، والعين الصافية، والنجوم الهادية، والشجرة المباركة، أضاء الله نورها، وبورك زيتها، محمد خاتم الأنبياء وسيّد ولد آدم، وعليّ وصيّ الأوصياء، وإمام المتَّقين، وقائد الغرّ المحجلين، وهو الصدِّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، ووصيّ محمد، ووارث علمه، وأَوْلى الناس بالمؤمنين من أنفسهم، كما قال الله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾، فقدِّموا مَنْ قدَّم الله، وأخِّروا مَنْ أخَّر الله، واجعلوا الولاية والوراثة لمَنْ جعل الله)([49]).
فاعترض عمر بن الخطّاب على كلام أبي ذرّ، وقال لأبي بكر: (ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالسٌ محاربٌ لا يقوم فيبايعك؟! أَوَتأمر به فنضرب عنقه؟).
ثمّ أقبلت أمّ أيمن، حاضنة الرسولﷺ، فدافعَتْ عن حقّ عليٍّ، وقالت لأبي بكر: (يا أبا بكر، ما أسرع ما أبدَيْتُم حسدكم ونفاقكم! فأمر بها عمر فأُخرجَتْ من المسجد، وقال: ما لنا وللنساء).
وكذلك دافع (بريدة الأسلمي) عن عليٍّ، فقال لعمر: (أتثب ـ يا عمر ـ على أخي رسول الله وأبي ولده، وأنتَ الذي نعرفك في قريش بما نعرفك؟! ألستما قال لكما رسول اللهﷺ: (انطلقا إلى عليٍّ وسلِّما عليه بإمرة المؤمنين)؟ فقلتما: أعن أمر الله ورسوله؟ قال: نعم).
فاعترض أبو بكر على ذلك أن رسول اللهﷺ قد قال بعد ذلك: (لا يجتمع لأهل بيتي النبوّة والخلافة)
فرد عليه بريدة، مكذِّباً مقالته: (واللهِ ما قال هذا رسول الله)، والله لا سكنْتُ في بلدةٍ أنتَ فيها أميرٌ، فأمر به عمر فضُرب وطُرد([50]).
ثمّ أمر عمر عليّاً بأن يبايع أبا بكر، وهدَّده بالقتل إنْ لم يفعل، فمَدَّ عليٌّ يده من غير أن يفتح كفَّه، فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك، فنادى عليٌّ قبل أن يبايع ـ والحبل في عنقه ـ: (يا بن أمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)([51]).
ثمّ تذكر الرواية بيعة الزبير بن العوّام، وأنه رفض أن يبايع أبا بكر، فوثب عليه عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ومعهم بعض أتباعهم، وانتزعوا منه سيفه، وكسروه، ثمّ قيَّدوه، فقال الزبير لعمر: (يا بن صهاك، أما والله لو أن سيفي في يدي لحِدْتَ عنّي)، ثمّ بايع مرغماً في نهاية الأمر.
ثمّ يذكر سلمان أنهم قد تعرَّضوا له، وأجبروه على البيعة هو الآخر، ثمّ بايع المقداد وأبو ذرّ مجبرين. وتؤكِّد رواية سلمان على أنه (ما بايع أحدٌ من الأمة مُكْرَهاً غير عليّ والأربعة الذين نصروه).
ثمّ تفسِّر الرواية مناداة الزبير لعمر بـ (ابن صهاك)، وأنه أراد بذلك التعريض بعمر، والطعن في نَسَبه؛ لأنه وُلد من زنى وسفاح([52]).
وبعده يذكر سلمان أنه قد وجَّه كلامه لأبي بكر وعمر، وقال لهما: (تبّاً لكم سائر الدهر، أَوَتدرون ما صنعتم بأنفسكم؟! أصبتم وأخطأتم! أصبتم سنّة مَنْ كان قبلكم من الفرقة والاختلاف، وأخطأتم سنّة نبيِّكم حتّى أخرجتموها من معدنها وأهلها)، فردَّ عليه عمر قائلاً: (يا سلمان، أما إذ بايع صاحبك وبايعْتَ فقُلْ ما شئتَ، وافعَلْ ما بدا لكَ، وليقُلْ صاحبُك ما بدا له)، فقال سلمان: (أشهد أني قد قرأْتُ في بعض كتب الله المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك بابٌ من أبواب جهنَّم). واستمرّ هذا الجدال بين سلمان وعمر حتّى أمر عليّ بن أبي طالب سلمان بأن يسكت، فسكت([53]).
وتورد الرواية بعد ذلك أن (أبا ذرّ) قد هاجم عمر، واتَّهمه بالافتراء وظلم آل محمد، وسلبهم حقَّهم، فقال له عمر: (لا والله ما لهم فيها من حقٍّ، وما هم فيها وعرض الناس إلاّ سواء)، وقال عليٌّ لعمر: (يا بن صهاك، فليس لنا فيها حقٌّ، وهي لك ولابن آكلة الذباب؟) فردّ عمر: (كفّ الآن يا أبا الحسن؛ إذ بايعت؛ فإن العامّة رضوا بصاحبي، ولم يرضوا بك فما ذنبي؟!).
وبعده يذكر عليٌّ بعض أحاديث الرسولﷺ التي بشَّر فيها أبا بكر وعمر وأصحابهما بجهنَّم، فقال عثمان بن عفّان: (يا أبا الحسن، أما عندك وعند أصحابك هؤلاء حديث فيَّ؟ فقال له عليٌّ: بلى، سمعْتُ رسول الله يلعنك مرَّتين)، فقال عثمان: (فوالله لقد سمعْتُ من رسول الله أن الزبير يُقْتَل مرتدّاً عن الإسلام).
ويعلِّق سلمان على ذلك بقوله: إن عليّاً قد أسرَّه فيما بعد أن عثمان قد صدق، وأن الزبير سوف يبايعه، ثم ينكث بيعته، فيقتل مرتدّاً.
وينهي سلمان شهادته على تلك الأحداث بذكر ما قاله عليٌّ: (إن الناس كلّهم ارتدّوا بعد رسول اللهﷺ غير أربعةٍ، وإن الناس أصبحوا مثل اليهود الذين أضلهم السامريّ في وجود هارون، فعليّ يشبه هارون، وأبو بكر يشبه العجل، وعمر يشبه السامريّ)([54]).
ويذكر (عليٌّ) أنه سمع رسول اللهﷺ يقول: (ليجيئنَّ قومٌ من أصحابي من أهل العلية والمكانة منّي؛ ليمرّوا على الصراط، فإذا رأيتُهم ورأَوْني عرفتُهم وعرفوني اختلجوا دوني، فأقول: أي ربٍّ، أصحابي أصحابي، فيُقال: فارقْتَهم، فأقول: بُعْداً وسُحْقاً).
وتختتم الرواية بقول (عليٍّ): إن رسول اللهﷺ قد قال: (لتركبنّ أمّتي سنّة بني إسرائيل، حَذْو النَّعْل بالنَّعْل، وحَذْو القُذّة بالقُذّة، شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ، وباعاً بباعٍ، حتّى لو دخلوا جحراً لدخلوا فيه معهم. إن التوراة والقرآن كتبه ملكٌ واحد، في رقٍّ واحد، بقلمٍ واحد، وجَرَت الأمثال والسُّنَن سواء)([55]).
نظراتٌ واسعة في الرواية الطويلة
1ـ تعتبر تلك الرواية أطولَ الروايات التي تعرَّضت لموضع السقيفة في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، وكذلك فإن تلك الرواية أطول من أيّ رواية تتعلَّق بنفس الموضوع في كتاب تاريخ الرُّسُل والملوك، فتلك الرواية امتدَّتْ على إحدى وعشرين صفحة كاملة في كتاب سُلَيْم.
وطولُ تلك الرواية ليس هو السِّمة الوحيدة التي ميَّزَتْها عن غيرها من الروايات المتعلِّقة بنفس الموضوع، بل إننا نلاحظ أن رواية سلمان قد حملَتْ الكثير من المعلومات والأحداث المهمّة التي لم تُذْكَر في غيرها، وكذلك قد تناولت دَوْر عددٍ من الشخصيات السياسية المؤثِّرة، والتي لعبَتْ دَوْراً مهمّاً في واقعة السقيفة، كما أنها تحدَّثَتْ بالتفصيل عن ردّ فعل عليّ بن أبي طالب وشيعته من نتائج السقيفة، وكيف عبَّروا عن استيائهم ورفضهم لها جملةً وتفصيلاً؟ ولجميع تلك الأسباب السابقة نجد أن تلك الرواية قد لقيَتْ صدىً وقبولاً وترحاباً داخل الاوساط الشيعية العلميّة والعامة، فأصبحت تلك الرواية مرجعاً مهمّاً لهم، وتاريخاً معتبراً عندهم، وسجلاًّ معترفاً به لتدوين الأحداث التي وقعت إبان تلك الفترة العصيبة، التي شهدت الكثير من مظاهر الفرقة والتناحر والصراع بين المسلمين عقب وفاة الرسولﷺ.
2ـ مَنْ هو سلمان الفارسي راوي تلك الرواية؟
الحقيقة أنه بالرغم من توافر الكثير من المعلومات حول شخصيّة الصحابي سلمان الفارسي، إلاّ أننا نجد أن الكثير من ملامح تلك الشخصية ما تزال مبهمةً، ويعتريها الكثير من الغموض، ممّا لا يجعلنا نستطيع التأكُّد من انتمائه السياسيّ وآرائه ومبادئه في فترة السقيفة وما بعدها، وهو الأمر الذى يضع حجر عثرةٍ أمام تحليل روايته، وتفنيدها.
تروي أكثر المصادر أن سلمان قد وُلد في بلاد فارس، وبالتحديد في مدينة إصبهان. وترى الكتابات التاريخية أن سلمان قد نشأ في وسط عائلة فارسية ميسورة الحال، وأنه قد عاش في بداية حياته حياةً مترفة محاطةً بسبل الرفاهية والنعيم.
وكان بحث سلمان عن الدين الصحيح هو المحور الذي دارت حوله حياته كلّها، فقد عرف سليمان بلقبه (الباحث عن الحقيقة)، وقد أطلق عليه هذا اللقب بعدما قضى شطراً كبيراً من عمره في سبيل البحث عن الدين القويم الذي يتبعه.
كان الدين الأول الذي اعتنقه سلمان هو الدين المجوسي، الذى كان معظم أهل فارس يتبعونه في ذلك الزمن، ثم ترك سلمان المجوسية واتَّبع النصرانية، وأصرّ على اعتناقها، بالرغم من المحاولات التي قام بها أبوه؛ لردّه عنها.
وفي سبيل ذلك ترك سلمان بلاد فارس، وهرب إلى بلاد الشام، حيث تقرَّب من عددٍ من الرهبان، وعاش بجوارهم، وفي اللحظات الأخيرة من حياة أحد هؤلاء الرهبان نصح سلمان بالرحيل إلى بلاد العرب، حيث اقترب ميعاد ظهور النبيّ المنتظر. وبالفعل رحل سلمان إلى المدينة (التي كانت تعرف بـ (يثرب) في ذلك الوقت)، والتي تطابقت أوصافها مع الأوصاف التي ذكرها الراهب للمدينة التي سيأتي إليها نبيّ آخر الزمان.
وعاش سلمان في يثرب تحت نير العبودية، وهو ينتظر النبيّ الموعود، فلمّا هاجر الرسولﷺ إلى المدينة ذهب سلمان إليه؛ ليتأكَّد من كونه هو نفسه النبيّ الذي ينتظره، واختبر سلمان الرسولﷺ بعددٍ من الأدلة التي كان الراهب النصراني قد أرشده إليها، فلما تأكَّد سلمان من صدق الرسولﷺ أعلن إسلامه، ليصبح الإسلام الدين النهائي في رحلة سلمان الفكرية الشاقّة.
وقد حظي سلمان بدعم الرسولﷺ والمسلمين من المهاجرين والأنصار، فقاموا بمساعدته؛ لتحريره من الرقّ، وأصبح بعد ذلك قريب الصلة بالرسولﷺ.
وفي غزوة الخندق أشار على الرسولﷺ بحفر خندقٍ؛ لحماية المدينة من قوات الكفّار التي تحيط بها، ولما وجد الرسولﷺ أن المهاجرين والأنصار قد تنازعوا فيما بينهم حول نسبة سلمان لكلّ طرفٍ منهما حَسَم الرسولﷺ المسألة، فقال: (سلمان منّا آل البيت)، فكان في ذلك القول شرفٌ عظيم حظي به سلمان خاصّةً، كما تذرَّع به بعد ذلك كلّ الفرس بشكلٍ عامّ.
وهناك الكثير من الروايات المتباينة في بيان موقف سلمان السياسيّ بعد وفاة الرسولﷺ، إلاّ أنه من المؤكَّد أن سلمان قد اشترك في الفتوحات الإسلامية التي حدثَتْ في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، بل إنه اشترك فعليّاً في إدارة بعض المهام التنفيذية في الدولة في ذلك العهد، حيث إنه قد تولى إمارة (المدائن) في عهد عمر بن الخطّاب.
ولكنْ هناك أيضاً من الروايات والنصوص التاريخية ما يفيد أن (سلمان الفارسي) كان أحد وجوه المعارضة الكبار، فقد حُكِي أنه أثناء وجوده في المسجد مع عمر بن الخطّاب في أحد الأيام انتقده لما وجد عليه بُرْداً كبيراً، بالرغم من أنه تمّ توزيع بُرْدٍ صغير على جميع المسلمين، ولم يسكُتْ سلمان حتّى استدعى عمر ابنه عبد الله وأكَّد أنه أخذ نصيبه؛ لإتمام ردائه.
على أن هناك ملاحظة مهمّة يجدر أن ننتبه إليها ونحن نذكر حياة سلمان، ألا وهي أن نَسَبه وأصوله الفارسية كانت عائقاً له في الكثير من الأحيان عن تحقيق أهدافه، فيذكر أنه طلب خطبة ابنة عمر بن الخطّاب فاستاء عمر من ذلك؛ نظراً إلى كونه من غير العرب، ويبدو أن تلك المسألة كانت عالقةً في ذهن سلمان طوال حياته، فقد قيل: إنه قال:
أبي الإسلامُ لا أَبَ لي سواهُ *** إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميمِ
فقد كان سلمان يعتبر أن الإسلام هو وحده الهويّة الوحيدة التي يمكنه أن يعرِّف بها نفسه، وينتسب إليها وسط جميع تلك القبائل العربية، التي تذخر بها شبه الجزيرة العربية.
وفي عام 644م ـ 21هـ توفي سلمان الفارسيّ، ودُفن في المدائن، وقيل: إن عمره وقت وفاته كان 78 عاماً([56]).
والحقيقة أن شخصية سلمان التي حفظَتْها لنا المصادر التاريخية يحيطها الكثير من الغموض، فالكثير من مواقف حياته تتَّسم بالطابع الغيبي الأسطوري أكثر من أن يتمّ وصفها بالمنطقية والموضوعية. وكذلك هناك الكثير من الخلاف حول مواقفه السياسية، بل إن النظرة التي ينظر بها كلٌّ من الشيعة والسنّة إليه يعتريها التضارب والتعارض، ولهذا كلّه أعتقد أن المستشرق الفرنسي الكبير (لويس ماسينون) كان محقّاً عندما وضع سلمان الفارسي في الشخصيات القلقة في تاريخ الإسلام([57]).
3ـ هناك تضاربٌ واختلاف حول مسألة موقف عموم الناس من بيعة أبي بكر في السقيفة، فنجد أن أوّل الرواية يشير إلى أن أبا بكر وأنصاره قد دفعوا الناس إلى البيعة دفعاً؛ بدليل أنهم (أي أنصار أبي بكر) قد جعلوا الناس يبايعونه بيدَيْه الاثنين، اليمين والشمال، وفي هذا دليلٌ على حرص أنصار أبي بكر على تأكيد بيعة الناس للخليفة؛ خوفاً من أن يتنصَّل منها أحدٌ.
إلاّ أننا نجد في باقي الرواية عدداً من الأدلة التي تثبت أن عموم الناس وأغلبيتهم قد رَضُوا باختيار أبي بكر، دون إجبار أو إكراه. فسلمان يؤكِّد أنه (ما بايع أحد من الأمة مُكْرَهاً غير عليٍّ وأربعتنا)، ويقصد بهم الرجال الأربعة من شيعة عليٍّ، الذين سبق ذكرهم في الرواية.
وهناك إشارةٌ أخرى تؤكِّد على أن عموم المسلمين قد رَضُوا بأبي بكر؛ ذلك أنه أثناء النقاش المحتدم بين كلٍّ من عليّ بن أبي طالب وعمر بن الخطّاب حول البيعة فإن الأخير يقرّ بأن (العامّة رَضُوا بصاحبي (أي أبي بكر) ولم يَرْضُوا بك، فما ذنبي؟!).
ولا يعارضه في ذلك عليٌّ، بل يقول: إن الله عزَّ وجلَّ ورسوله لم يرضيا إلاّ بي، وهو ما يعني أن (عليّاً) كان يوافق عمر فيما ذهب إليه من كون أبي بكر قد تمّ اختياره والموافقة عليه من خلال الشورى والرأي والاختيار الحرّ بين المسلمين.
والواقع أن مناشدة (عليٍّ) لأصحابه وللمسلمين من أهل بدر، تلك المناشدة التي تكرَّرَتْ لعدّة مرّات خلال الرواية، والتي كانت نتيجتها في كلّ مرّةٍ الفشل والإحباط وتقاعس الناس عن نصرته، تؤكِّد أنه كان هناك حالةٌ من حالات التوافق حول أبي بكر، وأنه في نفس الوقت كان هناك نوعٌ من الرفض لجلوس عليّ بن أبي طالب على كرسيّ الخلافة.
4ـ يظهر من الرواية أن (سلمان الفارسي) كان حاضراً في السقيفة وقت مبايعة الناس لأبي بكر بالخلافة؛ ويدلّ على ذلك أنه قال لعليّ بن أبي طالب: إنه قد رأى أبا بكر في السقيفة والناس تبايعه. ولكنّ الغريب في الأمر أنه لا توجد أيّ روايةٍ، في كتاب سُلَيْم بن قيس أو في غيره من الكتب والمصادر الشيعية أو السنّية، قد ذكرَتْ أن سلمان قد أبدى أيّ ملاحظةٍ أو اعتراضٍ وقت بيعة أبي بكر في السقيفة. ولا يمكن أن نفسِّر ذلك بخوفه أو بعدم قدرته على معارضة أبي بكر وعمر بن الخطّاب وأنصارهما؛ لأننا نجد في روايته أنه قد عارض عمر بعد ذلك معارضةً شديدة أثناء محاولته إجبار عليّ بن أبي طالب وأنصاره على البيعة.
فكيف يتَّفق أن يكون سلمان حاضراً وقت بيعة السقيفة ـ والتي شهدت خلافات كبيرة حول مسألة تنصيب أبي بكر ـ دون أن يعرب عن اعتراضه ورفضه، ثمّ بعد ذلك يعارض الحزب القرشيّ تلك المعارضة العنيفة، رغم أن المسلمين كلَّهم ـ تقريباً ـ كانوا في ذلك قد اتَّفقوا على ولاية أبي بكر وخلافته للرسولﷺ؟
الحقيقة أنه لا يوجد مبرِّرٌ أو أسبابٌ منطقية تفسِّر ذلك التعارض. ولعلّ السبب الوحيد الذي قد يحلّ ذلك الإشكال هو أن سكوت سلمان الفارسي وقت تنصيب أبي بكر في السقيفة كان بأمرٍ من عليّ بن أبي طالب، كما أن معارضته للحزب القرشي فيما بعد كان أيضاً بأمرٍ من عليٍّ. وهذا التفسير وإنْ كان يتَّفق مع وجهة نظر الشيعة الإمامية، التي ترى وجوب طاعة إمام العصر في كلّ أوامره ونواهيه والوقوف على قراراته وعدم تعدِّيها، إلاّ أنه لا يتَّفق مع النظرة التحليلية التاريخية المجرَّدة التي تنزع هالة التبجيل والقدسية من عليّ بن أبي طالب، وتجعل منه ومن أتباعه حزباً سياسيّاً تقليديّاً، له أهدافه وخططه وأخطاؤه.
5ـ تذكر الرواية أن عليّ بن أبي طالب لما وجد أن أبا بكر وعمر قد سلبوه حقَّه في السقيفة حمل زوجه فاطمة على حمارٍ، وأخذ بيدَيْ ابنَيْه الحسن والحسين، (فلم يَدَعْ أحداً من أهل بدر من المهاجرين، ولا من الأنصار، إلاّ أتاه في منزله، فذكَّرهم حقَّه، ودعاهم إلى نصرته).
والحقيقة أن مسألة طلب عليّ بن أبي طالب للدعم والمساعدة من أهل بدر خصوصاً لها عددٌ من الشواهد في الكثير من المواقف الأخرى التي ستحدث بعد ذلك، فعليٌّ في أثناء حربه لمعاوية بن أبي سفيان، بعد استخلاف الأوّل وطلب الثاني بالثأر لدم الخليفة الثالث، نجده يستشهد على معاوية بخصوصيّة أهل بدر وبمكانتهم وبأحقِّيتهم هم وحدهم في تقرير أمر الخلافة، دون غيرهم من باقي المسلمين.
كما أن عليّ بن أبي طالب أثناء حربه لمعاوية في صفّين كان يؤكِّد على أن أمر الخلافة لا يقوم به إلاّ المهاجرون والأنصار من أهل بدر؛ ويشهد على ذلك قوله في إحدى مراسلاته مع معاوية: (إنما هذا للبدريين، دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدريٌّ إلاّ وهو معي، وقد تابعني وبايعني ورضي بي)([58]).
ومن المؤكَّد أن نظرة عليّ بن أبي طالب الموقِّرة المبجِّلة لأهل بدر لم تأتِ من فراغٍ، فقد كان لأهل بدر منزلةٌ كبيرة عند المسلمين في ذلك الوقت، وخصوصاً أنهم هم الذين دافعوا عن الإسلام، وقاتلوا الكفّار والمشركين، ودافعوا عن الرسالة والدين، حتّى أن الرسولﷺ قد قال فيهم: (لعلّ الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرْتُ لكم)([59]).
كما أن هناك أمراً آخر يجدر بنا أن نلتفت إليه عند مناقشتنا لمسألة طلب عليّ بن أبي طالب للنصرة والتأييد من أهل بدر؛ ذلك أن البدريين الذين قاتلوا الكفّار في موقعة بدر الكبرى في العام الثاني الهجريّ كان عددهم في حدود 313 رجلاً، يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً([60]) ومن المؤكَّد أن الكثير من هؤلاء قد استشهد في الفترة الواقعة ما بين العام الثاني الهجريّ (وقت حدوث غزوة بدر) إلى العام الحادي عشر الهجريّ (وقت مبايعة أبي بكر في السقيفة)، كما أنه من المنطقيّ أن الكثير من البدريين قد توفّاهم الله، وأن بعضهم كان مسافراً أو غائباً عن المدينة المنوَّرة وقت السقيفة، ومعنى ذلك كله أن عدد البدريين الذين كانوا في المدينة وقت الأحداث كان أقلّ بكثيرٍ من ثلاثمائة رجل. وإذا وضعنا في حسابنا أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وغيرهم من البدريين، الذين كانوا هم عماد ومعدن الصف السياسي المناؤى لعليّ بن أبي طالب، وأنه من غير المنطقيّ أن يكون عليٌّ قد حاول استمالتهم أو طلب النصرة منهم، فإننا سوف نخلص في النهاية إلى أن عدد الرجال الذين طلب عليٌّ نصرتهم ومساعدتهم كان عدداً قليلاً للغاية؛ وممّا يؤكِّد ذلك أن الرواية ترى أن أربعة وأربعين رجلاً من البدريين قد استجابوا لطلب عليّ بن أبي طالب، ووعدوه بالنصرة، فأمرهم (أن يصبحوا محلِّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم؛ ليبايعوا على الموت). إذن فهذا العدد القليل من الأنصار كان كافياً عند عليّ بن أبي طالب؛ ليبدأ كفاحه ونضاله ضدّ مَنْ استبدّوا بأمر الخلافة دونه، حَسْبما تروي تلك الرواية. ويحقّ لنا أن نتساءل عن كيفية تغيير نظامٍ سياسيّ قائمٍ بالقوّة عن طريق أربعين رجلاً فقط، وخصوصاً أن ذلك النظام سرعان ما بدأ في تجييش الجيوش كثيفة العدد؛ للقضاء على حركات الردّة المنتشرة في عموم شبه الجزيرة العربية، وبعد ذلك تحرّكت تلك الجيوش لفتح الأقاليم والبلدان المتاخمة، مكوّنةً لإمبراطورية كبرى مترامية الأطراف، فهل كان في قدرة أربعين رجلاً فقط من البدريين أن يطيحوا بهذا النظام السياسي الذي استطاع تجييش كلّ تلك الأعداد الضخمة من المقاتلين، أم أن الرواية في تلك المسألة تتَّجه ـ كعادتها ـ إلى الطابع الغيبيّ ـ الخوارقيّ، الذي يبتعد في طرحه عن الواقعية والموضوعية التاريخية؟
6ـ إن الرواية قد حصَرَتْ المؤيِّدين لعليّ بن أبي طالب، والذين استجابوا لدعوته وناصروه، في أربعة أشخاص فقط، وهم: المقداد بن عمرو؛ سلمان الفارسي؛ أبو ذرّ الغفاري؛ الزبير بن العوّام، فهؤلاء مَنْ حملوا السلاح، وأعلنوا عن حقّ عليٍّ في خلافة الرسولﷺ، وهم مَنْ عارضوا أبا بكر وعمر بن الخطّاب وأنصارهما، فمَنْ كان هؤلاء الرجال؟ وهل تتَّفق سيرتهم مع الموقف السياسي الذي اتَّخذوه؟ أم أن هناك تعارضاً ما بين الصورة التي ترسمها الرواية لهم والحقائق التي تنقلها لنا المصادر والكتابات التاريخية عنهم؟
بالنسبة إلى سلمان الفارسي فقد تعرَّضنا لسيرته وترجمته في أوّل ملاحظةٍ على تلك الرواية، وبيَّنا أن سيرته مبهمةٌ وغامضةٌ، ولا تعطي صورةً واضحة لموقفه السياسيّ من الخليفتين الأول والثاني.
أما بالنسبة إلى المقداد بن عمرو فالصورة أكثر وضوحاً، فإذا ما رجعنا لترجمته في كتب التراجم والطبقات وجَدْنا أنه من أصول غير قريشية، فقد كان أبوه (عمرو) من قبيلة حضرمية أو من كندة، ثم هرب من قبيلته، وانتقل إلى قريش، فحالف (الأسود بن عبد يغوث القرشي)، الذي ينسب إليه المقداد في الكثير من الأحيان.
وكان المقداد أحد السابقين الأولين في الإسلام، فيذكر أنه كان أحد السبعة الأوائل الذين أعلنوا الإسلام في مكّة، وقد عانى المقداد مما عانى منه باقي المسلمين في مكّة، جرّاء اضطهاد وتعذيب المشركين لهم.
وبعد الهجرة إلى المدينة شارك المقداد المسلمين معركتهم في بدر، ويذكر أنه الوحيد الذي كان معه فرسٌ يومها، وكان له موقفٌ مشهود عندما شجَّع الرسولﷺ وأيَّده على خَوْض الحرب، وقال له: (يا رسول الله، امْضِ لما أُمِرْتَ به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى، ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة: 24)، ولكنْ اذهب أنتَ وربُّكَ فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحقّ نبيّاً، لو سِرْتَ بنا إلى برك الغماد لجالَدْنا معك من دونه، حتّى نبلغه).
وقد شارك المقداد في جميع المشاهد بعد بدر، فحارب إلى جوار الرسولﷺ في أُحُد والخندق وغيرها من الغزوات.
وهناك ملمحٌ مهمّ يجب أن نلتفت اليه عند تناول شخصية (المقداد بن عمرو)، وتأثيرها في الرواية التي نناقشها، وهذا الملمح يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصله ونسبه وكونه كان غير قرشي؛ ذلك أنه ذكر أن المقداد قد طلب الزواج من ابنة عبد الرحمن بن عوف، فغضب عبد الرحمن غضباً شديداً، وأغلظ له القول، ورفض، فلما اشتكى المقداد للرسولﷺ طيَّب خاطره، وقال له: (أنا أزوِّجك)، وزوَّجه لبنت عمِّه (ضباعة بنت الزبير بن عبد المطّلب).
اذن، فقد كان المقداد، بالرغم من سبقه إلى الإسلام وحُسْن صحبته مع الرسولﷺ، يعاني مما عانى منه غيره من المسلمين الذين تعود أصولهم إلى قبائل غير قرشية، فكانت العصبية القبلية القرشية ترفضه كما رفضَتْ غيره؛ والدليل على ذلك رفض (عبد الرحمن بن عوف) تزويجه من ابنته؛ لأن العادات والتقاليد القبلية كانت ترى أن المصاهرة يجب أن تتمّ على أساس الكفاءة في الحَسَب والنَّسَب، فلما قام الرسولﷺ بتزويج المقداد من ابنة عمِّه زاد ذلك من قرب المقداد من دائرة أهل البيت والهاشميين، وكان من الطبيعيّ أن تزداد صلته بعليّ بن أبي طالب قُرْباً وقوّةً وعُمْقاً، بالقَدْر نفسه الذي ضعفت فيه صلته وارتباطه بالمسلمين من باقي بطون قريش وقبائلها.
وعلى ذلك فإننا نجد أن موقف المقداد من عليٍّ في روايته موقفٌ منطقي، وله الكثير من المبرِّرات والشواهد التاريخية، وخصوصاً أن هناك شبه اتّفاق في روايات الشيعة والسنّة على أن المقداد بن عمرو كان أحد أنصار عليّ بن أبي طالب القلائل بعد بيعة أبي بكر بالسقيفة.
أما بالنسبة لأبي ذرّ الغفاري فهو جندب بن جنادة الغفاري([61])، من كبار الصحابة الذين أسلموا في وقتٍ مبكِّر من الدعوة الإسلامية، وقيل: إنه أسلم رابع أربعة أو خامس خمسة في الإسلام([62])، وقد تعرَّض للأذى كثيراً من قريش، جزاءً له على جهره بإسلامه([63]).
وقد هاجر أبو ذرّ إلى المدينة بعد غزوة بدر الكبرى، وشهد الكثير من المشاهد مع الرسولﷺ. وبعد وفاة الرسولﷺ كان أبو ذرّ ضمن الصحابة القلائل الذين وقفوا في صفّ (عليّ بن أبي طالب)، وأعلنوا عن أحقِّيته في خلافة الرسولﷺ([64]).
أما الرجل الرابع الذي وقف مدافعاً عن حقّ عليّ بن أبي طالب بعد السقيفة، حَسْب الرواية، فكان الزبير بن العوّام الأسدي القرشي، ابن صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة الرسولﷺ. وكان الزبير أحد السابقين الأولين في الإسلام، فقد اعتنق الإسلام شابّاً على يد أبي بكر، وقيل: إنه أسلم وعمره اثنا عشر عاماً فقط .
وقد تزوَّج الزبير من أسماء بنت أبي بكر، وهاجر بعد ذلك إلى الحبشة في مَنْ هاجر من المسلمين؛ هرباً من اضطهاد الكفّار في مكّة، ثمّ هاجر (الزبير) إلى المدينة، وولد له فيها ابنه (عبد الله)، الذي كان أول مولودٍ للمهاجرين في المدينة.
واشترك الزبير في العديد من الغزوات والمعارك بجوار الرسولﷺ، وأبدى شجاعةً ملحوظة أثناء تلك المعارك، وكان الزبير أحد الرجال العشرة الذين توفي الرسولﷺ وهو عنهم راضٍ.
وبعد وفاة الرسولﷺ كان الزبير يقف مؤيِّداً لعليّ بن أبي طالب، ولحقه في الخلافة والإمامة بعد الرسولﷺ، وهناك الكثير من الرويات التي تذكر أن الزبير قد سلَّ سيفه وأقسم أن لا يغمده إلاّ بعد أن تتمّ مبايعة عليٍّ بالخلافة.
7ـ إن الرواية قد تغاضَتْ تماماً عن ذكر اثنين من أكبر المؤيِّدين لعليّ بن أبي طالب، واللذَيْن تنوِّه العديد من المصادر والكتابات التاريخية بوقوفهما في صفّ عليٍّ في تلك المرحلة التاريخية الدقيقة، وهما: العبّاس بن عبد المطّلب؛ وعمّار بن ياسر.
فالعباس بن عبد المطّلب كان أكبر رجال بني هاشم سنّاً، وكان عميد العائلة الهاشمية بعد وفاة الرسولﷺ، وكانت الأحكام والعادات القبلية تجعل منه زعيماً للعصبية الهاشمية.
وتوجد الكثير من الروايات التي تذكر أن العباس كان يقف في صفّ علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسولﷺ، وأنه كان يدعمه ويسانده ويحشد بني هاشم كلّهم من ورائه. ومن الغريب أن إحدى تلك الروايات هي الرواية الأولى الموجودة في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، تلك الرواية التي ناقَشْناها في الصفحات السابقة، والتي يرويها سُلَيْم نقلاً عن (البراء بن عازب).
كما أن مسألة تأييد العبّاس لعليٍّ قد ذاعَتْ وانتشرَتْ في عددٍ من المصادر التاريخية المهمة، بشكلٍ يفوق قدرة الباحث على تتبُّعه بشكلٍ تفصيليّ.
ولهذا فإنه يحقّ لنا أن نندهش ونتساءل حول مسألة الغياب الكلّي لأيّ دَوْر للعبّاس بن عبد المطّلب في تأييد ابن أخيه في تلك الرواية. وسوف أحاول أن أبرِّر ذلك الغياب والتجاهل لدَوْر العبّاس في خاتمة هذا البحث، عند الوصول إلى مرحلة النتائج النهائية للدراسة.
والدهشة التي أثارَتْها مسألة غياب ذكر دَوْر العبّاس في الرواية هي نفسها التي تطلّ علينا عندما نلاحظ غياب أيّ دَوْرٍ لعمّار بن ياسر، فعمّار كان معروفاً بتشيُّعه لآل البيت، وكان من أقرب الناس إلى عليّ بن أبي طالب، وأكثرهم حبّاً له، واعترافاً بقَدْره ومكانته وحقّه في ولاية أمر المسلمين وخلافة الرسولﷺ.
فمجرّد نظرةٍ سريعة خاطفة في سيرة عمّار ومواقفه السياسية في حياة الرسولﷺ، وبعد وفاته، تؤكِّد لنا عمق العلاقة بين عمار وعليٍّ، وحقيقة مشاركته في نصرة ابن عمّ الرسولﷺ.
وعمّار هو عمّار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم بن ثعلبة بن عوف، ترجع أصول عائلته إلى قبيلة مذحج اليمنية، وكان أبوه قد قدم من اليمن إلى قريش، فحالف بني مخزوم، واستقرّ بمكّة.
وقد أسلم (عمّار) في وقتٍ مبكِّر من عمر الدعوة الإسلامية، وتعرَّض ـ مع أبيه ياسر، وأمّه سُمَيّة ـ للعديد من أصناف التعذيب والقهر؛ لردِّهم عن الإسلام، حتّى قتلت أمه وأبوه أثناء ذلك التعذيب، فكانت سُمَيّة أوّل شهيدةٍ في الإسلام.
وقد هاجر (عمار) مع المسلمين من مكّة إلى المدينة، وشهد مع الرسولﷺ غزوة بدر الكبرى في العام 2هـ، وكذلك اشترك عمار في القتال بجوار الرسولﷺ في جميع المشاهد والغزوات.
ولعل النقطة الأولى التي يجب أن نلتفت إليها عند تناولنا لشخصية عمّار بن ياسر هي حرصه على اتّباع عليّ بن أبي طالب في جميع المواقف، وتأييده المطلق له في آرائه السياسية.
فبعد وفاة الرسولﷺ كان عمّار يرى أحقِّية عليّ بن أبي طالب بالخلافة، وكان يعتقد أن عليّاً هو أَوْلى الناس بالإمامة، ولذلك كان عمار من النفر القلائل الذين اتَّبعوا عليّاً في دعوته، وأيَّدوه، وحرصوا على مساندته ودعمه.
وظلّ عمّار في خلافة أبي بكر وعمر متَّبعاً لعليّ بن أبي طالب، فيمكن أن نصفه أنه كان من الشيعة الأوائل، ونلاحظ أن الكثير من الروايات الشيعية التي ذكرت حادثة مناشدة عليّ بن أبي طالب للمسلمين؛ لنصرته بعد السقيفة، قد وضعت عمّار ضمن الرجال القلائل الذين بايعوه، وأيَّدوه.
ولا يوجد عندي تفسيرٌ لعدم وضع اسم عمار بن ياسر مع أسماء الرجال الأربعة الذين ناصروا عليّاً. و يستبعد أن يكون ذلك بسبب خطأ أو سَهْواً؛ لأن الرواية قد ذكرت الرجال الأربعة في الكثير من المواضع، وليس في موضعٍ أو مكانٍ واحد، مما يحتمل معه أن يسقط اسم رجلٍ عن طريق تصحيفٍ أو خطأ أو ما شابه.
فبمراجعة الرواية كلها يتبين لنا أن ذكر عليّ بن أبي طالب والرجال الأربعة الذين استجابوا لدعوته وناصروه قد تكرَّر في ستّة مواضع في الرواية([65]). وفي بعض تلك المواضع تمّ ذكر أسماء الرجال الأربعة، وفي مواضع أخرى ذكر عددهم بغير أسماء، أما في بعض الأحيان فقد ذكرت أسماءهم وعددهم، وعلى ذلك يبدو من المستحيل أن يكون اسم (عمّار بن ياسر) قد وقع من بين أسمائهم خطأً أو سَهْواً.
وقد التفت إلى ذلك محقِّق كتاب سُلَيْم بن قيس، وهو الأستاذ (محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني)، فنجده في أحد المواضع الذي يقول فيه سلمان الفارسي في الرواية: إن عليّ بن أبي طالب قد أخبره (أن الناس كلهم ارتدّوا بعد رسول اللهﷺ غير أربعة)، نجده يعلِّق في الهامش، بأن هناك رواياتٍ أخرى عن (سُلَيْم) قد وردَتْ في كتاب (الاحتجاج) تقول: (إن القوم ارتدّوا بعد رسول اللهﷺ إلاّ مَنْ عصمه الله بآل محمدﷺ)([66]).
ويتَّضح من ذلك أن هناك إشكالية حقيقية في تعيين عدد الذين ناصروا عليّاً بعد السقيفة، مما جعل المحقِّقين الشيعة المعاصرين يتجهون إلى عدم التأكيد على عددٍ أو رقم معين، وهو الأمر الذي يلقي بالكثير من الشكوك حول الرواية التي نقوم بمناقشتها.
8ـ تذكر الرواية أسماء عددٍ من الصحابة كانوا يؤيِّدون أبا بكر وعمر، ويتظاهرون على غصب الخلافة من عليّ بن أبي طالب. وقد وردَتْ أسماء هؤلاء في مواضع مختلفة في الرواية، وهم: المغيرة بن شعبة؛ خالد بن الوليد؛ قنفذ؛ بشير بن سعد؛ سالم مولى أبي حذيفة؛ أسيد بن خضير؛ أبو عبيدة بن الجرّاح؛ معاذ بن جبل؛ عثمان بن عفّان.
والحقيقة أننا لو بحَثْنا في ترجمة وسيرة كلّ واحد من هذه الأسماء لوجَدْنا أن هناك الكثير من الأدلة والشواهد التاريخة التي تؤكِّد على أن تلك الشخصيات قد حظيَتْ بمكانةٍ ممتازة في دولة أبي بكر وعمر بن الخطّاب.
فالمغيرة بن شعبة، على سبيل المثال، كان أحد كبار المستشاريين عند الخليفة الأول، ومن بعده الخليفة الثاني، فتولّى في عهد عمر بن الخطّاب ولاية البحرين، ثم ولاية الكوفة، وكان قربه من عمر سبباً في عدم إقامة حدّ الزنى عليه، بالرغم من شهادة عددٍ من الشهود عليه.
وكذلك كان البشير بن سعد أحد أهمّ الأنصار الذين أيَّدوا حزب المهاجرين في حادثة سقيفة بني ساعدة، فكان أول مَنْ بايع أبا بكر من الأنصار.
أما أبو عبيدة بن الجرّاح فكان أحد أهمّ أعضاء الحزب القرشي، فكان الرجل الثالث في السقيفة بعد كلٍّ من: أبي بكر؛ وعمر، وظهرَتْ مكانته بشكلٍ ملحوظ في زمن عمر، أثناء حركة الفتوحات الإسلامية، فكان أبو عبيدة قائداً للجيوش الإسلامية على الجبهة الشامية، وكان أميراً على الشام.
وكان لخالد بن الوليد أيضاً دَوْرٌ ملحوظ وظاهرٌ في عهد الخليفة الأول أبي بكر، فكان قائداً للجيوش الإسلامية التي واجهَتْ حركة الردّة في شبه الجزيرة العربية، كما أنه لعب دَوْراً مهمّاً في بدايات حركة الفتوحات على الجبهة العراقية، ثم الجبهة الشامية.
وكان معاذ بن جبل هو الآخر أحد أكثر الأنصار قُرْباً من عمر بن الخطّاب وقت خلافته، فقد كان عُمَر يستشيره ويأخذ برأيه في الكثير من المواقف والمسائل، وقد عُرف عن عُمَر أنه قال عن معاذ: (عجزَتْ النساء أن يلِدْنَ مثله، ولولاه لهلك عمر)، وكذلك قال عنه عمر: (مَنْ أراد الفقه فليأتِ معاذ بن جبل).
أما (قنفذ)، والذي ذُكر في الرواية، فلا نكاد نعثر له على ترجمةٍ في كتب التراجم والسِّيَر. وأغلب الظنّ أن المقصود به هو (قنفذ بن عمر بن جدعان)، وهو صحابيٌّ، كان قد تولى ولاية مكّة لفترةٍ في عهد عمر بن الخطّاب، ثمّ صرفه عمر عنها، وأسندها إلى نافع بن عبد الحارث([67]).
وكذلك فقد ورد اسم عثمان بن عفّان في أخريات الرواية، وأنه قد وقف في صفّ أبي بكر وعمر ضدّ عليٍّ. والحقيقة أن العلاقة ما بين عثمان وكلٍّ من: أبي بكر وعمر كانت علاقةً قوية ومتينة إلى أبعد حدٍّ، فقد استشار أبو بكر عثمان في اختيار عمر خليفةً له، كما أنه طلب منه أن يكتب كتابَ ولاية العهد له([68]).
وفي عهد عمر زاد قُرْب عثمان من الخليفة، حتّى أن بعض الكتب قد ذكر أن الناس (كانوا إذا أعضل عليهم أمرٌ، وكان لا بُدَّ لهم من استعلامه منه (أي من عمر)، استعانوا عليه بعثمان بن عفّان أو بعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وإذا اشتدّ عليهم ثلَّثوا بالعبّاس رضي الله عنه)([69]).
إذن، من الممكن أن نخلص من كلّ ما سبق إلى أن هؤلاء النفر الذين وردَتْ أسماؤهم في الرواية كانوا من أهم مناصري ومؤيِّدي الحزب القرشي ضد عليّ بن أبي طالب وشيعته، ولكنّ السؤال المهم الذي يطرح نفسه بقوّة هنا: هل كان هؤلاء الرجال على نفس موقفهم ورأيهم المناصر للحزب القرشي عقب انتهاء اجتماع السقيفة مباشرةً أم أن رأيهم قد كان مختلفاً أثناء السقيفة وما بعدها مباشرةً، ثمّ تبدَّل وتغيَّر وأصابه الكثير من الاختلاف، حتّى وصل إلى المرحلة النهائية له بعد ذلك؟
والإجابة عن ذلك السؤال على قَدْرٍ كبير من الأهمِّية؛ لأن الرواية قد أوضحَتْ أن هؤلاء الرجال قد تظاهروا على (عليٍّ)، وانحازوا لأعدائه بعد السقيفة مباشرةً، دون أن تذكر له أسباباً أو مبرِّراتٍ واضحة.
وإننا نجد مثلاً أن سالماً مولى أبي حذيفة قد ورد اسمه في الرواية، وأنه كان من مناصري أبي بكر وعمر، ولكنْ هل كان في تاريخ سالم أو سيرته ما يدلّ على تحيُّزه للخليفة الأول ومستشاره؟ الحقيقة أنه لا يوجد في سيرة سالم ما ينبئ أو يدل على ذلك، ولكنْ من الممكن أن نربط تلك الرواية بروايةٍ أخرى قد وردَتْ في تاريخ الطبري، وهى تقول: إن عمر، بعد طعنه، وبعد أن طلب منه بعض أصحابه أن يستخلف، قال: (مَنْ استخلف؟ لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته، فإنْ سألني ربّي قلتُ: سمعتُ نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمّة، فلو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته، فإنْ سألني ربّي قلتُ: سمعتُ نبيّك يقول: إن سالماً شديد الحبّ لله)([70]).
إذن فرواية سلمان التي نناقشها قد أوردت (سالم مولى أبي حذيفة) على كونه أحد مناصري أبي بكر وعمر؛ بسبب رواية الطبري التي يذكر فيها عمر قبل موته أنه كان سيستخلف سالماً لو كان حيّاً. وكذلك نجد أن اسم (عثمان) يوجد في رواية سلمان لا لشيءٍ سوى أنه (أي عثمان) قد تمّ استخلافه بعد عمر.
ويجدر أن نلاحظ أن اسم عثمان لا يَرِدُ في الرواية كلّها سوى مرّة واحدة فقط لا غير، ويظهر اسمه بشكلٍ مفاجئ في الأحداث، وهو الأمر الذى يجعلنا نعتقد أن اسمه قد تمّت إضافته إلى الرواية فيما بعد.
ولذلك فإننا نرى أن الأسماء التي وردت في الرواية قد تمّت إضافتها إلى الرواية في فترةٍ لاحقة لأحداث السقيفة، ولم تكن بعض تلك الشخصيات قد أخذت موقفها السياسي، المناصر لأبي بكر وعمر، والمعارض لعليّ بن أبي طالب، في تلك الفترة المبكِّرة، بل إن الموقف السياسي لتلك الشخصيات كان بمثابة نتاج نهائيّ للكثير من الخلافات السياسية التي حدثت في الدولة الإسلامية على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، بدءاً من وفاة الرسولﷺ وأحداث السقيفة وانتهاءً بمقتل عليّ بن أبي طالب وتسليم ابنه الحسن الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، مروراً بأحداث استخلاف عمر بن الخطاب وحادثة الشورى، واستخلاف عثمان، وثورة الأمصار، واستخلاف عليّ بن أبي طالب.
9ـ وجود بعض الأخطاء التاريخية والعقائدية في الرواية؛ فمن الأخطاء التاريخية أنه قد ورد في الرواية أن أبا بكر قد أرسل إلى عليّ بن أبي طالب يطلب منه أن يقدم عليه لمبايعته بالخلافة، وأن أبا بكر قد أرسل لعليٍّ قائلاً: (أجِبْ خليفة رسول الله)، فلما لم يستجيب له عليٌّ أرسل له أبو بكر مرّةً أخرى قائلاً: (أجِبْ أمير المؤمنين أبا بكر)، فردَّ عليٌّ قائلاً: (واللهِ، إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلاّ لي، ولقد أمره رسول اللهﷺ، وهو سابع سبعة، أن يسلِّموا عليَّ بإمرة المؤمنين، فاستفهم هو وصاحبه عمر من بين السبعة، فقال: أحقٌّ من الله ورسوله؟ فقال لهما رسول اللهﷺ، نعم، حقّاً من الله ورسوله، إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغرّ المحجَّلين، يقعده الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة على الصراط، فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار)([71]).
والمشكلة التي توجد في ذلك المقطع من الرواية هو أن أبا بكر قد استخدم لقب (أمير المؤمنين)، واصفاً به نفسه عند استدعاء عليّ بن أبي طالب؛ لطلب بيعته، ومن المعروف والمتواتر أن لقب أمير المؤمنين لم يظهر تاريخيّاً إلاّ أثناء خلافة عمر بن الخطّاب، وذلك عندما أشفق عمر أن يناديه محدِّثوه بخليفة خليفة رسول اللهﷺ، فآثر ان يستخدم محدِّثوه لقب أمير المؤمنين عند مخاطبته؛ منعاً للتطويل والإطناب([72]).
إذن كيف يتمّ استخدام هذا اللقب في عهد أبي بكر، بالرغم من كونه لم يُعْرَف إلاّ في عهد عمر؟!
تحمل الرواية نفسها ردّاً على ذلك التساؤل، فعليّ بن أبي طالب يذكر أن رسول اللهﷺ نفسه هو الذي سمّاه بـ (أمير المؤمنين) ضمن عددٍ من الألقاب الأخرى، مثل: (سيد المسلمين، صاحب لواء الغرّ المحجلين).
ولكنْ لو فرَضْنا صدق ذلك فلماذا لم يستخدم أبو بكر نفسه ذلك اللقب في مصدرٍ تاريخيّ سنّي؟ ولماذا تروي المصادر السنّية كلّها أن عمر هو أول مَنْ استخدم هذا اللقب؟
ثمّ إن الحديث الذي يذكر فيه عليّ بن أبي طالب أن الرسولﷺ قد سمّاه بأمير المؤمنين يوجد في عددٍ من كتب الحديث السنّية، باختلاف بعض الألفاظ، فعلى سبيل المثال: ورد في كتاب (المستدرك على الصحيحين)، للحاكم النيسابوري: (قال رسول اللهﷺ: أُوحي إليَّ في عليٍّ ثلاث: إنه سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين)([73]).
وكذلك ذكر المتّقي في (كنز العمال): (لمّا عرج بي إلى السماء انتهى بي إلى قصرٍ من لؤلؤ، فراشه من ذهبٍ يتلألأ، فأوحى إليَّ ربّي في عليٍّ ثلاث خصال: إنه سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين)([74]).
وكذلك ورد في كتاب (مجمع الزوائد)، للهيثمي: (قال رسول اللهﷺ: إن الله تعالى أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة أشياء، ليلة أسرى بي: إنه سيّد المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين)([75]).
والسؤال هنا: هل تمّ حذف لقب (أمير المؤمنين) في الأحاديث السابقة عن عَمْدٍ أم أن هذا اللقب قد تمّت إضافته إلى الرواية على لسان أبي بكر عن قَصْدٍ؛ لتشويه صورته، وإظهار حقّ عليّ بن أبي طالب في الإمارة؟
الحقيقةُ أن الاحتمال الثاني هو الأقوى ـ من وجهة نظري ـ، وخصوصاً أن هناك الكثير من النقاط المتناثرة في الرواية تؤكِّد أن الرواية لم تحدث ككلّ في عهد أبي بكر، بل ان الكثير من الأحداث لا يمكن أن نفهمها وفق الإطار الطبيعي لها إلاّ لو افترضنا أن بعض المقاطع قد كُتب بعد استخلاف عمر بن الخطّاب، أو في مرحلةٍ زمنيّة متأخِّرة عن ذلك.
أما بالنسبة إلى الخطأ العقائديّ فتذكر الرواية أنه بعد أن قام عمر بن الخطاب وأنصاره باقتحام بيت عليّ بن أبي طالب وفاطمة نادَتْ فاطمةُ قائلةً: (واأبتاه! وارسول الله! يا أبتاه، فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر وعيناك لم تتفقّأ في قبرك).
والحقيقة أن الجملة السابقة تتعارض بشكلٍ صريح وواضح مع الكثير من الأحاديث والأخبار المرويّة التي تذكر أن أجساد الأنبياء لا تبلى في قبورها، وأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، فكيف إذن تقول فاطمة بنت رسول اللهﷺ: إن عينَيْ الرسول لم تتفقّأ بعدُ في قبره، ومن المفترض أنها تعرف جيّداً أن جسد أبيها محمدﷺ لن يُمَسّ بسوءٍ في قبره، في ذلك الوقت أو فيما بعد؟
الحقيقة أن تلك النقطة بالذات لا أجد لها تفسيراً مقنعاً، وخصوصاً أن الإجماع السنّي الشيعي قائمٌ على أن الأرض لا تأكل أجسام الأنبياء، كما أن هناك الكثير من التفسيرات الشيعية التي ترى أن أجسام الأنبياء لا تبقى في الأرض في القبور، بل إنها تصعد إلى السماء.
10ـ إن الرواية في الكثير من المواضع تلقي بالذنب الأكبر على (عمر بن الخطّاب)، وليس على (أبي بكر)، بل إن الرواية تجعل من أبي بكر مجرّد تابعٍ يسير وفق رأي ومشورة عمر، دون أن يكون له رأيٌ أو سلطة فعلية.
وهناك العديد من العبارات الواردة في الرواية التي تؤكِّد ذلك، ومنها:
ـ (وكان أبو بكر أرقّ الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غَوْراً، والآخر (يعنى عمر) أفظّهما وأغلظهما وأجفاهما)([76]).
ـ عندما لم يأذن عليّ بن أبي طالب لقنفذ بالدخول إلى منزله قال عمر: (اذهبوا، فإنْ أذن لكم، وإلاّ فادخلوا عليه بغير إذنٍ)([77]).
ـ عندما رفضَتْ فاطمة دخول هؤلاء الرجال إلى منزلها غضب عمر، وقال: (ما لنا وللنساء)([78]).
ـ إن عمر هو الذي أضرم النار في بيت فاطمة، وهو الذي ضربها بالسوط فسقط جنينها([79]).
ـ عندما ناشدَتْ فاطمة أباها بعد اقتحام بيتها بكى جميع أعداء عليٍّ، إلا عمر بن الخطّاب والمغيرة بن شعبة وخالد بن الوليد، وقال عمر: (إنا لسنا من النساء ورأيهن في شيءٍ)([80]).
ـ إن عمر هو الذي حرَّض أبا بكر على إجبار عليّ بن أبي طالب على البيعة، وهوالذي هدَّده بالقتل إنْ لم يبايع([81]).
وقد حاولت الرواية أن تعرِّض بعمر بن الخطاب قدر الإمكان، وأن تشوِّه من صورته، فذكر في الراوية في أكثر من موضعٍ أنه قد نُودي على عمر من قِبَل عليٍّ وشيعته بـ (ابن صهاك). و(صهاك) لا يأتي ذكرُها إلاّ في عددٍ قليل من الروايات التي تربطها بعمر بن الخطّاب، حيث تروي تلك الروايات أن صهاك كانت جاريةً عند عبد المطّلب، وكانت ترعى له الإبل، فشاهدها نفيل في أحد الأيام، وزنى معها، فولدَتْ له (الخطّاب)، وعندما شبّ الخطّاب زنى مع صهاك، فولدت له طفلة عُرفَتْ بـ (حنتمة)، ولما كبرت زنى معها الخطّاب فولدَتْ (عمر). وقد وردَتْ قصّة صهاك في عددٍ من الكتب والمصادر الشيعية، مثل: (بحار الأنوار) للمجلسي؛ و(الصلابة في معرفة الصحابة)، لمحمد بن السائب الكلبي.
والحقيقة أن تلك القصّة لم تَرِدْ في أيّ مصدرٍ سنّي، والظاهر من تلك القصة أنه قد تمّ وضعها للنيل من عمر بن الخطّاب، والتحقير من شأنه، والتعريض به؛ لأن القصة قد احتوَتْ على عددٍ كبير من المبالغات والأحداث غير المنطقية، التي حاول بها مختلقها أن يؤكِّد على كون (عمر بن الخطّاب) نتاجاً لسلسلةٍ من عمليات الزنى والسفاح المركَّبين.
وممّا يجدر ملاحظته أن راوي تلك الرواية، وهو سلمان الفارسي، قد تواترت الأخبار بكونه قد حاول أن يخطب بنتاً من بنات عمر، فكيف يستقيم أن يخطب سلمان ابنة رجلٍ يُعْرَف بكونه نتاج سفاحٍ وزنى؟ وخصوصاً أن الشرف العائلي ونقاء النسب كان من أهمّ الصفات التي تُراعى في عمليات النَّسَب والمصاهرة في ذلك العصر.
إذن، أغلب الظنّ أن مسألة نسبة عمر إلى صهاك هي مسألة قد أُضيفَتْ إلى الرواية في فترةٍ متأخِّرة نسبيّاً، وأن الذي أضافها أو قال بها لم يكن هو (سلمان الفارسي). كما أنه يجب أن نلاحظ أن الإشارات الكثيرة التي وردَتْ في الرواية، والتي ألقَتْ بالتُّهَم على عمر، دون أبي بكر، تشير إلى أن الرواية لم تحدث في أعقاب السقيفة مباشرةً، بل إنه في أغلب الظنّ قد تمّ سرد الرواية في مرحلةٍ ما بعد خلافة عمر.
11ـ إن الرواية قد ذكرَتْ العديد من الأفكار والعقائد الشيعية التي لم تتبلور وتأخذ شكلها النهائي إلا في فترةٍ متأخِّرة نسبيّاً عن أحداث الرواية.
فالمتتبِّع لأحداث الرواية يجد أن هناك الكثير من التفاصيل والإشارات حول (مسألة الوصاية):
فهناك إشارة إلى تنصيب الرسولﷺ لـ (عليّ بن أبي طالب) في غدير خمّ([82]).
كما أن عليّ بن أبي طالب قد ذكر حديث الرسولﷺ يؤكِّد فيه على إمارة عليٍّ للمؤمنين([83]).
وكذلك هناك جزءٌ في الرواية يؤكِّد فيه عليٌّ أن بيعته قد تمَّتْ بأمر من الله ومن الرسولﷺ([84]).
وقد ظهر مفهوم الوصاية في كلام أبي ذرّ لأبي بكر وعمر، فهو يقول لهما: (عليٌّ وصيّ الأوصياء… ووصيّ محمد ووارث علمه…، فقدموا مَنْ قدَّم الله، وأخِّروا مَنْ أخَّر الله، واجعلوا الولاية والوراثة لمَنْ جعل الله)([85]).
وعليّ بن أبي طالب يؤكِّد على مفهوم الوصاية بعد أن أُجبر على البيعة، فعندما يتعلَّل عمر بأن العامّة قد رَضُوا بأبي بكر ولم يَرْضُوا بعليٍّ، يقول عليٌّ: (ولكنّ الله عزَّ وجلَّ ورسوله لم يرضيا إلاّ بي)([86]).
كما يظهر في الرواية أثرٌ لفكرة (الحجّية) أو (الإمام الحجّة)، وهي فكرةٌ شيعيّة مهمّة جدّاً، فعليّ بن أبي طالب يجمع القرآن ويعرضه على أبي بكر وعمر، ويبرِّر موقفه بقوله: (لئلاّ تقولوا غداً: إنا كنّا عن هذا غافلين، ولئلاّ تقولوا يوم القيامة: إني لم أذكِّركم نصرتي، ولم أذكِّركم حقّي، ولم أدْعُكُم إلى كتاب الله، من فاتحته إلى خاتمته)([87]).
وكذلك فإن الرواية قد أشارت إلى بعض المصطلحات التي لم يتمّ الاستقرار عليها والاتفاق حول مسمّياتها سوى في فترةٍ متأخِّرة عن الفترة التي وقعَتْ فيها أحداث الرواية:
فعليّ بن أبي طالب يسأل أبا بكر: (بأيّ حقٍّ وبأيّ منزلةٍ دعَوْتَ الناس إلى بيعتك؟)([88]).
ثمّ يبيِّن (عليٌّ) ما قصده بالحقّ والمنزلة، فهو يناشد المسلمين قائلاً: (يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار، أنشدكم الله، أسمعتم رسول اللهﷺ يقول يوم غدير خمّ: كذا وكذا، وفي غزوة تبوك: كذا وكذا).
إذن فالحقّ الذي قصده عليٌّ في الراوية هو الحقّ الذي أخذه من الرسولﷺ يوم غدير خمّ، أما المنزلة فهي قول الرسولﷺ له قبل الخروج إلى تبوك: (أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي).
ب ـ في كتاب تاريخ الرُّسُل والملوك، للطَبَريّ
توجد في كتاب تاريخ الرُّسُل والملوك، للطبري، عدّةٌ من الروايات التي تتعلَّق بموقف عليّ بن أبي طالب وأنصاره من نتيجة اجتماع السقيفة واستخلاف أبي بكر. ويمكن أن نقسِّم تلك الروايات إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: الروايات فيه تظهر أن (عليّاً) قد استجاب لما اتَّفق عليه المسلمون في السقيفة بشكلٍ سريع، وأنه قام بمبايعة أبي بكر.
الثاني: الروايات فيه تظهر رفض (عليٍّ) بيعة أبي بكر، وأنه قد تعرَّض لبعض المحاولات التي تغريه بالثورة على أبي بكر، ولكنه رفض وبايع.
الثالث: الروايات فيه تظهر رفض (عليٍّ) لبيعة أبي بكر، وأنه قد حدثَتْ بعض الصدامات بينه وبين السلطة، وقد انتهى الأمر بإجباره على البيعة.
وسوف أورد الروايات المتعلِّقة بكلّ قسمٍ من الأقسام الثلاثة، وأبيِّن ما في كلٍّ منها من ملاحظاتٍ، وأوجه تقاربٍ أو اختلافٍ.
روايات استجابة عليٍّ السريعة وبَيْعته المُبْكِرة
الرواية الأولى: حدَّثنا عبيد الله بن سعد قال: أخبرنى عمّي قال: أخبرني سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت قال: (كان عليٌّ في بيته إذ أُتي، فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميصٍ، ما عليه إزارٌ، ولا رداءٌ، عَجِلاً، كراهية ان يبطئ عنها، حتّى بايعه، ثمّ جلس إليه، وبعث إلى ثوبه فأتاه، فتجلَّله، ولزم مجلسه)([89]).
الرواية الثانية: حدَّثنا عبيد الله بن سعيد الزهري قال: أخبرنى عمّي يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرني سيف بن عمر، عن الوليد بن عبد الله بن أبي ظبية البجلي قال: حدَّثنا الوليد بن جميع الزهري قال: قال عمرو بن حريث لسعيد بن زيد: أشهدْتَ وفاة الرسولﷺ؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول اللهﷺ، كرهوا أن يبقوا بعضَ يومٍ وليسوا في جماعةٍ، قال: فخالف عليه أحدٌ؟ قال: لا، إلاّ مرتدٌّ أو مَنْ قد كاد أن يرتدّ، لولا أن الله عزَّ وجلَّ ينقذهم من الأنصار، قال: فهل قعد أحدٌ من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته، من غير أن يدعوهم)([90]).
الرواية الثالثة: حدَّثنا عبيد الله بن سعد قال: حدَّثني عمّي قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن سهل وأبي عثمان، عن الضحّاك بن خليفة قال: لما قام الحباب بن المنذر انتضى سيفه، وقال: أنا جذيلها المحنّك، وعذيقها المرجّب…، فحامله عمر، فضرب يده، فندر السيف، فأخذه، ثمّ وثب على سعد، ووثبوا على سعد، وتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد، وكانت فلتةٌ كفلتات الجاهليّة، قام أبو بكر دونها، وقال قائل حين أوطئ سعد: قتلتم سعداً، فقال عمر: قتله الله! إنه منافقٌ، واعترض عمر بالسيف صخرةً فقطعه)([91]).
الرواية الرابعة: حدَّثنا عبيد الله بن سعيد قال: حدَّثني عمّي يعقوب قال: حدَّثنا سيف، عن مبشّر، عن جابر قال: قال سعد بن عبادة يومئذٍ لأبي بكر: إنكم، يا معشر المهاجرين، حسدتموني على الإمارة، وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة، فقالوا: إنا لو أجبَرْناك على الفرقة فصرْتَ إلى الجماعة كنتَ في سعةٍ، ولكنّا أجبَرْناك على الجماعة، فلا إقالة فيها، لئن نزعْتَ يداً من طاعةٍ أو فرَّقْتَ جماعةً لنضربَنَّ الذي فيه عيناك)([92]).
تحليلٌ وتقييم
1ـ الملاحظة الأولى التي يجدها الباحث المدقِّق في الروايات الأربعة السابقة هي أن الروايات الأربعة كلها قد جاءت من طريقٍ واحد، ألا وهو طريق عبيد الله بن سعد الزهري، عن عمِّه يعقوب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر التميمي، ثمّ تتفرَّق مصادر الروايات فيما بعد سيف؛ فنجد أن الرواية الأولى قد رواها سيف عن (عبد العزيز بن سياه)؛ أما الرواية الثانية فينقلها سيف عن (الوليد عبد الله بن أبي ظبية البجلي)؛ والرواية الثالثة ينقلها سيف عن (سهل وأبي عثمان)؛ أما الرواية الرابعة فينقلها سيف عن (مبشّر):
ومعنى ذلك أن الطريق الوحيد الذي أخذ عنه الطبري الروايات التي تؤكّد أن عليّ بن أبي طالب قد سارع إلى بيعة أبي بكر بالخلافة هو طريق مشكوكٌ في صحته، ولا يمكن الاعتماد عليه؛ لأن القاسم المشترك في جميع تلك الروايات هو (سيف بن عمر التميمي)، الذي أجمع علماء الجرح والتعديل على جرحه وإسقاط رواياته. ومما يزيد من ضعف روايات سيف الأربعة السابقة أن هناك الكثير من الأخطاء والعَوْرات في أسماء رواتها، بغضّ النظر عن سيف، فقد ورد اسم (عبيد الله بن سعد) في الرويات الأربعة بأكثر من طريقة؛ ففي الرواية الأولى عرَّفه الطبري بأنه (عبيد الله بن سعد)؛ وفي الرواية الثانية عرف بأنه (عبيد الله بن سعيد الزهري)؛ ثم يعود الطبري لتعريفه بـ (عبيد الله بن سعد) في الرواية الثالثة؛ أما في الرواية الرابعة فتمّ تعريفه أنه (عبيد الله بن سعيد). والحقيقة أن راوي تلك الروايات هو (أبو الفضل عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري البغدادي)، وكان يروي عن عمِّه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، الذي أشار إليه في الروايات الأربعة السابقة بـ (عمّي)([93]).
وقد قام عددٌ من علماء الجرح والتعديل بتوثيق وتعديل (عبيد الله بن سعيد)، ومنهم: كلّ من: ابن أبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي بكر الخطيب، وابن حجر العسقلاني([94]).
2ـ الرواية الوحيدة التي تذكر موقف عليّ بن أبي طالب من بيعة أبي بكر في الروايات الأربعة السابقة هي الرواية الأولى فقط، أما الروايات الثلاثة الأخرى فلا يذكر فيها اسم عليٍّ خصوصاً.
وأعتقد أن الروايات الثلاثة كان يقصد بها عليّ بن أبي طالب، وإنْ لم يذكر فيها اسمه، فقد حاول سيف بن عمر التميمي أن يؤكِّد الفكرة التي طرحها في الرواية الأولى، وهي أن عليّاً قد سارع بمبايعة أبي بكر حتّى أنه (خرج في قميصٍ، ما عليه إزارٌ، ولا رداءٌ، عَجِلاً، كراهية أن يبطئ عنها، حتّى بايعه).
إذن، فعليٌّ في رواية سيف الأولى لم يتردَّد ولم يتفكَّر، ولم يعترض أو حتّى أعلن مجرّد رفضه أو استيائه، بل إن رواية سيف تجعل من بيعة (عليٍّ) حادثةً مبكرة جداً في سياق الأحداث التي وقعَتْ بعد انتهاء سقيفة بني ساعدة.
وحتّى يتمّ (سيف) روايته أرفق بها عدداً من الروايات الأكثر عموميّةً، التي لا تختصّ بعليّ بن أبي طالب وحده، بل تشرح وتتناول موقف جميع المسلمين من بيعة أبي بكر.
ففي الرواية الثانية نجد (سيفاً) يؤكِّد أن جميع المسلمين قد بايعوا أبا بكر (إلاّ مرتدٌّ أو مَنْ كاد أن يرتدّ)، ثمّ يؤكِّد مرّةً أخرى على أن جميع الصحابة، والمهاجرين خصوصاً، قد سارعوا إلى بيعة أبي بكر، حتّى أنهم قد تتابعوا على بيعته (من غير أن يدعوهم).
وأما الرواية الثالثة فهي تظهر بعض الخلافات التي دارت في السقيفة بين المهاجرين والأنصار، ولكنّ الرواية ـ كعادة روايات سيف ـ تؤكِّد على (تتابع القوم على البيعة)، كما أنها أكَّدت أن سعدَ بن عبادة، زعيم الأنصار ومرشَّحهم للخلافة، قد بايع هو الآخر.
وأما الرواية الرابعة فتظهر (سعد بن عبادة) أنه قد بايع أبا بكر مُجْبَراً، وذلك في قوله للمهاجرين: (أجبرتموني على البيعة)، ولكنّ سيفاً لا يترك الرواية هكذا، بل إنه يبين خطأ سعد وصحّة وسداد رأي المهاجرين، فنجد أن الرواية تجعل المهاجرين أقوى حجّةً، فعندما يعترض عليهم سعد بشأن إجباره على البيعة يردّون هم بأن هدفهم كان صالح المسلمين والإسلام، ويظهر ذلك في قولهم: (إنا لو أجبَرْناك على الفرقة فصرْتَ إلى الجماعة كنتَ في سَعَةٍ، ولكنّا أجبَرْناك على الجماعة فلا إقالة فيها).
إذن فالرواية تظهر (سعداً) أنه هو الذي حاول أن يفرِّق كلمة المسلمين، ويضرب اتفاقهم على أبي بكر. وإمعاناً في التأكيد على ذلك نجد أن سعداً في الرواية يذكر أن قومه من الأنصار قد انضمّوا إلى أبي بكر، وأجبروه على البيعة.
والشاهد من جميع تلك الروايات أن سيف بن عمر، الذي كان معروفاً بتعصُّبه ومَيْله إلى قريش والمهاجرين، قد حاول أن يصطنع ويختلق سياقاً تاريخيّاً يظهر فيه إجماع جميع المسلمين على خلافة أبي بكر. والحقيقةُ أن روايات سيف في تلك المسألة تتعارض مع الكثير من الروايات الأخرى، التي سنذكرها ونناقشها في الصفحات القادمة، تلك الروايات التي تؤكِّد على وجود معارضةٍ من قِبَل عليّ بن أبي طالب وبعض أنصاره وشيعته ضدّ نتائج اجتماع السقيفة.
كما أن روايات سيف، التي تؤكِّد على أن سعد بن عبادة قد بايع أبا بكر، تتعارض مع العديد من الروايات الأكثر تواتراً وصحّةً ومنطقيّةً، والتي ترى أن (سعداً) لم يبايع أبا بكر، ولم يبايع عمر بن الخطّاب من بعده، وأنه (أي سعد) قد اعتزل جماعة المسلمين، وترك الصلاة معهم، ثمّ رحل إلى بلاد الشام، حيث عاش هناك، وظلّ بها حتى توفي.
وتعتبر مسألة وفاة سعد بن عبادة من أهمّ النقاط التي قد تشير إلى حقيقة موقفه من بيعة أبي بكر وعمر؛ إذ قيل: إن الجنّ قد قامَتْ باغتياله في عام 14هـ، وذلك عندما بال قائماً، وإنهم أنشدوا الشعر في قتله، قائلين:
قد قتَلْنا سيّد الخَزْ *** رَجِ سعد بن عبادَة
رمَيْناه بسَهْمَ *** يْنِ فلم نُخْطئ فؤادَه([95])
ولا رَيْبَ أن تلك الرواية الغامضة حول مقتل سعد تثير الكثير من الشكوك حول ما إذا كان قتله عن طريق تدبيرٍ وتخطيطٍ من السلطة السياسية القائمة حينذاك أم لا، وهو الأمر الذي قد يؤكِّد عدم مبايعته في السقيفة، ومن ثم إثبات زَيْف وبطلان روايات سيف الأربعة السابقة، التي تؤكِّد إجماع المسلمين على بيعة أبي بكر.
روايات الرفض العلويّ ثمّ البَيْعة الاختياريّة
الرواية الأولى: حدَّثني محمد بن عثمان بن صفوان الثقفي قال: حدَّثنا أبو قتيبة قال: حدَّثنا مالك ـ يعني ابن مغول ـ، عن ابن الحرّ قال: قال أبو سفيان لعليٍّ: ما بال هذا الأمر في أقلّ حيٍّ من قريش! والله، لئن شئتَ لأملأنَّها عليه خَيْلاً ورجالاً، قال: فقال عليٌّ: يا أبا سفيان، طالما عادَيْتَ الإسلام وأهله، فلم تضرّه بذاك شيئاً، إنا وجَدْنا أبا بكر لها أهلاً([96]).
الرواية الثانية: حدَّثني محمد بن عثمان الثقفي قال: حدَّثنا أمية بن خالد قال: حدَّثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابت قال: لما استُخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف! قال: فقيل له: إنه قد ولّى ابنك، قال: وَصَلَتْهُ رَحِم([97]).
الرواية الثالثة: حدّثت عن هشام قال: حدَّثني عوانة قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان، وهو يقول: والله، إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟! أين المستضعفان؟! أين الأذلاّن عليٌّ والعبّاس؟! وقال: أبا حسن، ابسط يدك حتّى أبايعك، فأبى عليٌّ عليه، فجعل يتلمَّس بشعر المتلمس:
ولن يقيم على خَسْفٍ يُراد به *** إلاّ الأذلاّن عِيرُ الحيّ والوَتَدُ
هذا على الخَسْف معكوسٌ برُمَّتِه *** وذا يشجّ فلا يبكي له أَحَدُ
قال: فزجره عليٌّ، وقال: إنك والله ما أردْتَ بهذه إلاّ الفتنة، وإنك والله طالما بغَيْتَ الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك([98]).
الرواية الرابعة: قال هشام بن محمد: وأخبرني أبو محمد القرشي قال: لما بويع أبو بكر قال أبو سفيان لعليٍّ والعبّاس: أنتم الأذلاّن! ثمّ أنشد يتمثل:
إن الهوانَ حمارُ الأهل يعرفه *** والحُرُّ يُنْكِرُه والرسلة الأجدُ
ولا يقيم على ضَيْمٍ يُراد به *** إلاّ الأذلاّن عِيرُ الحيّ والوَتَدُ
هذا على الخَسْف معكوسٌ برُمَّتِه *** وذا يشجّ فلا يبكي له أَحَدُ([99])
عرضٌ ونقض
1ـ بالنسبة إلى سند الروايتين الأولى والثانية نجد أنه قد تمّ نقلهما للطبريّ عن طريقٍ واحد، ألا وهو (محمد بن عفّان بن صفوان الثقفي)، ويوجد شبه إجماع بين علماء الحديث أو الجرح والتعديل السنّة على كونه (ثقة)، أو أنه (لا بأس به)([100]). أما بالنسبة إلى الروايتين الثالثة والرابعة فيذكر الطبري أنه أخذ الأولى عن هشام، وأخذ الثانية عن هشام، والمقصود هو (أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي)؛ لأن الطبري قد رجع إليه في الكثير من الروايات، واعتمد عليه في نقل العديد من الأخبار والقصص؛ لما كان له من معرفةٍ وإحاطة بعلوم النَّسَب وأخبار العرب والتاريخ.
فإذا رجَعْنا إلى كتب الرجال وعلم الجرح والتعديل السُّنِّية وجَدْنا أن العديد من تلك الكتابات قد جرحت في (ابن الكلبي)، واعتبرَتْه شيعيّاً رافضيّاً، لا يجوز ولا يصحّ أن يؤخذ منه الحديث أو الأخبار والروايات التاريخية، وأن علم النَّسَب هو العلم الوحيد الذي يمكن أن يُؤخَذ منه([101]).
2ـ تتَّفق الروايات الأربعة على أن (أبا سفيان بن حرب) قد اعترض على بيعة أبي بكر في السقيفة، وأنه قد سارع إلى العبّاس وعليّ بن أبي طالب؛ حتّى يكون أمر الخلافة في يد (بني عبد مناف)، بدلاً من أن تسيطر على الزعامة عشائر ضعيفة خاملة الذكر، كعشيرة تيم بن مرّة أو عديّ، التي ينحدر منهما كلٌّ من: أبي بكر وعمر بن الخطّاب، على الترتيب.
ولكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا: أين كان أبو سفيان وقت اجتماع السقيفة؟ فهل كان في ذلك الوقت موجوداً في المدينة (عاصمة الدولة الإسلامية) أم أنه كان في موطنه الأصلي في مكّة؟
لا تقدِّم لنا الروايات السابقة ردّاً صريحاً على ذلك السؤال. ولكنْ يُفْهَم من سياق الرواية الثانية أن أبا سفيان لم يكن حاضراً في المدينة وقت السقيفة؛ إذ إن الرواية أبرزَتْ اعتراض أبي سفيان على استخلاف أبي بكر، وبعدها تبرِّر قبوله للأمر بأنه قد قيل له: إن أبا بكر قد استخلف ابنه، وهو (يزيد بن أبي سفيان).
ونلاحظ أن هناك مدىً زمنيّاً كبيراً بين أحداث السقيفة وتعيين أبي بكر ليزيد في منصب القيادة على أحد الجيوش الموجَّهة لقتال الروم، فهل كان (أبو سفيان) في تلك الفترة موجوداً في المدينة، ويعلن غضبه ورفضه لولاية أبي بكر، ويذهب إلى عليٍّ والعبّاس ويحرِّضهما ضدّ الخليفة؟
المؤكَّد والمنطقيّ أن إجابة هذا السؤال هي لا، فالخليفة لم يكن ليسمح بوجود مثل تلك المعارضة ضدّه، ولم يكن ليرضى بأن يتدخَّل زعيم الطلقاء في توجيه وإدارة شؤون الدولة الإسلامية.
كما يظهر أن الدَّعْمَ الذي يعرضه (أبو سفيان) على عليّ بن أبي طالب والعبّاس في الروايات الأربعة ـ وخصوصاً في الرواية الأولى، التي يصرِّح فيها زعيم الأمويين بقدرته على حشد الرجال والخيل ضدّ أبي بكر ـ هو دعمٌ غير منطقيّ، وليس بحقيقيٍّ؛ إذ إن أبا سفيان كان زعيماً وقائداً للأمويين في مكّة، ولكنه معدوم السلطة والنفوذ في المدينة، فكيف يعرض المساعدة في أمرٍ هو غير قادر على إتيانه؟!
كما أنه من المؤكَّد أن ما حدث تجاه سعد بن عبادة في السقيفة كان خير شاهدٍ ودليلٍ على قوّة حزب المهاجرين وسطوتهم، وهو لا بُدَّ قد أنذر أبا سفيان وحذَّره من مغبة التدخُّل السياسي أو العسكري.
فسعد بن عبادة كان زعيماً قبليّاً يعتمد على عصبيّة قومه من الخزرج خصوصاً، ومن الأنصار وأهل المدينة عموماً، وبالرغم من ذلك فإنه فقد كلّ هذا في صراعه مع المهاجرين، إذن فكيف يُقْدِم أبو سفيان، وهو الذي طالما عُرف بذكائه وفطنته ودهائه، على الدخول في صدامٍ معهم؟
4ـ إن الأمويين أنفسهم كانوا من أوائل المبايعين لأبي بكر بعد انتهاء اجتماع السقيفة، وتوجد روايةٌ قد ذكرها (الجوهري) في كتابه تقول: إنه بعد السقيفة مباشرةً (اجتمعَتْ بنو أمية إلى عثمان بن عفّان، واجتمعَتْ بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة، فقال: ما لي أراكم ملتاثين، قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايع له الناس، وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومَنْ معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومَنْ معهما، فبايعوا أبا بكر)([102]).
وهذه الرواية تتَّفق مع أغلب الروايات التي قد أورَدْناها من قبلُ في كتابَيْ سُلَيْم بن قيس الهلالي وتاريخ الطبري، والتي ترى أن هناك شبه إجماعٍ قد حدث بين المسلمين على إقرار خلافة أبي بكر ومبايعته.
فإذا كان الأمر هكذا فبأيّ رجالٍ وبأيّ خَيْلٍ كان (أبو سفيان) سينصر عليّ بن أبي طالب وعمَّه العبّاس؟!
5ـ يظهر في الروايات الأربعة السابقة البُعْد القبلي ـ العشائري بشكلٍ واضح، ففي الرواية الأولى ينتقد أبو سفيان أمر الخلافة الذي صار في (أقلّ حيٍّ من قريش)، وفي الروايتين الثانية والثالثة يعلن أبو سفيان تأييده لـ (بني عبد مناف).
كما أن مناشدة زعيم الأمويين لكلٍّ من: عليّ بن أبي طالب والعبّاس بن عبد المطّلب، ووعده إياهما بالنصرة والتأييد، دون غيرهما، يبرز ويؤكِّد على أن الروايات الأربعة قد تمّ وضعها أو اختلاقها أو تعديل أحداثها بفعل عقليّةٍ قبليّةٍ عشائريّةٍ بامتياز.
فمختلق تلك الروايات كان يؤمن بأحقِّية أهل الرسولﷺ في خلافته، وهو هنا لا ينظر إلى أهله بالمعنى الشرعي المخصوص المحدَّد، الذي يراه ويعتقد به الشيعة، بل إنه ينظر إلى أن جميع أقرباء الرسولﷺ هم من أهله، دون تمييزٍ لفئةٍ معيَّنة عن غيرها من الفئات، ولذلك نجد أن الروايات تجمع بين عليٍّ والعبّاس، وتجعل من الاثنين مرشَّحين محتملين للخلافة، دون أن يتميَّز أحدهما عن الآخر.
وبالنسبة إلى تلك النقطة فإنه يحقّ لنا أن نتساءل عن ظروف كتابة تلك الرواية، وتوقيت تدوينها، وهل له علاقة بانتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، إذ إن ظاهر تلك الروايات يؤكِّد أن (أبا سفيان) قد أعلن عن أحقِّية العبّاس (زعيم البيت العبّاسي) بالخلافة، وهو الأمر الذي ـ من المؤكَّد ـ أنه قد أعطى شرعيّةً كبيرةً للعبّاسيين أثناء صراعهم الدامي ضدّ الأمويين على السلطة والخلافة.
6ـ إن الروايات السابقة تؤكِّد على أن عليّ بن أبي طالب قد رفض عرض أبي سفيان بمساعدته ونصرته؛ والرواية الأولى تبرِّر ذلك الرفض بأن (أبا سفيان طالما عاد الإسلام وأهله)؛ أما الرواية الثالثة فتبرِّر ذلك بسعي أبي سفيان إلى الفتنة.
والحقيقةُ أن تلك الأسباب والمبرِّرات تتَّسق وتتَّفق مع الكثير من الروايات التي يظهر منها أن عليّ بن أبي طالب كان يبحث عن تأييد المسلمين السابقين والأولين من أهل بدر ومَنْ شابههم، دون أن يحاول طلب المساعدة من حديثي العهد بالإسلام، من الطلقاء والأعراب.
7ـ إن شخصيّة (محمد بن عثمان بن صفوان الثقفيّ) تظهر بشكلٍ واضح في الرواية الأولى؛ حيث إنه يورد في إحدى الروايات تلك الجملة على لسان عليٍّ، وهي: (إنا وجَدْنا أبا بكرٍ لها أهلاً)، وهي جملةٌ تتَّفق وتتَّسق مع العقلية السنّية التي ترى أن عليّ بن أبي طالب قد وافق على خلافة أبي بكر، ولم يعترض.
أما شخصيّة (هشام بن محمد بن الكلبيّ)، على النحو الذي ذكره المؤرِّخون وأهل الجرح والتعديل، فلا تظهر إطلاقاً في الرواية الثالثة، التي يرويها هو نفسه، فكيف يكون (ابن الكلبيّ) شيعيّاً رافضيّاً وفي الوقت نفسه يروي أن عليّاً قد قال لأبي سفيان: إن عرضه بالثورة على أبي بكر مجرّد (فتنة)، وإنه شرٌّ على الإسلام؟ فإن الرافضة يؤمنون بغير ذلك، ويعتقدون أن الفتنة ـ كلّ الفتنة ـ كانت في نتائج السقيفة، وفي خلافة أبي بكر، وإبعاد عليّ بن أبي طالب عن الأمر.
روايات رفض عليٍّ للبَيْعة وإجباره عليها
الرواية الأولى: حدَّثنا ابن حميد قال: حدَّثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد بن كليب قال: أتى عمر بن الخطّاب منزل عليٍّ، وفيه طلحة والزبير ورجالٌ من المهاجرين، فقال: والله، لأحرقَنَّ عليكم أو لتخرجُنَّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مُصْلِتاً بالسيف، فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه، فأخذوه([103]).
الرواية الثانية: حدَّثنا زكريّا بن يحيى الضرير قال: حدَّثنا أبو عوانة قال: حدَّثنا داوود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: …فبايع الناس، واستثبتوا للبيعة، وتخلَّف عليٌّ والزبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يُبايَع عليٌّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر، قال: فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعبا، وقال: لتبايعانّ وأنتما طائعان، أو لتبايعانّ وأنتما كارهان، فبايعا([104]).
الرواية الثالثة: حدَّثني عليّ بن مسلم قال: حدَّثنا عباد بن عباد قال: حدّثنا عباد بن راشد قال: حدَّثنا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، عن عمر بن الخطّاب أنه قال: وإنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيَّهﷺ أن عليّاً والزبير ومَنْ معهما تخلَّفوا عنّا في بيت فاطمة، وتخلَّفَتْ عنّا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلتُ لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار…([105]).
الرواية الرابعة: حدَّثنا أبو صالح الضراري قال: حدَّثنا عبد الرزّاق بن همام، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة والعبّاس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول اللهﷺ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك، وسَهْمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: أما إني سمعتُ رسول اللهﷺ يقول: لا نورِّث، ما تركنا فهو صدقةٌ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال. وإني والله لا أَدَعُ أمراً رأَيْتُ رسول اللهﷺ يصنعه إلاّ صنعتُه، قال: فهجَرَتْه فاطمة، فلم تكلِّمه في ذلك حتّى ماتَتْ، فدفنها عليٌّ ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وكان لعليٍّ وجهٌ من الناس حياة فاطمة، فلما توفِّيت فاطمة انصرفَتْ وجوه الناس عن عليٍّ، فمكثَتْ فاطمة ستّة أشهر بعد رسول الله، ثم توفِّيَتْ.
قال معمر: فقال رجلٌ للزهري: أفلم يبايعه عليٌّ ستّة أشهر! قال: لا، ولا أحدٌ من بني هاشم، حتّى بايعه عليٌّ. فلما رأى عليٌّ انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا يأتينا معك أحدٌ، وكره أن يأتيه عمر؛ لما علم من شدّة عمر، فقال عمر: لا تَأْتِهم وحدك، قال أبو بكر: والله لآتينَّهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي، قال: فانطلق أبو بكر، فدخل على عليٍّ، وقد جمع بني هاشم عنده، فقام عليٌّ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنه لم يمنَعْنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكارٌ لفضيلتك، ولا نفاسةٌ عليكَ بخيرٍ ساقه الله إليك، ولكنّا كنّا نرى أن لنا في هذا الأمر حقّاً، فاستبدَدْتُم به علينا، ثمّ ذكر قرابته من رسول اللهﷺ وحقّهم، فلم يزَلْ عليٌّ يقول ذلك، حتّى بكى أبو بكر، فلمّا صمت عليٌّ تشهَّد أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: أما بعد، فوالله لقرابة رسول الله أحبّ إليَّ أن أصل من قرابتي، وإني والله ما آلوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير، ولكنني سمعْتُ رسول اللهﷺ يقول: (لا نورِّث، ما تركنا فهو صدقةٌ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال)، وإني أعوذ بالله لا أذكر أمراً صنعه محمد رسول اللهﷺ إلاّ صنعتُه فيه إنْ شاء الله. ثمّ قال عليٌّ: موعدك العشيّة للبيعة، فلمّا صلّى أبو بكر الظهر أقبل على الناس، ثمّ عذر عليّاً ببعض ما اعتذر، ثمّ قام عليٌّ فعظّم من حقّ أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثمّ مضى إلى أبي بكر فبايعه، قال: فأقبل الناس إلى عليٍّ فقالوا: أصبْتَ وأحسنْتَ، قال: فكان الناس قريباً إلى عليٍّ حين قد قارب الحقّ والمعروف)([106]).
مقاربةٌ واقعيّة لأسباب الاختلاف
1ـ عدد روايات هذا القسم أربع روايات. ونلاحظ أن الروايات الثلاثة الأولى تقدِّم وجهة نظرٍ تختلف كثيراً عن وجهة النظر التي تقدِّمها الرواية الرابعة:
فنجد أن الروايات الثلاثة الأولى تتَّفق على أن (عليّاً) وبعض أنصاره ومؤيِّديه قد امتنعوا عن مبايعة أبي بكر، واعتقدوا بأحقِّية (عليّ بن أبي طالب) في الخلافة. أما الرواية الرابعة فإنها ترسم صورةً مختلفة للقصّة، فهي تقرِّر أن تخلُّف عليٍّ عن بيعة أبي بكر ليس بسبب اعتقاده بأحقِّيته بخلافة الرسولﷺ ولكنْ بسبب أن أبا بكر قد رفض أن يعطي ميراث الرسولﷺ لأهله وأقربائه.
وبناءً على التصوُّرين المختلفين لقصّة رفض عليٍّ لبيعة أبي بكر نجد أن هناك تصوُّرين مكمِّلين لوجهتَيْ النظر في ما يتعلَّق بأنصار عليٍّ في الحالتين:
ففي الروايات الثلاثة الأولى نجد أن أنصار عليّ بن أبي طالب هم: (طلحة والزبير ورجال من المهاجرين)، في الرواية الأولى؛ (الزبير)، في الرواية الثانية؛ (الزبير ومَنْ معه)، في الرواية الثالثة.
فالروايات الثلاث لم تذكر اشتراك أيّ رجلٍ من بني هاشم في تأييد ونصرة عليّ بن أبي طالب، وحتّى عمّه العبّاس بن عبد المطّلب لم يتمّ ذكره في أيّ رواية.
أما الرواية الرابعة، والتي تقدِّم تصوُّراً مختلفاً للقصة، فهى تجعل أنصار عليٍّ من أقربائه، من عشيرة بني هاشم، وتصرِّح الرواية بذلك عندما يذكر الزهري أن جميع الهاشميين لم يبايعوا أبا بكر إلاّ بعد مبايعة عليّ بن أبي طالب له، بعد ستّة أشهر كاملة من استخلافه في السقيفة.
ولم تذكر الرواية أسماء أيّ شخص آخر كان يساند عليّاً في موقفه، فحتّى الزبير بن العوّام، الذي تتَّفق الروايات الثلاثة الأولى على نصرته وعصبيّته لعليٍّ، لا نجد اسمه على الإطلاق في الرواية الرابعة.
2ـ تنفرد الرواية الثانية بذكر اسم (طلحة بن عبيد الله) وسط أسماء الصحابة الذين تشيَّعوا لعليّ بن أبي طالب، ورفضوا مبايعة أبي بكر.
وفي رأيي إن إضافة اسم (طلحة) للرواية خطأٌ كبير، قد حدث من أحد الرواة؛ وذلك لعدّة أسباب:
السبب الأوّل: انفراد تلك الرواية بذكر اسم طلحة في مَنْ وقف في صفّ عليٍّ، فلو رجَعْنا إلى جميع الروايات التي أورَدْناها في هذا البحث، والمتعلِّقة بهذا الموضوع، سواء في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي أو في كتاب تاريخ الرُّسُل والملوك، للطبري، لن نجد أيّ روايةٍ تتوافق مع تلك الرواية.
السبب الثاني: إن (طلحة بن عبيد الله) كان من أقرب الناس إلى أبي بكر، فقد كان أبو بكر هو الذي دعاه للدخول إلى الإسلام، وهو الذي أخذه إلى الرسولﷺ، وقدَّمه إليه، وفوق كلّ ذلك فإن طلحة بن عبيد الله من قبيلة تيم بن مرّة، وهي نفس قبيلة أبي بكر، ومن المنطقيّ والمعقول أن طلحة كان أحد أوائل المبايعين لأبي بكر بعد السقيفة؛ لأن الدوافع القبلية والعصبية، التي كانت سائدة في المجتمع الإسلامي حينذاك، لا بُدَّ أن تدفع طلحة إلى تقديم قريبه على أيّ مرشّحٍ آخر لمنصب الخلافة.
السبب الثالث: إنه على مدار الفترة الواقعة ما بين حادثة السقيفة في عام 11هـ وحتّى استخلاف عليّ بن أبي طالب في عام 35هـ، لم يُعْرَف (طلحة) مطلقاً بأنه قد تشيَّع أو أيَّد عليّ بن أبي طالب، وادَّعى أنه الأحقّ بالخلافة، وكذلك لو رجَعْنا إلى العلاقة ما بين طلحة وعليٍّ قبل وفاة الرسولﷺ فإننا سنجد أنه لا توجد علاقةٌ قوية تجمع بين الرجلين، مثل العلاقة التي جمعَتْ بين عليٍّ من جهةٍ والزبير وسلمان وعمّار وجابر بن عبد الله والمقداد بن عمرو من جهةٍ أخرى.
فكيف إذن تمّ إقحام اسم طلحة بن عبيد الله في الرواية؟! وهل يوجد سببٌ منطقيّ يستطيع أن يفسِّر لنا ذلك؟!
الحقيقة أن الرواية قد تمّ تعديلها ـ أو كتابتها فيما يبدو ـ بعد خلافة عليّ بن أبي طالب في عام 35هـ، وما حدث بعد ذلك من خروج طلحة والزبير ونكثهما لبيعته، وكعادة الأخباريين المسلمين القدامى خصوصاً، والمؤرِّخين وأصحاب القصص والأخبار عموماً، إنْ كان هناك اتجاهٌ واضح يحتِّم ضرورة خلق خلفيّة تاريخيّة لجميع الأحداث التي ستتمّ وتقع في مستقبل الأيام. وقد جَرَتْ العادة أن يكون هناك سياقين للخلفيّة التاريخيّة للحادثة:
السياق الأوّل: هو أن تكون الخلفية التاريخية المختلفة متّفقة ومتلائمة مع الأحداث المستقبلية.
السياق الثاني: هو أن تكون الخلفية التاريخية متضادّة ومعاكسة تماماً لما سيلحق بها من أحداث مستقبلية.
وفي روايتنا هذه نجد أنه قد تمّ استخدام السياق الثاني، الذي تختلف به المقدّمات المختلقة عن النتائج الحقيقيّة، فما هو السبب الذي حتَّم استخدام هذا السياق، دون غيره، في تلك الرواية؟
في رأيي إن السبب في ذلك إما أن أحد الرواة الموجودين في سند الرواية كان هواه شيعيّاً رافضيّاً، فأراد بإدخال طلحة في الرواية أن يؤكِّد على خطئه وعثرته، وتبدُّل مبادئه ومعتقداته؛ وإما أن يكون أحد الرواة قد توهَّم فأدخل طلحة في الرواية عن طريق الخطأ، وخصوصاً أنه بمراجعة الكثير من الروايات التي تذكر طلحة وتترجم له سنلاحظ أن اسم طلحة غالباً يقترن باسم الزبير في الكثير من المواقف.
وأعتقد أن الاحتمال الثاني هو الأكثر قابليّةً للتصديق، وخصوصاً أنه بمراجعة أسماء رواة الرواية في كتب الجرح والتعديل سوف نجد أنه لا يوجد أيّ واحدٍ منهم قد اتُّهم بتشيُّعه.
3ـ الرواية الثالثة وردَتْ في كتاب الحدود، وأخرجها البخاري في صحيحه، حديث رقم 6830، وهذا الأمر يزيد من مصداقيّتها، كما يزيد من صدق السياق التاريخي الذي تشترك فيه الروايات الثلاثة الأولى.
ولكنْ في الوقت نفسه نجد أن الرواية الرابعة قد أخرجها البخاري أيضاً في صحيحه، حديث رقم 1759، وهو الأمر الذي يعطيها نفس المصداقية التي أعطَيْناها للرواية السابقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تمّ التوفيق بين الروايتين في أهمّ كتب الحديث عند أهل السُّنَّة والجماعة؟ ولماذا لا نوافق نحن في بحثنا هذا على التوفيق بينهما؟
للإجابة عن السؤال الأوّل يجب أن نرجع إلى الروايتين؛ ففي الرواية الثالثة لا يوجد ذكرٌ لمسألة بيعة عليّ بن أبي طالب لأبي بكر؛ ذلك أن عمر بن الخطّاب يقول: (إن عليّاً والزبير ومَنْ معهما تخلَّفوا عنّا في بيت فاطمة، وتخلَّفت عنّا الأنصار بأَسْرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار…)، وتستكمل الرواية بأحداث السقيفة وبيعة أبي بكر فيها، دون أن تعود مرّةً أخرى إلى مناقشة موقف عليٍّ من البيعة؛ إذ إن الرواية تظهر أن اجتماع الزبير مع عليٍّ في بيت فاطمة كان قبل السقيفة، لا بعدها.
فإذا انتقَلْنا إلى الرواية الرابعة وجَدْنا أنها تناولت موقف عليٍّ بعد السقيفة، وكيف أنه قد تخلَّف ستّة أشهر كاملة عن البيعة، حتّى توفِّيت فاطمة، فقام عندها بمبايعة أبي بكر.
بهذه الطريقة البسيطة تحلّ الإشكاليّة، ويتمّ التوفيق بين الروايتين، فتصبح الأولى مقدّمةً، والثانية خاتمةً.
ولكنّ الأمر الذي نعترض عليه في تلك العملية التوفيقية هو ما يمكن أن نسميه بـ (إهمال السياق الروائي).
فقد أشَرْنا في الملاحظة الأولى من الملاحظات الخاصّة بروايات ذلك القسم إلى أن هناك سياقاً تاريخيّاً، تتكامل وتتضافر فيه الروايات الثلاثة الأولى، وتتَّسق مع بعضها، وأن هناك سياقاً آخر مختلفاً، تدور فيه أحداث الرواية الرابعة.
ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن نهمل ذلك الاختلاف، وأن نحاول التوفيق بين تلك الروايات، وتأليفها، لاستنقاذ معيارية وحجّية صحّة السند التي تتميَّز بها كلٌّ من الروايتين الثالثة والرابعة.
وسوف أحاول في الجدول التالي أن أوضِّح نقاط الاختلاف بين سياقَيْ كلٍّ من الروايتين المشار إليهما:
ومن النقاط التي تتَّفق عليها الروايات الأربعة أن (عمر بن الخطّاب) كان هو صاحب الدَّوْر الأكبر في العمل لإخضاع عليّ بن أبي طالب وشيعته لسلطة خليفة السقيفة، فلو رجَعْنا إلى الرواية الأولى لوجَدْنا أن عمر قد هدَّد عليّاً وشيعته بأنه سيحرق عليهم الدار إنْ لم يبايعوا، وفي الرواية الثانية يعلن عمر صراحةً أنه لا بُدَّ من مبايعة هؤلاء النفر لأبي بكر، سواء كان ذلك بالجَبْر أو بالاختيار.
أما الرواية الرابعة فهي تشير إلى نفس المضمون، ولكنْ بطريقةٍ أقلّ وضوحاً؛ ذلك أن الرواية تذكر أنه لما أرسل عليّ بن أبي طالب إلى أبي بكر؛ ليأتيه، فإنه أبلغه (أن ائتنا، ولا يأتينا معك أحدٌ، وكره أن يأتيه عمر؛ لما علم من شدّة عمر).
خاتمةٌ واستنتاج
استطَعْتُ في هذا البحث أن أصل إلى عددٍ من النتائج المهمّة، التي حاولْتُ أن أبيِّنها وأظهرها، وأدلِّل على صحتها. ومن أهمّ تلك النتائج:
1ـ أن أوضِّح أن الكثير من الروايات التي وردت في كتابَيْ سُلَيْم بن قيس الهلالي وتاريخ الرُّسُل والملوك، للطبري، هي رواياتٌ غير حقيقية وغير واقعية، وتبتعد كثيراً عن الصحة التاريخية؛ إذ إن الكثير من تلك الروايات يعارض وينافي بعضه بعضاً، ممّا يؤكِّد أن بعض تلك الروايات حقيقةٌ، وبعضها كذبٌ؛ إذ لا يمكن أن نعتقد بصحة وصدق روايات تقدِّم لنا صوراً متناقضة للأحداث التاريخية.
2ـ بالرغم من توثيق الكثير من العلماء والباحثين الشيعة لكتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، واعتقادهم بصدقه وحقيقة الأحداث التاريخية المثبتة في متنه، إلاّ أننا ننظر بعين الشكّ والرِّيبة إلى هذا الكتاب؛ فإنه بمراجعة الروايات المتعلِّقة بموضوع السقيفة وموقف عليّ بن أبي طالب وشيعته من نتائجها يتبين لنا أن هناك عدداً من الروايات المتعارضة، والتي يكذِّب ويضعِّف بعضها بعضاً.
فإذا رجعنا إلى الروايتين المذكورتين في الكتاب بخصوص موضوع البحث سوف نلاحظ التالي:
إذن فلا يمكن أن نعتقد بأن (سُلَيْم بن قيس) نفسه هو الذي قام برواية الروايتين، فأغلب الظنّ أنه قد روى لـ (أبان بن أبي عيّاش) روايةً واحدة فقط، وهي الرواية التي أثبتها (أبان) في الكتاب، ثمّ تمَّتْ إضافة الرواية الثانية في فترةٍ لاحقة، وتمّ حَشْوها في الكتاب، ونسبتها إلى (سُلَيْم بن قيس).
ولا نستطيع أن نحدِّد في هذا البحث أيّ روايةٍ من الروايتين هي الرواية الأصلية التي وضعها سُلَيْم بنفسه، وأيّ راويةٍ هي التي أُضيفت إلى كتابه في زمنٍ لاحق؛ إذ إن عملية التدقيق والفرز تلك تحتاج إلى دراسة الكتاب ككلٍّ، وتقسيم جميع الروايات الواردة فيه، ودراستها وفق منظورٍ تاريخيّ مجرّد ـ وبعيداً عن النزعات المذهبية ـ، حتّى يتسنّى لنا معرفة الروايات الأصلية من الروايات المضافة، وهو أمرٌ ليس في إمكاننا أن نتمّه الآن، ويحتاج إلى بحثٍ آخر منفصل.
3ـ بالنسبة إلى الروايات التي وردَتْ في كتاب تاريخ الرُّسُل والملوك، لابن جرير الطبري، فقد قُمْنا بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: ويشمل الروايات التي ذكرت أن (عليّ بن أبي طالب) قد سارع إلى مبايعة أبي بكر.
وقد أوضَحْنا كذب وفساد تلك الروايات؛ بسبب أنها ـ كلّها ـ مرويّةٌ عن سيف بن عمر التميمي، الذي ذكَرْنا رأي العديد من العلماء السنّة فيه، وكيف أنهم جرحوه، وأوضحوا كذبه وعدم حجِّية الروايات والأحاديث التي يرويها.
القسم الثاني: ويشمل الروايات التي ذكرت أن (أبا سفيان) قد عرض المساعدة والنصرة على عليّ بن أبي طالب، وأن عليّاً قد رفض، وبايع أبا بكر حُرّاً، بدون جَبْرٍ.
وقد بيَّنا أنه في تلك الروايات العديد من الأخطاء التاريخيّة، التي تعارض حدوثها، مثل:
ـ عدم وجود أبي سفيان في المدينة وقت حدوث البيعة.
ـ لم يكن عند أبي سفيان بن حرب في ذلك الوقت من القوّة والنفوذ ما يستطيع به أن يتدخَّل عسكريّاً وحربيّاً؛ لنصرة طرفٍ على طرفٍ آخر.
ـ كان بنو أمية أوّل الناس الذين بايعوا أبا بكر.
وحاولْتُ أن أصل إلى أصل تلك الروايات، وسبب انتشارها، فتوصَّلْتُ إلى أن تلك الروايات قد تمّ اختلاقها في بدايات العصر العبّاسي، أثناء الصراع مع الدولة الأموية، وبعد ذلك مع العلويين، عندما وجد العبّاسيون أنهم في حاجةٍ ماسّة لتبرير وجودهم على قمّة الهَرَم السياسيّ للدولة، بدون الاعتماد على التراث الديني ـ السياسي العلوي، فقاموا بنشر تلك الروايات؛ لتبرير شرعيّتهم.
القسم الثالث: ويشمل الروايات التي تذكر أن عليّ بن أبي طالب رفض مبايعة أبي بكر، وأن البيعة قد تأخَّرت. فعرضْتُ للروايات الأربع الموجودة في ذلك القسم، وبيَّنْتُ أن هناك ثلاث رواياتٍ تتماشى مع بعضها البعض في سياقٍ واحد، أما الرواية الرابعة فإنها تندرج تحت سياقٍ آخر.
4ـ في ختام ذلك البحث سوف أضع في نقاطٍ مختصرة أهمّ ما خلصْتُ إليه:
ـ إن عليّ بن أبي طالب اعتقد أنه الأحقّ بخلافة الرسولﷺ.
ـ إن هناك نوعين من الرجال قد ناصروا عليّاً: النوع الأوّل: وهم من أصحابه الذين اعتقدوا بأحقِّيته في الخلافة؛ والنوع الثاني: وهم من أقربائه الذين عزَّ عليهم أن يخرج أمر الحكم والسلطان من بني هاشم إلى غيرها من القبائل والبطون القرشيّة.
ـ إن زعماء المهاجرين حرصوا على الذهاب إلى سقيفة بني ساعدة، دون أن يحضر عليّ بن أبي طالب معهم؛ إذ إنه لو كان حضر معهم لكان من المحتَّم أن تتغيَّر نتائج السقيفة.
ـ كان الصدام بين المهاجرين والأنصار في السقيفة عنيفاً إلى أقصى حدٍّ، ولولا انضمام عددٍ من عناصر الأَوْس إلى الجانب والصفّ القرشيّ فإنه لم يكن المهاجرين يستطيعون أن يحسموا أمر استخلاف أبي بكر.
ـ إن عليّ بن أبي طالب وأنصاره لم يبايعوا أبا بكر بالخلافة في أوّل الأمر.
ـ إن (عمر بن الخطّاب) هو الذي ألحّ على (أبي بكر) باستدعاء عليٍّ؛ ليتمّ البيعة، وإن عمر كان هو الطرف الأكثر شدّةً وعُنْفاً في الحزب القرشيّ ضدّ عليٍّ وشيعته
ـ تمّ إجبار عليٍّ وأصحابه على بيعة أبي بكر.
الهوامش
(*) كاتبٌ وباحثٌ متخصِّصٌ في التاريخ الإسلاميّ والحركات السياسيّة والمذهبيّة. من مصر.
([1]) أبو زرعة الرازي، الضعفاء والكذّابين والمتروكين: 72، تحقيق: أبو عمر محمد بن علي الأزهري، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة، 2009م.
([2]) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، كتاب الضعفاء والمتروكين: 123، تحقيق: مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1985م.
([3]) أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حمّاد العقيلي المكّي، الضعفاء الكبير 2: 175، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت.
([4]) ابن حِبّان البستي، المجروحين من المحدِّثين 1: 439.
([5]) أبو أحمد عبد الله بن عديّ الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال 4: 507، دار الكتب العلمية، بيروت.
([6]) أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين، تاريخ أسماء الضعفاء والكذّابين: 100، تحقيق: د. عبد الرحيم محمد أحمد القشقري.
([7]) أبو الحسن عليّ بن عمر الدارقطني البغدادي، الضعفاء والمتروكون: 243، دراسة وتحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر، مكتبة المعارف، الرياض، 1984م.
([8]) الحاكم النيسابوري، المدخل إلى الصحيح 1: 171 ـ 172، دار الإمام أحمد، القاهرة، 2009م.
([9]) أبو نعيم الإصبهاني، الضعفاء: 91.
([10]) شمس الدين الذهبي، المغني في الضعفاء 1: 419.
([11]) الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3: 353، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995م.
([12]) ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان 4: 222، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 2002م.
([13]) للمزيد حول ترجمة الإمام الزُّهْري راجع: ابن سعد، الطبقات الكبير 7: 429 ـ 432؛ ابن حِبّان، تقريب الثقات: 1115 ـ 1116؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء 5: 326 ـ 342؛ الذهبي، تذكرة الحفّاظ: 108 ـ 109.
([14]) يحيى بن إبراهيم بن على اليحيى، مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري: 27 ـ 30، دار العاصمة، الرياض.
([15]) أبو العباس أحمد النجاشي، رجال النجاشي: 306.
([16]) ومنها، على سبيل المثال: النجاشي، رجال النجاشي: 306.
([17]) العقيلي المكّي، الضعفاء الكبير 4: 19.
([18]) الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال 7: 241.
([19]) ابن شاهين، تاريخ أسماء الضعفاء والكذّابين: 162.
([20]) الدارقطني، الضعفاء والمتروكون: 333.
([21]) الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال 5: 508.
([22]) الذهبي، المغني في الضعفاء 2: 135.
([23]) ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان 6: 430.
([24]) سُلَيْم بن قيس، كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 143، تحقيق: محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني، مطبعة الهادي، قم.
([25]) المصدر السابق: 144 ـ 145.
([27]) ابن جرير الطبري، تاريخ الرُّسُل والملوك 3: 256 ـ 257، تقديم ومراجعة: صدقي جميل العطّار، دار الفكر، بيروت، 2010م.
([30]) كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 138.
([31]) المصدر السابق: 138 ـ 139.
([35]) للمزيد حول ترجمة البراء بن عازب راجِعْ: ابن الأثير، أُسد الغابة في معرفة الصحابة: 105 ـ 106، دار ابن حزم، بيروت، 2012م.
([36]) كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 144.
([56]) للمزيد حول ترجمة سلمان الفارسي راجِعْ: ابن عبد البرّ، الاستيعاب في أسماء الأصحاب 2: 380 ـ 383، دار الفكر، بيروت، 2006م؛ ابن الأثير، أُسد الغابة في معرفة الصحابة: 499 ـ 502.
([57]) لويس ماسينون، شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام: 4 ـ 46، ط2، ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1964م.
([58]) ابن كثير، البداية والنهاية 10: 505، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الرياض.
([59]) صحيح مسلم، حديث رقم 2494.
([60]) ابن الأثير، الكامل 2: 16.
لاحِظْ علاقة ذلك العدد (313) بالكثير من العقائد الشيعيّة، مثل: عدد أنصار المهديّ بعد خروجه من الغيبة الكبرى (الباحث).
([61]) جعفر مرتضى العاملي، دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام 1: 107، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
([62]) الذهبي، تذكرة الحفّاظ: 17.
([63]) جعفر مرتضى العاملي، دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام 1: 107.
([65]) كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 146، 148، 156، 158، 161، 162.
([66]) راجع هامش رقم (2) في كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 162.
([67]) ابن عبد البرّ، الاستيعاب في أسماء الأصحاب 2: 170.
([68]) ابن الأثير، الكامل 2: 272.
([69]) ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية: 78.
([70]) الطبري، تاريخ الرُّسُل والملوك 5: 77
([71]) كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 148
([72]) راجِعْ: الطبراني، المعجم الكبير، حديث رقم 46.
([73]) الحاكم، المستدرك 3: 137.
([74]) المتقي، كنـز العمال 6: 157.
([75]) الهيثمي، مجمع الزوائد 9: 121.
([76]) كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي: 149.
([85]) المصدر السابق: 156 ـ 157.
([89]) الطبري، تاريخ الرُّسُل والملوك 3: 257.
([93]) أكرم بن محمد الفالوجي، معجم شيوخ الطبري: 340، دار ابن عفّان، القاهرة، 2005م.
([95]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 1: 277.
([96]) الطبري، تاريخ الرُّسُل والملوك 3: 258.
([98]) المصدر السابق 3: 258 ـ 259.
([100]) الفالوجي، معجم شيوخ الطبري: 542.
([101]) على سبيل المثال راجِعْ: الذهبي، سير أعلام النبلاء 10: 101 ـ 103.
([102]) الجوهري، السقيفة وفَدَك: 60، تقديم وجمع وتحقيق: محمد هادي الأميني، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.