أ. مشتاق بن موسى اللواتي(*)
مقدّمةٌ
تلفت نظر الباحث ظاهرة تعدُّد الاتجاهات في المجالات المعرفية الدينية، كالكلام والحديث والفقه والأصول، والتي برزت في المسيرة الفكرية لمدرسة أهل البيت^.
ولا رَيْبَ أن منطق التاريخ يقضي أن لا تكون هذه الظاهرة برزَتْ إلى السطح بشكلٍ مفاجئ، أو حدثَتْ في ساعتها دون وجود خلفيات وعوامل ممهّدة سابقة، اعتملت عبر فترةٍ زمنية معينة، وانتهَتْ إلى تبلورها وظهورها للعيان في فترةٍ لاحقة.
ومن الطبيعي أن تكون هذه الظاهرة محصّلةً لمجموعة العوامل والأسباب الطبيعية والثقافية والظروف الموضوعية التي مرَّتْ بها مسيرة أهل البيت وأتباعهم.
وهذا يستدعي منا المرور بالمشهد الثقافي والمناخ التاريخي والسياسي الذي شهد بدايات تكوُّن أطياف التفكير المتنوِّعة بين أصحاب أئمّة أهل البيت؛ لتلمُّس أبرز العوامل والخلفيّات ألتي أسهَمَتْ بفاعليّةٍ في تكوينها، وكذلك الوقوف على الموارد التي دار الجَدَل الداخلي حولها. وسنحاول في هذا البحث التعرُّف على أبرز العوامل والقضايا التي كانت مثار جَدَلٍ، وذلك عبر المحاور التالية:
أوّلاً: عوامل تعدُّد الاتجاهات والأطياف
1ـ البيئة الفكريّة
شهدت البيئة الفكريّة التي عاصرها أصحاب الأئمّة، من فقهاء ومتكلِّمين ومحدِّثين، في بعض المراحل، وبالأخصّ في عهدَيْ الإمامين أبي جعفر محمد الباقر(114هـ) وأبي عبد الله جعفر الصادق(148هـ)، حراكاً فكرياً تفاعلياً بين تيارات الفكر المختلفة في حواضر العرب والمسلمين.
وخلال هذه الفترة تُرجمَتْ كتب الفلسفات الوافدة، وانفتح المسلمون على الفكر الفلسفي الوافد. وطُرحت على المسلمين أسئلةٌ جديدة في التوحيد والعدل والذات والصفات والقِدَم والحدوث والخير والشرّ والجَبْر والاختيار والحُسْن والقُبْح وماهية الوَحْي والنبوّة وحقيقة البعث والمعاد وما شاكل. وعلى صعيد الفقه دار جَدَل بين اتجاهات أهل الحديث والرأي والقياس والنظر حول مصادر التشريع والعلاقة بينها.
وطُرحَتْ تساؤلات وإشكالات في مختلف المجالات المعرفية الدينية، وراجَتْ مجالس الجَدَل وحلقات المناظرة، وظهرَتْ مقالات تتنازع حول العدل والظلم والقَدَر والجَبْر والاختيار والتفويض والتجسيم والتشبيه والتنزيه.
وغدا المشهد الفكري يضجّ بالمقالات الكلامية والتساؤلات الجَدَلية والآراء الفقهية، وتنوَّعَتْ منظورات الأجوبة، وتداخلت بين المعقول والمنقول، وتمازجت بين الأصيل والدخيل.
وقد أفضى هذا الحراك بشكلٍ طبيعي إلى توليد الآراء وتفريع المسائل، ومن ثم إلى تمدُّد الأفكار وتنوُّعها.
وفي النتيجة حدث شكلٌ من أشكال الفرز؛ فهناك مَنْ وجد نفسه أميل وأقرب إلى المعقول؛ وهناك مَنْ اتَّجه نحو المنقول؛ وهناك مَنْ حاول التوفيق والمزج بينهما.
وفي هذا المناخ الفكري ليس بِدْعاً أن تتفاوت الأنظار في المجالات الروائية والفقهية والتفسيرية والفكرية بين أصحاب أئمّة أهل البيت، وهم يعايشون المشهد ويتفاعلون معه، بل هو أشبهُ باختلاف أهل الفقه والأصول والحديث والكلام في مختلف العصور.
وقد تواصل الحراك الفكري بين الفقهاء والمتكلِّمين من أصحاب الأئمّة بعد عصرَيْ الإمامين أبي جعفر محمد الباقر وأبي عبد الله جعفر الصادق ـ على تفاوتٍ وحَسْب الظروف السياسية والفكرية ـ، مروراً بعصر الأئمّة الذين جاؤوا بعدهما، كالإمامين موسى بن جعفر الكاظم(183هـ) وعليّ بن موسى الرضا(203هـ)، وانتهاءً بالأئمّة المتأخِّرين، كالإمام محمد بن عليّ الجواد(220هـ) والإمام عليّ بن محمد الهادي(254هـ) والإمام الحسن بن عليّ العسكري(260هـ)، وحتّى نهاية عصر الغيبة الكبرى للإمام المهديّ# عام 329هـ.
وترسَّخَتْ خلال هذه الفترة المعالم الفكرية والفقهية والكلامية لمدرسة أهل البيت، وانتشرت المفاهيم العقائدية والأحكام الفقهية بشكلٍ أوضح من ذي قبل بين أتباعهم. وظهرَتْ ملامح عامة لتباينات فكرية واجتهادية في بعض المساحات في التفسير والحديث والأصول والكلام والفقه في الوسط الشيعي، وتنامَتْ مع الزمن، مشكّلةً اتجاهات فكرية وفقهية وحديثية متعدّدة.
2ـ خلفيّاتٌ فكريّةٌ متعدِّدةٌ
اللافت للنظر في المصادر الروائية والتاريخية أن جماعةً من أصحاب الأئمّة ورواتهم، حتّى الذين كانت تجمعهم جوامع فكرية عامّة، لم يكونوا يمثِّلون لوناً واحداً من الأفكار والآراء والاهتمامات.
وكانت تثور بينهم اختلافات في الأفكار والآراء، سواء في الفقه أو الكلام والحديث والتفسير والتأويل؛ نظراً لأن بعضهم كان من خلفيّاتٍ فكرية وفقهية متنوعة، ومن أصول اجتماعية ومواطن جغرافيّة متعددة، ومن الطبيعي أن تكون أفهامهم ومستوياتهم متفاوتة، الأمر الذي يؤثِّر على اهتماماتهم الكلامية وميولهم الفقهية.
وهذه العوامل انعكسَتْ بدَوْرها أيضاً على تنوُّع نظراتهم تجاه أئمّة أهل البيت^.
فقد قيل: إن هشام بن الحكم كان قبل ارتباطه بالإمام جعفر يرى رأي الجهمية([1]). وقيل: إنه كان من غلمان (تلامذة) أبي شاكر الديصاني([2]). وإن شكَّك بعض الباحثين في ذلك([3]). وكان بعض أصحابهم ـ قبل الالتحاق بهم ـ يتبنّى منهجاً فقهياً مغايراً، مثل: زرارة بن أعين وحمران بن أعين وحمزة الطيّار، الذين تتلمذوا قبل ذلك على الحكم بن عتيبة، وتأثَّروا بآرائه ونهجه الفقهي([4]). وهناك جملةٌ من الرواة تحوَّلوا من تيارٍ فقهيّ وكلاميّ آخر، مثل: عبد الرحمن بن الحجّاج ومنصور بن حازم وعبد الله بن المغيرة([5]).
وبالنظر إلى أن عمليات التحوُّل الفكري تكون ـ في العادة ـ بطيئةً ومتدرّجة، وقد يمرّ أصحابها بمراحل عدّة إلى أن يستقرّوا على مسلكٍ معين، فقد ينتهون إلى مواقف معاكسة لما كانوا عليها، أو إلى التوفيق بينها وبين الفكر الجديد، أو إلى بلورة رؤىً جديدةٍ. ومن الطبيعي أن تظلّ تأثيرات الخلفيات الفكرية السابقة باقيةً ـ إلى حين ـ وحاضرةً ـ بشكلٍ من الأشكال ـ في طرائق التفكير لديهم، وهي بدَوْرها تنتج آراء مختلفةً وأفكاراً متعدّدة ونظرات متفاوتة. وكان مناخ المناظرات والجدالات في الكلام والفقه والحديث يساعد على ذلك.
أضِفْ إلى ذلك كان جملةٌ من الرواة ينتمون إلى بعض الاتجاهات الشيعية غير الإمامية، كالواقفة، مثل: عثمان بن عيسى، وكان شيخهم، وسماعة بن مهران، وعليّ بن أبي حمزة، قائد أبي بصير؛ ومنهم مَنْ كان من الفطحية، مثل: عمار الساباطي وعبد الله بن بكير وبنو فضّال وغيرهم؛ ومنهم مَنْ كان من الزيدية، مثل: زياد بن المنذر المعروف بأبي الجارود، وقيل: إن بعضهم رجع عن ذلك([6]). كما كان بينهم مَنْ كان ينتمي إلى بعض تيارات المسلمين الفقهية من غير الشيعة، كحفص بن غياث، وغياث بن كلوب، وإسماعيل بن أبي زياد السكوني، ونوح بن دراج ـ حَسْب بعضٍ ـ([7]).
وهذا يدلّ على أن مجالس الأئمّة استوعبَتْ رواةً ومتلقين من مشارب فكرية وفقهية وكلامية متعدّدة.
وعلى الرغم من احتفاظ بعضهم بمنهجهم وفكرهم وآرائهم، إلاّ أنهم مع ذلك كانوا يتلمَّذون على أئمّة أهل البيت، ويتلقّون منهم، ويروون عنهم. بل إن الدارس يجد أن جماعة منهم ظلَّتْ مؤمنةً بأفكارها المختلفة إلى زمن الأئمّة الأواخر. ولهذا يذكر الشيخ الطوسي(460هـ) أن كثيراً من أصحاب الأصول كانوا ينتمون إلى الاتجاهات غير الإمامية([8])، أي كانوا ينتمون إلى بعض الأطياف الشيعية وغير الشيعية الأخرى. ومن جهةٍ أخرى، فإن هذا الوضع بطبيعته كان يتيح المجال لبعض المرتبطين بالأجهزة الرسمية وببعض الاتجاهات المناوئة والمائلة عن نهج أهل البيت لأن يندسّوا في صفوف أصحابهم، ويخترقوا رواياتهم وأسانيدهم، ويتسلَّلوا إلى مصادرهم.
وهذا التعدُّد في ميول أصحابهم، وفي مشارب الرواة عنهم، يُعَدّ من الأسباب التي أدَّتْ إلى اختلاف الرواية عنهم، إلى درجة التعارض بل التنافي في بعض الأحيان.
3ـ تنوُّع الاهتمامات الفكريّة
على الرغم من الظروف الصعبة التي مرَّتْ بأئمّة أهل البيت في بعض الأدوار، وكذلك على أتباعهم، فإنهم ـ مع ذلك ـ لم يكونوا يعيشون الانغلاق على أنفسهم، بل كانوا يتابعون المشهد الفكريّ، وينفتحون على التيارات الفكرية المتعدِّدة في الحدود المتاحة لهم.
ويلزم أن لا نغفل الاختلافات التي ظهرَتْ بعد رحيل النبيّ|، والتشظّي السياسي والفكري الذي حصل مبكّراً في تاريخ المسلمين، وما نال أهل البيت ومحبِّيهم وأتباعهم من مصاعب ومِحَن من جرّاء ذلك. وفي المحصّلة فإن مجموع هذه العوامل تركَتْ انعكاساتها على تفكير أصحابهم وأتباعهم.
ويجدر أن نستذكر أن فقه أهل البيت لم ينطلق من أروقة السلطة السياسية والدينية المرتبطة بها، والسائرة في فلكها. بل انطلق تاريخيّاً من موقعٍ موازٍ ومستقلّ عنها، سواء توافق أو اختلف مع الاتجاهات الفقهية السائدة. وكان هذا الفقه يُعَدّ مقابلاً ومعارضاً لها. وفي ضوء هذه الخلفية التاريخية يمكن قراءة التوصيفات الحادة لابن خلدون(808هـ) ـ الذي كان مؤرّخاً أشعريّاً وقاضياً رسميّاً ـ أثناء حديثه عن علم الفقه ومذاهب الجمهور، حيث قال: وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنَوْه على مذهبهم([9]). فقد وصفهم بالشذوذ والانفراد، معبِّراً عن اتجاهه الكلامي المتماهي مع مواقف السلطة السياسية والدينية.
وقد أسهَمَت العوامل السابقة بمجموعها في تشكيل تنويعات فكرية واهتمامات متعددة لدى أصحاب الأئمّة، والرواة عنهم، وكذلك المتأثِّرين بنهجهم. فقد كان فيهم مَنْ يمثِّل الطَّيْف الحديثي الروائي، الذي يعنى بجمع الروايات وتدوينها وحفظها وفَهْمها والعمل بظواهرها ونشرها؛ ومنهم مَنْ كان يركِّز اهتمامه على المنازل الغيبية والخوارق والفضائل الخاصّة التي كان يمتاز بها أئمّة أهل البيت. وقد نسب إلى بعض رجال هذا الطَّيْف، مثل: محمد بن سنان والمفضَّل بن عمر وغيرهما، بأنهم تأثَّروا بالفكر الباطنيّ، كما يُستفاد من بعض المصادر الرجالية([10]).
وثمّة طَيْفٌ بارز كان يعنى بالرواية والدراية معاً وبالفقه والكلام وبالمنقول والمعقول وبقواعد النظر والاستنباط والتفريع على الأصول العامة. وكان ممَّنْ يمثِّل هذا الاتجاه أبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان.
وهناك مَنْ برع في الكلام والمناظرة العقلية والمحاججة الكلامية مع أصحاب المقالات الفكرية، مثل: قيس بن الماصر ومحمد بن إسماعيل الميثمي وهشام بن الحكم وأبي جعفر الأحول وهشام بن سالم وحمران بن أعين وغيرهم.
وقد تتداخل اهتمامات بعضهم في أكثر من مجالٍ؛ وقد يغلب على بعضهم اهتمامٌ بمجالٍ معين؛ وقد يجمع بعضهم بين أكثر من مجال فكري؛ نظراً لشيوع الثقافة الموسوعية في تلك العصور التاريخية.
وكان بعض هؤلاء ورفاقهم ـ على تفاوتٍ ـ يمثِّلون نخبةً متقدّمةً في الفقه أو الكلام أو الرواية أو التفسير أو الفقه الخلافي المقارن.
وكان لهم حضورٌ لافت في المشهد الفكري والفقهي والكلامي والفلسفي في أزمنتهم. وكانت لهم إسهاماتٌ متنوعة في علوم القرآن والحديث والفقه والأصول والمعارف الفكرية والعقدية، سواء على مستوى مواجهة الأفكار الفلسفية الوافدة ونَقْدها أو في الفكر الكلامي والأصولي والفقهي للمسلمين.
أضِفْ إلى ذلك أن المناخ العامّ في بعض الفترات كان يسوده بشكلٍ عامّ الجدال والحجاج في الكلام والفقه المقارن والحديث والتفسير وسائر مجالات الفكر الديني.
ولكونهم كانوا من خلفيات فكرية متنوعة، ولهم بعض القراءات والتفسيرات المختلفة، فقد كانت تقع بينهم خلافات في الأفكار والآراء. وتحدث بينهم جدالات ومناظرات، وتظهر بينهم أحياناً بعض الحساسيّات، وتبرز بعض المواقف العصبية والإقصائية الحادّة تجاه بعض الآراء والمقالات، وكذلك تجاه أصحابها.
أشار السيد الطباطبائي أثناء حديثه عن طرائق التفكير إلى الاختلافات الأساسية التي وقعَتْ بين بعض أصحاب الأئمّة، كأبي حمزة وزرارة وأبان وأبي خالد والهشامين ومؤمن الطاق والصفوانين وغيرهم، وذكر بأنها مشهورةٌ معروفة([11]).
ويظهر أن هذا هو ما دفع مؤرِّخي الفِرَق والمقالات ـ كما هو دأبهم في تكثير الفِرَق ـ إلى أن ينسبوا إليهم فِرَقاً مستقلّةً، واشتقّوا لها أسماء من أسمائهم، وعدّوهم مؤسِّسين لها، كالزرارية والهشامية والشيطانية واليونسية، ونسبوا إليهم آراء ومقالات غريبة ومشوّهة([12]).
ثانياً: موارد تعدُّد الفَهْم
تفاعل أصحاب الأئمّة مع أجواء المناظرات والمناقشات الكلامية والأصولية التي كانت تدور في بيئاتهم حول مختلف قضايا الفكر الديني. وهذا ما أدّى إلى أن تتوارد الأسئلة والإشكالات في أذهانهم، وكان المناخ العامّ يتيح لهم التداول حولها في مجالسهم، أو طرحها على الأئمّة وتلقّي أجوبتهم عليها. وكان يحدث تباينٌ بين أصحاب الأئمّة حول بعض القضايا الفكرية المطروحة في المشهد الفكري.
وتفيدنا المصادر التاريخية والروائية بأن الاختلافات بينهم ـ في بعض الأدوار ـ لم تكن تقتصر على المجال الفقهي وحده، بل ظهرَتْ كذلك في بعض العناوين الكلامية والأصولية والحديثية، ونسبَتْ إلى بعضهم آراءٌ كلامية في التنزيه والتشبيه والجَبْر والاستطاعة لا تتَّفق مع جملةٍ من أحاديث الأئمّة. والباحث في مصادر التراث يجد أن أسئلة أصحاب الأئمّة كانت تشمل التوحيد والنبوة والرسالة والوَحْي والإلهام وعلم الغيب لغير الله تعالى والإمامة والولاية والعصمة وعلوم الأئمّة.
ويجدر في المقام أن نذكر أمثلةً من بعض القضايا التي تعدّدت فيها الآراء بينهم، تاركين الاستقصاء لدراساتٍ أوسع:
1ـ قضيّة الانفتاح على مختلف التيّارات
انفتح بعض أتباع وتلامذة أهل البيت على مقالات التيارات الأخرى، ولم يجد أيّ بأس فيه مع وجود المساحات المشتركة الواسعة بين هذه التيارات؛ وفي المقابل تحفَّظ على هذا المسلك أخرون.
قيل لمحمد بن أبي عمير: إنك لقيتَ مشايخ العامّة فكيف لم تسمَعْ منهم؟ فقال سمعْتُ منهم، غير أني رأيتُ كثيراً من أصحابنا قد سمعوا علم العامّة وعلم الخاصّة فاختلط عليهم، حتّى كانوا يروون حديث العامّة عن الخاصّة، وحديث الخاصّة عن العامّة، فكرهْتُ أن يختلط عليَّ، فتركْتُ ذلك([13]). فابن أبي عمير يشير إلى علاقات أصحابه وانفتاحهم الواسع على حَمَلة الروايات من التيارات المسلمة الأخرى، إلى درجة وقوع اختلاط في المنابع الفكرية والفقهية لدى بعضهم. وبهذا فإنه يرى بوضوحٍ أن بعض أصحابه تأثَّر فكره بأفكار التيارات الأخرى. أما ابن عمير نفسه فإنه كان يعيش هاجس الهويّة والنقاء والاستقلال الفكريّ، ويخشى من تداخل المفاهيم والآراء والمناهج الفكرية، ومن انمحاء الفواصل والحدود الفكرية بين التيارات والاتجاهات، ولهذا كان يتحفَّظ على الرواية والتلقّي عن أتباع التيارات الأخرى.
وفي المقابل هناك من أصحابه مَنْ خاض غمار الانفتاح والاطلاع، بل الرواية عن بقية الفئات، دون خوفٍ على فكره ومنهجه.
وتفيد بعض الروايات أن هذه القضية كانت مثار تساؤلٍ وبحثٍ من بعض كبار أصحاب الأئمّة في بعض المراحل. ورد أن محمد بن مسلم سأل الإمام جعفر: ما بال أقوامٍ يروون عن فلان وفلان عن رسول الله|، ولا يُتَّهمون بالكذب، ثمّ يجيء منكم خلافه؟ قال: إن الحديث يُنْسَخ كما يُنْسَخ القرآن([14]). وعن منصور بن حازم أنه سأل الإمام جعفر قال: أخبرني عن أصحاب رسول الله|، صدقوا على محمّد| أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلتُ: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله| فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثمّ يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب([15]).
وهذه الأسئلة يستكن وراءها هاجس الاختلاف الفكري بين تيارات المسلمين، على الرغم من أنهم جميعاً يستندون إلى مرجعيّة الكتاب والسُّنّة. كما تستبطن تساؤلاً عن تحمُّل الروايات من الطرق الأخرى. وكان الإمام يجيب على تساؤلاتهم، ويبين لهم أن الصدق وحده ليس كافياً، بل لا بُدَّ من أن يرافقه الفقه والدراية بأصول الحديث، وأن بعض الرواة وإنْ صدقوا، ولكنْ فاتَتْهم بعض الملابسات المهمّة، من قبيل: وقوع النسخ في بعض الأحكام، وكذلك الإحاطة بالناسخ والمنسوخ، والمتقدِّم والمتأخِّر، ومعرفة المراحل الزمنية التي صدرَتْ فيها الأحاديث، وغيرها من الأمور التي تؤثِّر في فَهْم الآيات والروايات وتحديد العلاقة بينها([16]).
ومع وجود الاختلاف الفكري والفقهي بين تيارات المسلمين، إلاّ أن الإمام جعفر الصادق كان يحثّ أتباعه على المحافظة على الوشائج الاجتماعية وحُسْن التعامل مع مخالفيهم. سأله معاوية بن وهب: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممَّنْ ليسوا على أمرنا؟ قال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الأمانة إليهم([17]). وجاء في وصيّةٍ له لشيعته: أدُّوا الأمانة إلى مَنْ ائتمنكم عليها، برّاً أو فاجراً؛ فإن رسول الله| كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم([18]). وهذه الروايات تشير إلى وجود تخالطٍ وتعالق اجتماعي بين أتباع مختلف التيارات الفكرية والفقهية، ولم تكن هناك فجواتٌ في التعامل اليومي فيما بينهم، على الرغم من الاختلافات الفكرية.
2ـ صلاحيّات النبيّ| التشريعيّة
كانت تجري بين أصحاب الأئمّة مناقشات ومناظرات، وتحدث بينهم تجاذبات فكرية حول بعض الأمور الفكرية الأصولية، من قبيل: الصلاحيات التشريعية للنبيّ|، وحول علاقة الكتاب بالحديث، والعكس. وهذه قضيّةٌ أصولية تتعلق بحدود صلاحيات النبيّ في مجال التشريع، وما إذا كانت مهمّته تقتصر على تبليغ ما يُوحَى إليه وتبيينه وتفصيل مجمله، أو أن له ـ إلى جانب ذلك ـ أن يستقلّ في تأسيس تشريعاتٍ وإصدار أحكامٍ دينية، كما يرى كثير من علماء المسلمين؛ بالاستناد إلى الإطلاقات القرآنية، من قبيل: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 ـ 4)؛ واستناداً إلى قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ (النساء: 58).
وهذه القضية وقع فيها جَدَلٌ منذ القرون الأولى بين فقهاء المسلمين ومتكلِّميهم؛ فمنهم مَنْ رأى أن النبيّ له أن يؤسِّس أحكاماً دينية لم تَرِدْ في القرآن، وتكون لها حجِّيتها الدينية؛ ومال فريقٌ آخر إلى أنه لا يستقلّ بالتشريع، بل يبلِّغ ما يُوحى إليه ويبيِّنه ويفصِّله أو يؤكِّده. وقد تطرّق الشافعي(204هـ) ـ إمام المذهب الفقهيّ ـ في رسالته إلى ذلك، وذكر أن السنّة على ثلاثة وجوه، وأشار إلى الاختلاف حول الوجه الثالث، وهو: ما سنّ رسول الله فيما ليس فيه نصُّ كتابٍ. وذكر الاختلاف في تفسيره؛ بين قائلٍ: إنه بما افترض من طاعته وسبق في علم الله من توفيقه لرضاه، وقائل: إن جميع سننه لها أصلٌ في الكتاب؛ وقائل: إنه أُلقي في روعه كلّ ما سنّ، وسنّته هي الحكمة؛ وهكذا([19]).
ويظهر من بعض الروايات أن لهذه القضية جذوراً روائية وأصولية سابقة، وأنها كانت مثار تساؤلٍ ونقاشٍ من بعض الجهات بين بعض أصحاب أئمّة أهل البيت. ورد أن حمران اختلف مع زرارة حول طريقة تشريع مواقيت الصلاة، فسأل حمران الإمام جعفر الصادق: ما تقول في ما يقوله زرارة، فقد خالفتُه فيه؟ قال: فما هو؟ قال: يزعم أن مواقيت الصلاة مفوّضة إلى رسول الله|، وهو الذي وضعها، قال: فما تقول أنت؟ قلتُ: عن جبرئيل، أتاه في اليوم الأوّل بالوقت الأوّل، وفي اليوم الثاني بالوقت الأخير، ثمّ قال جبرئيل: يا محمد، ما بينهما وقتٌ، فقال أبو عبد الله: يا حمران، إن زرارة يقول: إنما جاء جبرئيل مشيراً على محمد. صدق زرارة، جعل الله ذلك إلى محمد| فوضعه، وأشار جبرئيل عليه([20]). فحَسْب هذه الرواية اختلف كلٌّ من زرارة وحمران حول هذه المسألة التفصيلية، وصحَّح الإمام جعفر موقف زرارة.
وقد أفرد الكليني(329هـ)، في الكافي، باباً بعنوان: «التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمّة في أمر الدين»، أخرج فيه جملةً من الروايات، منها: عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله يقولان: إن الله عزَّ وجلَّ فوَّض إلى نبيِّه أمر خلقه؛ لينظر كيف طاعتهم، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾([21]).
وعن فضيل بن يسار قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عزَّ وجلَّ أدَّب نبيَّه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، ثمّ فوَّض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده… وإن رسول الله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القُدُس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيءٍ مما يسوس به الخلق… ثم إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمةً في السفر والحضر، فأجاز الله عزَّ وجلَّ له ذلك… وذكر فيها بعض سنن الرسول، مثل: النوافل وصوم شعبان وتحريم المسكر، إلى أن قال: فوافق أمر رسول الله أمر الله عزَّ وجلَّ، ونهيه نهي الله عزَّ وجلَّ، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى([22]).
وفي روايةٍ عن أبي عبد الله: إن الله عزَّ وجلَّ فرض الفرائض، ولم يقسم للجدّ شيئاً، وإن رسول الله أطعمه السدس، فأجاز الله جلَّ ذكره له ذلك.
وفي روايةٍ عن زرارة، عن أبي جعفر قال: وضع رسول الله دية العين ودية النفس، وحرَّم النبيذ وكلَّ مسكرٍ، فقال له رجلٌ: وضع رسول الله من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم، ليعلم مَنْ يطيع الرسول ممَّنْ يعصيه([23]).
وتفيد بعض الروايات أن الله تعالى أجاز الأحكام النبويّة وأمضاها، بينما تصرِّح أخرى بأنه استقلّ في تأسيس بعض الأحكام حَسْب صلاحياته.
وتوسَّع بعضهم في مفهوم التبيين والتفصيل؛ وهناك مَنْ استند إلى ما رُوي عن النبيّ بأنه أوتي القرآن ومثله معه. واختلف في مفهوم التفويض ومعالمه، وفي نوع التشريع الذي فوّض إليه، وما إذا كان يدلّ على صلاحية الاستقلال في تأسيس الأحكام وإنْ لم تَرِدْ في الكتاب، أو الصلاحيات التدبيرية وما شابه([24]).
3ـ طبيعة ونطاق ولاية الأئمّة، ومستوى علمهم
تشير بعض الأخبار إلى أن الاختلاف حول مساحة ولاية الأئمّة وسعتها أوجد بعض الحساسيات بين بعض أصحابهم، ممّا أفضَى إلى شيءٍ من الفتور في العلاقات، وإطلاق أوصاف سلبية على بعضهم.
ورد أن محمد بن أبي عمير لم يكن يعدل بهشام بن الحكم شيئاً، ثم انقطع عنه وخالفه؛ بسبب مناقشةٍ وقعَتْ بينه وبين أبي مالك الحضرمي في شيءٍ من أمور الإمامة. قال ابن أبي عمير: الدنيا كلُّها للإمام على جهة الملك، وإنه أَوْلى بها من الذين هي في أيديهم، وقال أبو مالك: ليس كذلك، أملاك الناس لهم إلاّ ما حكم الله به للإمام من الفَيْء والخمس والمغنم، فذلك له، وذلك أيضاً قد بين الله للإمام أين يضعه؟ وكيف يصنع به؟ فتراضيا بهشام بن الحكم، وصار إليه، فحكم هشام لأبي مالك على ابن أبي عمير، فغضب، وهجر هشاماً بعد ذلك([25]).
ويكشف هذا الاختلاف المبكر بين كلٍّ من ابن أبي عمير والمتكلِّمَين هشام وأبي مالك الحضرمي عن وجود مسلكين في التفكير والنظر إلى خصائص الإمامة. لقد اختلف هشام والحضرمي مع ابن أبي عمير في كون الإمام المعصوم مالكاً لكلّ الأرض، وهو رأي ابن أبي عمير، أو أن أملاك الناس لهم، وليس للإمام إلاّ ما حكم الله به له([26]).
ويظهر أنه كان بينهم اتجاهان حول حدود ولاية الأئمّة؛ أحدهما يوسِّع مساحة ولايتهم؛ والآخر يحدِّدها.
وقد وقعَتْ هذه المسألة محلّ بحثٍ بين العلماء. وللشيخ المجلسي(1111هـ) قراءة توفيقية بين الموقفين الآنَفْين، فرأى أن نزاعهما يرجع إلى اللفظ؛ لأن النبيّ| والإمام× بعده أَوْلى بأنفس الناس وأموالهم. وله (أي يحقّ للإمام) أن يتصرَّف في جميع ذلك، لكنْ لا يتصرَّف (أي فعليّاً) إلاّ في الأشياء المخصوصة التي ذكرها أبو مالك الحضرمي. وأضاف: كون الأرض للإمام معناه أن الناس إنما يتصرَّفون فيها بإذنه وتمكينه وحكمه. ثمّ قال: ولا ينافي كونها لأربابها، ولا ينافي الآيات والأخبار الدالة على أن الناس مسلَّطون على أموالهم، وأنهم أَوْلى بما في أيديهم من غيرهم وسائر أحكام الشريعة من البيع والشراء والإجارة والصلح والقَرْض وغيرها([27]).
ويظهر من بعض الروايات أن تصوُّرات ونظرات بعض أصحاب الأئمّة إلى الإمامة وإلى طبيعة علم الأئمّة كانت متفاوتةً، وأنها مع مرور الزمن ومع استمرار البحث والتلقّي كانت تنضج وتنمو وتزداد وضوحاً.
وكان بحث العصمة وعلم الأئمّة وتباين مواقفهم السياسية وما تعرَّضوا له من صنوف البلاء والابتلاء مطروحاً بينهم.
رُوي عن هشام بن الحكم قال: سألتُ أبا عبد الله جعفر الصادق بمِنَى عن خمسمائة حرفٍ من الكلام (علم التوحيد أو العقائد)، فأقبلت أقول: يقولون كذا وكذا، قال: فيقول: قُلْ: كذا وكذا، قلتُ: جعلت فداك، الحلال وهذا الحرام، أعلم أنك صاحبه وأنك أعلم الناس به، وهذا هو الكلام، فقال لي: ويك يا هشام، لا يحتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه بحجّةٍ لا يكون عنده كلّ ما يحتاجون إليه([28]). ولعلّ هذا الفَهْم لدى هشام كان في بداية اتصاله بالإمام جعفر، ولا يبعد أن يكون موجوداً لدى بعض أصحابهم في بعض الأدوار الفكرية.
ويُستفاد من بعض الروايات أن مسألة عصمة الأئمّة كانت معروفةً، ومع ذلك كانت الاستفسارات تدور حول تفاصيلها.
وكان محمد بن أبي عمير يقول: ما سمعْتُ ولا استفَدْتُ من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فإني سألتُه: أهو معصوم؟ وما صفة العصمة فيه؟ وبأي شيءٍ تعرف؟ فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه، ولا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منفيّةٌ عنه… ثم بين له كيفية تسامي الأئمّة عنها بالتفصيل([29]). وسأل عليّ بن رئاب الإمام أبا عبد الله الصادق، عن قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾: أرأيت ما أصاب عليّاً وأهل بيته من بعده هو بما كسبَتْ أيديهم، وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إن رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفره في كلّ يومٍ وليلةٍ مائة مرّةٍ من غير ذنبٍ، إن الله يخصّ أولياءه بالمصائب؛ ليأجرهم عليها من غير ذنبٍ([30]).
وجاء عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر (الباقر) يقول ـ وعنده أناسٌ من أصحابه ـ: عجبْتُ من قومٍ يتولّونا، ويجعلونا أئمّةً، ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله|، ثمّ يكسرون حجَّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقَّنا، ويعيبون ذلك على مَنْ أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا. أترَوْن أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض، ويقطع عنهم مواد العلم في ما يَرِدُ عليهم ممّا فيه قوام دينهم؟ فقال له حمران: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وخروجهم وقيامهم بدين الله عزَّ ذكره، وما أصيبوا من قبل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم، حتّى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر: يا حمران، إن الله تبارك وتعالى قد كان قدَّر ذلك عليهم، وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار (أو الاختبار)، ثمّ أجراه. فبتقدُّم علمٍ إليهم من رسول الله| قام عليٌّ والحسن والحسين، وبعلمٍ صمت مَنْ صمت منّا… ثم قال: وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنبٍ اقترفوه، ولا لعقوبة معصيةٍ خالفوا الله فيها، ولكنْ لمنازل وكرامة من الله، أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنَّ بك المذاهب فيهم([31]).
وهذه الرواية تنقل جانباً من المشهد الفكري زمن الإمام أبي جعفر الباقر. ويظهر أن فريقاً من أصحابه كانوا متَّفقين على أصول مشتركة بينهم، من قبيل: الإيمان بإمامتهم، ووجوب طاعتهم، وكونها امتداداً لطاعة رسول الله|. ومع ذلك كان منهم مَنْ يبحث عن أدلّةٍ مقنعة عن بعض الأمور التفصيلية الخاصّة بهم، كعلم الإمام وحدوده، وعلاقته بما أصابهم من أذىً من جراء مواقفهم وحركتهم. كما يظهر منها وجود تساؤلٍ حول تباين مواقف بعض الأئمّة، من قبيل: مواقف الإمام عليّ وحركة الحسين وصلح الحسن، وكيفية فَهْم المصائب والابتلاءات التي تعرَّضوا لها، وكيف يكون كلّ ذلك عن علم سابق منهم بها؟
فقد كان بعضهم تخالجه بعض الخواطر والتساؤلات، من قبيل: لماذا خرج بعضهم وصمت آخرون؟ ولِمَ لم ينصرهم الله على أعدائهم، ويقيهم شرَّ تلكم الفجائع والآلام التي نالَتْهم؟ ولِمَ لم يعتمدوا على علمهم لدفع تلكم المِحَن عن أنفسهم؟ وهل أصابهم ما أصابهم نتيجة خطأ في تقدير الأمور؟
وكانوا يطرحون تساؤلاتهم ويتداولونها فيما بينهم، أو يعرضونها على الأئمّة. ويظهر من الروايات أن سؤال علم الأئمّة للغيب كان مطروحاً بشكلٍ لافت، والروايات في ذلك مختلفة، نشير إلى نماذج منها:
سئل أبو الحسن: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر: يبسط لنا العلم فنعلم، ويقبض عنا فلا نعلم، وقال: سر الله عزَّ وجلَّ أسرّه إلى جبرئيل، وأسرَّه جبرئيل إلى محمد، وأسرَّه محمد إلى مَنْ شاء الله([32]).
وسأل عمّار الساباطي أبا عبد الله عن الإمام يعلم الغيب؟ قال: لا، ولكنْ إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك([33]).
وعن أبي عبد الله قال: قال لي أبي: ألا أخبرك بخمسة لم يُطْلِع الله عليها أحداً من خلقه؟ قلتُ: بلى: قال: إن الله عنده علم الساعة، وينزِّل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأيّ أرضٍ تموت، إن الله عليمٌ خبير([34]).
وقد تفاوتَتْ الروايات حول مَدَيات علم الإمام، ويبدو من ظواهرها وجود تعارض بينها. وحاول بعض العلماء إزالة التعارض بالجمع بينها.
قال المفيد(413هـ): إن الأئمّة من آل محمد قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد، ويعرفون ما يكون قبل كونه، وليس ذلك بواجبٍ في صفاتهم، ولا شرطاً في إمامتهم، وإنما أكرمهم الله تعالى وأعلمهم إيّاه للطف في طاعتهم، والتمسُّك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنه وجب لهم من جهة السماع، فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو مُنْكَرٌ بيِّن الفساد؛ لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه، لا بعلمٍ مستفادٍ، وهذا لا يكون إلاّ لله عزَّ وجلَّ([35]). فهو يفرِّق بين علم الله تعالى الذاتي وبين علم الأئمّة المستفاد والمفاض من قِبَل الله تعالى.
وقال المولى صالح المازندراني(1086هـ)، تعليقاً على رواية الساباطي: دلّ على أن علم الغيب علمٌ غير مستفادٍ، كعلم الله تعالى، وعلم الإمام لما كان مستفاداً منه تعالى لا يكون علماً بالغيب حقيقةً. وقد يُسمّى أيضاً علماً بالغيب؛ نظراً لتعلُّقه بالأمور الغائبة. وبه يجمع بين الأخبار التي دلَّ بعضها على أنهم عالمون بالغيب ودلَّ بعضها على أنهم غير عالمين([36]).
4ـ قضيّة التعامل مع الروايات
تباينَتْ مواقف أصحاب الأئمّة ورواتهم حول أسلوب التعامل مع الروايات، وبالأخصّ بعد أن برزَتْ ظاهرة الاختلاف في الروايات المنسوبة إليهم؛ فكان بعضهم يتشدَّد في التثبُّت منها ومن مضامينها؛ بينما يقف آخرون عند ظواهرها، ويعتنون بالرواية والحفظ.
لقد نشطَتْ حركة التقوُّل والكذب على أهل البيت في بعض الفترات، مثل: فترة ازدهار الحركة العلمية للإمامين الباقر والصادق؛ لإيجاد الانقسام في صفوف أتباعهم، وبثّ أفكار منحرفة بينهم. وقد تزعَّم ذلك بعض المائلين عن نهجهم، مثل: بنان بن سمعان والمغيرة بن سعيد وأبي الخطّاب. وكان هؤلاء يبثّون أحاديث كاذبة، وينسبونها إلى الأئمّة.
واستطاع بعضهم أن يخترق مجالس أصحاب الأئمّة، ويندسّ فيها. وبلغ من مَكْر بعضهم أنه كان يستعير بعض المدوَّنات والمذكَّرات الشخصية من بعض الرواة من الأصحاب فيدسّ فيها تلكم المرويّات المكذوبة؛ حتى تنتشر في أوساط الشيعة بسهولةٍ، وتحدث في ذات الوقت إرباكاتٌ وخلافاتٌ ونزاعاتٌ بين أصحاب الأئمّة، حين يروي بعضهم منها، فيتفاجأ آخرون بأنها ليست من أحاديث الأئمّة، فينكرونها عليهم. وكان ذلك أحد أسباب ظاهرة الاختلاف في الروايات الواردة عن أهل البيت، مما أدّى إلى إرباك بعض الفقهاء من أصحابهم. وقد نبَّه الأئمّة أتباعهم إلى ذلك، وأرشدوهم إلى ضرورة التدقيق في قبول الروايات، وأكَّدوا على بعض الضوابط في كيفية التعامل معها.
ورد أن عبد الله بن أبي يعفور سأل الإمام الصادق عن اختلاف الحديث يرويه مَنْ نثق به، ومنهم مَنْ لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديثٌ فوجدتُمْ له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله|، وإلاّ فالذي جاءكم به أَوْلى به([37]). والرواية تشير إلى كثرة الاختلاف الواقع في الروايات المنسوبة إليهم. ومما كان يربك الموقف أنها ليست من قِبَل غير الثقات وحدهم، بل أيضاً من طرق الثقات. وتدلّ على تنبُّه بعض الفقهاء من الرواة إلى ذلك، وحرصهم على التثبُّت في قبول الروايات الواردة عنهم.
وليس الوضع والدسّ هو العامل الوحيد لنشوء ظاهرة الاختلاف والتعارض في الروايات، بل أرجعها السيد باقر الصدر إلى مجموعةٍ من العوامل، منها: الرواية بالمعنى ونقل مضامين الأحاديث حَسْبَما فهمها الرواة، الأمر الذي يتطلَّب أن يتَّصف الراوي بمستوىً من العلم والتدقيق والمتابعة تمكِّنه من فَهْم كلمات الأئمّة ومقاصدهم، وإدراك العلاقات بين الخاصّ والعامّ منها. ويبدو أن بعضهم كانت مؤهِّلاته العلمية محدودة، بحيث تضطرب رواياته، ويكثر فيها الاشتباه والتهافت، كما لوحظ في روايات عمّار الساباطي([38]). وكان بعض الرواة يُسْقِط تفسيراته وتأويلاته على الروايات، فيتوهَّم الناس أنها من كلمات الأئمّة، وقد حذَّر الأئمّة من ذلك. ورد عن الإمام جعفر: رحم الله عبداً حبَّبنا إلى الناس، ولم يبغِّضنا إليهم، أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ، وما استطاع أحدٌ أن يتعلَّق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحطّ إليها عشراً([39]).
وبالفعل أخذ بعض العلماء من أصحابهم يتشدَّد في قبول الروايات التي تَرِدُ إليه، ويطبِّق عليها القواعد العلمية، غير أن هذا الموقف كان يزعج المتساهلين في هذا الشأن.
ويبدو من بعض الشواهد أن أساليب التعامل مع الروايات تباينَتْ بينهم أيضاً؛ فكان منهم المتشدِّد معها؛ ومنهم المتساهل في التعامل معها. يرى السيد السيستاني ـ حَسْب بعض التقريرات ـ أن بعض الأصحاب كان يمثِّل المسلك المتشدِّد في قبول الروايات، مثل: زرارة وجميل بن دراج ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان، فيشترطون أن تكون مقترنةً بشواهد من القرآن الكريم. وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى تقليل أعداد الأحاديث المعتبرة، وهو ما كان يمسّ مشاعر بعض المحدِّثين، الذين كانوا يريدون أن تكون الأخبار رائجةً وغيرَ محدودةٍ([40]).
فقد ظهرَتْ في أصحاب الأئمّة ورواتهم اتجاهاتٌ متفاوتة في التعامل مع الروايات؛ فمنهم مَنْ كان يتشدَّد في طرق تحمُّلها وتلقِّيها والاستناد إليها؛ ومنهم مَنْ كان يميل إلى نوعٍ من التساهل والتسامح في التعامل معها.
ومن الطبيعيّ أن يكون الرواة من أصحابهم متفاوتين في مستوياتهم العلمية والفكرية؛ فهناك مَنْ يقف عند الظواهر المباشرة الأوّلية؛ وهناك مَنْ يدقِّق ويتعمَّق في اكتشاف الدلالات واستنباط الفروع. وكان منهم الفقهاء والمتكلِّمون، الذين يفهمون معاريض كلامهم، ويفقهون أبعاده، ويميِّزون بين خاصّه وعامّه؛ كما كان بعض الرواة مجرّد حَفَظة للروايات، يحضرون مجالسهم، ويحفظون كلماتهم، دون أن يفقهوا دلالاتها، ويدركوا مقاصدها، ويعرفوا علاقاتها بالنصوص الأخرى([41]).
ويُستفاد من بعض الروايات أن هناك مَنْ لم يتحمَّل مسلك التشدُّد والتدقيق في طرق الروايات، والنظر في مدى انسجامها مع الكتاب والسنّة حَسْبَما وجَّه الأئمّة. وقد استنكر بعضهم على مسلك يونس بن عبد الرحمن في التعامل مع الروايات، وقال له: ما أشدَّك في الحديث! وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا! فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فردَّ عليه بقوله: حدَّثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (جعفر الصادق) يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسُّنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة؛ فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي، فاتَّقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا تعالى وسُنَّة نبيِّنا محمد|…»([42]).
ويُلاحَظ هنا أن المستنكر لم يعدّه مدقِّقاً في الروايات، ومتحرِّياً لطرقها، بل اعتبره منكراً لما يرويه الأصحاب، ورادّاً لأحاديث أهل البيت. وهذا يحدث بين بعض الدارسين، حيث يتسرَّع بعضٌ في نسبة الآخر إلى مخالفة الحديث وردّ الروايات أو نَقْد الأحكام؛ في الوقت الذي يكون منطلقه هو البحث والتدقيق؛ للوصول إلى رؤيةٍ علمية مستقرّة.
ويُفْهَم من سياق بعض الروايات أنه لم يكن الوحيد الذي يتبع هذا المسلك، بل كان يعبِّر عن وجود اتجاهٍ لدى جماعةٍ من أصحاب الأئمّة، كانوا يتبنّون هذا المسلك المتشدِّد، مقابل مسلكٍ حديثيّ آخر أقلّ تشدُّداً أو متساهلٍ في قبول الروايات.
ومع وجود مواقف متساهلة ومنزعجة من تشدُّدهم في قبول الروايات، إلاّ أن اتجاه التدقيق واصل سيره، ولم يعبأ بمعارضة أولئك المتساهلين.
وقد كانت تَرِدُهم رواياتٌ تستوقفهم مضامينها، وتثير الجدال بينهم، ويختلفون حول راويها، فيتحقَّقون عنها من الأئمّة في أقرب فرصةٍ تسنح لهم. عن زياد بن أبي الحلال قال: اختلف أصحابُنا في أحاديث جابر الجعفي، فقلتُ: أنا أسأل أبا عبد الله الصادق، فلما دخلْتُ عليه ابتدأني، فقال: رحم الله جابر الجعفي كان يصدق علينا، ولعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا([43]).
وكان بعض التلاميذ تَرِدُهم الروايات عن الأئمّة، فيعرضونها على بعض شيوخهم؛ للتوثُّق منها والتأكُّد من صحتها([44]). جاء عن عمر بن أذينة قال: قلتُ لزرارة بن أعين: إن أناساً حدَّثوني عن أبي عبد الله جعفر الصادق، وعن أبيه أبي جعفر الباقر، بأشياء عن الفرائض، فأعرضها عليك، فما كان منها باطلاً فقُلْ: هذا باطل، وما كان منها حقّاً فقُلْ: هذا حقّ([45]). وفي روايةٍ عنه أيضاً قال: فحدَّثته ـ زرارة ـ بما حدَّثني به محمد بن مسلم، عن أبي جعفر، في الابنة والأب، والابنة والأمّ، والابنة والأبوين، فقال: هذا هو الحقّ([46]). كما ذكر له ما سمعه عن ابن محرز، عن أبي عبد الله الصادق، فقال زرارة: إن على ما جاء به ابن محرز لنوراً([47]). وعرض عليه روايةً أخرى سمعها من محمد بن مسلم وبكير، عن أبي جعفر الباقر، فقال: صدقا، هو والله الحقّ([48]). وسأل موسى بن بكير قال: قلتُ لزرارة: إن بكيراً حدَّثني عن أبي جعفر أن الإخوة للأب والأخوات للأب والأمّ يزادون وينقصون…، فقال زرارة: وهذا قائم عند أصحابنا لا يختلفون فيه([49]).
ومن الطرق التي اتَّبعوها في مواجهة حركة الكذب على أئمّة أهل البيت أن بعض الأصحاب قام بمتابعة بعض الكتب المنتشرة في الوَسَط الشيعي، وأخذ نماذج منها، وعرضها على الأئمّة؛ للتحقُّق من صدورها وصدقية مضامينها. فقد عرض كتاب عبيد الله الحلبي على الصادق فصحَّحه، وقال: أترى لهؤلاء مثل هذا([50]). وعن يونس بن عبد الرحمن قال: وافَيْتُ العراق فوجَدْتُ بها قطعةً من أصحاب أبي جعفر الباقر، ووجدت أصحاب أبي عبد الله الصادق متوافرين، فسمعْتُ منهم، وأخذت كتبهم، فعرضتها من بَعْدُ على أبي الحسن الرضا، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله، وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن؛ فإنا إن تحدَّثنا حدَّثنا بموافقة القرآن وموافقة السُّنَّة([51]).
وكان بعض الرواة الأثريين تواجههم بعض الإشكالات واللوازم من التيارات الأخرى، فلا يمتلكون أجوبةً أصولية؛ لتفسير عدم الاتِّساق الظاهري بين بعض الأحكام، فيحجمون عن البحث؛ خشية الوقوع في القياس الممنوع.
يذكر السيد السيستاني أن الرواة كانوا على فئاتٍ؛ فكان منهم مَنْ يحفظ الروايات، سواء فقهوا ما في كلام الإمام أم لم يفقهوا؛ بخلاف الفقهاء منهم، فإنهم كانوا يعرفون معاريض كلام الأئمّة، وقواعد التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ويعرفون طرق الجمع بين الخاصّ والعامّ، ومعرفة الجمع بين الأخبار، وكيفية استظهار الحكم من الكتاب والسُّنَّة([52]).
أورد الكليني مناقشةً بين حمدان القلانسي وعمر بن شهاب العبدي حول الطلاق على غير السُّنَّة، والمطلَّقة إنْ خرجَتْ وهي في عدَّتها، وراجع القلانسي كلاًّ من أيوب بن نوح وعليّ بن راشد؛ للاستفسار عن لازمٍ إشكاليّ طرحه عليه العبدي، فردَّ عليه الأول بأنا لسنا أصحاب قياس، إنما نقول بالآثار؛ وأجابه الثاني بأن العبدي قاس عليك… وسأل معاوية بن حكيم عن ذلك، فقال: ليس العدّة مثل الطلاق، وبينهما فرق…، إلخ([53]). ويعلِّق السيد السيستاني على ذلك بقوله: كأنّ أيوب وابن راشد توهَّما أن كلّ مسألةٍ ترجع إلى بحثٍ أصوليّ فهي من القياس. ويظهر ممّا ينقل عن أيوب أنه كان مخالفاً للمفكِّرين من العلماء، فقد نُسب إليه أنه كان يقع في يونس بن عبد الرحمن([54]). وهو أشبه بالخصومات الفكرية والفقهية التي تحدث بين أصحاب الاتجاهات المغايرة وبين مَنْ يظنّ أنهم من الأقران في مختلف العصور.
ويظهر مما سبق أن أيوب بن نوح وعليّ بن راشد كانا من الرواة الذين يسلكون مسلك المحدِّثين وأصحاب الآثار، ولم يكونا من أهل الأصول والاستنباط، كيونس بن عبد الرحمن ومعاوية بن حكيم والفضل بن شاذان. ويُستفاد من ذلك أن بعضهم كان يتحفَّظ على إجراء المقارنات والموازنات بين الأحكام، والبحث في الأشباه والنظائر؛ للتعرف على الفروق بينها، على اعتبار أنها تندرج ضمن الأقيسة الممنوعة([55]).
والخلاصة: كان في أصحاب الأئمّة في ما يتعلَّق بالتعامل مع الروايات فئتان رئيستان: فئة كانت تتشدَّد في طرق الصدور، وكانت من أهل الأصول والاستنباط والتفريع على الأصول العامّة التي استَقَتْها من الأئمّة، ممّا قد يستلزم عدم التقيُّد الحرفي بمتون بعض الروايات، ولهذا قد نسب أصحابها إلى القياس، مع أنهم كانوا يقايسون الروايات مضمونيّاً مع الكتاب والسُّنَّة القطعية، أو يستنبطون بالتفريع على الأصول العامّة؛ وفئة أخرى كانت تأخذ بكلّ حديثٍ دون تفحُّصٍ أو تحقيقٍ، وكان أصحاب هذه الفئة حين يجدون فتاوى يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان ـ وهما من الفئة الأولى ـ، والتي هي في واقعها تطبيقاتٌ للأصول العامّة التي تلقّوها من الأئمّة، كانوا ينسبونهم إلى القياس([56]).
5ـ قضيّة العمل بالقياس
يُستفاد من بعض الروايات أن بعض أصحاب الأئمّة كانت لديهم ميولٌ قياسية، على الرغم من الموقف المتشدِّد لأئمّة أهل البيت من استخدام بعض الطرائق الظنِّية في الاستنباط الفقهي. وكان المناخ الفقهي العامّ يشهد سجالاً بين اتجاهَيْ الحديث والرأي. ومن الطبيعي أن يتأثَّر بعض الدارسين والباحثين في الفقه والحديث ببعض الآراء والأفكار التي تُطْرَح في المجالس الفكرية. وقد أشَرْنا فيما سبق إلى أن مجالس الأئمّة كانت مفتوحةً ـ حَسْب الظروف ـ للدارسين من مختلف الاتجاهات. ونظراً لكون بعضهم قد عاش في بيئات فكرية وفقهية أخرى، كالعراق، وتأثَّر بمناهجها، وبعضهم كان قد حضر حلقات فقهية تتبع مناهج حديثية وأثرية مغايرة، يذكر السيد السيستاني ـ حَسْب بعض مقرِّري دروسه ـ أن بعضهم كان يعمل بالقياس المصطلح، وأن جمعاً من الأصحاب ممَّنْ لقي الإمام أبي جعفر الباقر كان يقيس في الأحكام، وكان الأئمّة يوجِّهونهم، ويردعونهم عن ذلك([57]).
وكان أئمّة أهل البيت ينهون عن العمل بالقياس والرأي في الفقه الشرعي، ويؤكِّدون على ثراء الكتاب والسُّنَّة وتغطيتهما لجميع الحاجات التشريعية، بحيث لا يبقى أيّ موجبٍ للجوء إلى طرائق القياس والتعليل والرأي في استنباط الأحكام. ولهم في ذلك تصريحاتٌ وحواراتٌ صريحة وردَتْ في مصادر التراث الإسلامي. ومن تلكم الحوارات: ما رواه أبو نعيم(430هـ) عن ابن جميع وابن شبرمة، وهو حوارٌ طويل نسبيّاً نقتطف بعضه: قال ابن جميع: دخلتُ على جعفر بن محمد، أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة، فقال لابن أبي ليلى: مَنْ هذا معك؟ قال: هذا رجلٌ ذو بصرٍ ونفاذٍ في أمر الدِّين، قال: لعلّه يقيس أمر الدين برأيه؟ قال: نعم…، ثمّ أقبل على أبي حنيفة فقال: حدَّثني أبي، عن جدّي، أن رسول الله| قال: أوّل مَنْ قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله له: اسجد لآدم فقال: «أنا خيرٌ منه؛ خلقتني من نارٍ، وخلقْتَه من طين»، فمَنْ قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس؛ لأنه اتبعه بالقياس.
وزاد ابن شبرمة في حديثه، ثمّ قال جعفر: أيُّهما أعظم قتل النفس أو الزِّنى؟ قال: قتل النفس، قال فإن الله عزَّ وجلَّ قَبِلَ في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزِّنى إلاّ أربعة، ثمّ قال: أيُّهما أعظم الصلاة أم الصوم؟ قال الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، فكيف ويحك يستقيم لك قياسك، اتَّقِ الله، ولا تقِسْ الدين برأيك([58]).
وروى الكليني أن الإمام جعفر قال لأبي حنيفة: لا تقِسْ؛ فإن أوّل مَنْ قاس إبليس حين قال: خلقتني من نارٍ وخلقْتَه من طين، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف فضل ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر([59]).
ونقل ابن حزم(456هـ) عن ابن شبرمة أن الإمام جعفر بن محمد قال لأبي حنيفة: اتَّقِ الله، ولا تقِسْ؛ فإنا نقف غداً بين يدي الله فنقول: قال الله وقال رسوله، وتقول أنتَ وأصحابُك: سمعنا ورأينا. ونقلها ابن القيِّم باختلافٍ يسير، وهو أن الإمام جعفر الصادق قال لأبي حنيفة: اتَّقِ الله، ولا تقِسْ؛ فإنا نقف نحن ومَنْ خالفنا بين يدَيْ الله فنقول: قال رسول الله|، قال الله، وتقول أنتَ وأصحابك: رأينا وقِسْنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء([60]).
وروى الكليني عن أبان بن تغلب قال: قلتُ لأبي عبد الله (جعفر الصادق): ما تقول في رجلٍ قطع إصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟ قال عشرةٌ من الإبل، قلتُ قطع اثنتين؟ قال: عشرون، قلتُ: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون، قلتُ: قطع أربعاً؟ قال: عشرون، قال: قلتُ: سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟ إن هذا كان يبلغنا، ونحن بالعراق، فنبرأ ممَّنْ قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: مهلاً يا أبان، هذا حكمُ رسول الله|؛ إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدِّية، فإذا بلغَتْ الثلث رجعَتْ إلى النصف. يا أبان، إنك أخَذْتَني بالقياس، والسُّنَّة إذا قيست مُحِقَ الدين([61]). ونقل مثله مالك عن سعيد بن المسيّب، جواباً على سؤال ربيعة بن أبي عبد الرحمن([62]). وهذه الرواية تشير إلى موقف أبان، واستغرابه من هذا الحكم، ويبدو عليه التأثُّر باتجاه الرأي الذي كان رائجاً بالعراق.
وورد عن محمد بن حكيم قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر: …فرُبَما ورد علينا الشيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيءٌ، فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به؟ فقال: هيهات هيهات، في ذلك واللهِ هلك مَنْ هلك يا بن حكيم… قال محمد بن حكيم لهشام بن الحكم: والله ما أرَدْتُ إلاّ أن يرخِّص لي في القياس([63]). وهنا أفصح محمد بن حكيم عن مكنونه، وأنه كان يسعى في أن يرخِّص لهم الإمام في اللجوء إلى القياس في بعض الموارد.
وعن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى، قلتُ: إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا، فلا يرد علينا شيءٌ إلاّ وعندنا فيه شيءٌ مسطّر، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم، ثمّ يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيءٌ، فينظر بعضنا إلى بعضٍ، وعندنا ما يشبهه، فنقيس على أحسنه؟ فقال: وما لكم وللقياس؟ إنما هلك مَنْ هلك من قبلكم بالقياس([64]).
وسأل أبو بصير إنْ كان يجوز النظر والاستنباط بالرأي في بعض القضايا المستجدّة، قال: قلتُ لأبي عبد الله (جعفر): تَرِدُ علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله، ولا سُنَّة، فننظر فيها (أي بالرأي)؟ فقال: لا، أما إنك إنْ أصبْتَ لم تُؤْجَر؛ وإنْ أخطَأْتَ كذَبْتَ على الله عزَّ وجلَّ([65]).
إن الروايات السابقة تدلِّل على أن سؤال النظر بالرأي والقياس بالأشباه والنظائر كان شاغلاً لبال بعض أصحاب الأئمّة. ويُفْهَم من بعضها أن بعضهم كان لديه ميولٌ للعمل بالقياس، وقد بيَّن لهم الأئمّة موقفهم المبدئيّ من القياس والرأي واستنباط العِلَل للأحكام الشرعية بالطرق الظنِّية غير المعتبرة، وتوليد أحكام فقهية جديدة منها؛ لأن الكتاب والسُّنَّة وحديث العترة تغنيهم عن ذلك.
تشكيك أبي زُهْرة في حوار الصادق× مع أبي حنيفة
شكَّك الأستاذ أبو زهرة في حقيقة الحوار المتقدِّم بين الإمام جعفر وإمام الرأي أبي حنيفة حول القياس، ورأى أن الكليني لم يسند الرواية إلى أبي حنيفة، مرجِّحاً رواية كتب المناقب؛ لأن روايتها ـ حَسْب رأيه ـ مسندةٌ إلى أبي حنيفة([66]) وقد نقل الحوار بصورةٍ معكوسة، على أنه جرى بين الإمام محمد الباقر وإمام الرأي أبي حنيفة، وأن الباقر انتقده لأنه حوَّل دين جدِّه وأحاديثه إلى القياس، فطلب منه أبو حنيفة أن يجلس، وطرح عليه عدّة أسئلةٍ من قبيل: أيّهما أفضل الصلاة أم الصوم؟ فقال: الباقر الصلاة، فقال أبو حنيفة: هذا قول جدِّك، ولو حوَّلت قول جدِّك لكان أن المرأة إذا طهرَتْ من الحَيْض أمرتها أن تقضي الصلاة، ولا تقضي الصوم؛ وهكذا حول سهم الرجل والمرأة في الميراث؛ وحول البول والنطفة؛ والشهود على القتل والزِّنى([67]).
ويُلاحَظ أن الحوار الأول يهدف إلى إثبات عجز العقل البشري عن التوصُّل إلى العِلَل الواقعية للأحكام الشرعية دون مساعدة النصوص الشرعية، وبالتالي عدم شرعية القياس كطريقٍ موصلٍ إلى الأحكام الشرعية. أما الحوار الثاني فإنه ينطلق من الدفاع عمّا نُسب إليه من تحويل الدين إلى القياس، مؤكِّداً على نَفْي إعمال القياس مقابل الأحكام الشرعية المعروفة الثابتة بالأدلة المقرَّرة.
والواقع أن الانتقادات التي كانت توجَّه إلى مدرسة الرأي والقياس من اتجاهات الحديث وغيرهم، وبالأخصّ من قِبَل أئمّة العترة، كانت تتركَّز حول شرعية الرأي والقياس، وتوليد الأحكام بالنظر في الأشباه والنظائر، والتوسُّع في استنباط العِلَل دون أدلّةٍ نصِّية دالّة عليها، والبناء عليها في استنباط الأحكام. وهو ما لم يَرِدْ عليه الحوار الثاني، الذي يوحي وكأنَّه ينطلق من نزعةٍ دفاعية منكرةٍ للعمل بالقياس، مع أن الواقع التاريخي كان على غير ذلك([68]).
إن الناظر المتأمِّل في الحوار الثاني يبدو له وكأنّ إمام الرأي يردّ على مَنْ ينسب إليه بأنه غيَّر الأحكام الشرعية الواضحة والثابتة في الدين بالقياس، ومفاده بأنه لو كان قيّاساً فيما فيه نصٌّ أو دليلٌ واضح لقاس في هذه الموارد. ولم يتضمَّن حديثه لأيّ تأصيلٍ لشرعية العمل بالرأي والقياس الذي كان يدور جَدَلٌ واسع حوله، وبالأخصّ مع ما نُسب إلى مدرسة الرأي من التوسُّع في استخدامه في استنباطاتها وتفريعاتها مقابل روايات حديثية صحيحة. وإنْ نظرنا إلى نصّ الحوار الأوّل نجد أنه ينسجم تماماً مع ما كان يُنتقد عليه إمام الرأي تاريخيّاً، من الاتجاهات الأخرى المخالفة له، ومن أئمّة العترة. ويتبين للدارس لهذا النصّ أن الأمثلة القليلة التي اشتمل عليها إنما سيقَتْ للدلالة على انسداد الباب أمام استنباط العِلَل الحقيقية للأحكام ما لم تعلِّلها النصوص نفسها، وتقرِّرها الأدلة المعتبرة.
ومن جهةٍ أخرى فإن الكليني لم يَرْوِ هذا الحوار الذي جرى بين أبي عبد الله جعفر الصادق وأبي حنيفة النعمان، بل رواه ـ مع اختلافٍ يسير ـ كلٌّ من: القاضي النعمان(351هـ)؛ وأبي نعيم(430هـ)؛ وابن القيِّم(751هـ)؛ وغيرهم([69]).
ويبدو أن أبا زهرة، وعلى الرغم من توجيهه جملةً من الانتقادات الشديدة إلى كتاب الكافي، للكليني، وكما يتبين من إحالاته، لم يرجع في بعضها ـ ومنها هذه القضية ـ إلى الكتاب نفسه، بل اعتمد على كتابٍ ثانوي وسيط، نقل منه ومن غيره، وهو كتاب المسند.
وقد تفحَّص الأستاذ أسد حيدر رواية كتب المناقب، التي اعتمد عليها الأستاذ أبو زهرة، فرأى أنها وردت في كتابين من مناقب أبي حنيفة: أحدهما: للكردي؛ والآخر: للمكّي الخوارزمي، وكلاهما يرويها بسند عن عبد الله بن المبارك كشاهدٍ عيان للقصة، وهي تبدأ بمكاتبة أبي المحاسن، وجميع رجال سندها من الحنفية. ورأى بان ابن المبارك لا يمكن أن يكون هو الشاهد؛ لأنه وُلد عام 118هـ، وتوفي سنة 181هـ، بينما كانت وفاة الإمام الباقر إما عام 114 أو 118هـ، فكيف يكون ابن المبارك شاهدَ عيانٍ على الحوار الذي يفترض أنه جرى وهو لم يولد بعد؟!([70]). وفي جميع الأحوال فإن الحوار الأوّل نقلَتْه مصادر متعدِّدة ـ ليس من بينها الكافي ـ، وتنتمي تلكم المصادر إلى اتجاهاتٍ فقهيّة متنوِّعة.
والباحث في تاريخ الاتجاهات الفقهية يدرك أن اتجاه الرأي والقياس، أو اتجاه «الأرأيتيين»، بزعامة أبي حنيفة، وجِّهَتْ إليه اعتراضات من قِبَل الاتجاهات الأخرى، وتمحورت حول التوسُّع في الاعتماد على الرأي والقياس في كثير من التفريعات والاستنباطات الفقهية. ونُسب إليه ترك العمل بالأحاديث وقلّة الاعتماد عليها والاهتمام بها، حتّى أن المحدِّث ابن أبي شيبة(235هـ) أفرد في مصنَّفه باباً حول مخالفات أبي حنيفة للأحاديث الصحيحة. ولا يزال هذا العنوان يتردَّد في بعض الدراسات الفقهية والحديثية المعنية بذلك، وتتفاوت حوله الآراء، بين منتقدٍ ومدافع([71]).
6ـ قضيّة التشدُّد والإقصاء
ويظهر من بعض الروايات أن بعض الاختلافات الفكرية والمنهجية كانت تتسبَّب في إيجاد المواقف السلبية المتشدِّدة في بعض الأوساط العامّة تجاه المنتمين إلى نهج أهل البيت والمتعاطفين معهم.
وكانت بعض الفئات تتشدَّد في أفكارها وممارساتها ومواقفها، وتحاول فرضها على عموم الناس. فإذا كانوا يرون رأياً أو اقتنعوا بفكرةٍ معينة فعلى الآخرين أن يفعلوا مثلهم، فإنْ لم يقتنعوا بها انتقصوا من إيمانهم، ورُبَما تبرَّأوا منهم، على الرغم من اتِّفاقهم على الأصول والجوامع المشتركة! وهو ما كان يتسبَّب في نشر التوتر بينهم، ويؤدّي إلى تمزيق صفوفهم.
ورد أن الإمام جعفر الصادق أرسل جماعةً من مواليه في حاجةٍ، وهو في الحيرة (بالعراق)، فانطلقوا، ولما رجعوا أخبروه عمّا بعثهم له، فحمد الله، يقول الرواي، واسمه سراج، وكان خادمه، فجرى ذكرُ قومٍ فقلتُ: جُعلت فداك، إنا نبرأ منهم، إنهم لا يقولون ما نقول، قال: فقال: يتولّونا ولا يقولون ما تقولون تبرأون منهم؟ قال: قلتُ: نعم، قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي أن نبرأ منكم؟ قال: قلتُ: لا، جُعلت فداك، قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه اطرحنا؟ قال: قلتُ: لا والله، جعلت فداك، ما نفعل؟ قال: فتولّوهم ولا تبرأوا منهم، إن من المسلمين مَنْ له سهمٌ؛ ومنهم مَنْ له سهمان؛ ومنهم مَنْ له ثلاثة أسهم… وعدّ إلى سبعة أسهم، ثم قال: فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة… ثمّ ضرب له الإمام مثلاً عن رجلٍ مسلم دعا جاره النصراني إلى الإسلام، فأجابه، فكان يأتيه ويشدِّد عليه، ويحثّه على القيام بالصلوات والأذكار المستحبّة لكلّ وقتٍ، مما يعيقه عن العمل، حتّى جاءه في يوم غدٍ، فقال له: اطلب لهذا الدين مَنْ هو أفرغ منّي، وأنا إنسانٌ مسكين وعليَّ عيال، فقال أبو عبد الله×: أدخله في شيءٍ أخرجه منه([72]).
وفي روايةٍ أنه قال لعبد العزيز القراطيسي: يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السُّلَّم، يصعد مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لسْتَ على شيءٍ، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تُسقط مَنْ هو دونك فيُسقطك مَنْ هو فوقك، وإذا رأيْتَ مَنْ هو أسفل منك بدرجةٍ فارفَعْه إليك برفقٍ، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن مَنْ كسر مؤمناً فعليه جبره([73]).
وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله قال: ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعضٍ؟! إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعضٍ، وبعضهم أكثر صلاةً من بعضٍ، وبعضهم أنفذ بصراً من بعضٍ، وهي الدرجات([74]).
وقد تقود النزعة الإقصائية بعض الرواة فينال من خصومه في الفكر، ويذمّه ويشوِّه سيرته. فقد ورد أن أحمد بن محمد بن عيسى كان كثير الوقيعة في يونس بن عبد الرحمن، وأنه نسب إليه آراء سيِّئة،غير أنه تاب واستغفر فيما بعد؛ لرؤيا رآها([75]).
وورد أن قوماً من البصرة دخلوا على الإمام عليّ بن موسى الرضا(203هـ)، فأكثروا الوقيعة والقول في يونس بن عبد الرحمن، وكان يونس في الدار، وفي مقربة منهم، فلمّا خرجوا قال للرضا: جعلني الله فداك، أنا أحامي عن هذه المقالة (مقالة أهل البيت)، وهذه حالي عند أصحابي! فقال له الإمام: فما عليك إذا كان إمامك عنك راضياً. يا يونس حدِّثْ الناس بما يعرفون، واتركهم ممّا لا يعرفون، كأنك تريد أن يكذب على الله في عرشه. يا يونس، لو كان في يدك درّة ثمّ قال الناس: بعرة، أو كانت بعرة وقال الناس: درّة، هل ينفعك ذلك شيئاً؟ فقلتُ: لا، فقال: هكذا أنتَ يا يونس، إذا كنتَ على الصواب، وكان إمامك عنكَ راضياً، لم يضرّكَ ما قال الناس([76]). وشكا يونس إليه (الرضا) يوماً ما يلقاه من أصحابه من الوقيعة، فقال له: دارِهِمْ؛ فإن عقولهم لا تبلغ([77]). وفي روايةٍ: إن العبد الصالح (الإمام موسى بن جعفر)(183هـ) قال له: ارْفِقْ بهم؛ فإن كلامك يدقّ عليهم([78]).
وكان يونس من تلامذة هشام بن الحكم، وكان من أهل النظر في الفقه، وكان يدقِّق في الروايات، ويطبِّق القواعد النَّقْدية عليها.
وتشير الكلمات الآنفة بوضوحٍ إلى وجود تفاوتٍ في الأفهام، وتباينٍ في بعض المناهج والآراء بين أصحابهم. وأن بعض الرواة من أهل الفكر الكلامي كانوا يطرحون في أوساط عامّة بعض الملازمات؛ لدَحْض بعض الآراء، غير أن بعض الظاهريّين ما كانوا يستسيغونها، فينسبونهم إلى القول بالتجسيم والتشبيه.
وكتب عبد العزيز المهتدي إلى الإمام أبي جعفر الجواد يسأله عن يونس، فردّ عليه: أحبَّه وترحَّمْ عليه وإنْ كان يخالف أهل بلدك([79]).
وهكذا كان الأئمّة يعالجون هذه الظاهرة المدمِّرة والممزِّقة للمجتمع، ويفهمون أصحابهم عدم صحة مواقفهم الإقصائية ممَّنْ يختلف معهم في بعض الأفكار والآراء التي ترجع إلى تفاوت الأفهام والمدارك وتنوُّع المباني التفكيرية وتعدُّد المستويات المعرفية. كما كانوا يرشدون العلماء منهم بأن يتدرَّجوا في طرحهم، ويراعوا تفاوت الأفهام والمستويات لدى الجماهير، ويتجنَّبوا طرح ما يؤدِّي الى الصدام الفكري. ورد عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يَلُمْ أحدٌ أحداً([80])، أي لو علموا أن الله تعالى خلق الناس متفاوتين، وعلى مراتب في الاستعدادات والقابليات، لتفهَّموا الخلافات القائمة بينهم، ولما لام أحدٌ أحداً، ولكنْ قد تغيب هذه الحقيقة عن الأذهان، فيكثر بسببه اللوم والتقريع والنزاع بين الناس.
ويذكر السيد السيستاني أنه في هذه الأجواء الفكرية التي كانت تتحسَّس من الاتجاهات العقلية جرَتْ محاولة نسبة كتاب «العِلَل»، المنسوب إلى الفضل بن شاذان، إلى الإمام عليّ الرضا.
وحَسْب بعض تقريرات بحث السيد السيستاني فإن المناخ الفكري العام منذ عهد المتوكِّل العباسي(247هـ) كان ينبذ الاستدلال العقلي والحرِّية الفكرية. وكان يرى أن حرِّية التفكير تتعارض مع إدامة سلطانه. وكان الذي يبحث في فلسفة الأحكام وعلل الشرائع يتعرَّض لتهجُّم أصحاب الحديث والأثر، الذين كانت لهم الهيمنة الاجتماعية. وقد أثَّرَتْ هذه الموجة من الثقافة المحافظة على الأوساط العلمية الشيعية أيضاً([81]).
إن الروايات السابقة تدلِّل على وجود حراكٍ فكري كان يعيشه أصحاب الأئمّة منذ زمن مبكّر، وأنه استمر وتنامى زمن الإمامين عليّ الرضا وابنه محمد الجواد(220هـ)، وأن بعض المبرَّزين من أصحابهم كانت لهم متبنّيات فكرية معينة تثير الجدال والنقاش بينهم وبين مَنْ تأثَّر بهم.
ثالثاً: ضوابط الكفر والهداية والضلال
إن الظروف الضاغطة والمناخ السياسي الخانق يسهمان في إنتاج أفكار اقصائية متشدّدة. ويبدو من بعض المرويات أن بعض أصحاب الأئمّة التبسَتْ عليه وجوه الكفر ومعانيه، وصار يتوسَّع في إطلاق أحكامه. ولا يبعد أن يكون ذلك ردَّ فعلٍ لما كانوا يلقونه من تضييق وحملات تشويهية وتوصيفات سلبية. وقد تصدّى الأئمّة لبيان الموقف الفكري حول ذلك؛ استناداً إلى كتاب الله تعالى، ووضعوا حدّاً لهذا الفَهْم المغلوط.
ورد عن زرارة أنه دخل، هو وحمران أو بكير، على الإمام أبي جعفر الباقر، فقال زرارة له: إنا نمدّ المطمار، قال: وما المطمار؟ قال: التُّرّ، فمَنْ وافقنا من علويّ أو غيره توليناه؛ ومَنْ خالفنا من علويٍّ أو غيره برئنا منه، فقال له الإمام: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾؟ أين المُرْجَون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلَّفة قلوبهم؟([82]).
وعن هاشم صاحب البريد قال: كنتُ أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطّاب (يظهر أنه كان قبل انحرافه) مجتمعين، فقال لنا أبو الخطّاب: ما تقولون في مَنْ لم يعرف هذا الأمر (الإمامة)؟ فقلتُ: مَنْ لم يعرف هذا الأمر فهو كافرٌ، فقال أبو الخطّاب: ليس بكافرٍ حتّى تقوم عليه الحجّة، فإذا قامَتْ عليه الحجّة فلم يعرف فهو كافرٌ، فقال محمد بن مسلم: سبحان الله، ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟([83]).
وقد أبان لهم الإمام جعفر في حديثٍ طويل وجوه الكفر، وأنها في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها: كفر الجحود، والجحود على وجهين؛ والكفر بترك ما أمر الله؛ وكفر البراءة؛ وكفر النِّعَم؛ وهكذا([84]). وبهذا فقد أوضح لهم بأن للكفر في كتاب الله تعالى مراتب ودرجات ومعاني، وليست جميعها مخرجةً من الملّة والدين.
ولحَسْم الموقف في هذا الجَدَل الذي كان يثور بينهم وضع لهم الإمام جعفر قاعدةً واضحة، فقد ورد عنه في هذا الصدد قوله: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا([85]).
فليس كلّ مَنْ طرح تساؤلاً أو إشكالاً فكريّاً يُعَدّ كافراً، ولا كلّ مَنْ أثار جَدَلاً حول فكرةٍ إيمانية يدرج ضمن الكافرين. وفي نفس الوقت يلزم عدم الاستعجال في إنكار وجحد مَنْ لم تتبين له حقيقة الأمر.
وفي بعض الأخبار أن الإمام وجَّه أصحابه بأن لا يدخلوا في جدالاتٍ كلامية وفقهية مع الأفراد العاديين من التيارات غير الشيعيّة؛ بحجّة هدايتهم إلى طريقتهم ونهجهم؛ فإن لذلك تداعياتٍ اجتماعية سلبية، تقود إلى الانقسامات، وتنتج عنها الخصومات، وأكَّد لهم أن أمر الهداية والضلال بيد الله تعالى. ورد عن الإمام جعفر أنه يقول: اجعلوا أمركم لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، ولا تخاصموا الناس لدينكم؛ فإن المخاصمة ممرضةٌ للقلب؛ إن الله تعالى قال لنبيِّه: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾([86]).
وعنه أيضاً أنه قال لثابت بن سعيد: كفّوا عن الناس، ولا تدعوا أحداً إلى أمركم، فواللهِ لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبداً يريد الله ضلالته ما استطاعوا أن يهدوه… كفّوا عن الناس، ولا يقول أحدٌ: عمي وأخي وابن عمّي وجاري؛ فإن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً طيَّب روحه…، إلخ([87]). وهذه الرواية تشير إلى وجود تمازجٍ وتداخلٍ في الانتماءات الفكرية والفقهية بين الأُسَر والعوائل والعشائر، ومع ذلك فإن الإمام يحثُّهم على أن لا ينساقوا للعواطف، فيدخلوا في جدالاتٍ قد تقود إلى نزاعاتٍ وخصوماتٍ، وإلى نتائج عكسيّة، ويدعوهم أن يتركوا أمر الهداية لله تعالى.
رابعاً: مواجهة نَزَعات الإفراط والتفريط تجاه الأئمّة (عليهم السلام)
شهد تاريخ العرب والمسلمين اضطراباتٍ سياسية، ومرّ بظروفٍ اجتماعية وتقلُّباتٍ اقتصادية وهجرات وتغيّرات ديموغرافية، تركَتْ آثاراً وانعكاساتٍ على مجمل الوضع السياسي والفكري.
إن الانفتاح الفكري والثقافي العامّ، الذي شهده تاريخ العرب والمسلمين إثر التوسُّع السياسي، أسهم في دخول أفكار فلسفية ودينية مختلفة إلى مجتمعاتهم. واستغلّ بعض الفاسدين ظاهرة الإعجاب والانبهار العاطفي لدى الجماهير بأئمّة أهل البيت؛ نتيجة تفوقهم العلمي والمعرفي، وسموّ أخلاقهم، وظهور بعض الكرامات الخارقة على أيديهم، وأخذ هؤلاء يطرحون أفكاراً منحرفة مغالية في الأئمّة، فيزعمون أنهم آلهةٌ أو أنبياء، وينسبون إليهم مقالاتٍ فاسدةً، تتعارض مع أصول الدين.
وكان الهدف من ذلك إيجاد نزاعاتٍ وانشقاقاتٍ في صفوف أتباع أهل البيت، وتشويه صورتهم في المجتمع، وإضعاف تماسكهم. ولكون أتباع الأئمّة يهتمون بحديثهم وفضائلهم ومناقبهم لجأ هؤلاء الفاسدون إلى الكذب على الأئمّة، ووضع الأحاديث ونسبتها إليهم، وترويجها في المجتمع.
وقد واجه الأئمّة هذه الظاهرة بشكلٍ قويّ، وبمختلف الوسائل الفكرية والعملية. كما قاموا بكشف أسماء زعماء هذه الاتجاهات، وفَضْحهم، والتبرّؤ منهم ومن أفكارهم. رُوي عن سدير قال: قلتُ لأبي عبد الله جعفر الصادق: إن قوماً يزعمون أنكم آلهةٌ، يتلون بذلك علينا قرآناً: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾، وقال: قلتُ له: عندنا قومٌ يزعمون أنكم رسلٌ، يقرؤون علينا بذلك قرآناً: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، وفي كلا القولين أجابه الإمام جعفر قائلاً: يا سدير، سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني، ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخطٌ عليهم. قال: قلتُ: فما أنتم؟ قال: نحن خزّان علم الله، وتراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا، ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على مَنْ دون السماء وفوق الأرض([88]).
وقد تجرف العاطفة بعض الأفراد المعاصرين للأئمّة فتنطلي عليهم بعض تلكم التأويلات، فيتجاوزون الحدّ في نظرتهم إلى الأئمّة، وما كان من الإمام إلاّ أن يصحِّح فكرتهم، ويوقفهم، ويصحِّح أفكارهم. روي أن معلّى بن خنيس، في حديثه مع عبد الله بن أبي يعفور حول الإمامة، قال: إن الأوصياء أنبياء، فردّ عليه ابن أبي يعفور: إن الأوصياء علماء أبرار أتقياء، فدخلا على أبي عبد الله الصادق، فلمّا استقرّ بهما المجلس، بدأهما أبو عبد الله فقال: يا عبد الله، أبرأ ممَّنْ قال: إنا أنبياء([89]).
وتفيد الروايات بأن الإمام الصادق كان يكرِّر موقفه من الغُلاة والوضّاعين وممَّنْ يتبنّى آراءهم؛ فقد ورد عنه أنه قال: مَنْ قال بأننا أنبياء فعليه لعنة الله([90]). وقال لأبي بصير: ابرَأْ ممَّنْ يزعم أنا أرباب، ابرَأْ ممَّنْ زعم أنا أنبياء، قال: قلتُ: برئ الله منه([91]). وعن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: إن الله ختم بنبيِّكم النبيِّين، فلا نبيَّ بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب، فلا كتاب بعده أبداً، وأنزل فيه تبيان كلّ شيءٍ…، إلخ([92]).
وكان هناك أفرادٌ أو مجموعاتٌ مندسّة في أوساط أتباع أهل البيت ومحبِّيهم يسعون لافتعال الفتن والاضطرابات بينهم وبين المسلمين الآخرين. وكان بعضهم يركِّز على مجال الفضائل والمثالب؛ لاجتذاب عواطف البسطاء من الناس. وبلغ من مَكْرهم أنهم في الوقت الذي كانوا يضعون أحاديث مغالية في أهل البيت، لا تتَّفق مع روح القرآن؛ ليخدعوا بها البسطاء، ويظهروا أمامهم بأنهم من محبِّيهم ومواليهم، كانوا في نفس الوقت يضعون رواياتٍ في مثالب مخالفيهم؛ بغية إشعال الفتن والاضطرابات. سأل إبراهيم بن أبي محمود الإمام عليّ الرضا عن الموقف من تلكم الروايات، فبيَّن له حقيقتها، وأهداف واضعيها الخبيثة، فقال: يا بن أبي محمود، إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلوّ؛ وثانيها: التقصير في أمرنا؛ وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفَّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا ثلبونا بأسمائنا([93]).
وأشار السيد السيستاني إلى وجود ظاهرة «الإفراط والتفريط» لدى بعض المعاصرين للأئمّة في نظراتهم إليهم؛ فكان فيهم الغُلاة والباطنية أصحاب النظرة «الإفراطية»، كالخطّابية والمغيرية والعبيديين وغيرهم ممَّنْ نسبوا أنفسهم إلى أهل البيت، وكانت لهم أهداف سياسية؛ وكان بعضهم يعتقد بنبوّة الأئمّة؛ ومنهم من ينسبهم إلى الربوبية([94])؛ ومنهم مَنْ كان يعتقد بأن معرفة الإمام تكفي عن الصلاة والصوم؛ وكان هناك الغُلاة والملاحدة وغيرهم، الذين كانوا يذهبون للإباحية المطلقة، حيث يبيحون المحرَّمات ويرفعون التكاليف، وينسبون أنفسهم وآراءهم إلى الأئمّة وإلى أتباعهم؛ لتشويه سمعتهم([95]). وكانت بعض الجهات السياسية والإعلامية المناوئة ومَنْ يرتبط بها من أصحاب المقالات المعادية لأهل البيت تروِّج تلكم الآراء وتنسبها إلى الأئمّة. وقد صدر التحذير الشديد منهم ضدّ هذه الاتجاهات والأفكار([96]).
وفي المقابل كانت هناك جماعةٌ «تفريطية»، لم تعرف الأئمّة بالمستوى المطلوب، وبالمقامات والخصائص المختصّة بهم. وكانت ترى أن الأئمّة هم كسائر الفقهاء العارفين بالكتاب والسُّنَّة، دون أن يؤمنوا بأن لهم مقام الولاية. فإذا سمع هؤلاء حكماً من الأئمّة مخالفاً لما هو المشهور بين المسلمين نسبوه إلى الرأي والقياس([97]).
ومن الطبيعيّ أن تلكم الآراء والأفكار كانت تروج في بعض الأوساط، وتؤثِّر على بعض المجموعات، وتثير جدالات، وتحدث إرباكات وانقسامات في بعض المجتمعات.
ولم يكتفِ الأئمّة بالتحذير من الغُلاة والمنحرفين، وكشف أسمائهم، والجَهْر بلعنهم والبراءة منهم، بل بيَّنوا شروط الانتساب الصحيح إليهم والانتماء إلى خطِّهم. جاء عن الإمام محمد الباقر أنه قال لجابر الجعفي: أيكتفي مَنْ ينتحل التشيُّع أن يقول بحبِّنا أهل البيت، فواللهِ ما شيعتنا إلاّ مَنْ اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعْرَفون، يا جابر، إلاّ بالتواضع والتخشُّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خيرٍ، وكانوا أمناء عشائرهم. يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حَسْب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولاّه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إني أحبّ رسول الله، فرسول الله خيرٌ من عليٍّ، ثمّ لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسُنَّته، ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزَّ وجلَّ أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما مَعَنا براءة من النار، ولا على الله لأحدٍ حجّة، مَنْ كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَنْ كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع([98]).
وجاء عنه أيضاً يخاطب الشيعة قائلاً: يا معشر الشيعة ـ شيعة آل محمد ـ، كونوا النِّمْرَقة الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي، فقيل له: جُعلت فداك، ما الغالي؟ قال: قومٌ يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منّا ولسنا منهم…، ثم قال: والله ما مَعَنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا نتقرب إلى الله إلاّ بالطاعة، فمَنْ كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا. وَيْحَكُم لا تغترّوا، وَيْحَكُم لا تغترّوا([99]).
وعن جابر عن أبي جعفر الباقر: شيعتنا مَنْ أطاع الله.
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: إيّاكم والخصومة؛ فإنها تفسد القلب وتورث النفاق([100]).
خلاصاتٌ ونتائج
إن الظروف التاريخية التي مرّ بها أئمّة أهل البيت^ وأتباعهم والمتعاطفون معهم، طوال مسيرتهم التاريخية، فرضَتْ عليهم تحدّيات وأوضاعاً صعبة. ومع كلّ الضغوط التي مرّوا بها فإنهم استفادوا من بعض الانفراجات السياسية في نشر مناهجهم ومعارفهم في مختلف المجالات الفكرية الدينية.
وكانت مجالسهم تستوعب طلاّب الفكر والكلام والفقه والحديث من مختلف الاتجاهات الفكرية.
إن طرح السؤال حول القضايا الكلامية والأصولية والحديثية أمرٌ مشروع، وإن أبواب البحث فيها ليست مسدودةً. وكان أصحاب الأئمّة كثيراً ما يطرحون أسئلتهم وآراءهم على الأئمّة، ويتلقون منهم المواقف الفكرية.
وتفيد المصادر الروائية أن الاختلافات الفكرية بين بعض أصحابهم لم تقتصر على الفروع الفقهية والروائية، بل وقعَتْ بينهم اختلافاتٌ في بعض القضايا الكلامية المهمّة أيضاً، كما تبين من بعض الأمثلة التي سبق التطرُّق إليها. وهو أمرٌ طبيعي يتَّسق مع البيئة التي تزخر بالمناقشات الأصولية والفقهية والمناظرات الكلامية.
وكانوا يختلفون في طرائق التفكير، وفي جملةٍ من الآراء، وكذلك في أساليب التعامل مع الروايات.
فكان منهم المتكلِّمون والفقهاء وأصحاب الاستدلال والاستنباط والتفريع؛ ومنهم مَنْ كان أقرب إلى مسلك الحديث والأَثَر والخَبَر؛ وكان منهم مَنْ يتشدَّد في طرق قبول الروايات؛ ومنهم مَنْ كان يتساهل في قبولها.
وقد اكتسب هذان المسلكان في التفكير ملامح واضحة في فترة الأئمّة الأواخر، أو خلال العقود الأولى من القرن الثالث الهجري.
ويمكن للدارس أن يلاحظ تطوُّر ونموّ هذين المسلكين وانعكاساتهما في الفترة التالية، وتأثيرهما في مختلف مجالات الفكر الديني، كالتفسير والفقه والكلام والأصول وفَهْم الحديث ودرايته.
إن النماذج والأمثلة السابقة ترسم لنا أبعاداً متنوِّعة عن المشهد الفكري والمناخ الثقافي الذي كان يسود مجالس أصحاب الأئمّة، ورواتهم، والمنتمين إلى نهجهم، والمتعاطفين معهم؛ فإنهم مع وجود الجوامع العامّة بينهم، لم يكونوا يعيشون الجمود والانغلاق والتقوقع على لونٍ معين من الفكر، بل كانوا يمثِّلون أطيافاً متعددة واتجاهاتٍ متنوّعة في التفكير الديني، ضمن الأُطُر والنواظم المشتركة بينهم.
الهوامش
(*) باحثٌ مهتمٌّ بالفكر العربيّ الإسلاميّ. من سلطنة عُمَان.
([1]) محمد بن إسحاق النديم، الفهرست: 224، بدون بيانات.
([2]) محمد بن عمر الكشي، رجال الكشّي: 220، تقديم وتعليق: أحمد الحسيني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت؛ عبد الله نعمة، هشام بن الحكم: 55، دار الفكر اللبناني، ط2، 1985م.
([3]) عبد الرسول الغفّار، الكليني والكافي: 338، مؤسسة النشر الاسلامي، ط1، 1413هـ؛ محمد رضا الحسيني، مقولة جسم كالأجسام بين موقف هشام بن الحكم ومواقف سائر أهل الكلام، مجلة تراثنا، العدد 19، 1410هـ، مؤسسة أهل البيت^ لإحياء التراث، قم، إيران.
([4]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث (تقريراً لأبحاث السيد علي السيستاني) 1: 284، ط1، 1441هـ، مركز الإمام الحجّة لخدمة الطلاب، قم، إيران. وراجِعْ أيضاً: هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث (تقريرات الإمام علي السيستاني) (نسخة إلكترونية): 240، انتهى من مراجعتها وكتابتها بتاريخ 12 ذي الحجة 1414هـ، حَسب مقدّمة المقرِّر.
([5]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث 1: 287؛ وكذلك: هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث (نسخة إلكترونية): 242. ملاحظة: الكاتب له كتابان على شكل مذكّرات مطبوعة، وله نسخة كمبيوترية منقّحة دمج فيها الكتابين، وله كتاب مطبوع من عدّة أجزاء.
([6]) محمد بن الحسن الطوسي، العدّة في الأصول 1: 381، تحقيق: محمد مهدي نجف، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، ط1، 1983م.
([8]) محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 29، مؤسسة الوفاء، ط3، 1983م، بيروت.
([9]) ابن خلدون، المقدّمة، 446، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، بدون بيانات.
([10]) أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي 2: 208، 359، تحقيق: محمد جواد النائيني، دار الأضواء، ط1، 1988م.
([11]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان 6: 264، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط5، 1983م، بيروت.
([12]) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفِرَق: 65، 70، 71، تحقيق: محمد محيي الدين، دار المعرفة، بيروت.
([13]) الكشي، رجال الكشي: 493.
([14]) محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي 1: 118، ضبطه وصحّحه وعلّق عليه: محمد جعفر شمس الدين، دار المعارف للمطبوعات، بيروت، 1990م.
([16]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث 1: 290؛ وكذلك: هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث (نسخة إلكترونية) (تقريراً لدرس السيد علي السيستاني): 244؛ وراجع أيضاً: ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الحكام 2: 127، تحقيق: أحمد بن محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، 1983م؛ وكذلك: أبو جعفر الطوسي، عدّة الأصول 1: 284، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، 1983م.
([17]) الكليني، أصول الكافي 2: 600.
([19]) محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة: 91، تحقيق: أحمد شاكر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط1، 1940م.
([20]) الكشي، رجال الكشي: 130.
([21]) الكليني، أصول الكافي 1: 321.
([24]) محمد باقر المجلسي، مرآة العقول 3: 133، دار الكتب الإسلامية، 1363هـ.ش، طهران؛ حيدر حبّ الله، حجِّية السنّة في الفكر الاسلامي: 506، 563، مؤسّسة الانتشار العربي، ط1، 2011م؛ وراجِعْ هاشم الهاشمي، اختلاف الحديث، من محاضرات السيد علي السيستاني عام 1396هـ: 7، مذكّرات مطبوعة.
([25]) الكليني، أصول الكافي 1: 476.
([26]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتقليد: 400، المؤسّسة الدولية، ط1، 1998م، بيروت.
([27]) المجلسي، مرأة العقول 4: 356.
([28]) الكليني، أصول الكافي 1: 317.
([29]) محمد بن عليّ الصدوق، معاني الأخبار: 133، دار المعرفة، بيروت، 1979م.
([30]) الكليني، أصول الكافي 2: 423.
([34]) محمد بن عليّ الصدوق، الخصال: 290، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مكتبة الصدوق، طهران، 1389هـ.
([35]) محمد بن محمد المفيد، أوائل المقالات: 75، دار الكتاب الإسلامي، 1983م، بيروت.
([36]) الكليني، أصول الكافي 1: 313 (الهامش).
([38]) محمد باقر الصدر، تعارض الأدلة الشرعية: 33، دار الكتاب اللبناني، ط1، 1975م.
([39]) محمد باقر البهبودي، زبدة الكافي 3: 395، الدار الإسلامية، بيروت، ط1، 1981م.
([40]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة، من محاضرات السيد علي السيستاني: 21، 23، 25، مذكرات مطبوعة.
([41]) محمد علي الرباني، حجِّية خبر الواحد (تقريراً لدرس السيد علي السيستاني): 133، 1437هـ، نسخة أولية الكترونية.
([42]) الكشّي، رجال الكشّي: 195.
([44]) محمد علي الرباني، حجية خبر الواحد (تقريراً لبحث السيد علي السيستاني): 14.
([45]) محمد بن يعقوب الكليني، فروع الكافي 5: 111، ضبطه وصححه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف للمطبوعات، بيوت، 1990م.
([50]) أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي 2: 38؛ وراجع، محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 136.
([51]) الكشي، رجال الكشي: 195.
([52]) محمد علي الرباني، حجّية خبر الواحد (تقريراً لبحث السيد علي السيستاني): 133.
([53]) الكليني، فروع الكافي 4: 97.
([54]) مرتضى المهري، دراسات أصولية [المدخل، تقسيم أبحاث الأصول] (تقريراً لبحث السيد علي السيستاني): 34، جمادى الثانية، 1436هـ، الشبكة الإلكترونية.
([55]) منير عدنان القطيفي، الرافد في علم الأصول (محاضرات السيد علي الحسيني السيستاني) 1: 76 ـ 77، ط1، مطبعة مهر، 1414هـ، قم ـ إيران.
([56]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث: 467، نسخة إلكترونية.
([57]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث 2: 67؛ وكذلك: هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث: 468، 469، نسخة إلكترونية.
([58]) أبو نعيم الإصبهاني، حلية الأولياء 3: 196، دار الفكر، 1996م؛ وكذلك: ابن القيِّم الجوزية، إعلام الموقعين 1: 256، تحقيق: محمد محيي الدين، بدون بيانات؛ القاضي النعمان بن محمد، اختلاف أصول المذاهب: 158، تحقيق: مصطفى غالب، دار الأندلس، 1973م.
([59]) الكليني، أصول الكافي 1: 112.
([60]) ابن حزم الأندلسي، ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل: 71، تحقيق: سعيد الأفغاني، مطبعة جامعة دمشق، 1960م؛ وراجع: ابن القيِّم الجوزية، إعلام الموقعين 1: 255، حقّقه: محمد محيي الدين.
([61]) الكليني، فروع الكافي 5: 328.
([62]) مالك بن أنس، الموطأ: 746، تقديم: فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، بدون بيانات؛ وراجِعْ: ابن القيِّم الجوزية، إعلام الموقعين 4: 363، تحقيق: محمد محيي الدين، بدون بيانات.
([63]) الكليني، أصول الكافي 1: 109.
([66]) محمد أبو زهرة، الإمام الصادق: 293، دار الفكر العربي، بدون بيانات.
([68]) حسين يوسف مكّي، عقيدة الشيعة في الإمام الصادق: 219، دار الزهراء، بيروت، ط1، 1987م.
([69]) أبو نعيم الإصبهاني، حلية الأولياء 3: 196، دار الفكر، 1996م؛ وكذلك: ابن القيِّم الجوزية، إعلام الموقعين 1: 256؛ القاضي النعمان بن محمد، اختلاف أصول المذاهب: 158.
([70]) أسد حيدر، الإمام جعفر الصادق والمذاهب الأربعة 3: 95، دار الكتاب العربي، ط2، 1971م.
([71]) مصطفى السباعي، السنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 404، 412، المكتب الإسلامي، ط3، 1982م، بيروت.
([72]) الكليني، أصول الكافي 2: 47 ـ 49.
([75]) الكشي، رجال الكشي: 418.
([80]) الكليني، أصول الكافي 2: 49.
([81]) مرتضى المهري، مباحث رجالية (تقرير لدرس السيد السيستاني): 5 ـ 6، ربيع الأول، 1398هـ.
([82]) الكليني، أصول الكافي 2: 365.
([89]) الكشي، رجال الكشي: 213.
([92]) الكليني، أصول الكافي 1: 324.
([93]) محمد بن عليّ الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 272، تقديم: حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1984م.
([94]) هاشم الهاشمي، اختلاف الحديث (من محاضرات السيد علي السيستاني): 89، مذكرة مطبوعة متداولة.
([95]) هاشم الهاشمي، تعارض الأدلة واختلاف الحديث: 267، نسخة إلكترونية.
([96]) هاشم الهاشمي، اختلاف الحديث (من محاضرات السيد علي السيستاني): 105، مذكرة مطبوعة متداولة.
([98]) الكليني، أصول الكافي 2: 80.
([100]) أبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 3: 184، مكتبة الخانجي (القاهرة)، ودار الفكر (بيروت)، 1996م.