الشيعة وعلاقتهم بالدولة
في ظل ثورات الربيع العربي طفى علي السطح الكثير من الموضوعات المتعلقة إلى حد كبير بالإنسان العربي المسلم بشكل عام والشيعي بشكل خاص، وأهم هذه الموضوعات بعد سقوط أنظمة استبدادية واستبدالها بأنظمة تتبنى الديموقراطية كمشروع سياسي للحكم ، وما تحمله معها الديموقراطية من مفاهيم كثيرة أهمها التعددية السياسية والفكرية والدينية والمذهبية ومفاهيم التعايش والتسامح والمواطنة والحقوق والواجبات والمساواة والعدالة والحريات بما يشكل في مجمله مشروع دولة حديثة تتكون من مؤسسات تحدها أطر القانون والدستور، بات واضحا لدى الفرد الشيعي ومايشكله بمجموعه من فئة قد تشكل أقلية في دولة أو أكثرية في أخرى ، ضرورة بناء نظرية المواطنة في منظومته الفكرية والدينية واستغلال هذا التغيير في صالح الاندماج في مشروع الدولة بل والمشاركة كشريك فاعل في الفعل السياسي.
يمكن من خلال استقراء للتاريخ معرفة تطور نمو الفكر الشيعي حول الدولة وعلاقة الفرد الشيعي معها، وهو ما يعكس المراحل التي مر فيها الفرد الشيعي والمؤثرات البيئية والثقافية والفكرية والسياسية التي رسمت معالم شخصيته وسيرت سلوكه العام والخاص.
وهو ما يتطلب إجراء جراحة في عمق هذه المؤثرات كي يمكننا إدخال الفرد الشيعي إلى مختبر الدراسة والتحليل.
إن الإنسان بشكل عام وفق علم الاجتماع تشكل شخصيته أبعاد كثيرة أهمها:
١. البيئة وهي تشمل الطبيعة المحيطة به وبيئته الثقافية والفكرية والسياسية.
٣. الدين وتشكلاته وصيرورته العقدية والاجتماعية كفهم تغلب عليه البشرية.
ويمكن أن نميز بين شخصية الفرد الشيعي قبل عصر الغيبة الكبرى وفي ظل وجود الامام المعصوم وشخصيته بعد عصر الغيبة وتولي الفقيه للمسيرة من خلال فهمه للنصوص واستقرائه لها , وتحولات الفكر الشيعي السياسي خلال حقب متتالية خاصة فيما يتعلق بعلاقة الفرد الشيعي بالمجتمع والدولة ونظرة الفقيه للدولة.
إضافة إلى ضرورة ملاحظة تشكلات الفرد الشيعي المتأثرة بالمجتمع العربي أو ما يطلق عليه العقل العربي والبيئة التي تحكمت في تشكلاته ورؤاه وأثرت أيضا على تكوينه وصيرورته.
سأركز على عهد الرسالة النبوية المجمع عليه من قبل المسلمين , لاستقراء سلوك النبي صلى الله عليه وآله كرئيس دولة, وكيف أسس الكيان الاسلامي في منطقة جغرافية فيها من التمايزات الدينية والفكرية والمشارب الثقافية ما قد يعكس واقعا شبيها إلى حد كبير بواقعنا.
– بناء الإنسان العقيدي وتهيأة القابليات والتمهيد لقيام دولة
– دور القيادة في بناء جسر التفاعل بين الشعب والرئيس من خلال تشكلات مجتمعية تحاكي الواقع الديموغرافي سواء قبلية كانت أو عائلية ودمجها في المجتمع من جهة وفي المشاورة من جهة أخرى حول أهم ما يعتري الدولة والمجتمع من عقبات من خلال تخليصها من الأمراض الأخلاقية وبث روح التعددية الدينية والتعايش والتسامح في نفوسها للخلوص بها من إنسان عقيدي لإنسان عالمي يتناسب مع دور الأمة الشاهدة الذي يتطلب فاعلية وحضور في ساحات الآخرين.
من أبرز ما يمكن الاستدلال به في بناء الدولة هو فترة قيام الدولة الاسلامية في المدينة بعد فتح مكة , والتي أرسى رسول الله أسسها على أساس صحيفة المدينة التي باتت تشكل مرجعية لكثيرين يستلهمون منها مجموعة من المفاهيم والأسس التي تقوم الدولة عليها وفق استقراء يتناسب والمكان والزمان وقابليات المجتمع وتطوره العقلي والفكري وما يتناسب مع بيئته من جهة ومع مقاصد الشريعة من جهة أخرى، بما يمكن البناء عليه بناءا معرفيا تراكميا يثمر نظرية سياسية للدولة تتناسب وعصرنا الحالي ومتطلباته ، بما يجعل المبنى معصوما والتراكم المعرفي عليه استقراءا لتلك المسلمات وفق معطيات الواقع.
وقبل الدخول في إطلالة على أهم ما جاءت به الصحيفة من مبادئ سياسية لقيام دولة ، أود أن أجول في العقل الديني وإشكاليته مع المفاهيم الحديثة والتي جاءت بها الحداثة ، كمفهوم المواطنة والمدنية .
فهناك حالة تجاذب فكري ونصي حول إمكانية تبني مشروع المواطنة في الفقه الاسلامي والخروج بنظرية فقهية شاملة حول هذا المشروع،حيث انقسم هؤلاء إلى عدة أقسام أهمها:
١. يرفض المصطلح جملة وتفصيلا بسبب محمولاته ودلالاته ومنشأ ولادته،يعتبره مخالفا لكثير من المسلمات القرآنية والوحيانية بشكل عام،ويجده مخالفا لمشروع الأمة ومكرسا للقطرية التي تفتت الأمة إلى أقطار وتشتت همومها وأحلامها.
٢.يقبل المصطلح بمحمولاته ودلالاته بل وكما هو بمناشئه الفلسفية والفكرية ويريد أن يأخذها مما هي من الواقع الغربي الذي نشأت في ظله النظريه, وفق تراكمات بشرية معرفية وتجريبية ويسقطه على الواقع العربي والاسلامي مما يشكل فعلا تصادميا مع كثير من مفاهيمنا وثقاقتنا بل بعض ما نعتبره مسلماتنا.
٣.يستفيد من التجربة البشرية وينظر لايجابياتها في المجتمع الغربي وفق التراكمات المعرفية في تطور المفهوم كنظرية وكتجربة ويستفيد من المصطلح ويذهب لاستقراء التاريخ الاسلامي ورصد التجربة الاسلامية في ذلك , رغم عدم وجود المفهوم كما هو إلا أنه يحاول انتزاع نفس المفهوم من الممارسات والمواقف التي تصوغ دلالاته ومقاصده ليتشكل لديه نظرية الاسلام في المواطنة, فيكون بذلك استفاد من مفهوم حداثي واستنطق الداخل الاسلامي لينتزع من خلال الممارسة النظرية الاسلامية التي تحقق نفس غايات المفهوم منطلقا من أسس وقواعد الاسلام الرصينة.
ولو استقرأنا الظروف السياسية المحيطة إبان تأسيس الدولة الاسلامية في المدينة المنورة نجد أهم الظروف المحيطة هي مجموعة قوى منافسة للمسلمين هي :
١.اليهود وما يشكلونه من عبئ اقتصادي،وخبث سياسي معروف ، وعدة وعدد لا يستهان به
٢.المشركون وإن ضعف دورهم بقدوم النبي والمهاجرين حيث جاملهم النبي وقابلهم بالحسنى.
٤. قريش وسائر القبائل المشركة خارج المدينة وما تشكله من تهديد حقيقي للكيان الاسلامي.
فتجلت عظمة النبي كرئيس دولة في مواجهة المخاطر الخارجية والداخلية المحيطة بالكيان الاسلامي من خلال معاهدة صلح وتعاون بين المسلمين واليهود لبناء دولة تعود بمركزيتها إلى النبي ص يتمتع فيها الجميع بالحقوق الإنسانية على السواء.
إذ ما اقرته المعاهدة لا يختلف عليه إنسان عاقل ولا تنفيه الفطرة الإنسانية التي أودعت فيها بالقوة هذه الحقوق .
ويمكن القول بأن الصحيفة كانت بمثابة أول مشروع دستوري لبناء دولة إسلامية متحضرة في مجتمع المدينة الذي سوف ينطلق نحو المجتمع العربي ثم المجتمع الإنساني العالمي لتقبل النظام الاسلامي الجديد. “[1]
١.إبراز وجود المجتمع المسلم وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه إليه.
٢. الإبقاء على الوجود القبلي – مع تحجيم دوره وصلاحياته – لتخفيف العبئ عن كاهل الدولة ، بإشراكه في بعض النشاطات الاجتماعية والاستعانة به لحل جملة من المشكلات .
٣.التأكيد على حرية العقيدة بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم وممارسة طقوسهم واعتبارهم مواطنين في الدولة الاسلامية الجديدة ورفع سقف الحريات بما يحرر العقل ويطلق له العنان في التحليق في عالم الفكرة دون قيود في عالم الذهن ،وأما في عالم الإمكان والواقع فالفكرة تضحض أو تثبت بالدليل والحجة والبرهان ,والابقاء على سقف لتقنين مرجعيته الشريعة الإسلامية.
٤.ترسيخ دعائم الأمن في المدينة بجعلها حرما آمنا لا يجوز القتال فيه . وعدم الجواز هنا تشريع قانوني من قبل النبي كرئيس للدولة. وهي مؤشر مهم لقوننة الفقه السياسي في الدولة بطريقة تضمن الاستقرار الأمني.
٥. إقرار سيادة الدولة والنظام الإسلامي وإرجاع قرارالفصل في الخصومات إلى القيادة الإسلامية المتمثلة في شخص الرسول “ص” ولو أرجعنا هذه النقطة لظروفها الزمكانية يمكن أن نستنتج أن شخص رسول الله هو الشخص المشرع فقهيا وقانونيا والرجوع له بمثابة الرجوع لجهات الاختصاص في فض المخاصمات بما يؤسس لفكرة دولة المؤسسات ومرجعية الدستور والقانون في قيام الدولة وفق أسس تحفظ أمنها واستقرارها ويكون أحد مصادر التشريع فيها الشريعة الإسلامية لتشكل مرجعية آمنة في كلياتها وثوابتها للعقل البشري .
٦.توسيع دائرة المجتمع السياسي باعتبار أن المسلمون واليهود يتعايشون في نظام سياسي واحد ويدافعون عنه، ،هو ما يفعل دور الفرد في العمل والترشيد السياسي،ويخرج العمل السياسي من دائرة الحاكم والحاشية إلى دائرة الشعب فلا يقتصر الفعل السياسي على فرد أو جهة ويعطل دور الباقي.وهو مصداق قوي للمواطنة الصالحة.
٧.الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد المجتمع المسلم كي يتجاوز الأزمات التي تعترضه,وفق الفهم القرآني وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.
والتعاون هنا يعطي دلالات على مشاركة الافراد في ظل جماعات منظمة في الفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وعدم اقتصار ذلك على الدولة والسلطة وما يعكسه هذا التعاون اليوم هو مؤسسات المجتمع المدني ودورها في الدولة الحديثة.
– من هذا النموذج يمكن الخروج بأمور عدة حول مشروع المواطنة أهمها:
١. اهتمام الرسول بتأسيس دولة يحكمها القانون ويشارك فيها الفرد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا،فيخرج الفرد من صندوق القبيلة والطائفة إلى فضاء الوطن الذي لا يقتصر في ذلك الزمان على حدود جغرافية بعينها نتيجة لطبيعة المشروع الاسلامي العالمي وسوف نسلط الضوء على هذا الموضوع لاحقا.
٢. التأسيس لثقافة التعايش والتعدد الديني وفق رؤية تحفظ كيان المجتمع من التنازع والتفرق وتحفظ كيان الدولة ,إذ حق الاعتقاد مكفول ولكن بما لا يمس أمن واستقرار المجتمع مع الاذعان للقانون الحاكم للدولة والذي يفترض أن تكون مرجعيته التشريعية العقل والنص, فترسي قواعد الأمن الاجتماعي بالتعاون على البر والتقوى بما ينعكس على الاستقرار الأمني ومن ثم الرفاه الاقتصادي والتنمية البشرية.
٣.رفع سقف الحريات وفق أسس قيمية، بما فيها الحرية العقدية وتقييدها بالالتزام بنظام الدولة القائم ، والسماح للديانات الأخرى للانخراط في الدولة كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات،وهو ما يتيح لهم بالاندماج وتنمية شعور الانتماء للوطن لا للطائفة تحت سقف تحكمه وتصوغه صحيفة المدينة بما تشكله من مرجعية شرعية , بحكم أن واضعها هو النبي المعصوم صلى الله عليه وآله بصفته رئيس الدولة وهو ما يمكن اعتباره تشريع حكومتي.
هذا المشروع الاسلامي يعكس خطة النبي الاستراتيجية المرحلية لقيام دول مؤسساتية قانونية ودستورية شبيهة ,طالما هو يقدم نموذجا للحكم حيث أنه نبي معصوم ولا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وأن سنة النبي ص هي قوله وفعله وإقراره.ومن خلال صحيفة المدينة يثبت لنا التأسيس لثقافة المواطنة وإن لم يكن المصطلح حاضرا في ذاك الزمان إلا أن الممارسة والسلوك تعطي نفس دلالات ومحمولات المصطلح ولكن وفق الصياغة الاسلامية التي تأخذ في الحسبان اعتبارات عديدة لا يدركها العقل البشري إذ أن إحاطة الشريعة أكثر عمقا من إحاطة العقل المحدود أصلا.
– لكن الأسئلة التي دوما ما تطرح نفسها في هذا المضمار هي :
١. هل التأسيس كان للوطن الجغرافي وما هي أهم الاشكاليات التي تثار حوله ( القطرية وأثرها في تحجيم هم المواطن من هم الأمة إلى هم الجماعة والفصل بين الأقطار بالتشتيت للهيمنة )وما هي رؤية الاسلام في ذلك ؟
قبل الاجابة على هذه الأسئلة من المهم تسليط الضوء على شخصية الفرد الشيعي والعوامل التي ساعدت على تشكلها ومن ثم عزلها عن الاندماج والتفاعل والمشاركة.
حيث تم بناء لبنات الانقسام عن المحيط من خلال القراءة المبتورة للنص عن واقع النص الزماني والمكاني وقراءته في عمقه الفردي لا الاجتماعي رغم أن التشريع الاسلامي حينما نزل راعى المجتمع رغم أنه لم يهمل الفرد إلا أن غالبية التشخيصات كان لها امتداداتها الاجتماعية في الحكم والتشريع.
فقرأت نصوص الانتظار بطريقة تعطيلية توقف حراك الفرد الشيعي واندماجه في المحيط وتناميه الحراكي والفكري والثقافي إلى حين ظهور الامام الحجة عج.
وهذه الثقافة التراكمية أحدثت خللا واضحا جدا في العقل الشيعي وراكمت لديه ثقافة الانعزال .والرضا بالظلم الواقع عليه من قبل الدولة وعدم سعيه للدفاع عن كيانه ووجوده كفرد في هذا الوطن له حقوق وعليه واجبات لأنه اصلا لم يكن لديه قناعة بانتمائه لهذا الوطن بل يعيش فيه بقناعة كونه عابر سبيل ينتظر دولة الظهور ليأت الحجة فيرفع عنه الظلم ويقيم العدالة.وهذه الثقافة انعكست على رؤية الفقيه للدولة والمواطنة والانتماء وهو ما انعكس على الفرد الشيعي لما للفتوى من أثر كبير في حياة الفرد وسلوكه على كافة المستويات,ولا يمكننا أن ننكر دور الإمام الخميني في التأسيس لقيام دولة وفق معطيات مدنية لا تتنافى في مقاصدها مع الشريعة الاسلامية.
بالرجوع لكثير من الفتاوى أو الاستفتاءات نجد أن الفقيه كان يركز خاصة في أجوبة الاستفتاءات المتعلقة بعلاقة الفرد مع الدولة على القراءة الفردية للحكم ولم يأخذ في حسبانه العمق الاجتماعي في ذلك ، وكانت كثير من الفتاوى تكرس ثقافة الانعزال باعتبارها للحكومات القائمة أنها حكومات مغتصبة وغير شرعية بل
كان هناك فتاوى تبيح التصرف ببعض أموال وممتلكات الدولة تحت عنوان مجهول المالك، وهو ما راكم لدى الفرد الشيعي قناعة عدم الانتماء للمحيط وكرس لدية ثقافة الانتماء للمذهب.فوقعنا أسرى الغلو في فهم التعاون مع السلطة فكما وقع السنة في فخ تفسير طاعة ولي الامر والغلبة وقعنا في فخ العداء مع السلطة وحرمة التعامل مع الحكومات باعتبارها حكومات مغتصبة وغير شرعية رغم وجود كثير من الشواهد التاريخية في تعاطي المعصوم مع الحاكم الجائر كمواطن يحدد المفسدة والمصلحة وكمعصوم يقدم نموذج في الحراك الاجتماعي داخل الدولة ووظيفة الفرد في المجتمع وفي الدولة,خاصة في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر,وتم أيضا في الآونة الاخيرة مراكمة العمل على هذه المفاهيم وهي مازالت تتطلب مزيد من التنهيض والتثوير.
حيث عاش الفرد الشيعي هاجس المظلومية الذي كان واقعا في فترة زمانية لها ظروفها السياسية والتاريخية والاجتماعية الخاصة.
فرغم أننا لا ننكر كم الظلم الذي مارسه بنو أمية وبنو العباس على الأئمة في تلك الفترة التاريخية
إلا أنها فترة كان لها خصوصيتها السياسية المتعلقة بهاجس الحكم وحق الأئمة في السلطة والذي كان ينعكس على سياسات الحكومات القائمة في تضييق الحصار بكافة مستوياته على الأئمة وأتباعهم إلى حد يصل للتضييق العقدي الذي كان لا يظهر فيه المتبع لهم حقيقة انتمائه العقدي خوفا على حياته.
إضافة إلى قراءة تلك الحقب التاريخية من قبل كثير من الفقهاء والمنابر الحسينية قراءة سلبية تشيع روح الانهزام والانزواء وتنمي شعور المظلومية الذي زاد من عزلة الفرد الشيعي وزاد لديه الاحساس بالتمييز عن الشريك في الوطن مما نمى لديه شعور الوحدة لا التعدد والرفض لا التعايش والاندماج. رغم أن تلك الفترة تقريبا انتهت بزوال بنو العباس وبدأ تدريجيا يتنامى الوجود الشيعي فينشط فترة ويخبو فترة وفقا للظروف السياسية التي غالبا ما كان الصراع فيها على الحكم يلعب على التمايزات المذهبية في المجتمع ويستخدم سلاح الفوبيا من الشريك في الوطن وكان غالبا الشيعة الحلقة الأضعف لظروفهم التاريخية التي كانت تسهل لدى الحاكم استخدامهم كأداة سهلة في ذلك.
هذه القراءة عمقت لدى الفرد الشيعي قناعة الانعزال وعدم التفاعل والمشاركة في الوطن وتحوله دوما إلى صفوف المعارضة، إضافة لممارسة أنظمة الحكم ممارسات تعسفية ضد الشيعة تلجأ لها كخيار سياسي حينما يتعرض سلطانها للزوال أو محاولة المصادرة,وهنا بدل البذل والتفاعل ورفع الظلم , اندمج شعور المظلومية مع اعتقاد النتظار السلبي ليشكل حالة نفسية منهزمة ومنعزلة لفترة طويلة من الزمن رغم بروز شخصيات علمائية بين الفينة والأخرى تكسر هذه الحواجز وتحاول إعادة صناعة الوعي إلا أن التراكم المهرفي واتباع الآباء وتقليدية الوضع الديني المحيط كانت تحول بشكل قوي دون المضي في هذه الاصلاحات,أو كان أسلوب مواجهة هذه الانهزامات النفسية للفرد الشيعي أسلوب صدامي مما كان يشكل رد فعل قوي يسقط كل محاولات الاصلاح بل تصبح أفكار المشروع في طي ذاكرة الرفض الدائم.
حيث تم التركيز في قراءة النصوص الحديثية والتاريخية على القراءة المذهبية التي كانت تعمق الخلاف المذهبي, وتحول التاريخ من مصدر ملهم للمستقبل إلى مصدر لتكريس هوة الخلاف بين المسلمين على قضايا تاريخية ونصوص حديثية تعامل أصحابها أنفسهم معها بروح عالية من المسؤولية وتجاوزوها لأجل غايات ومقاصد أسمى رسخت حياتهم نموذجا للتعايش الاندماج في المحيط .
إلا أن هذه القراءة هيمنت على العقل الشيعي مما كرس لديه قناعة الانعزال ونمت لديه روح العداء للآخر , حتى لو كان شريكا في الوطن إلا أن العلاقة التي تحكم بينهما هي الفوبيا والهاجس من الاخر وهو ما يكرس حالة العداء وما لهذه الحالة من انعكاس سلبي على التعايش والاستقرار الاجتماعي، إذ طالما البذور التي تحكم العلاقة بين شركاء الوطن هي بذور الخوف والقلق, فمهما كانت هناك محاولات سطحية للترميم تحدث استقرارا آنيا إلا أنها تتهاوى مع أقل ريح تهب عليها .
٥. الانغلاق الفكري والمذهبي :
إن أي محاولات فكرية كانت تنهض لقراءة النص التاريخي والمذهبي بطريقة خارجة عن المألوف الشيعي كانت تواجه بالقمع المتسلح بالفتوى, وهو ما رسخ حالة التبعية وشل من الحراك العقلي الفكري الحر الذي يتيح للفرد أن ينطلق في فضاءات حرة للبحث عن الفكرة في جو الزمان والمكان والعصر لا في حدود النص الخاصة بظروف مضت , مما جمد العقل لحساب النص وعلق لدى الفرد الشيعي حالة التقليد والاتباع السلبي أو ما يسمى بتقليد المقلدة، هذا إضافة لحديث الفئة الناجية الذي كرس من حالة التعالي على الآخر، من خلال تجيير الأدلة وتأويلها بطريقة تأكد وترسخ فكرة أن الفئة الناجية هم أتباع مدرسة أهل البيت وما لهذا الفهم سواء من السنة أو الشيعة من آثار إقصائية سواء داخل حدود الوطن الجغرافي أو داخل معالم الجسد الاسلامي,رغم أن تأويلات لهذا الحديث أكثر عقلانية وأكثر قربا من النهج القرآني تم إهمالها لأنها لا تخدم مصلحة هذا المذهب أو ذاك,كتأويلها على أساس أن الفرقة الناجية هي الفرقة الباحثة عن الحقيقة,وما لهذا التأويل من أثر كبير في التناضح الفكري والعقلي ومن اتساع أفق ينهض بكافة العقول ويرسخ قيم التعايش والتسامح ويؤسس لعقلية باحثة ناقدة وليس لعقلية مغلقة وإقصائية
٦.طرح مشاريع اصلاحية لم تأخذ بالحسبان تهيأة القابليات بل اصطدمت بما تحمله من مفاهيم مغايرة لقناعات العقل الشيعي المتراكمة زمانيا مما عرضها للرفض جملة وتفصيلا وقتل بذلك المشروع وما يحمله من أفكار إصلاحية وأدخلها في دائرة الرفض المطلق في وعي العقل الشيعي وأقصاها حتى عن ساحات التفكير والتثوير الفكري,وهو ما يعني حاجتنا للمرحلية وتهيأة القابليات من أجل إنجاز المشروع الإصلاحي بشكل مبنائي وليس سطحي,ومن ثم استخدام أسلوب الصدمة في المفاصل التي يشخص فيها العقلاء حاجتنا لذلك,وكمثال عصري الثورات اليوم هي فرصة كبيرة لإعادة صناعة الوعي وطرح كثير من مشاريع الاصلاح التي كانت تطلب سنين لطرحها من أجل تهيأة القابليات ,حيث جعلت الثورة القابليات منفتحة على كل الأفكار وإن كان لذلك بعد سلبي إلا أننا علينا تقع مسؤولية استغلاله في ضخ الأفكار الاصلاحية وبنائها بشكل معرفي وفكري سليم لنعيد صياغة الوعي الشيعي عن علاقته بالدولة .
هذه أهم العوامل التي شكلت بيئة عقل الفرد الشيعي والتي كرست من عزلته عن المجتمع المحيط وعدم الاندماج في مكونات الدولة والتواجد في مراكز متقدمة فيها يكون له من خلالها دورا فاعلا في البناء ومنع الفساد.
معرفة العوامل المأثرة غالبا على تشكيل عقل الفرد الشيعي تساعدنا في تشخيص مكامن الخلل في الوعي الشيعي للقيام بعمليات ترميم وإعادة صياغة يكون لها دور كبير في تغيير الفكرة فتتغير الحركة على ضوئها بما يعيد اندماج الشيعة في أوطانهم.
– محمولات المصطلح المتعلقة بمنشئه وبيئته التي انطلق منها والوعاء المعرفي الذي تشكل فيه، إذ أن المصطلح ذي منشأ غربي فلسفته مادية نشأ المصطلح لحل معضلات عانى منها المجتمع الغربي جاءت كنتيجة لتراكمات معرفية أنتجت هذه المعضلات فتدخل الفلاسفة مع الكنيسة لحل إشكالية التعايش في داخل المحيط الجغرافي ، حيث تتعدد الأصول التي تنتمي بالهوية لهذا المحيط الجغرافي.”من الممكن إرجاع البدايات المؤثرة والتي نتج عنها تطور هذا المفهوم للثورة الفرنسية العلمانية عام 1789 م وما تلاها، وقد ارتبط مفهوم المواطنة بالتطور السياسي في المجتمع الغربي حيث انتقل النظام من السلطة المطلقة الممنوحة للحكام بغير ضوابط إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي قضى على سلطان الكنيسة، والذي انبنت عليه الدولة الحديثة في ثوبها العلماني القومي، وخاصة بعد تهميش الدين في نفوسهم وتحويله إلى مجرد شكليات وطقوس تؤدى في زمن محدد ومكان معين، ثم لا يكون لها خارج الوجدان الذاتي أدنى تأثير، والتي انتهت بكثير منهم إلى الإلحاد، وقد كان ابتداع فكرة المواطنة بمثابة حل للصراع القائم بين أصحاب التعددية العقدية والتعددية العرقية في المجتمع الغربي.”[2]
لفظ المواطنة لغة مأخوذ من مادة “و ط ن” لكن ليس على المعنى المصطلح عليه، وفي لسان العرب: “الوطن المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله والجمع أوطان، وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها… وطن بالمكان وأوطن: أقام، وأوطنه: اتخذه وطنا، يقال أوطن فلان أرض كذا وكذا: أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيها، والميطان: الموضع الذي يوطن لترسل منه الخيل في السباق، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: “كان لا يوطن الأماكن”[1][3]، أي لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به، والموطن: مفعل منه، ويسمى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، والموطن: المشهد من مشاهد الحرب، وفي التنزيل العزيز :”لقد نصركم الله في مواطن كثيرة””[2][4]، وفي المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: “الوطن: مكان الإنسان ومقره، ومنه قيل لمربض الغنم: وطن، والجمع أوطان مثل سبب وأسباب، وأوطن الرجل البلد واستوطنه وتوطنه: اتخذه وطنا، والموطن مثل الوطن والجمع مواطن مثل مسجد ومساجد، والموطن أيضا: المشهد من مشاهد الحرب، ووطن نفسه على الأمر توطينا: مهدها لفعله وذللها، وواطنه مواطنة مثل وافقه موافقة وزنا ومعنى”، فالكلمة تدور حول المكان والإقامة فيه، وليست تحمل مدلولا اصطلاحيا يحمل قيمة تزيد عن معناها اللغوي، ومن هنا يتبين أنه لا دلالة لغوية في كلمة هذه المادة “وطن” على المعاني والدلالات التي أريد لها أن تحملها والتي نعرض لها لاحقا، وقد حاول البعض[3][5]
ورغم أن مصطلح المواطنة لم يوجد على هذه الصورة أول أمره بل أخذ يتطور وينتقل من مفهوم إلى مفهوم، بحيث لا يمكن الوقوف على تعريف جامع له، إلا أنه ينظر للمواطنة بوجه عام على أنها علاقة قانونية بين الفرد (المواطن)[4][6] وبين الوطن الذي تمثله الدولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تنظم القوانين السائدة هذه العلاقة، والتي تقوم على أساس الانتماء لوطن واحد خاضع لنظام سياسي واحد.
وقد نصت كثير من الموسوعات كدائرة المعارف البريطانية والموسوعة السياسية لعبد الوهاب الكيالي، وقاموس علم الاجتماع لمحمد عاطف غيث على أن المواطنة علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق يتمتع بها وواجبات يلتزم بها، انطلاقا من انتمائه إلى الوطن الذي يفرض عليه ذلك، ومن هنا يتبين أن المواطنة أضحت فكرة وتصورا تنبثق منها الحقوق والواجبات وتتحدد على أساسها الالتزامات، وتحولت بذلك إلى أيديولوجيا يلتف حولها الأفراد في الوطن الواحد على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم.
وانطلاقا من مبدأ المواطنة يصير جميع الأفراد (المواطنين) في مركز قانوني واحد، فما يجوز لفرد يجوز لجميع الأفراد، وما يمنع منه فرد يمنع منه جميع الأفراد.
يقول د/يحيى الجمل: “بوضوح وبإيجاز شديد، يعني مبدأ المواطنة أن كل مواطن يتساوى مع كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات، ماداموا في مراكز قانونية واحدة… إذا صدرت قاعدة قانونية تقول إنه لا يجوز للمصري غير المسلم أن يتولى منصبًا معينًا أو ألا يباشر حقًا سياسيا معينًا فإن هذه القاعدة تكون غير دستورية لمخالفتها مبدأ المواطنة… إن حق المواطن بصفته مواطنًا أن يدخل أي حزب شاء، أو أن يلي أي منصب عام تنطبق عليه شروطه لا يرتبط بكونه منتميا إلي دين معين، أو أنه بغير دين أصلاً. فمن حق المواطن أن يكون مواطنًا حتى ولو لم يكن صاحب دين سماوي من الأديان الثلاثة المعروفة”[5][7].
ويعدد علي خليفة الكواري مقومات الحكم الديمقراطي فيقول : “ثانيتها: مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة, واعتبار المواطنة -ولا شيء غيرها- مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تمييز، وأبرز مظاهر المواطنة الكاملة هي تساوي الفرص من حيث المنافسة على تولي السلطة وتفويض من يتولاها، وكذلك الحق المتساوي في الثروة العامة التي لا يجوز لأي أحد أن يدعي فيها حقا خاصا “[6][8].
أما د/ منى مكرم عبيد، فبعد أن نقلت عدة تعريفات للمواطنة عقبت على ذلك برأيها في معنى هذه الكلمة وما يترتب على الأخذ بها فقالت: “وبوجه عام يمكن القول أن المواطنة تعني “العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري”[7][9].
– إذا من الممكن القول أن أهم عناصر المواطنة وفق التعريفات الغربية والعربية لها كالتالي:
5-المساواة بين الأفراد (المواطنين)جميعهم على قاعدة الاشتراك في الوطن
-اعتبار المرجعية الأساس في صياغة الحقوق والواجبات والقوانين لتحقيق المواطنة مرجعية العقل البشري ، وهو ما يعرض هذه المنظومة أصلا للأهواء والاستمزاجات الشخصية بما لا يحقق العدالة ولا يتناسب مع ما تبنته الشريعة الاسلامية,وقد أثبتت الأيام أن كثير من المفاهيم المهاجرة إلينا استطاعت ان تحدث ثغرة في جسد الدولة نفذ إليها كثير من المنظمات التي كانت ظاهرا تعمل على نشر الوعي المواطني لكنها واقعا وباطنا خدمت الاستخبارات كثيرا أي هي ظاهرها رحمة وباطنها العذاب.
– المساواة التامة بين جميع المواطنين بما فيهم أصحاب الديانات الأخرى ، والذين وفق الرؤية الاسلامية لهم أحكام خاصة,ولكن وفق مفهوم المواطنة الحداثي تذوب هذه الأحكام وكأنها شيئا لم يكن.
– التركيز في مفهوم المواطنة على الحدود الجغرافية بمعنى أن الهوية أو ما يسمى الجنسية هي التي تحدد مواطنة هذا الشخص فيصبح له حقوق وعليه واجبات حتى لو كان قادما جديدا على هذه الدولة ، بينما من لا يملك هذه الهوية ولو كان له عشرات السنين مقيما في هذه الدولة فليس له الحقوق التي تحق لحامل تلك الهوية.
– تقليص الانتماء في مفهوم المواطنة الحداثي إلى حدود جغرافية تشكل حدود الوطن ، بحيث يتحول هم الفرد من دائرة الأمة إلى دائرة الوطن، وهو ما يقلص اهتمامات الفرد والدولة لتصبح اهتمامات محلية لا شأن لها بما يحدث في قطر آخر مجاور بما يتيح للدول القوية الهيمنة والسيطرة والتدخل تحت هذه الشعارات وضمن هذه القوانين التي اقرتها المواطنة.
“المواطنة انطلاقا من تقيدها بالوطن وانحصارها في الأفراد الذين يسكنونه فإن معانيها ودلالاتها تختلف من بلد لآخر، وتنحصر في الحدود الجغرافية لكل وطن، فليس لها صفة العموم والشيوع، فالإنسان لا يعامل معاملة (المواطن) ولا يتمتع بحقوق المواطنة إلا داخل حدود دولة يحمل جنسيتها حتى لو عاش أغلب حياته خارج حدود الوطن، بينما الإنسان الذي لا يحمل جنسية دولة ما لا يتمتع بحقوق المواطنة فيها وإن جلس عشرات السنين، أو قضى عمره كله فيها يعطيها من فكره وعقله وجهده.
وأصحاب الفكر الديمقراطي لا يرون معنى حقيقيا للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية ليبرالية، كما أن أصحاب الفكر الاشتراكي لا يرون معنى حقيقيا للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية اشتراكية.
والمواطنة بالنسبة للمسلمين تمثل دعوى للتفرق والتشتت والتقوقع، فيكون هناك ولاء من الفرد (المواطن) لوطنه يلتزم بقوانينه ويدافع عنه، ولا يتعدى ذلك إلى محيطه الأوسع وأمته المترامية الأطراف، لأن المواطنة مرتبطة بأبعاد جغرافية محدودة لتحقيق منافع دنيوية.
وبتبني المواطنة والدعوة إليها تزداد عوامل الانعزال بين أوطان الأمة الواحدة، وانطلاقا من هذه المواطنة المحشورة في الوطن أفتى بعض المنسوبين للعلم، المسلمين في الجيش الأمريكي-عندما اعتدت أمريكا على أفغانستان-بجواز الاشتراك في مقاتلة المسلمين في أفغانستان، ومن قبل ذلك بعقود في بداية القرن العشرين الميلادي قامت في مصر دعوات مناهضة لاشتراك المصريين في مساعدة إخوانهم الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي، فالمواطنة تفرق بين أبناء الأمة الواحدة وتجعل للمشاركين في الوطن المسلم-من أهل الديانات المباينة له-حقوقا ليست للمسلم من وطن آخر، مما يمثل إعلاء لرابطة المواطنة (الوطن) على رابطة الدين (الأمة)، وفي هذا مخالفة صريحة للنصوص الشرعية التي تعلي رابطة الإيمان وتجعلها فوق الروابط جميعها، فهناك روابط كثيرة تربط بين الأفراد كرابطة الأبوة والبنوة والأخوة والزوجية، والعشيرة والمال والتجارة والمساكن والأوطان، لكن لا ينبغي أن تقدم رابطة من تلك الروابط على رابطة الدين وحب الله ورسوله والجهاد في سبيله قال الله تعالى: “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ”، [التوبة24]،”[10]
إن الحق كل الحق مع من يعترض على محمولات ومعطيات مفهوم المواطنة ، خاصة أن المنشأ الفلسفي المادي يجعلها قاصرة عن تحقيق العدالة التي ينشدها الانسان، فتحقيق مبدأ المواطنة بمفهومه الحداثي الغربي هو باختصار تهيأة الظروف كاملة للدول المهيمنة على السيطرة علينا وعلى ثرواتنا دون اعتراض أحد ، لأن قبولنا بمبدأ المواطنة الحداثي يعني باختصار تفرقنا إلى فرق وذهاب ريحنا.
ولكن هل هذه المخاوف والتي نراها في محلها تعني إلغاء الاستفادة من هذه التجربة البشرية وعدم الأخذ بالمصطلح كمفهوم؟
من وجهة نظري وكما يقال “لا مماشحة في الألفاظ”, و هوما يتطلب القيام بعدة خطوات مهمة لتشكيل رؤية حول مشروع مواطني يحمي المسلمات الشرعية من جهة ويخاطب العصر من جهة أخرى أي يحفظ عنصري الاسلام الأصالة والخلود.
– أخذ المصطلح إلى التاريخ وقراءة التاريخ قراءة موضوعية ناظرة لحراك المعصوم داخل المجتمعات من الزاوية السياسية وانتزاع السلوك والمنهج الذي يعطي الأبعاد الأساسية لمفهوم المواطنة ولكن مرجعيتها في ذلك الوحي وأداتها في فهمه العقل,إذ أن عدم وجود تداول تاريخي للمصطلح لا يعني أبدا غياب الممارسة الدالة عليه,فالمعصوم وفق القراءة التاريخية لحراكه داخل منظومة الدولة كان له ممارسات تؤكد وجود الممارسة وأكبر دليل صحيفة المدينة التي أقرها المعصوم كرئيس للدولة ووضع فيها أسس ومنهج لقيام الدولة وتنظيم شأن المواطنين فيها وعل تسليطنا الضوء على صحيفة المدينة هو لانتزاع المنهج من سلوك المعصوم ع.
– صناعة مشروع مواطني يأخذ في الحسبان مفهوم العدالة كمقصد يراد تحقيقه تندرج تحته المساواة ، فالعدالة أشمل وأعم .. فالعدالة مثلا تقتضي أخذ الجزية من أهل الذمة مقابل عدم دفعهم للزكاة والخمس المقررة على المسلمين شرعا,فالعمل على مشروع المواطنة هو لأجل أهداف سامية أهمها تحقيق كرامة الإنسان التي ترتقي به عقلا وفكرا وعملا وتدخله في تنمية شاملة تنعكس في وجودها على نهضة الأمة,إذ أن العدالة تحقق كرامة الإنسان وتحقيق الكرامة يلزم الدولة بإقامة منظومة حقوق وواجبات تنظم العلاقة بين الدولة والفرد من جهة والدولة والمجتمع من جهة أخرى , بطريقة يتحقق فيها السير قدما نحو تحقيق مزيد من العدالة.
– صناعة مشروع مواطني يأخذ في الحسبان مفهوم الأمة لا القطر ، بمعنى أن المواطنة التي نريد لا تعني تقديم هموم القطر والوطن على هموم الأمة في سلم الأولويات، بل الأمة لها أولوية على القطر.
ففي الدستور الكويتي على سبيل المثال يأتي في المذكرة التفسيرية حول عدم إضافة “ال” التعريف على كلمة شعب الكويت، هو لعدم تمييز الشعب الكويتي عن الأمة العربية وبقائه في هذا الحضن ليكون جزءا من هذا النسيج لا ينفصل عن قضايا الأمة ، ويبقى في مرمى همومها .
فالمواطنة تكون وفق لغة الجبر الرياضي في علاقة الشعب في الدولة مع الأمة كعلاقة الاتحاد دائرة صغيرة في قلب الدائرة الكبيرة ، له همومه الخاصة به لكنها لا تتقدم على هموم الأمة في حال التعارض بل هموم الأمة لها أولوية.
والعدالة هي سقف المواطنة ومرجعيتها في تحديد سقف الحقوق والواجبات والوحي بقراءة تتناسب مع المعطيات الزمكانية.
إضافة إلى عمل صياغة تناسب الدول الاسلامية بما يحفظ حق الإنسان كإنسان بغض النظر عن هويته او جنسيته، بمعنى أن الحقوق والواجبات وفق مفهومنا للمواطنة هي حقوق وواجبات عابرة للحدود الجغرافية وقارة في حدود الأمة تنتقل مع الإنسان بانتقاله من قطر إلى قطر.
فمرجعية الحقوق والواجبات مرجعية ناظرة لحفظ كرامة الإنسان لا لحفظ مصالح الدول.
وبذلك يكون التأسيس في ما نريده من المواطنة قائم على قاعدة الأمة لا القطر ، بما يرسخ للمفهوم القرآني:
“واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها كذلك يبين الله لكم اياته لعلكم تهتدون”[11]
– تعدد الثقافات داخل القطر يؤدي إلى تعدد الهويات والمرجعيات وهو ما قد يحدث خللا في السقف المرجعي للمواطنة,ويطرح كإشكالية بعنوان التعارض بين الهوية والمواطنة,وحل هذه القضية من وجهة نظري يكمن ضمن احترام مبدأ التعددية في إطار الأنظمة والمجتمعات والأفراد,بمعنى أن العالم الإسلامي له الحق أن يقيم كومونوولث يضم كل الدول الإسلامية ذات الأغلبية الشعبية المسلمة بحيث تحدد الاطر المرجعية كسقف للمواطنة وفق الشريعية الإسلامية المتفق عليها من جميع المذاهب الإسلامية وعلى الأقليات الدينية في هذا الاطار الجغرافي احترام هذه الاطر وعلى الأكثرية احترام حقوق الأقلية بما يحفظ لها كرامتها الإنسانية ويحقق العدالة,وعلى العالم الإسلامي احترام قيام كومونوولث غربي يكون سقف المرجعية الايديولوجية للأكثرية الاجتماعية أي المسيحية وعلى الأقليات احترام هذه المرجعية بشرط أن تحترم الأغلبية حقوق هذه الأقليات بما يحفظ أيضا كرامتها ويقيم العدالة في هذه الدول.هذا الاحترام المتبادل وفق أسس قيمية وسياسية من الممكن أن يحفظ حق الأقليات في كل جهة بعلاقة تبادلية في الرؤية والتطبيق بما يعني أن حفظ الجهة الإسلامية لحقوق الأقليات الدينية في منطقتها الجغرافية مرتبط بحفظ الجهة الغربية لحقوق الأقليات الدينية في حدودها الجغرافية وهو ما يحدث ميزان قوى قائم على تبادل المصالح وتنظيم ميزان القوى بطريقة لا تميل كفة على كفة تحت شعار أن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا.ويمكن الاستفادة بشكل كبير من صحيفة المدينة التي حفظت حقوق الأقليات وجعلت المرجعية في هذه الحقوق للشريعة الإسلامية كون هذه الأقليات الدينية تقيم في حدود المسلمين الجغرافية الذين يشكلون أغلبية عددية, وبذلك نحمي الأقلية من استبداد الأكثرية ونحفظ ميزان القوى ونقيم أسس للمواطنة بهويات مرجعيتها متفق عليها فلا يكون السقف غير محدد فتعم الفوضى في الهويات المتعددة والتي تكرس انتماءات أيضا متعددة
– التأسيس لمواطنة الجغرافيا وهي الدائرة الأصغر وتحتويها دائرة مواطنة الأمة وتحتويهم جميعا المواطنة العالمية التي يكون سقفها العدالة التي تحقق كرامة الإنسان وتؤسس منظومة حقوق وواجبات يكون مرجعيتها تحقيق الكرامة الإنسانية,والتي تقوم على أساس أن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا,فلا سلطة مطلقة لأحد إلا سلطة القانون الآخذ في الحسبات اختلاف المكان والبيئات والثقافات,قانون يصاغ وفق منطلقات تحترم الآخر فالدول ذات الأغلبية الاسلامية يكون العقل والنص مرجعها وهكذا,بمعنى أن لا تسلط ولا استبداد.
إن المواطنة التي تبنى وفق مفاهيم العدالة والكرامة تكون جديرة بحفظ حقوق الأقليات التي من الممكن أن تهدر حقوقها في قبال حكم الاغلبية,خاصة في الدول العربية التي تقتات غالبا على اللعب في مكونات الشعب المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية لتمكن وجودها في السلطة وغالبا في تلك الدول يكون الخاسر الأكبر في هذا الصراع هم الأقليات , وغالبا ما تأتي مسألة سلب الحقوق في الجانب المتعلق بالعقيدة والحق في ممارستها.
ونحن لسنا بصدد التسلح بالمواطنة لحفظ حقوق الأقليات بقدر ما أننا نحاول أن نؤطر العلاقة بين الدولة والشعب بأطر حديثة نستلهم ثوابتها من الشرع الاسلامي معتمدين في ذلك على تحقيق مقاصد الشرع في قيام الدولة وبنائها وهو تحقيق العدالة وحفظ كرامة الإنسان.
وللمواطنة دور كبير في ترسيخ الوجود الشيعي الآمن في جسد الامة والدولة وحفظ حقوقهم في حرية الاعتقاد وحقهم في بناء المدارس والمساجد والمراكز الخاصة بهم وفق قانون عام لا يتعارض فيه هذا مع الاستقرار الاجتماعي بالمعنى السياسي كون الاعتقاد مسألة شخصية اختيارية يترك فيها الخيار للفرد وفق الدلائل التي توصل لهاعقله واقر بها قلبه فاعتنقها كعقيدة.
إن الهوية العقدية الخاصة لا تتعارض أبدا مع الهوية الوطنية كما أشرنا سابقا أي إذا بني مفهوم المواطنة وفق الرؤية التي نتبناها ، وهو ما يستفاد من سلوك الأئمة في ترتيب الأهم على المهم ووفق تشخيص المصلحة والمفسدة يتم تشخيص آليات الاندماج في الوطن بطريقة تدلل على التسامح العقدي لا التسهال العقدي ،،، فمبدأ “لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين حتى لو وقع الجور علي خاصة” ، هو مبدأ معصوم يؤسس لمنهج تعايشي في جسد المسلمين وحتى في جسد العالم حيث كانت الأولوية لسلامة أمر المسلمين، وهو ما يؤسس لمبدأ خصوصية المذهب وعمومية الوطن بمفهوم الامة وليس بمفهوم القطر,فحفظ الأمن الاجتماعي والاستقرار مقدم على المسألة المذهبية بما لا يمس العقيدة,وما مس العقيدة يكون التعامل معه في داخل دائرة الوطن وفق الاطر الدستورية والقانونية بما يحفظ النظام ولا يخل بالأمن والاستقرار الاجتماعي.
فالتقليد له صفة عقدية خاصة وحدود فقهية محدودة خاصة بالعبادات والمعاملات وتشخيص الموضوع يقع في يد المكلف لا المرجع .
فتحديد وظيفة ومهام المرجعية في ذهنية العوام والنهوض بوعيهم عامل مهم في تحديد حدود الهوية والانتماء بما يقلل من الولاءات القائمة على اساس فهم ديني خاطئ ويرسخ من ثقافة الولاء للوطن المنتمي للأمة.
ومن الممكن أن يكون للمرجعية دور إيجابي في تنمية مفهوم المواطنة من خلال فقه المواطنة ليشكل مرجعية فتوائية تساعد على التأسيس السليم لمفهوم المواطنة من رحم الشريعة ، وأيضا لما للفتوى من دور كبير في توجيه السلوك الإنساني وفق أسس قيمية ومبدئية تعيد صياغة بناء وطن لا تستولي عليه الدول العظمى,فالمرجعية تلعب هنا دور المرشد الأبوي الذي له دور في وضع الأطر العامة , ويأتي دور المكلف كلا وفق وطنه في تشخيص الجزئيات لأن أهل مكة أدرى بشعابها.وطبعا لا ننكر أن وجود مرجعية مناطقية سيلعب دورا هاما في قرب المرجع من الواقع وبالتالي قربه أكثر من حاجة المحيط التابع له وهو ما يرسخ مبدأ المواطنة وإن كان هذا الطرح عليه كثير من الملاحظات إلا أنها ليس محلا للمباحثة في هذه الورقة.
خلاصة الأمر أننا فعليا بتنا في ظل عالم متصارع لأجل النفوذ والمصالح والحلقة الضعيفة فيه هم المسلمون والحلقة الأضعف في بعض الدول بل الكثير منها هم الشيعة , بتنا بحاجة لتأسيس أدوار يندمج فيها الشيعة في جسد أوطانهم ويتداخلون في مباني الدولة ومؤسساتها ويكونون جزءا مهما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواجهة الفساد والسعي نحو تهيأة دولة العدل التي تحقق كرامة الإنسان وتقيم منظومة حقوق وواجبات من منطلقات فكرية وفلسفية ببعديهما المادي والمعنوي الذي يتلاقى مع أبعاد الإنسان المادية والمعنوية وهو ما يتطلب تضافر الجهود لأجل العمل والاشتغال في عدة حقول أهمها:
1.الحقل الفقهي والتأسيس لفقه المواطنة والاشتغال على قوننة الفقه وفي الممكن والمتاح.
2.حقل الوعي وما يستلزم من عمل ثورة تتناسب والثورات المحيطة لكنها ثورة فكرية ومفاهيمية تعيد النظر في بناءات العقل الشيعي وكيفية اندماجه في الوطن وأهمية هذا الاندماج في عملية الاصلاح العالمي القادمة بدون أدنى شك وتهيأة القابليات لدولة العدل ومن أولى من الشيعة في الاندماج والقيام.
3.النخب والمثقفين وكيفية أعادة صياغة دور المثقف في المجتمع وكيفية اندماجه فيه والانطلاق منه والنهوض بوعيه بعيدا عن الاستسلام أمام المفاهيم القادمة بل من خلال الغوص في عمق البحر الاسلامي ومحاولة إعادة قراءة النظريات الاسلامية وفق رؤية حضارية تحافظ على عنصري الأصالة والخلود.
إن الشيعة اليوم بشكل خاص كونهم “أم الولد” أحوج ما يكون إلى تنظيم أمورهم واندماجهم في أوطانهم والعمل على تشكيل جبهة عمل داخلية للاصلاح ومواجهة الفساد والتنمية وترسيخ قيم العدالة والكرامة والحقوق والمساواة, ولذلك نحتاج تظافر الجهود لجميع المسلمين لمواجهة المخاطر التي تحدق بهم , والتي يراد منها السيطرة والهيمنة على المقدرات والشعوب كما قال كيسنجر ذئب السياسة الامريكية :
“إن السيطرة على البترول هي الطريق للسيطرة على الدول,أما السيطرة على الغذاء فهي السبيل للسيطرة على الشعوب”.
[2] المواطنة أم الأمة \الشيخ محمد بن شاكر الشريف مجلة البيان
[3] في شعب الإيمان للبيهقي:”لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها”
[4] لسان العرب :مادة وطن 13/451
[5] معجم الأغلاط اللغوية لمحمد العدناني ص 725
[6] استعمال لفظ المواطن بمعنى الشخص الذي يتمتع بجنسية دولة ما ويشارك في شئونها لا وجود له في لغة العرب
[7] المصري اليوم:الثلاثاء 23/1/2007
[8] المعرفة (موقع الجزيرة) الأربعاء 29/1/1428
[9] المواطنة ص 9 د.منى كرم
[10] المواطنة أو الأمة الشيخ محمد بن شاكر الشريف – مجلة البان
[11] آل عمران \103