في جلسة ثقافية/ فكرية في إحدى مقاهي مسقط الجميلة، طرح أحد الأصدقاء سؤالا حول ماهية الفلسفة العربية/ الإسلامية، وهل هي فلسفة عقلية صرفة تنطلق من اجتهاد ورؤية خاصة في المسائل الفلسفية المختلفة؟ أم مجرد اقتباس وترجمة وشرح للفلسفة اليونانية؟
دخلت الفلسفة إلى العالم الإسلامي عن طريق الترجمة في عهد الخليفة المأمون العباسي، الذي أمر بنقل كتب الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وهناك اختلاف في غرض الخليفة المأمون من هذا النقل، وهل هو شغف معرفي؟ وخاصة ما عرف عنه من حب للعلم والعلماء؟ أم هدف أيديولوجي من أجل مواجهة الفرق والمذاهب المناوئة له في الحكم والفكر؟ وخاصة الإسماعيلية ذات الاتجاه المعرفي الباطني؟ هناك رؤى واجتهادات مختلفة في هذا الموضوع، ولكل فريق رأيه وحجته، ولكن لا شك إن نقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية ساهم في نشوء جيل من الفلاسفة الكبار، حاول أن يعقلن العقائد الإسلامية بما لا يتعارض مع العقل ولا يتناقض مع النص، وكذلك في إغناء الثقافة الفلسفية العربية بمعارف شتى في الفنون المختلفة، والقارئ لتاريخ الفكر الإنساني الفلسفي لا يمكن أن يمر مرور الكرام أمام فلاسفة في حجم الكندي والفارابي وابن سينا وأبو بكر الرازي (الطبيب الفيلسوف) وابن الراوندي وابن المقفع وغيرهم، إضافة إلى فلاسفة المغرب أمثال ابن رشد وابن باجه وابن الطفيل، ولكن الإشكالية التي ظهرت فيما بعد، هل إن الفلسفة الإسلامية أصيلة أم مجرد ترجمة واقتباس وشرح للفلسفة اليونانية؟ أول من طرح هذه الإشكالية الإبستمولوجية هو الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (1823 – 1892) في كتابه “التاريخ العام والمقارن للغات السامية”، إضافة في مناظرته الشهيرة مع المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني، عندما نفى وجود فلسفة إسلامية وقال “هذا هو المجموع الفلسفي الذي تعوّدنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدوّن باللغة العربيّة. لكنه في الحقيقة تراث إغريقي ساساني. وقد يكون أكثر دقّة أن نصنفه إغريقيا لأنّ العناصر الأكثر حيوية في هذا كله قد أتت من اليونان”. وممن طرح هذه الإشكالية أيضا المستشرق الهولندي ت. ج. بور في كتابه “تاريخ الفلسفة الإسلامية”، الذي قال بأن الفلسفة الإسلامية ظلت على الدوام “فلسفة انتخابية عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهما وتشربا لمعارف السابقين لا ابتكارا ولم تتميز تميزا يذكر عن الفلسفة التي سبقتها لا بافتتاح مشكلات جديدة ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها لها” ولم يقتصر نفي وجود فلسفة إسلامية على المستشرقين فحسب وإنما كان أول من يرفع هذا اللواء الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” عندما قال بوجود فريقين من الفلاسفة المسلمين، فريق كان حاذقا في نقل الفلسفة اليونانية وخاصة أرسطو طاليس مثل الفارابي وابن سينا، وآخر لم يوفق لا في نقل ولا عقل، ولكنه مع ذلك لم ينفِ أن الفريقين كانا مجرد نقلة للفلسفة اليونانية. في كتابه “مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام” رفض جورج طرابيشي هذه الإدعاءات، وقال بأنه وجد فعلا فلاسفة مسلمون من السنة والشيعة، وعاشوا ونبغوا في القرنين الثالث والرابع الهجري، وأضاف بأن الإنتاج الفلسفي للمسلمين غني جدا، ولا تصمد للمقارنة معها قبل فلاسفة ثورة الحداثة في أوروبا سوى يونانية العصر الهلنستي أو لاتينية العصر الوسيط المتأخر –حسب تعبيره–، ولذلك يرى طرابيشي بأن القول بأن الفلسفة الإسلامية ليست أصيلة وإنما فلسفة ترجمة فقط لا تنطلق من إشكالية إبستمولوجية وإنما نزعة أيديولوجية تحاول نزع الفلسفة الإسلامية من سياقها الحضاري الإسلامي، ونسبتها إلى حضارة أخرى وهي اليونانية والإغريقية، بينما يرى آخرون مثل الباحث الفلسفي عبدالجبار الرفاعي في مقال كتبه بصحيفة الوسط البحرينية، بأن هذه الرؤية تصدر “عن موقف عنصري، يقوم على اعتبار الجنس السامي، يمثل تركيبا أدنى للطبيعة البشرية، ولذلك فهو غير جدير بالابتكار والإبداع، في أي منحى من مناحي التفكير، لا سيما التفكير الفلسفي، الذي يتطلب مستوى متطورا من العقل البشري”.
هناك من يرى بأن العقلية العربية ليست فلسفية لأسباب متعددة منها أن الحضارة الإسلامية هي حضارة نصية/ نقلية، وجميع الإشكاليات المعرفية التي تم طرحها في الثقافة الإسلامية سواء الفلسفي منها أو الكلامي، فإنها تدور حول النص ولا تفترق عنه، ويبدو ذلك واضحا في فلسفة الكندي والفارابي وحتى ابن سينا نفسه، بل وفي فلسفة ابن رشد أيضا وخاصة في كتابه “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” حيث وصف الحكمة (الفلسفة) بأنها “صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة… وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة” بينما الاستدلال الفلسفي هو برهاني مثل المنطق والرياضيات ويعتمد على الأدلة العقلية، وكذلك قوبل دخول الفلسفة اليونانية إلى الفكر الإسلامي بانتقادات شديدة ولاذعة من الفقهاء المسلمين، الذين كفروا كل من يتعاطى الفلسفة، أو حتى يقرأ كتبها، ولم يقتصر هجومهم على الفلسفة فحسب، وإنما امتد أيضا إلى علم الكلام ذي الطابع العقلي، حتى قيل “من تمنطق فقد تزندق”، وكان ابن تيمية من أكثر المهاجمين للفلسفة، وألف في الرد عليها كتبا متعددة، أشهرها “الرد على عقائد الفلاسفة” و “نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان”، بل أن الإمام جلال الدين السيوطي على جلالة قدره وعلو منزلته في العلوم الإسلامية المختلفة، وضع الفلاسفة المسلمين في درجة اقل من اليهود والنصارى، عندما قال “والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل فضلا عن درجتهم قبل ذلك” ولذلك يخطئ من يظن أن الإمام أبو حامد الغزالي كان صاحب الضربة القاضية ضد الفلسفة والتفكير الفلسفي في الإسلام في كتابه “تهافت الفلاسفة” لأن الفلسفة كانت تعيش في عصره أيامها الأخيرة، ولم يفعل الغزالي سوى توجيه طلقة الرحمة عليها فقط كما يقال، قبل أن تدخل الفلسفة إلى المشرق والمغرب مرة أخرى من النافذة، وهذه المرة تحت ستار التصوف والعرفان.