اشتهر علي شريعتي بنقده لرجال الدين وللمؤسسات الدينية، ولعل هذه السمة تظهر في جُل كتاباته ومحاضراته، حيث عمل من خلالها على صياغة علاقة جديدة مع رجال الدين والمؤسسات الدينية، ومن يقرأ كتابيه (التشيع الصفوي والتشيع العلوي) و(النباهة والاستحمار) يلحظ هذا الأمر بوضوح. وهو في ذلك يشترك مع عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي الذي كان هو الآخر من المنتقدين لسلطة رجال الدين ولبعض أفكارهم وسلوكياتهم، كما في كتبه ومؤلفاته ككتاب (وعاظ السلاطين) وكتاب (مهزلة العقل البشري) وغيرها، ولكنه –أي شريعتي- يختلف عن الوردي في طريقة نقده، وذلك في كونه أكثر التزاماً بالتراث الإسلامي، إذ هو دائم الدعوة للعودة إليه، على العكس من الوردي الذي كانت نظرته ومعالجاته تتجه دوماً نحو مبادئ العلم الحديث.
مهما يكن، فإن أفكار شريعتي لا تزال يُثار حولها الكثير من الجدل، فالآراء حوله على طرفي نقيض، ففي حين يعتبره البعض مجدداً ومصلحاً ويتأثر بفكره وينصح بقراءته لتكوين الوعي اللازم للنهوض بواقع الأمة، وما بين من يعتبره منحرفاً وضالاً ويحذر من قراءة كتبه؛ باعتبارها كتب ضلال وانحراف لا يجوز قراءتها أو بيعها أو الترويج لها !!
وفي الواقع أن الطريقة التي يُقرأ من خلالها فكر شريعتي تؤثر سلباً أو إيجاباً في الحكم له أو الحكم عليه، فمن يقرأه من ناحية اجتماعية باعتباره عالم اجتماع يركز على دور الدين في تكوين المجتمعات ونهضتها، ويفهم الظواهر الدينية ويفسرها على أساس بُعدها وتأثيرها الإجتماعي؛ فهو لا يملك إلا أن يُعجب به وبتحليلاته وأفكاره. أما من يقرأه من ناحية دينية صرفه، سواءً من ناحية عقائدية أو فقهية أو غيرها، فإنه بالتأكيد سيعثر على سقطات ومغالطات ليست بالقليلة، وسينتهي به الحال للسخط عليه وباعتباره ضالاً ومنحرفاً !
لذلك لا بد لنا إذا ما أردنا أن نقرأ فكر شريعتي قراءةً صحيحةً أن نكون مستحضرين بأنه عالم اجتماع يتحرك وفق معطيات وأسس ونظريات علم الإجتماع، أي لابد لنا أن نقرأه قراءةً اجتماعية ولا نحصر قراءتنا له بالجانب الديني، وذلك لأنه ليس عالم دين مُهتم ببيان أصول العقيدة أو الفقه أو الأخلاق. وإننا ما لم نستحضر ذلك؛ فلن نستطيع أن نفهمه أو نتفاعل مع أطروحاته كما ينبغي، فضلاً عن أن ننسجم معها ولو في مساحات ضيقة جداً.
إن مشكلة الكثيرين من المحذرين من أفكار علي شريعتي –كما هو واضح عند البعض- أنهم لم يُحسنوا قراءته جيداً أو أنهم لم يقرئوه كلياً أو لم يقرئوه نهائياً، وإنما اكتفوا بالأخذ من كلام غيرهم عنه ليرددوا بعض سقطاته وهفواته، وليحذروا منه لكونه –كما يعتقدون طبعاً- خطراً على الدين أو العقيدة أو ما شابه ذلك، ولقد غفل هؤلاء من أن الكثير من قراء شريعتي لا يقرئوا له من أجل التعرف على الفكر الديني أو المعارف الدينية، وإنما لكي يتعرفوا على فكره الاجتماعي ونظرته وتحليلاته للظواهر الدينية وفق النظريات العلمية الاجتماعية.
لقد كان حري بهؤلاء أن يُوصوا بقراءة فكر شريعتي قراءةً نقديةً بدلاً من المطالبة بمقاطعته، فالرجل وإن كانت له بعض الأفكار التي لا يمكن القبول بها، ولكن ينبغي أن ندرك ونعي بأنه صاحب تجربة ثرية ونادرة، وقد لا نقف على مثيلات لها عند غيره، ولذا يمكننا الاستفادة من تجربته –في جانبها السلبي والإيجابي- لو تواصلنا مع فكره وأجدنا التعاطي معه جيداً.
على أي حال، فإن المنع من قراءة فكر شريعتي ولو كان ذلك من خلال إصدار الفتاوى الدينية المحرمة، لا يمكن اعتباره حلاً صحيحاً وناجعاً في كل الأحوال، فالتعامل بلغة الفقه والفتاوى غير مجدي عادةً في الشأن الفكري والثقافي، لأن إشكاليات الفكر بحاجة إلى معالجات فكرية حقيقية من جنسها (فكر بفكر)، ولا يمكن أن يُعتمد في معالجتها دائماً على مجرد المنع أو التحذير أو التحريم، وبالخصوص إذا كان هذا التحريم مبني على فتاوى مبتذلة !
لذا علينا أن نقيم فكر شريعتي وفق ظروفه ومرحلته التاريخية التي عاشها، وأن يكون تقييمنا له مبني على قراءة شمولية ومتوازنة لا انحياز فيها لغير الجوانب الموضوعية، فكما نقيم أفكاره من ناحية دينية؛ لا بد وأن نقيمها من ناحية معطيات علم الاجتماع، وكما ننقد أخطاءه وسقطاته علينا بالاعتراف بمحاسنه وإنجازاته، وبعبارة أخرى نقول: علينا أن نقرأه قراءة نقدية لا قراءة تبجيلية تجعلنا ننساق خلفه ونأخذ آراءه وأفكاره أخذ المسلمات، ولا قراءة عدائية تجعلنا نحاربه ونقاطعه.