أحدث المقالات

«إننا نؤمن بأن الناس خلقوا سواسية، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقا لا تقبل المساومة، منها حق الحياة والسعي لتحقيق السعادة». 

قائل هذه الكلمات ليس فيلسوفا ولا عرابا دينيا، وانما هو نص جاء في مذكرة اعلان الاستقلال الأميركي في 4 يوليو 1776.

وبالطبع هي نظرية مستمدة من واقع عاشه الفرد الأميركي في مستعمرات مساتشوسيتس بعد صراع طويل مع الانكليز الذين مارسوا سياسات اقتصادية ظالمة فيها، مما حدا بالشعب الأميركي الى الانتفاضة والثورة، ومن ثم المواجهة والتحرر.

وكان الاستقلال مبنيا على هذه الجملة التي تتضمن الكثير من المفاهيم الكلية التي نلتقي معها على المستوى النظري، لكننا افترقنا عنهم على المستوى العملي نتيجة الافتراقات الفكرية التي ينطلق منها كلا الطرفين.

فما المساواة التي يؤمن بها الاميركي اليوم؟وهل الحقوق التي وهبها الله للانسان لم يسلبها أحد؟ وما حق الحياة؟ وما السعادة؟ وبالتالي، ما آليات تحقيق السعادة، وهل السعادة المنشودة لها ضوابط تتناغم مع صيانة مرتكزات الوجود الانساني: أي الكرامة والحرية؟

والى أي مدى استطاع الاميركي في هذا العصر التناغم مع ما جاء في اعلان الاستقلال تناغما موضوعيا متجردا من أي قبليات عنصرية وتمييزية على مستوى السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الاميركية؟ كالتمييز العنصري على أساس اللون أو العرق، وكالتمييز الطائفي الذي بدا ظاهرا بعد أحداث 11 سبتمبر؟ وعلى مستوى قضايا محورية في منطقتنا، كالقضية الفلسطينية؟ وملف ايران النووي، وحصار غزة، والكيان الصهيوني الغاصب، وقضايا أخرى حقوقية قد لا تشكل أهمية وأولوية في سلم الأولويات الاميركية التي تصب في مصلحتها العامة.

ولكي نجيب عن هذه الأسئلة، لا بد لنا أن نميز بين رؤيتين كونيتين حول الله تعالى والانسان والطبيعة وهي رؤية غربية، أما الرؤية الاسلامية فهي تنظر على أساس أن علاقة الانسان بالانسان والطبيعة لها بعد معنوي وينظمها الله تعالى، فتكون الرؤية الكونية منطلقة من أبعاد معنوية ومادية وهي البناء التحتي الداخلي وعلى أساسه يكون البناء الفوقي للمنظومة الفكرية.

وبناء على ذلك، هل يتناغم ما جاء في اعلان الاستقلال مع سلوكيات السياسة الاميركية سواء في الداخل أم في سياساتها الخارجية؟

“تزايد دور المحدد الديني  كلاعب رئيسي في عملية صنع القرار الأمريكي  تجاه منطقة الشرق الأوسط، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتنامي قوة التيار اليميني المسيحي خلال إدارة الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” وتحالفه مع تيار المحافظين الجدد. وظهر هذا الدور في قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي، ومكافحة الإرهاب. إذ عكست هذه القضايا بعدا دينيا واضحا في السياسة الخارجية الأمريكية، عبرت عنه طريقة معالجة الإدارة الأمريكية لهذه القضايا. ومن هذه الحقٌقة، انطلقت رسالة دكتوراة نوقشت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة حول ” العامل الديني في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في الفترة من 2001-2008″ مستهدفة الكشف عن أثر البعد الديني في السياسة الخارجية الأمريكية، في ظل التغير الحادث في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتوحد الرؤي بين اليميني المسيحي والمحافظين الجدد، وتأثير هذه العلاقة في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وظهور البعد الديني جليا فً تلك السياسة.”د.نزيهة احمد التركي – البعد الديني في السياسة الأمريكية اتجاه الشرق الأوسط- أديان ومذاهب – المقتطف الاسلامي

الحريات والحقوق والرؤية الكونية

إن أي مفهوم كلي يمكن طرحه لا بد أن يكون نشأ من بيئته الفكرية وسُقي من أفكارها ليتبلور كمفهوم، ومن هذه المفاهيم الحقوق والحريات، ولقد ختمنا مقالنا الأخير بتساؤلات حول ماهية الحريات والحقوق في النظام الرأسمالي ونظيره الاسلامي.

وقبل الإجابة عن أي تساؤل، لا بد لنا أن نطرح الرؤية الكونية لكلا الطرفين كي تتسنى لنا بعد ذلك معرفة الفوارق الجوهرية التي أدت إلى نشوء نظريات عن الحريات والحقوق لم تستطع على أرض الواقع أن يكون لها أثر ملموس.

ويقصد بالرؤية الكونية مجموعة الأفكار والمعتقدات التي يرى من خلالها الإنسان العالم الخارجي ويتفاعل معه. أي فكرته عن الله والانسان والطبيعة وكيف تحولت هذه الأفكار إلى مجموعة من النظريات التي تنظم علاقة الانسان بالله وبأخيه الانسان وبالطبيعة.

فالغرب يبني نظرياته من خلال الافكار التي أنتجتها رؤيته للكون، حيث يرى أن العالم الخارجي هو عبارة عن الانسان والطبيعة، اللذين يرتبطان بعلاقة ثنائية، هي: الإنسان وعلاقته بالانسان وعلاقته بالطبيعة، حيث لا وجود لله في هذه الرؤية، وعلى هذا الأساس تفاعل الغرب مع العالم الخارجي وبنى نظرياته منطلقا من هذه الرؤية الكونية والقاعدة الفكرية.

وإنصافا، استطاع أن يستلهم نظرياته في الحريات والحقوق من خلال تجربته على أرض الواقع، لكنه أخفق بعد تجريدها من أبعادها المعنوية وجعلها نظريات مادية خاصة حولت الإنسان إلى شيء، وهو ما أثر بعد ذلك في ممارساته مع الآخر التي أشبعت بالمادية حتى الثمالة، لتتحول إلى حريات وحقوق نسبية وفقا لمصالحه العليا.

أما الرؤية الكونية للاسلام، فانه يرى أن العالم الخارجي منشؤه من الخالق، أي الله، وهو ما يمثله الغيب والوحي والانسان والطبيعة، فأصبحت العلاقات الاجتماعية منسوجة على عناصر رباعية، أحدها خارج ومهمين عليها، وهذه العلاقات هي علاقة الانسان مع ربه ومع نفسه ومع أخيه الانسان ومع الطبيعة. وتحكم كل هذه العلاقات علاقة الانسان مع ربه، التي إن انتظمت، أدى ذلك إلى انتظام العلاقات الأخرى وفق رؤية معتدلة خلقت الدافع والباعث نحو إعطاء الحريات وتطبيق الحقوق على أسس سليمة تتناغم فيها النظرية مع التطبيق، ولا تكون فيها أي نسبية تطبيقية، بل هي قواعد وكليات عامة تنطبق على الجميع من دون تمييز.

بيد أن الغرب تناغم مع نظريته رغم عدم صوابية مبناها الفكري، وحقق انجازات مهمة على مستوى الحريات والحقوق، ونحن كمسلمين أخفقنا، لا لعدم صوابية النظرية، وإنما لسوء التطبيق والممارسة لتجير النظرية لمصلحة الأنظمة الفاسدة لا لمصلحة الشعوب.

الغرب والحريات والحقوق

كان الواقع المعاش هو الملهم الحقيقي للعقل الغربي في كيفية صياغة النظريات المتعلقة بالحقوق والحريات، إضافة إلى استلهام كثير من النظم والنظريات من الفلسفة اليونانية.

فالثورة الإنكليزية قامت ضد طغيان الملكية في القرن السابع عشر التي كانت تدعي حقها في الملك أنه مستمد من الله، وتكللت بالنجاح من خلال «إعلان الحقوق» الذي أصدره البرلمان الإنكليزي عام 1689، واشترط على الملك الجديد عدم القيام بأي عمل يؤدي إلى الانتقاص من حقوق الشعب، إضافة إلى عدة حقوق أخرى أهمها: أن حق الملك في التاج مستمد من الشعب وليس من الله، وليس للملك إلغاء القوانين أو وقف تنفيذها أو إصدار قوانين جديدة إلا بموافقة البرلمان، ولا تفرض ضرائب جديدة، ولا يُشكل جيش إلا بموافقة البرلمان إضافة إلى أن حرية الرأي والتعبير في البرلمان مكفولة ومصانة، فأصبح البرلمان هو صاحب الكلمة العليا وهو ممثل لرغبة الشعب. وتبعتها بعد ذلك الثورة الفرنسية حيث أصبحت التغيرات والاصلاحات الانكليزية محطة لتطلعات الشعوب الغربية تسعى لتحقيقها.

فكان طغيان الملوك وارتباطهم بالكنيسة التي كانت تعطيهم الشرعية الدينية، سببا كبيرا في حراك النخب نحو الاصلاح والتغيير وصياغة نظريات للحكم والحريات والحقوق غالبا في أوروبا.

فكان الواقع ملهما للعقل في صياغة واقع جديد للفرد الأوروبي والخروج به من سجن الكنيسة بما تمثله من دين واستبداد الملوك الذي بررته الكنيسة بأن موقعية الملك مستمدة كحق من الله إلى عالم الحريات والحقوق وفق رؤية كونية صاغها العقل الأوروبي بعيدا عن الله، الغيب، الوحي، كرد فعل متطرف ضد كل ما هو ديني، فآمن الغرب بأصالة الفرد وحقه في الحريات المطلقة غير المقيدة بداية ثم وضع لها ضوابط مع تطور النظرية الليبرالية التي شكلت القاعدة للنظريةالسياسية والاقتصادية ، ورسم منظومة حقوق وواجبات قائمة كضرورة لازمة على أساس المواطنة حتى يحقق مبدأ التعايش والاستقرار.

ولكن شواهد كثيرة في عصرنا تعكس عدم التناغم بين القناعة الغربية النظرية في الحريات والحقوق وبين تطبيقاتها على أساس الواقع. فالتمييز القائم على أساس العنصر والانتماءات الطائفية والايديولوجية بات صارخا في السلوك الغربي، إضافة إلى المواقف السياسية تجاه قضايانا الشرق أوسطية وموقفه المنحاز فيها والذي يعد في غالبه معاديا لكثير من الحقوق الإنسانية والحريات الفردية. واستخدامه لسياسة الكيل بمكيالين في مواقفه السياسية تجاه الآخر المختلف. لنخلص أخيرا إلى أن المحرك المادي لهذه النظريات حولها في هدفيتها من خدمة الإنسان إلى خدمة المصالح العليا حتى لو على حساب مبادئهم النظرية في الحريات والحقوق لأن أصل النظريات منطلق من رؤية كونية استبعدت الله وجعلت الإنسان محور الوجود.

الغرب والكنيسة والله

الحريات والحقوق هي أبرز ما نجحت النهضة الأوروبية في ترسيخه وقوننته بعد الثورة القروسطية، والتي جاءت بعد سلسلة ثورات ضد الكنيسة وكل ما هو ديني، فاستبعد الغرب في رؤيته الكونية الله تعالى، ليس تقصدا منه لذلك، وإنما نتيجة تراكم ممارسات كنسية أدت إلى إبعاد الناس عن الله ورسم صورة مشوهة له في ذهنيتهم الداخلية.

لقد طرحت الكنيسة نفسها وسيطا بين الله والناس، فكانت الممثل أمامهم عن إرادة الله تعالى، فأثارت مجموعة من المفاهيم الطفولية عن الله لم تستقطب عقلية الناس، بل نفرتهم منه. وكانت من أهم الممارسات التي قامت بها وكان لها الأثر الكبير في الانقلاب الكلي على الدين هي:

أولا: الاعتماد الكلي على الغيب أي ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) وإلغاء دور العقل وقدرته على اكتشاف الحقائق.

ثانيا: أعطت صبغة شرعية للملوك والحكام في ذلك الزمان، وهم الذين مارسوا كل أنواع الاستبداد على شعوبهم، حيث اعتبرت أن سلطة الحاكم مستمدة من الله، فارتبط الاستبداد في ذهنية الناس بالله.

ثالثا: أقامت محاكم للتفتيش على العقائد، بل حرضت الناس ليبلغ أحدهم عن الآخر، وعمدت إلى سياسة منع الكتب التي تطرح أفكارا علمية مخالفة لما جاء به الانجيل وأرسطو، وهددت كل من يتبنى افكارا مغايرة بالقتل، فبلغ عدد الضحايا من عام 1480 – 1488 ما يقدر بـ 8800 محروق و96494 محكوما بالأشغال الشاقة والعقوبات الأخرى.

رابعا: عارضت كل النظريات العلمية التي تم اكتشافها في ذلك الزمان، كنظرية غاليليو عن الأرض ونظرية دارون في التطور الحيوي، وربطت حتى الأمراض بالله وليس بمسبباتها الطبيعية، فظهرت بعد الاكتشافات العلمية هوة كبيرة بين الله والعلم فارتبط الله بالجهل. 

خامسا: عارضت الغرائز الفطرية التي خلقها الله في الانسان باسم الدين، فاعتبرت التجرد والرهبنة ورفض 

الدنيا، أي الزهد السلبي، هي من مقومات النجاة.

كانت هذه أبرز السلوكيات الكنسية التي أدت إلى انفجار كوني إنساني نتجت عنه ثورة ضد كل ما هو ديني، ونتيجة عدم وعي الناس بالحقيقة انقلبت الجماهير على الدين كرد فعل طبيعي ضد هكذا دين جاء ضد الإنسان وليس له ولخدمته، وبالطبع هو دين محرف كنسي لا شأن لله به، فكانت أهم نتاجات هذا التحريف هو نظرية نيتشة القائلة: «لقد مات الله». 

فكانت النتيجة استبعاد الله في نظرية الغرب الكونية، ونهوض كل النظريات والرؤى في ذلك العصر، وأهمها ما يتعلق بالحريات والحقوق على أسس مادية رفضت كل ما هو معنوي غيبي لارتباط الغيب الكنسي بكل مقومات الجهل والذل والظلم. 

الحرية والحقوق وميزان العدالة

حيث كان الغرب من جهة يكمل مسيرته نحو ترسيخ مبادئ الحرية والحقوق التي ترتقي، وفق رؤيته، بالإنسان وتنهض به على جميع المستويات، كان من جهة أخرى يبتعد تدريجيا عن الدين الكنسي الذي شكل له عائقا نحو التقدم والتنمية البشرية، وهو ما عرضنا أسبابه سابقا.

هذا البعد الذي انتهى تدريجيا إلى إقصاء الدين عن مختلف مناحي الحياة كان له أثر كبير في تغييب ورفض البعد المعنوي للإنسان وبناء جميع النظريات المستلهمة من الواقع على قاعدة المعرفة المقتضية للحس والتجربة على أساس مادي لا وجود لله فيها.

ولا ننكر التقدم الملموس الذي أحرزه الغرب في مسألة الحقوق والحريات على المستويات كافة، وقوننة كثير من النظريات التي رسخت قيام دولة القانون والمؤسسات وأعطت مساحات شاسعة للإنسان ليمارس فيها حريته وحقوقه ويبدع في أفكاره، وهو ما انعكس على تطور الحضارة والفكر الغربي عما كان عليه في العهد الكنسي.

ولكن إلى أي مدى تناغم الغربي، الذي بنى نظرياته على أسس مادية، مع شعاراته في الحريات والحقوق؟

إن الميزان الذي تقاس به الحريات والحقوق الغربية هو ميزان العدالة، لأن العدالة ذاتية الحسن لا يمكن أن يطرأ عليها عنوان ثانوي يغير من حسنها إلى القبح، كالكذب مثلا فهو عقلي القبح، حيث ان العقل يدرك قبحه، ولكن قد يطرأ عليه عنوان ثانوي يصبح فيه الكذب حسنا، كالكذب في سبيل إنقاذ بريء من الموت أو في سبيل إصلاح ذات البين.

إن حرية التعبير عن الرأي هي من الحريات التي ناضل لأجلها الغرب وبنى عليها رؤاه الفكرية الفلسفية كالليبرالية، واليوم نشهد مواقف متشددة لأصحاب هذه الرؤى حيال من مارس حقه في التعبير عن الرأي لا لشيء إلا لأن هذا الحق لا يتناغم مع سياسات الدولة العليا التي تصب في مصلحتها الرأسمالية، كما حدث مع كل من هيلين توماس عميدة الصحافيين في البيت الأبيض والتي عبرت عن رأيها بالكيان الصهيوني بشكل سلبي، والثانية أوكتافيا نصر رئيسة شؤون قسم الشرق الأوسط في شبكة السي إن إن، التي عبرت عن رأيها في الراحل الكبير السيد محمد حسين فضل الله بشكل إيجابي، حيث تم طردهما وفصلهما بعد ان قدمتا اعتذارا رسميا.

فهل يتناسب ذلك مع قول فولتير: دعني أقول رأيي ولدي استعداد أن أدفع حياتي ثمنا لأن تقول رأيك؟ 

فلو وضعنا الحريات والحقوق الغربية في ميزان العدالة لاستنتجنا أنها حريات وحقوق نسبية تتناغم مع مصالحها وليس مع أصالة حرية الإنسان وحقوقه.

هل أخطأ الغرب؟ 

قد يقول البعض إننا ننتقد النظريات الغربية، ولكن حينما ننظر الى الواقع نتساءل: أين واقع الغرب الذي أبعد الله وواقعنا نحن ـــ المسلمين ـــ أصحاب الرؤية الكونية المستمدة من الله تعالى؟!

وقد يصل البعض إلى نتيجة مفادها ان تقدم الغرب هو نتاج إبعاد الدين عن كل مناحي الحياة، وتخلفنا هو نتاج إقحام الدين في كل مناحي الحياة.

وبطبيعة الحال ـــ ووفق القاعدة المنطقية ـــ فإن النتيجة تتبع أبخس المقدمات، فإن كانت المقدمات سليمة ومنطقية جاءت النتيجة سليمة ومنطقية، وإن حدث خلل في المقدمات ينعكس هذا الخلل على النتائج.

في نقدنا للغرب نحن ننتقد أسسا فكرية ونظريات بنيت على هذه الأسس، وإن كانت الممارسات متطابقة مع النظريات وأدت ـــ ظاهرا ـــ إلى النهضة، فإن فساد أي نظرية يحتاج زمنا وفق السنن التاريخية الالهية، لكي يظهر وتنهار حضارته، وكثير من الحضارات السابقة أصبحت في طي التاريخ، لأن مبناها، التحتي والفوقي، كان ركيكا على المستوى المعنوي.

فنحن نقر بسلامة المنطلقات التي تنطلق منها النظريات الاسلامية واعتدالها وتوازنها وتغطيتها شتى متطلبات الانسان المادية والمعنوية، ولكننا نعترف بخطأ الممارسة وتناقض النظرية مع التطبيق، وننتقد الأفهام والأفكار البشرية لها، وأما مع الغرب فنقر بعدم سلامة المنطلقات الفكرية التي انطلقت منها النظريات الغربية حول الإنسان والطبيعة والكون، لتركيزها على البعد المادي فقط، حتى وصل بها الأمر إلى «تشييء» الإنسان. ورغم أن الممارسات تناغمت مع النظريات فأنتجت واقعا ظاهره متقدم، فان حقيقته وروحه منهارتان وتحتاجان وفق السنن الالهية زمنا لاثبات فشلها وتقويض حضارتها.

ولكن، هل أخطأ الغرب في أنه ابتعد عن إله الكنيسة ودينها؟ في واقع الحال كان أهم سبب لتقدم الغرب هو هذا الابتعاد، فقد كان يفترض على النخب الغربية أن تبحث عن حقيقة الله والدين، اللذين يتناغمان مع فطرة الإنسان، لا أن تقوض أصل وجودهما وترفض كل حاجات الإنسان الفطرية للدين وترسم طريقها على أسس مادية تعتمد فيها على التجربة والحس وتصدر على أساسها نظرياتها للكون والانسان والطبيعة.

واليوم يعيش الإنسان الغربي في مآزق روحية ومعنوية كبيرة تدفع الباحثين لإيجاد بدائل تملأ الفراغ الروحي، كالبرمجة العصبية والعلاج بالطاقة واليوغا وغيرها، وهي علوم بذاتها مفيدة، ولكنها لا يمكن أن تشكل بديلا للحاجات الروحية للمعنوية الانسانية التي ترتبط فطريا بخالق وتحتاج إلى الدين.

 الإسلام والحريات والحقوق 

أصل خلقة الإنسان له مقومات ثلاثية، إن اختل أحدها اختل بذلك التكوين الإنساني المتميز بها عن باقي المخلوقات، وهي: الحرية والإرادة والاختيار.

وكما أسلفنا آنفا أن النظرة الكونية في الإسلام ربطت عناصر المجتمع الثابتة، وهي الإنسان وأخوه الإنسان والطبيعة، بعلاقة معنوية وفق صيغة رباعية، كان الله منطلقها ومحورها.

لذلك شرعت التشريعات في المنظومة الإسلامية وفق مصالح ومفاسد الإنسان، فجاء الدين ليكون في خدمته يرتقي به كعقل قادر على الاستنارة والإنارة ويحفظ له كينونيته الإنسانية المتقومة بكرامته.

فجاء الإسلام بمنظومة تشريعية تضبط هذه الثلاثية الابعاد وترسم لها خطا مستقيما كأقصر الطرق لتحقيق الهدف من الخلقة في التكامل. بيد أنه في الوقت ذاته لم يجعل من هذه المنظومة منهجا جبريا على الإنسان كخيار وحيد لا تقابله خيارات أخرى، لأن ذلك سيحد عقل الإنسان الذي خلقه الله تعالى وميز به الإنسان عن باقي مخلوقاته في كوننا الرحيب، فأرجأ الأمر إلى حريته في الاختيار وإرادته في الفعل.

فقامت الحريات على أساس الحق والواجب كوسيلة ضبط للفرد والمجتمع، إذ لا قيام لدولة ومجتمع عبر التاريخ من دون قوانين ناظمة. ولم يذكر لنا التاريخ في ماضينا، ولم نر في راهننا حتى في الغرب حريات مطلقة من دون قوانين ضابطة، لأن ذلك سيخل بالأمن من جهة وسيؤدي إلى انتهاك حقوق الآخرين من جهة أخرى.

فآمنت النظرية الإسلامية بالحرية القائمة على أساس الحق والواجب كقوانين ضابطة للحياة الإنسانية على الأرض حفظا لكرامة الانسان وكينونيته الإنسانية وتحقيقا لأهم مبدأ وهو العدالة.

ورغم أن المبعوث بهذه الرسالة الاسلامية، أي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ عمليا بتطبيق واقع النظرية الاسلامية في حياة المسلمين ــ آنذاك ــ متدرجا في ذلك، وفقا لقابليات الناس وسعتهم العقلية، وما أنجزه في صحيفة المدينة التي أطلق عليها دستور المدينة من تأسيس لعدة نظريات أهمها الحريات والحقوق فإن هذه الانجازات الكمية التي تتناسب ونوعية وقابلية ما كان في إطاره الزماني والمكاني تعرضت للعديد من التأويلات والتفسيرات العقلية البشرية، التي إما فرط بعضها بالحريات فانتهكت الحقوق أو أفرط الآخر فيها، فجنحت النظرية كأصل نظري سليم عن تطبيقاتها العملية، حيث لعبت في ما بعد سلطة الدين والفتوى دورا بارزا في تكريس الاستبداد وقمع الحريات وانتهاك الحقوق بحجة درء المفسدة ومنع الفتنة، رغم أن المفسدة الناتجة عن شرعنة الاستبداد كانت أشد خطرا على الأمة، فيما لو تمت مواجهة الاستبداد.

فما دور المؤسسات الدينية في شرعنة الاستبداد الذي قمع الحريات وانتهك الحقوق، فهتكت كرامة الانسان الذي جاءت الشرائع السماوية من أجل خدمته والارتقاء به؟

 الحريات والحقوق وعهد الرسالة

دراسة التاريخ الإسلامي لاستخلاص النظريات الإسلامية منه خصوصا فيما يتعلق بموضوع الحريات والحقوق تتطلب تحري الدقة والتمييز بين النظرية الاسلامية الحقيقية وبين الافهام والممارسات البشرية لها

ولكي نستطيع معرفة أقرب فهم لحقيقة النظرية أو واقع النظرية بعينه، لابد لنا من أن ننظر الى أهم الشخصيات الاسلامية التي لعبت دورا في صياغة النظرية واقعا وتطبيقا.

كشخصية الرسول صلى الله عليه وآله، والشخصيات التي قادت المسيرة من بعده، وكيفية ممارستهم للحكم واقرارهم للحريات والحقوق. 

ويعتبر دستور المدينة، أو ما عرف بصحيفة المدينة، مثالا تاريخيا واضحا على السلوك النبوي في مسألة الحريات والحقوق وكيفية ممارسته لبنود الدستور وتطبيقه لها على أرض الواقع.

ومن أهم ما جاء في دستور المدينة، وكان معنيا بمسألة الحقوق والحريات، هو: 

1 ـ حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية، وجاء في هذا الأصل: «وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم».

2 ـ حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب، وجاء في هذا الأصل: «وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَث.م فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته».

3 ـ الاستقلال المالي لكل طائفة، وجاء في هذا الأصل: «وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم»

4 ـ حرية كل فصيل في عقد الأحلاف التي لا تضر الدولة، وجاء في هذا الأصل: «وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه».

ويقول المستشرق الروماني جيورجيو: «حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623 م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده.

وبهذا تكون شخصية كشخصية الرسول صلى الله عليه وآله، وهي من الشخصيات المقدسة التي تعبر يقينا عن روح الاسلام ومبادئه، قد أرست أسس بناء الدولة على مبدأ المواطنة الصالحة التي يعيش تحت ظلها الجميع بحريات منضبطة بالقانون الذي عبر عنه الدستور بالحق والواجب. وهو دليل تاريخي قاطع على منهجية الاسلام في مسألة الحقوق والحريات وفق أسس راعت البعدين المادي والمعنوي للفرد والمجتمع.

 الحقوق والحريات وعهد الخلافة 

نحاول استخلاص النظرية الاسلامية من خلال الممارسات العملية للاسلام من سلوك الرسول صلى الله عليه وآله والمقربين من بعده، غير منكرين وجود بعض الانحرافات سواء الطفيفة التي ظهرت في عهد الخلافة أو الخطرة والتأسيسية التي ظهرت فيما بعد عهد الخلافة للخلفاء الأربعة الأوائل.

وكعادة أي تجربة جديدة العهد حينما يغيب منظرها وحامل رايتها فانه لا بد أن يكون في فهم النظرية وممارستها بعض الخلل، واذا ما عولج هذا الخلل تراكم تاريخيا وكميا وأدى بشكل تلقائي الى تغيير نوعي في النظريات والممارسات، والتي تنعكس على ذهنية الأمة وتغير من الاهداف التي كان يصبو لتحقيقها قائدها قبل ارتحاله.

وسنسلط الضوء في هذه العجالة على بعض الاضاءات التاريخية في الخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وخصوصا تلك التي أسست لممارسة تعكس مدى الحفاظ على الحريات والحقوق العامة.

فالجماعة المسلمة لم تسلب الحق في أن تمارس دورها في النقد والرقابة وتعطي حق التوقف عن دعم الحاكم في حال ارتكابه للمعصية أو خروجه عن مشروع الأمة الالهي والسير به بعيدا، وهو ما اضطر الخليفة أبو بكر الى الاعلان صراحة: «يا أيها الناس اني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان ضعفت فقوموني وان أحسنت فأعينوني.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فان عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

وللخليفة الثاني موقف واضح في استنطاقه للرعية في حال انحرافه عن جادة الله ورسوله، فهو الذي خاطب المسلمين قائلا: «ماذا لو رأيتم فيّ اعوجاجا؟. فأجابوه والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا. وقال: الحمد لله الذي وجد من يقوم اعوجاج عمر». وفي عهد الخليفة الثالث، حيث كثرت فيه الثورات نتيجة تسلط بعض أقطاب بني أمية على مقومات الدولة، كان أمثال عمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهما يمارسون دورهم في الارشاد والدخول الى بيت الخلافة وتوجيه النقد وتقديم العرائض بل وصل الامر الى الثورة والانقلاب.

وفي عهد الإمام علي ع تجلت حقيقة الأحزاب المعارضة وكيفية اعطاء الإمام لهم الحق في التعبير والتنظير والدعوة، وأبرزها حركة الخوارج التي لم يرفع في وجهها السيف الا حينما هددت الامن المجتمعي وتعدت على حرمات الانسان بالقتل والتنكيل وهدر الكرامات.

وللإمام علي ع مقولة رائعة في نهج البلاغة حول حق الراعي والرعية وتوضح سقف الحريات خاصة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم : ”  فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاء، لاِِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.

فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُو كُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى.”

وهذه مجرد اضاءات تدفع القارئ نحو مزيد من البحث والتثبت من تلك الحقبة التاريخية، رغم أننا لا ننكر وجود انحرافات شكلت مدماكا اتكأ عليه فيما بعد أصحاب المصالح والغايات التسلطية في استخدام الدين كآلة لتمكين سلطة الاستبداد . 

 الحاكم ومفهوم الشرعية

«ما سل سيف في الاسلام إلا بسبب الإمامة» وهو ما عبر عنه صاحب الملل والنحل الشهرستاني.

وهي عبارة تدلل على اختلاف المسلمين في كيفية نصب الإمام، واختيار الحاكم أو الخليفة وماهية مواصفاته، حيث جاء الاختلاف إما لاختلاف الأفهام في نصوص الوحي بسبب البيئة التي خلقتها الانحرافات المتراكمة كميا بعد ارتحال الرسول صلى الله عليه وآله، وأدت إلى تغيير نوعي في الافهام والإدراكات، أو نتيجة ما يعرفون باسم علماء البلاط الذين استخدموا الدين كآلة للسياسة، وشرعنوا الاستبداد السياسي باسمه.

إلا أن النظرية السياسية الاسلامية في قبول أي حاكم تعتمد على أساس واضح، وهو مدى قبوله الكامل للاحتكام لشرع الله كما أرادته حقيقة الشريعة من خلال ممارسة الرسول للقيادة السياسية في عهده التي أسس لها أسسا مهمة، وإن كان الوقت لم يسعفه في تطبيقها إلا مجملا لا تفصيلا.

ويقول الراغب في مفرداته: «وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة»، ويذكر ابن حزم: «لا يحل الحكم إلا بما أنزل الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الحق، وكل ما عدا ذلك فهو جور وظلم لا يحل الحكم به».

ولقد سلطنا الضوء  على الحريات والحقوق في عهد الرسالة، والاسس التي وضعها رسول الله في صحيفة المدينة، التي تعتبر مستندا وركيزة ومرجعا مهما في الفكر السياسي، وكيفية بناء الدولة.

وبذلك تعلو سلطة النص والوحي كتابا وسنة على كل سلطة أخرى تشريعية أو تنفيذية، وإنها سند كل سلطة ومبرر كل طاعة يطلبها حاكم.

ومن هنا يتضح أن شرعية الحاكم لا تستمد من شخصه كمصدر للحق، بل يستمد شخصه الحق في الحكم من الشرع، فكلما تطابق عمله مع سلطة الوحي كتابا وسنة صحيحة ومحكمة كلما أصبح وجوده بهذا اللحاظ أكثر تماهيا مع الحق، وأصبحت ممارسته السياسية للسلطة أكثر إعطاء للحريات، وحفظا للحقوق، وأصبح جديرا بالطاعة من قبل الرعية.

وكلما ابتعد عن هذا التطابق مع سلطة الوحي، وخالف الشرع مال حكمه للباطل، وسقطت شرعيته في الحكم، ودخلت طاعة الرعية له محلا للجدل. حيث يقول الغزالي: «إن طاعة الإمام لا تجب على الخلق إلا إذا دعاهم إلى موافقة الشرع».

ولكن ما هو موقف الرعية من الحاكم في حال انتهك الحقوق، وتعدى على الحريات، وخالف عمله سلطة الوحي الصحيح؟

 فقه السلطة والاستبداد

لعب فقهاء البلاط في التاريخ الاسلامي دورا بارزا في تعزيز استبداد السلطة باستخدام سلاح الفتوى، وحيث ان للدين دورا فعالا في حياة الفرد والمجتمع ووجوده كحاجة فطرية تجعل له سلطة على عقل الإنسان وقلبه، فإنه كان وسيلة وأداة بأيدي كثير من الحكام عبر التاريخ ليحكموا سيطرتهم على الناس وعلى عقولهم ويخدروهم باسمه.

فتحول الدين من منهج حياة متكامل يحمل قيما إنسانية جامعة إلى ايديولوجيا فرغت، نتيجة التعصب والاستبداد، من محتواها الإنساني وألبست قالبا قشريا استطاع أن يخدر الجماهير ويحول الدين إلى مجرد وسيلة لا غاية وطقوس لا عبادات حقيقية يحكمها الحراك الاجتماعي في ترجمتها إلى العدالة المنشودة من الرسالة الاسلامية.

و وضحنا أي مشروعية هي للحاكم ومتى تطيع الأمة هذا الحاكم، ولكن السؤال الذي يتوارد إلى الذهن هو: إن كان مفهوم المشروعية كما ذكر فلماذا حكم الكثيرون في تاريخنا الاسلامي حكما شبيها إلى حد كبير بالحكم الكنسي، حيث تزاوجت سلطة الدين مع سلطة الحكم وشرعنت سلطة الدين استبداد الحاكم؟

إن المتتبع للأخبار الواردة في هذا الصدد في الروايات والاحاديث يستطيع أن يكشف كيف استطاع علماء البلاط استعمال آلة الفتوى في شرعنة الاستبداد، وتحريف إما مفهوم الحديث عما أراده الرسول (ص) أو استقطاعه واجتزاءه والتركيز على مفاصل تخدم غاياتهم وعزله عن ظروفه الزمانية والمكانية وعدم عرضه على محكم القرآن لمعرفة مدى توافقه معه، أو استخدام روايات مكذوبة في ذلك، وكلنا يعلم كيف استطاع كثير من الحكام شراء بعض أهل الفتوى والرواية من أجل تثبيت حكمهم في عقول الناس بالتخدير الديني.

ولست في صدد ذكر الروايات التي تنهى عن الخروج على الحاكم حتى لو هتكت الحرمات وسلبت الحقوق كالروايات المذكورة في هذا الصدد في شرح صحيح مسلم والباجوري وأبو بكر الباقلاني في التمهيد وغيرها من الروايات المتضافرة التي تنهى عن الخروج على الحاكم حتى لو فسق وظلم وغصب الاموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة إلى آخر الرواية التي لو عرضنا مضامينها على القرآن لفسدت.

بل لو أننا مايزنا بينها وبين ما قاله الخلفاء في فترة خلافتهم لوجدنا التناقض واضحا في ذلك. وهو أيضا ما ينافي قول الرسول (ص): «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» الذي عُطل وألغيت مفاعيله كإحدى الأدوات المهمة التي تمكن الامة من وقف الحاكم عند انحرافه عن جادة الشريعة وحُوّل إلى ممارسة فردية يقصد منها ردع الأفراد بعضهم لبعض والالتهاء عن ردع انحرافات الحاكم. 

 المؤسسات الدينية والسلطة

نطرح فكرة الحريات والحقوق في الأديان من خلال استقراء الفكرة واستنطاقها بقراءة التاريخ وأحداثه، لاستلهام منهج ورؤية الدين الأقرب الى الواقع، وعرض هذا المنهج على الفهم والممارسات البشرية للدين، واعادة قراءة الفكر الديني بطريقة تنقيه من الشوائب التي علقت به، لنخرج بالنظرية الاقرب للدين في الحقوق والحريات.

ولقد سلطت الضوء بما تتيح لي هذه المساحة على العهد الكنسي، وموضوع الحريات والحقوق فيه، وكيف لعبت المؤسسة الدينية آنذاك دورا محوريا ومهما في مأسسة الاستبداد، وشرعنة ثقافة الغيب، باقصاء العقل عن حياة الانسان، وباسم الانجيل المقدس.

ومن الانصاف بمكان أن نسلط الضوء على مؤسساتنا الدينية ودورها في رسم منهج نظري وعملي في الحريات والحقوق. والمؤسسات الدينية تنقسم الى:

1 – مؤسسات مرتبطة بالسلطة، أي حكومية الدعم وتقع ضمن مؤسسات الحكومة.

2 – مؤسسات مستقلة عن السلطة، ولها نظامها المالي والمؤسسي الخاص.

تحدثنا عن فقهاء البلاط، وكيف أسست هذه الفكرة تاريخيا لقيام مؤسسات دينية حكومية تحولت مع تقادم الزمان من مؤسسات مستقلة ماديا كحال الوقف في التاريخ الاسلامي، ودوره البارز في تنمية المجتمع، ورفده بمصادر العلم والمعرفة والتطوير، الى مؤسسات تابعة للدولة نتيجة قيام نظم الدولة الحديثة وانضمامها اليها كاحدى مؤسساتها المهمة والرافدة للمجتمع.

الا أنها وقعت أسيرة سلطة أكثر خطورة، وهي سلطة الحكم التي ترسم السياسات العامة للدولة والشعب، وتستخدم سلطة الفتوى في شرعنة هذه السياسات، وان خالفت أوامر الله تعالى وأدت الى مزيد من اقصاء عقول الناس وتخديرهم باسم الدين، وثني عزيمتهم عن الولوج في قضايا الامة المصيرية، والأمثلة جلية في راهننا.

ولعبت كثير من هذه المؤسسات دورا محوريا ومهما في خدمة الاستعمار ومشروعه في المنطقة، بشكل غير مباشر من خلال السلطة الحاكمة المتعاونة معه.

المؤسسات الدينية وحرية الرأي

الحرية هي القيمة الآلية للوصول لكل القيم الغائية وعلى رأسها العداله ، وكلما تحرر الإنسان من الإصر والأغلال ومنن ربوبية غير الله دون الدخول في الفوضى أو خرق القوانين الناظمة، كلما اتسع فضاء وأفق معرفته واستنهضت إبداعاته وكان أقدر على أداء تكليفه في الاستخلاف على الأرض وفق إرادة المستٓخْلِف.

ولا ننكر دور كثير من علماء المؤسسات الدينية في التاريخ من إثراء للفكر في تطوير كثير من العلوم واستنهاض كثير من الآراء ودعم كثير من مشاريع التقدم في جميع المجالات.

حيث مارس جلهم دور الاصلاح وتطوير الرؤية الدينية وإعادة قراءة النص بما يتناسب مع مستلزمات العصر وحاجة الناس الراهنة، وكان الفضل يعود لمساحات الحرية الواسعة في طرح الرأي وإثرائه علميا وموضوعيا من جميع الجوانب.

لكن المستقرئ لراهن المؤسسات الدينية قد يلحظ تقهقرا في جانب مهم من النهضة العقلية وهو جانب حرية الرأي، وإقفال باب الحوار على كل فكرة لا تتناسب والاجماع أو المشهور حتى لو كانت فكرة قائمة على أساس عقلي وعلمي. طبعا لا نعني بذلك غياب هذه المساحة من حرية الرأي كليا، ولكن تقلصها من حيث القناعات العامة للمؤسسات الدينية، فغالبا ما تقتل الأفكار في مهدها ونادرا ما تناقش وتنتقل من المهد إلى حالة النضوج ثم الوصول لثمرة الحقيقة التي قد تغير كثيرا من الرؤى والمعتقدات.

ورغم اننا مدعوون من قبل الله تعالى إلى مائدة الفكر والتفكر وحرية الرأي والنقاش في كل شيء، فإن بعض الممارسات تقمع هذه الخاصية الخلاقة في الإنسان باستخدام طريقة الارهاب الفكري التي تعتمد على إسقاط الشخص أو قتله اجتماعيا بهدف قتل الفكرة المطروحة، حيث انها أسهل الطرق لذلك.

فحينما تطرح أي فكرة خارجة عن المألوف الديني فيفترض أن يتم التعاطي معها كفكرة جنينية يجب إخضاعها للعقل والبحث العلمي للوصول إلى حكم بحقها، إذ ان أي حكم تصديقي يفترض أن يمتلك الدليل والبرهان كي يحكم عليه بالسلب أو الإيجاب والنفي أو القبول. لكن ما يحدث غالبا هو ليس إخضاع الفكرة للبحث العلمي الموضوعي بهدف النهوض بالعقل وإثراء الساحة العلمية، بل هو قتل الشخص الطارح للفكرة اجتماعيا وإسقاطه إما بسلاح الفتوى أو سلاح التكفير والتشهير، وهذه الطريقة تدلل إما على الكسل البحثي العلمي واختيار الطريق الأسهل للحؤول دون طرح افكار خارجة عن المألوف الديني، أو تدلل على حالة انغلاق على الذات وتقديسها.  

ولكننا لا ننكر أبدا وجود شخصيات دينية لها ثقلها تقوم فعليا بمناقشة الفكرة بذاتها من دون التعرض لشخص الطارح لها، لكنها شخصيات نادرة وثقافة ليست منتشرة.

وخلاصة القول اننا بحاجة فعلية لفتح الساحة لحرية الرأي حتى نفرش مائدة الحوار الخلاق ونضيء شعلة الإبداع الذي غيبته ساحات العقل الديموغاجي، ونخضع كل شيء للبحث العلمي الموضوعي باستخدام العقل والنقل القاطع في برهانه، ونحيي الثقافة القرآنية التي غلبت عليها دعوات التفكر والتدبر والتعقل وهي دعوات صريحة لمحورية العقل في الحياة الإنسانية وهذه المحورية لا يمكن النهوض بها إلا في أجواء الحريات المنضبطة والتي تنهض بمنظومة الحقوق والواجبات. 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً