المقدمة
في زماننا أصبح العالم بيتاً واحداً؛ فالسفر إلى الدول الأجنبية والاحتكاك بأهل الكتاب ــ لهدف التجارة وغيرها ــ أصبح ضرورياً، من ناحية أخرى، صار ذهاب طلاب الجامعات والسفراء وكبار المسؤولين إلى الدول الأوروبية وغيرها للدراسة والشأن السياسي وغيرهما ضرورياً أيضاً، ومستدعياً للاختلاط والاحتكاك بهم. من ناحية ثالثة، نرى أن طبيعة التركيبة السكانية في بعض البلدان تفرض الاختلاط بين المسلمين والمسيحيين، كما هو موجود في لبنان و.. فهذه الأمور كلّها تجعلنا ننظر بعين الاعتبار إلى مثل هذه المباحث، ونراها ضروريةً ومبتلى بها.
ولا ينبغي الظنّ بأنّ هذه المسألة من ضروريات المذهب الشيعي المفروغ منها، كما يظهر من كلام الشهيد الثاني في مسالك الأفهام، بل هناك اختلاف فيها منذ زمن الأئمة ( إلى زمن الصدوقين والقديمين؛ فهؤلاء الأربعة أفتوا بحلية ذبائح أهل الكتاب، وان اختلفوا في بعض الشروط كما سيأتي، أمّا الفقهاء الذين تلوا عصر الشيخ الطوسي (460هـ) فأفتوا بحرمتها إلى زماننا.
ونحاول هنا ذكر أدلّة الطرفين مفصّلةً ــ بعون الله تعالى ــ لنتوصل بعد ذلك إلى موقف.
أصالة الحلية أو الإباحة
وينبغي أن نتكلّم حول أصالة الحلية؛ حتى تكون هي المرجع لنا عند تعارض النصوص أو إجمالها أو فقدانها؛ فنأتي ببعض الآيات القرآنية وبعض الروايات دليلاً على هذا الأصل، والبحث المستوفى يُطلب من الكتب الأصولية المعدّة لذلك.
المستند القرآني لأصالة الحليّة
أما الآيات، فمنها:
1 ــ قوله تعالى: >هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء<(البقرة: 29)؛ فخلق لكم أي خلق لأجلكم؛ وكون الأشياء لأجلنا معناه أنّه قد أجاز لنا التصرّف فيها بأيّ نوعٍ من أنواع التصرفات، ومن تلك الأشياء الحيوانات المأكول لحمها، ومن التصرّفات الأكلُ. قال صدر المتألّهين في تفسيره: «والآية تقتضي أن الأصل إباحة الانتفاع بما في الأرض للإنسان، إلاّ ما خرج، بدليل تخصيص بعضها ببعض، ولا تحريم بعضها على بعض، لأنها دلّت على أنّ الكلّ للكل، لا أنّ كلّ واحد له واحد»([1]).
2 ــ قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ< (البقرة: 168)؛ فـ «يا أيها الناس» خطابٌ لجميع الناس، مسلمين كانوا أم غير المسلمين، معتقدين بدينٍ أم لا، و «كلوا» بهيئتها تدلّ على الوجوب، وهو هنا ليس بمقصودٍ قطعاً، فإذاً تكون الصيغة دالّةً على إباحة الأكل، والأكل تناول المطعم والبلع عن مضغ، وقد توسّع في استعمال هذا اللفظ؛ فاستُعمل في التصرّف والتسلط، كما في قول تعالى: >إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا< (النساء: 10)، أي الذين يتصرّفون أو يتسلّطون، وقوله تعالى: >وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ< (البقرة: 188)، أي لا تتصرّفوا بها.
و «من» في «مما في الأرض» للتبعيض، ومعناه ــ والله أعلم ــ كلوا بعضه والبعضُ يكفيكم. وبعبارة أخرى: كلّ ما في الأرض حلال لكم، لكنّكم لا تحتاجونه بأجمعه، بل بعضه يكفيكم؛ فلا تدلّ على التبعيض في الحلية، بل على عدم احتياج الإنسان للكل، أو عجزه عن التصرّف فيه، وكيف كان ليس تبعيضاً في الحلية حتى تكون الآية مجملةً لكي تفسّرها الآيات الدالّة على حليّة بعض الأشياء الخاصّة.
إلى هنا، فهمنا جواز جميع التصرفات، ثم قيّدها بقوله: «حلالاً»، «والحلال هو الجائز من أفعال العباد، ونظيره المباح، وأصله الحلّ نقيض العقد، وإنما سمّي المباح حلالاً؛ لانحلال عقد الحظر عنه»([2])، و«حلالاً» إما صفة مصدر محذوف، أي كلوا أكلاً حلالاً، وإمّا صفة لـ «شيئاً»، أي كلوا شيئاً حلالاً.
فعلى الأولّ، يكون «حلالا طيباً» بيان لكيفية التصرّف والأكل، أي تصرّفوا على نحو يكون جائزاً عرفاً، وإنما لم نقل: «شرعاً» حذراً من التأكيد والتكرار. وبعبارة أخرى: لفظ «حلالاً» يلزم أن يُحمل على معناه العرفي لا الشرعي، وإلاّ يلزم أن تكون هذه الآية ناظرة إلى جميع الآيات المبيّنة للحليّة والحرمة، فتكون تأكيداً لحلية ما حللّه الشارع في سائر الآيات، وكونها ناظرة إلى سائر الآيات خلافُ الظاهر، بل كل آية تريد أن تبيّن حكماً غير ما بيّنته الآية الأخرى، إلاّ أن تكون هناك قرينة دالة على كونها ناظرة أو مؤكّدة، نعم، قد يخطأ العرف ويرى ما ليس بحلال حلالاً أو العكس، فالشرع يصحّح ويبيّن له بعض المصاديق التي أخطأ في تحليلها أو تحريمها، ولا يستدعي ذلك حمل اللفظ على المعنى الشرعي.
وعلى الثاني، معناه كلوا الشيء الحلال من الأشياء الموجودة في الأرض، وبمقتضى ما مرّ من لزوم حمل الألفاظ على معناها العرفي وما مرّ من دلالة صيغة الأمر هنا على الإباحة، تعطي الآية إباحة التصرّف في الأشياء الحلال عند العرف، فتكون الآية إمضاءً لأعمال العرف لا تأسيساً لشيء، لكنّ هذا النوع من التركيب النحوي ضعيفٌ في الغاية، ومخلّ بالفصاحة.
إن قلت: يحتمل أن يكون «حلالاً» حالاً لـ«ممّا في الأرض» صفة.
قلت: هذا الاحتمال وإن ذكر في الكشاف وغيره من التفاسير لكنّه ضعيف؛ إذ في هذه الحالة لا يبقى مفعول لـ «كلوا» إلا أن يقال: إنّ «ممّا في الأرض» متعلّق بمحذوف، والجملة تكون مفعولاً لـ«كلوا» بعد اللتيا واللتي؛ فيصبح المعنى: كلوا الأشياء الموجودة مما في الأرض حال كونها حلالاً، وبعد حمل كلمة «حلالاً» على معناها العرفي، لا نستفيد شيئاً أكثر مما ذكرناه في الوجه الأول، وكيف كان فدلالة الآية على الحليّة العامة واضحة، قال الطبرسي: «وهذه الآية دالّة على إباحة المآكل إلا ما دلّ الدليل على حظره، فجاءت مؤكّدةً لما في العقل»([3]).
أمّا قوله: «طيباً»، فهو صفة بعد الصفة، والطيب هو المستلذّ الخالص من شائب ينغّص، و «طيباً» تأكيد لـ«حلالاً».
ولا يخفى أن إطلاق الآية أو عمومها يشمل جميع الأشياء؛ وعليه فالاستفادة من جميع الأشياء ــ حتى النجاسات الذاتية والعرضية والمحرّمات ــ جائزة إلا ما خرج بالدليل، ومنع الاستفادة من جهة لا يمنع جوازها من سائر الجهات؛ فالحرمة والمنع يكونان بمقدار دلالة الدليل والباقي يبقى تحت الحلّية والإباحة العامة، وهذه نقطة مهمّة في بحث بيع النجاسات والمحرّمات.
3 ــ قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ< (البقرة: 172)، حيث تدلّ هذه الآية على حليّة كل طيب مستلذّ للمؤمنين، وتوجب عليهم الشكر في قبال النعم، وهي أصرح من الآية السابقة في دلالتها على الحلّية المطلقة.
وتخصيص الحليّة هنا بالمؤمنين ــ مع أنّ الآية السابقة كانت عامّةً لكلّ إنسان كما مرّ ــ لعلّه لعدم استماع غير المؤمنين كلام الله تعالى؛ فأعرض عنهم، وبيّن الحكم مرةً ثانية للمؤمنين، وأوجب عليهم الشكر أيضاً؛ بمقتضى ربوبيته وإيصاله المؤمنين إلى المطلوب.
وكيف كان، فالمهم لنا ــ ونحن المؤمنون ــ أن نفهم أن الآية حلّلت لنا التصرّف في الطيبات، أمّا حليّتها على غير المؤمنين فلا ربط لنا بها؛ إذ إنهم كما لم يسمعوا كلام الله ولم يلتزموا به فلن يسمعوا كلامنا ولن يعملوا به.
وعليه، فالآية صريحة في حليّة تمام الطيبات ــ لاسيما لحوم الأنعام ــ للمؤمنين، بقرينة تخصيص المحرّمات بالمذكورات في الآية التي تليها بقوله: >إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أهل بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ< (البقرة: 173)، ونظير هاتين الآيتين الآيتان رقم: 114 و 115، من سورة النحل، والآيات الدالّة على الحلية العامة كثيرة، تركناها حذراً من التطويل المملّ، بعد وضوح المسألة وعدم خلافٍ معتدّ به فيها، لكن لا بأس بالإشارة إلى آية تمثل نصّاً في حليّة اللحوم كما ترتبط بالذبائح، وهي:
4 ــ قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ< (المائدة: 1).
قال الطبرسي: «البهيمة اسم لكلّ ذي أربع من ذوات البر والبحر. وقال الزجاج: كل حيّ لا يميّز فهو بهيمة، وإنما سمّيت بهيمة؛ لأنها أبهمت عن أن تميّز»([4])، فما لا يكون في المستثنى يقع في المستثنى منه، أي كلّ لحم من الأنعام لم نجد دليلاً على حرمته يكون حلالاً؛ لأنه داخلٌ في المستثنى منه. والداخل تحت المستثنى عبارة عن الصيد حال الإحرام على احتمال، وأيضاً المذكورات في الآية الثالثة من هذه السورة وهي: >حرمّت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق..< (المائدة: 3)، فالمحرّمات الأربعة الأولى منها هي بعينها المذكورات في الآية 173 من سورة البقرة، والآية 115 من سورة النحل كما مرّ، والخمسة الثانية هي مصاديق الميتة، والاثنان الآخران حرّما لأجل الإهلال لغير الله والمقامرة. وبعبارة أخرى: الإثنان الآخران أيضاً من مصاديق الإهلال لغير الله بإرجاع المقامرة إلى ذلك؛ فهذه الآية لم تأت بحكم جديد بالنسبة إلى المحرّمات، بل إنّها تبيّن بعض المصاديق الدراجة في تلك الأعصار.
وكيف كان، فغير هذه الأمور المذكورة يبقى تحت الحلّية المطلقة المذكورة في الآية الأولى، وبما أنّ سورة المائدة قد نزلت في أواخر عمر النبي 2 ولم ينسخ شيء من أحكامها؛ فيلزم علينا أن نتمسّك بالحلية المستفادة منها، إلا أن نجد مخصّصاً من الآيات أو الروايات الواردة عن الحجج (.
ولعلّ الوجه في تقديم «المنخنقة والموقوذة.. وما أكل السبع» على «ما ذكيتم»، وتأخير «ما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام» عنها، هو أن المتقدّمات يمكن ذبحها وتصبح حلالاً بالذبح بخلاف المتأخرات. وبعبارة أخرى: حرمة المتقدّمات تكون لأجل عدم إخراج الدم المعتاد منها؛ فهي مضرّة بالبدن إلا أن تذبح؛ فتصبح حلالاً؛ فالذبح يكون طريقاً لتحليل هذه المحرّمات، بخلاف الأخيران فإن حرمتهما ليست لأجل أمور صحّية بل لأجل أمور روحيّة؛ إذ لا فرق ــ من الناحية الصحيّة ــ بين ما ذبح للصنم وغيره.
المستند الروائي لأصالة الحلّية
هناك طائفتان من الروايات تدلّ على أصالة الحلّ، هي:
الطائفة الأولى: ما دلّ على حلية كلّ شيء مشكوك فيه
وأكثر روايات هذه الطائفة واردٌ في الجبن، منها:
1 ــ خبر عبد الله بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر % عن الجبن؟ فقال لي: «لقد سألتني عن طعام يعجبني.. فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره: كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه، فتدعه».
2 ــ خبر عبدالله بن سليمان، عن أبي عبد الله % في الجبن، قال: «كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة».
3 ــ خبر محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر % عن الجبن؟ فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يُجعل فيه الميتة. فقال: «أمن أجل مكان واحد يُجعل فيه الميتة حرُم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله إنّي لأعترض السوق، فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون، هذه البربر وهذه السودان».
والظاهر اتحاد الخبرين الأولين؛ لاتحاد الراوي والمضمون، ومن البعيد جداً أن يسأل عبد الله بن سليمان هذا السؤال مرّتين، فالسؤال كان واحداً والجواب واحداً، لكنه نقل الجواب مرّةً بالتفصيل وأخرى بالإجمال؛ ولهذا لا يمكن لنا أن نتمسّك بألفاظ كلّ واحدة منهما؛ فالاستدلال بالخبر الأول في مورد الشبهات المقارنة للعلم الإجمالي لا وجه له، كما أنّ الاستدلال بالثاني للشبهات الحكمية قابلٌ للمناقشة، لكنّ كليهما يدلان على حليّة ما شكّ في حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية؛ فهذان الخبران ــ على فرض صحّة سندهما ــ لا يمكن أن نتمسّك بهما في بحث ذبائح غير المسلم، إذ بحثنا بحثٌ حكمي، والخبران يدلان على الحلية في الشبهات الموضوعية.
وعليه، فالمقصود من قوله %: «حتى تعرف الحرام منه بعينه» و«حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» واحدٌ؛ فالإمام % قال شيئاً، فهم منه الراوي ما نقل عنه مرّة بتعرّف الحرام منه بعينه، وأخرى بقوله: «حتى يجيئك شاهدان..»، فالمقصود من التعبيرين هو الوثوق والاطمئنان. أللهم إلا أن يقال: إنّ الخبرين ليسا واحداً؛ لاختلاف المروي عنه، ففي أحدهما سأل الباقر % فأجابه بالتفصيل، ثم في زمانٍ آخر سأل الصادق %، فأجابه بالإجمال.
أمّا سند الحديث، فعبد الله بن سليمان مشترك بن عبدالله بن سليمان الصيرفي والعامري والنخعي والنوفلي والعبسي، ولم يوثق واحدٌ منهم سوى العامري الذي له توثيق عام؛ لوقوعه في إسناد كامل الزيارات الذي ذكر صاحبه أنّه لا يروي فيه إلا عن ثقة([5])، وكيف كان، فمع ذكر عبدالله بن سليمان في السند دون قرينة يلزم حمله على الصيرفي؛ لأنه كان صاحب كتاب، وكان ذكره في الأسانيد أكثر من الآخرين، وهو لم يوثق، فالسند غير معتبر([6]).
وأما الخبر الثالث، فسنده ضعيف ــ على ما قيل ــ بمحمّد بن سنان وأبي الجارود؛ فأبو الجارود هو زياد بن المنذر رئيس الجارودية من الفرق الزيدية، ولم يوثقه النجاشي ولا الشيخ ولا الكشي، مع ذكرهم له. وقال ابن الغضائري: «أصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الأرجني». والسيد الخوئي وثقه لوقوعه في إسناد كامل الزيارات([7]).
وفي وصف محمد بن سنان، قال السيد الخوئي ــ بعد نقل الروايات والأقوال فيه ــ ما ملخّصه: المتحصّل من الروايات أنّ محمد بن سنان كان من الموالين وممّن يدين الله بموالاة أهل بيت نبيه (؛ فهو ممدوح، فإن ثبت فيه شيء من المخالفة فقد زال ذلك، وقد رضي عنه المعصوم %؛ ولأجل ذلك عدّه الشيخ ممّن كان ممدوحاً.. ولولا أن ابن عقدة والنجاشي والشيخ الطوسي والشيخ المفيد وابن الغضائري ضعّفوه، وأنّ الفضل بن شاذان عدّه من الكذابين لتعيّن العمل برواياته، لكنّ تضعيف هؤلاء الأعلام يسدّنا عن الاعتماد عليه..([8])
أقول: تضعيف هؤلاء لا يضرّ بعد وضوح مدركهم، كما يظهر من مراجعة كتبهم، وما يظهر لي من الأقوال والروايات الواردة في شأنه أنه كان من أصحاب السرّ، ومن الموالين، والقدح الوارد فيه كان لأجل عدم معرفة الأصحاب لمقامه الرفيع؛ فالعمل بهذا الخبر وبأخبار محمّد بن سنان راجحٌ عندي.
أمّا على المستوى الدلالي لهذا الخبر، فدلالته ــ على فرض صحّة سنده كما هو الأظهر، بعد التوثيق الإجمالي لأبي الجارود وممدوحية محمد بن سنان ــ على حلّية ما اشتبه للعلم الإجمالي، وما اشتبه بالشبهة الابتدائية وما اشتبه لاحتمال ترك بعض الشروط مثل التسمية في الذبح، واضحة، ويدلّ أيضاً على أنّ العلم أو الظنّ بالتسمية في الذبح ليس بلازم، بل الظنّ بعدم التسمية أيضاً غير مضرّ بالحلية؛ فالمانع من الحلية هو العلم التفصيلي بجعل الميتة فيه أو بعدم التسمية عليه، لكنّ الفتوى اعتماداً على خبرٍ واحد فقط مشكل، خصوصاً في بعض الجهات التي لا نجد روايات ولا أصول مساعدة فيها.
وخلاصة القول: إنّ الروايات الواردة في أصالة الحلّ كثيرة في الأبواب المختلفة، لكن حيث كان بحثنا في الذبائح تركنا نقلها وفقهها؛ فمن أراد فليراجع الكتب الأصولية، ومنها تهذيب الأصول للإمام الخميني([9]).
الطائفة الثانية: ما دلّ على حلية كلّ ما لا نصّ على تحريمه من الأطعمة المعتادة
وهي عدّة رويات ذكرها صاحب الوسائل([10])، منها:
1 ــ صحيحة محمد بن مسلم وزرارة، عن أبي جعفر % قال: «إنه ليس الحرام إلا ما حرّم الله في القرآن».
2 ــ صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر %، قال: «إنه ليس الحرام إلاّ ما حرّم الله في كتابه، ثم قال: اقرء هذه الآية: >قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَّسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أو فِسْقًا أهلّ لِغَيْرِ الله< (الأنعام: 145).
قال الحر العاملي ــ بعد ذكر الأخبار الستة ــ : «والأحايث الواردة في حصر الأطعمة المحرمة كثيرة متفرقة، ومثلها الآيات المشتملة على الحصر، والنصوص العامة، ولا يخفى أنّ أكثرها حصرٌ إضافي بالنسبة إلى بعض الأفراد، وأنّ دلالة هذه العمومات والظواهر لا تقاوم النصوص الخاصّة، فكلّما وجد نصّ خاص على تحريم شيء كان مستثنى، وإنّ شمولها لغير المعتاد بعيدٌ جداً؛ لعدم كون تلك الأفراد ظاهر الفردية لذلك العام، ولكونه مخصوصاً بمجمل، أعني الخبائث وغير ذلك، وإنّ الحصر مخصوص بالأطعمة غير شامل لغيرها، والله أعلم»([11]).
أقول: الظاهر أنّ جلّ كلامه ــ بل كلّه ــ ناظر إلى بعض فقهاء أهل السنّة القائلين بحلّية لحوم السباع والكلاب؛ متمسّكين بمفهوم آية: >قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ..<، فأجاب صاحب الوسائل مرّةً بأنّ الحصر إضافي، وأخرى بأنّ لحم السباع والكلاب غير معتاد الأكل، وثالثة بأنه من الخبائث، وغير ذلك من الأجوبة؛ فهذه الكلمات منه جيدة في محلّها، لكن لا ربط لها بما نحن فيه من ذبائح أهل الكتاب، وما يذبح بالماكينات الكهربائية وغيرهما؛ إذ في ما نحن فيه بعد الفحص في الآيات والروايات يصبح الحصر حقيقياً، وأكل طعام أهل الكتاب أيضاً معتاد، كما أنّه ليس من الخبائث.
فالطائفة الثانية من الأخبار أحسن مرجعٍ لنا ــ لو فرض أنّ النصوص متعارضة أو مجملة أو مفقودة ــ لكنّ ظني أنّ دلالة الآيات والأخبار واضحة، فلا يصل الدور إلى الأصل، لذا لا ينبغي التكلّم عن الأصل أكثر من هذا، أمّا عن أصالة عدم التذكية فتبحث في محلّها، إن شاء الله تعالى.
نظرية حرمة ذبائح أهل الكتاب، الأدلّة والبراهين
استدلّ على حرمة ذبائح أهل الكتاب بالأدلة الثلاثة، وهي القرآن والسنّة والإجماع، وينبغي لنا التكلّم حولها كما يلي:
المستند القرآني لنظرية التحريم
استدلّ ــ أو يمكن أن يُستدلّ ــ على حرمة ذبائح أهل الكتاب ببعض الآيات:
الآية الأولى: >وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ<
(الأنعام: 121).
الآية الثانية: > وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ< (الأنعام: 119).
وجه الاستدلال: إنّ الآية تشترط في حليّة اللحوم ذكر اسم الله عليها، ومعلومٌ أنّ أهل الكتاب لا يسمّون، وإن سمّوا لا يعتقدون وجوب التسمية، ولو فرض أنّهم اعتقدوا وجوب التسمية، فهم يسمّون إلهاً ليس في الحقيقة إلهاً، يقول الطبرسي في المجمع: «وفي هذه الآية دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة، وعلى أنّ ذبائح الكفار لا يجوز أكلها؛ لأنهم لا يسمّون الله تعالى عليها، ومن سمّى منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقةً؛ ولأنه يعتقد أنّ الذي يسمّيه هو الذي أيّد شرع موسى وعيسى؛ فإذاً لا يذكرون الله تعالى حقيقةً»([12]).
وينبغي هنا أن نأتي بتمام الآيات المرتبطة باللحوم والذبائح؛ حتى نرى مدى دلالتها في هذا المجال:
1 ــ >فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ الله إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أهل لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ< (النحل: 114 ــ 115).
2 ــ >إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ * وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ… * وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ< (الأنعام: 118 ــ 121).
قوله: >وَمَا أهل بِهِ لِغَيْرِ الله< معناه ذبح على اسم غيره، والإهلال رفع الصوت، وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم([13])، وقوله: >إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ< بمفهوم الحصر ــ خصوصاً بعد قوله: كلوا مما رزقكم الله ــ يدلّ على حليّة كلّ ذبيحة سوى ما أهلّ به لغير الله، سواء سمّى ذابحه عليه أو لم يسمّ، وسواء كان مسلماً أو كافراً؛ بل الملاك ــ كلّ الملاك ــ في حرمة الذبيحة هو الإهلال بها لغير الله ورفع الصوت للأصنام، وهذا ما نفهمه من سورة النحل.
أمّا المفهوم من آيات سورة الأنعام، فيلزم ــ قبل كلّ شيء ــ أن ننتبه إلى أنّ النحل نزلت قبل الأنعام وكلتيهما مكّية؛ فهذه الآيات مكية أولاً، وآيات سورة الأنعام نزلت معاً ثانياً؛ إذ هذه السورة كلّها نزلت جملةً واحدة، فلا يمكن لأحد أن يقول: إنّ الآية 119 أو 121 نزلت قبل الآية 118، كما أنّ سورة المائدة التي يأتي البحث حول آياتها نزلت في المدينة وفي أواخر عمر نبينا 2 ثالثاً، فلا ربط بينها وبين آيات سورة الأنعام؛ وبملاحظة ما ذكرناه نفهم أنّ المقصود من قوله: >وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ< هو ما ذكره في سورة النحل دون غيره، وبما أنّه لم يذكر في سورة النحل شيئاً حول التسمية وغيرها، بل جعل الملاك في الإهلال لغير الله، فنفهم حينئذٍ أنّ التسمية ليست شرطاً لحلّية الذبح، والمقصود من قوله: >فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ< هو ذكر الفرد المتيقّن الحلية عند كلّ مسلم، والخالي عن شبهة الإهلال للغير؛ ولذا عقّبه بقوله: >إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ<، أي إنّ المؤمن لا يشكّ في حلية هذا النوع من اللحم، ويؤيد ما قلنا، التخصيص الموجود في قوله: >وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ<، وكذا ما قيل في شأن نزول هذه الآيات؛ فقد ذكر الطبرسي في مجمع البيان: وقيل: «إنّ المشركين لما قالوا للمسلمين تأكلون ما قتلتم أنتم، ولا تأكلوا ما قتل ربكم ــ يعنون الميتة ــ فكان قال لهم: أعرضوا عن جهلكم فكلوا، والمراد به الإباحة وان كانت الصيغة صيغة الأمر»([14]).
من هنا، يظهر ضعف ما في بعض التفاسير؛ حيث جاء: «يشير تعالى بقوله: >وقد فصّل لكم..< إلى الآية رقم 145 من هذه السورة، ويأتي الكلام عنها، وإلى الآية 173 من سورة البقرة»([15])؛ إذ من المعلوم أنّ سورة البقرة نزلت في المدينة، وسورة الأنعام مكّية كلّها، ونزلت جملةً واحدة، وشيّعها سبعون ألف ملك، كما في الأخبار([16])، وفي مجمع البيان: روى عن أبي بن كعب وعكرمة وقتادة أنها كلّها نزلت بمكّة جملةً واحدة ليلاً، ومعها سبعون ألف ملك قد ملأوا ما بين الخافقين، لهم رجل بالتسبيح والتحميد([17]).
وكيف كان، فاشتراط التسمية لحلية الذبائح غير ظاهر، بل عدمه أظهر بملاحظة ما ذكرنا؛ ولأجل ذلك أفتى أكثر فقهائنا وبعض فقهاء أهل السنّة بحلّية الذبيحة لو ترك التسمية سهواً، وسوف نتكلّم عن ذلك، ولو سلّمنا وقلنا بوجوب التسمية عند الذبح واشتراطها للحلية، فكيف نسلّم شرطية إسلام قائل التسمية؛ إذ لا نجد في الآية أيّ قرينة تدلّ على اشتراط كون الذابح مسلماً، بل عدم ذكر الفاعل والإتيان بالفعل مبنيّاً للمفعول يرشدنا إلى عدم الاعتناء بشأن الفاعل، وإنّما المهمّ الذبح مع التسمية، سيما بملاحظة تكرارها ثلاث مرات متوالية بدون الاعتناء بشأن الفاعل، في قوله: >كُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله< و>وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله< >وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ<.
ويؤيد ما قلنا من عدم الاعتناء بشأن الذابح وعدم دخالة دينه ومذهبه في حلّية ذبحه هو المقارنة بين هذه الآيات وبين الآيات الواردة حول الأُضحية في سورة الحج، حيث قال: >وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ< (الحج: 36)، وقال أيضاً: >وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ< (الحج: 34)، حيث ترى الاعتناء ــ كلّ الاعتناء ــ بشأن ذكر اسم الله وذاكره.
وبهذا تحصّل لنا إلى هنا عدم وجوب التسمية عند الذبح، ولو فرض وجوبه لا يجب أن يكون المسمّي مسلماً، بل الواجب هو مطلق ذكر اسم الله من أيّ شخص صدر، أمّا الأضحية فيجب أن يكون ذابحها مسلماً، وبحثها موكول إلى محلّه.
3 ــ >قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَّسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أو فِسْقًا أهل لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ< (الأنعام: 145).
4 ــ >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أهلّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ< (البقرة: 172 ــ 173).
وهذه الآيات لا تدلّ على شيء أكثر ممّا فهمناه سابقاً؛ ففيها أيضاً حصرٌ للمحرّمات من الأطعمة في الأصناف الأربعة كما مرّ.
ولابدّ من التنبيه إلى أنّ قوله: >وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ< (الأنعام: 120)، لا يدلّ على حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه، بل وليس حكماً جديداً غير ما فصّله سابقاً؛ إذ إنّه يدلّ على حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه حال كونه فسقاً، فلا يدلّ على حرمة مطلق ما لم يذكر اسمه عليه، وهذا هو تمام مدلول هذه الآية، كما أنّ آية: >قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا.. إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً.. أو فِسْقًا أهلّ لِغَيْرِ الله بِهِ< (الأنعام: 145)، تدلّ على أنّ الفسق هو ما أهلّ به لغير الله؛ إذ «أهلّ لغير الله به» عطفُ بيانٍ لقوله: «فسقاً»، كما هو واضح، فهذه الآية ــ منضمةً إلى الآية 120 ــ تفيد حرمة ما أهلّ لغير الله به، والذي مرّ حكمه في سورة النحل؛ فآيات سورة الأنعام ــ ومنها: >وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ< ــ لا تدلّ على حكم جديد، أللهم إلا أن يقال: إنّ الواو في «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» عاطفة؛ فالآية تريد أن تبيّن شيئين، لكن يضعّفه ممنوعية عطف الخبر على الإنشاء عند علماء البيان، وأيضاً عدم مناسبة ذلك لقوله تعالى ــ قبل هذه الآية بآية ــ : >وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ<؛ إذ لم يفصّل شيئاً بالنسبة إلى التسمية سابقاً، لا في سورة النحل ولا في هذه السورة؛ فلا يمكن أن تكون هذه الآية تفصيلاً؛ لأنّ هذه الآيات نزلت معاً في مجموعة واحدة، وكلمة (فصّل) تدلّ على تفصيل سابق، وليس هناك سوى >إِلاَّ مَا أهلّ لِغَيْرِ الله< المذكور في سورة النحل؛ فبالنتيجة ليس كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه حراماً، نعم إذا كان ترك التسمية عمداً ولجاجاً يصبح الإهلال بغير الله حينئذٍ.
قال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: «وربما يترجّح الحال على العطف؛ من حيث إنّ الجملة المعطوفة عليها إنشائية، وقوله: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» خبرية، والعطف على الإنشاء ممنوع عند علماء البيان ومحقّقي العربية، وحينئذ لا دلالة للآية على اعتبار التسمية»([18]).
إن قلت: نحن نرى محرّمات كثيرة غير هذه الأربعة المذكورة، مثل الوحوش والسباع والحشرات، ولم تذكر في هذه الآيات؟
قلت: إنّ الآيات المذكورة كلّها ناظرة إلى الأطعمة المعتاد أكلها، لا إلى كل الأشياء وكلّ اللحوم، وبهذا نجيب عن المالكية القائلة بحلّية لحم الكلب؛ تمسّكاً بقوله تعالى: >قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ..<.
إن قلت: ذبائح غير المسلمين داخلةٌ تحت عنوان الميتة، وحرام بنصّ جميع الآيات المذكورة؛ فلا يبقى مجال للبحث حول حلّيتها، وكذا ما ذبح بغير التسمية.
قلت: الميتة هي ما مات حتف أنفه، فالذي يُجرح أو يذبح ولو بطريق غير مشروع لا يصدق عليه الميتة، وإن ألحقَ بالميتة حكماً.
5 ــ >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ.. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أهل لِغَيْرِ الله بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ.. يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ الله عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ..<(المائدة: 1 ــ 5)
الميتة من الحيوان: ما زال روحه بغير تذكية، هكذا قال الراغب في مفرداته، والإهلال: رفع الصوت بالشيء، ومنه استهلال الصبي، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه إهلال المحرم بالحج، والمراد به هنا ما ذُبح على غير ذكر الله، وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم ويرفعون أصواتهم باسم اللات والعزى، كذا في تفسيري: المجمع والكاشف، والمنخفقة: هي التي تموت اختناقاً بيدٍ أو حبل، أو يدخل رأسها في مضيق وما إلى ذلك، والموقوذة: هي التي تُضرب بعصا ونحوها، حتى تموت، كذا قال في الكاشف، وفي المجمع: الوقذ: شدّة الضرب. يقال: وقذتها وأقذها وقذاً، وأوقذتها إيقاذاً، إذا نخنتها ضرباً، والمتردّية: هي التي تتردى من مكان عال، والنطيحة: هي التي تنطحها أخرى فتموت، وما أكل السبع: أي ما بقى من فريسة الحيوان المفترس، والتذكية: فري الأوداج والحلقوم لما كانت فيه الحياة، والنصب: جمع نصاب، وهي حجارة كان أهل الجاهلية يعظّمونها ويذبحون عليها، وهي غير مصوّرة، خلافاً للأصنام، والأزلام: جمع زلم وزُلم، وهو القدح، والاستقسام طلب القسمة.
سورة المائدة آخر سورة نزلت على نبينا 2، ونسخت بعض الأحكام التي كانت قبل نزولها، ولم ينسخها شيء، والآيات المرتبطة بالذبائح هي الخمسة الواقعة في أول السورة؛ فالآية الأولى تدلّ على حلية الأنعام إلا ما يُستثنى، والآية الثانية تبيّن لنا ما استثنى، ونحن نرى المستثنيات هنا نفس المحرّمات المذكورة في سورة النحل المكية والبقر المدنية، إلا أنها ذكرت هنا بتفصيلٍ أكبر، وذكرت مصاديق الميتة والإهلال لغير الله، وأيضاً هنا جاء الحكم بلفظ «حرّمت» بصيغة الماضي المجهول المشعرة بوضوح حرمتها من السابق؛ فحرمة هذه الأمور كانت ثابتةً من أوّل البعثة النبوية إلى آخرها؛ وكلّ هذه الآيات تدلّ على انحصار المذبوح المحرّم في ما أهلّ به لغير الله، وبالتالي تدلّ على حلية غيره، ومنه ذبائح أهل الكتاب، هذا ويمكن أيضاً أن يقال: إنّ قوله تعالى: >الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ< تدلّ على حلية طعامهم ــ أي ذبائحهم ــ لنا؛ إذ سائر الأطعمة كانت حلالاً لنا قبل نزول هذه الآية، ويشهد بذلك المعاملات التجارية للرسول 2 مع اليهود في المدينة، والبيع والشراء معهم، والاستقراض منهم، وقرارات الجزية عليهم بضيافة من مرّ من المسلمين بهم، وغير ذلك ممّا جمعته في دراستي حول طهارة الإنسان الذاتية.
فهذه الآية في سورة المائدة المصدّرة بلفظ «اليوم» يلزم أن تحلّل لنا شيئا لم يكن حلالاً سابقاً، ولا يبقى شيء إلا ذبائحهم ولو لم يسمّوا عليها؛ فآيات سورة المائدة تريد أن تبيّن تحليل هذا النوع من الذبيحة؛ إذ ــ أولاً ــ حلية ذبائح أهل الكتاب مع التسمية ليست واضحةً من سورة الأنعام، بل أقصى ما يمكن أن يقال: إنّ الآيات كانت مشعرةً بعدم الاعتناء بشأن الفاعل، وثانياً: يلزم من هذا القول لزوم كون المسلم أسؤ حالاً من أهل الكتاب؛ إذ ذبائح المسلمين حلال بالتسمية، وغيرهم حلال بلا تسمية، ولا يمكن أن نلتزم به؛ فحلية ذبائحهم مطلقاً لا يمكن قبولها.
فبالنتيجة، ما يمكن أن يقال هنا هو جواز أكل ذبائح أهل الكتاب إن سمّوا عليها بمقتضى: >كلوا مما ذكر اسم الله عليه< و>وطعامهم حلّ لكم<، وما يحتمل جداً حليّة ذبائحهم لنا وإن لم يسمّوا عليها، هذا ما نفهمه من الآية نفسها، لكنّ الروايات الواردة في تفسير الطعام مختلفة؛ فأكثر الروايات السنّية تفسّر الطعام بالذبائح، فيما أكثر الروايات الشيعية تفسّره بالبُرّ والحبوب.
قال في المجمع: «اختلف في الطعام المذكور في الآية؛ فقيل: المراد به ذبائح أهل الكتاب، عن أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء، وبه قال جماعةٌ من أصحابنا. ثم اختلفوا؛ فمنهم من قال: أراد به ذباحة كلّ كتابي ممّن أنزل عليه التوراة والإنجيل ومن دخل في ملّتهم ودان بدينهم، عن أبن عباس وحسن و.. ومنهم من قال: عني به من أنزلت التوراة والإنجيل عليهم أو كان من أبنائهم، فأمّا من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ودان بدينهم فلا تحلّ ذبائحهم.. وقيل: المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم وغيرها من الأطعمة.. وقيل: إنه مختصّ بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية، وهو المروي عن أبي عبدالله %، وبه قال جماعةٌ من الزيدية. فأمّا ذبائحهم فلا تحلّ»([19]).
وفي تفسير القمي قال: «عنى بطعامهم الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحونها؛ فإنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم. ثم قال: والله ما استحلّوا ذبائحكم، فكيف تستحلّون ذبائحهم؟»([20])، وفي تفسير البرهان ــ في ذيل الآية ــ ذكر ثماني أخبار أكثرها صحيح السند، تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الحبوب وأشباهها([21])، ونظير هذه الأخبار مذكور في وسائل الشيعة، وسيأتي البحث حولها في البحث الروائي، إن شاء الله، وفي مقابل هذه الأخبار أخبار كثيرة من طرف أهل السنّة، منها ما في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحّاس، والبيهقي، في سند عن ابن عباس في قوله: >وطعام الذين أوتوا الكتاب< قال: «ذبائحهم»([22]).
والجمع بين هذه الأقوال المتضادّة والروايات المتعارضة مشكلٌ، إلا أن يقال: إنّ الرشد في خلافهم وأهل البيت أدرى بما في البيت، فعلينا أن نلتزم بما ورد من طريق أئمتنا(، وعلينا الاتّباع، وهو كلام جيد يمكن أن يلتزم به، لكنّ كلام أهل السنّة مطابق للاعتبار، ولظاهر السياق الذي هو سياق الامتنان؛ فحلّية الفواكه والحبوب كانت ثابتةً ــ كما قلنا سابقاً ــ وهذا واضح لمن يراجع الروايات الواردة في شأن نزول سورة الإنسان النازلة قبل سورة المائدة؛ فتخرج الآية عن حيز الانتفاع، وعن أن تكون امتناناً على المسلمين؛ بل تكون تكراراً لما سبقها.
قال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: «إنّ الطعام إما يراد به ما يطعم مطلقاً فيتناول محلّ النزاع؛ لأنّ اللحم من جملة ما يطعم به، وإمّا يراد به الذبائح، كما قاله بعض المفسّرين؛ فيكون نصّاً، وأمّا حمله على الحبوب، ففيه أنّ تحليله غير مختصّ بأهل الكتاب؛ إذ جميع أصناف الكفار يحلّ أكل حبوبهم؛ فيكون تخصيص أهل الكتاب خالياً عن الفائدة، وإنما محلّ الشبهة منه موضوع النزاع»([23]).
ويمكن أن يقال في معنى الآية وجهٌ آخر، به نجمع بين الأقوال المتضادّة والروايات المتعارضة، ويكون مناسباً لكون أهل البيت أدرى بما في البيت، وكذلك للسياق الامتنانيّ للآيات، وهو أن تكون حلّية طعامهم لنا وحلية طعامنا لهم حكم سياسي، بمعنى أنه تعالى يقول للمؤمنين: إنكم ــ بعد قدرتكم وشوكتكم وتسلّطكم على بعض البلاد، بحيث تستطيعون أن تتجروا وتعيشوا دون مباشرة اليهود والنصارى ــ يمكنكم أن تتعاملوا معهم كما يعاملونكم، طابق النعل بالنعل، فإن أكلوا ذبائحكم واستحلّوها فكلوا من ذبائحهم، وإن لم يستحلّوها فلا تستحلّوها.
ويؤيّد ذلك ما في الخبر المرويّ في تفسير القمي: «والله ما استحلّوا ذبائحكم فكيف تستحلّون ذبائحهم؟»، وأخبار أخرى تأتي في البحث الروائي القادم.
وبما أنّ المسلمين صاروا أقوياء في أواخر عمر النبي وتسلّطوا على أكثر البلاد، وأهل الكتاب في بلاد المسلمين كانوا تحت تسلّط المسلمين، يعطون الجزية، كانت ــ في ظلّ تلك الظروف ــ ذبائحهم حلالاً لنا؛ إذ لم يكن هناك تحقير ولا إهانة، بل كانت العلاقات ندّية متساوية، لكن بعد الاختلافات والانحرافات وضعف الحكومات الإسلامية وتسلّط اليهود على بعض شؤون المسلمين، بحيث كان أهل الكتاب لا يأكلون ذبائح المسلمين تحقيراً لهم، فأئمتنا ( حرّموا طعامهم لنا، ويؤيّد ذلك ــ بل يدلّ عليه ــ ما في الصحيح عن الحسين الأحمسي، عن أبي عبدالله % قال: «لا تأكل من ذبيحته ولا تشتر منه»([24])؛ فظاهر الخبر أنهم كانوا لا يأكلون ذبائحنا حتى ذهب القصّاب وجاء بواحدٍ منهم حتى يذبح له، ففي هذه الحالة يلزم أن تحرم ذبيحتهم حفظاً لكيان الإسلام؛ فهذا حكم سياسي مرتبط بوضع المسلمين وعلاقاتهم باليهود والنصارى.
ويؤيد ما احتملنا من كونه حكماً سياسياً، أن هذه الآية وقعت في أوائل سورة المائدة، وهي سورة المواثيق والعهود المبدوءة بقوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ<، المفسّرة في الروايات بالوفاء بالعهود، وقد وقعت بعد أحكام سياسية مهمّة جداً، مثل أحكام الولاية المشار إليها بقوله تعالى: >الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ..< و>اليوم أكملت دينكم< المخفيّة في ضمن أحكام حرمة الميتة وجوازها في حالة الاضطرار، فاقتدار المسلمين وقوتهم بحيث يئس الكفار من السيطرة عليهم، هو المناخ الذي حكم فيه الله تعالى بحلّية ذبائح أهل الكتاب.
دخل ودفع
يمكن أن يقال: إنّ قوله تعالى: >فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ الله عَلَيْه< يدلّ على اشتراط الإسلام في الذابح؛ إذ مرجع الضمير في >واذكروا اسم الله عليه< و>إلا ما ذكّيتم< هو المؤمنون، وبما أنّ سورة المائدة نزلت في أواخر عمر النبي2، فتدلّ على حلّية ذبائح المسلمين دون غيرهم.
ويمكن أن يجاب:
أولاً: إنّ هذا لا يخرج عن حدّ الإشعار، فليس دليلاً حتى يدلّ على حرمة ذبائح غير المسلمين.
ثانياً: أصل الإشعار هنا مخدوش؛ إذ مقتضى الضمائر أن يكون خطابياً، بخلاف «ذكر اسم الله» في >فكلوا مما ذكر اسم الله عليه< و>لم يذكر اسم الله عليه< في >ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه<؛ إذ الخطاب كان يقتضي خطاب الضميرين، وأن يكون مبنياً للفاعل، فعدمها يكون لما شرحناه هناك.
ثالثاً: إنّ ضيق المجال في الصيد وفي الحيوان المشرف على الموت يسلب اقتضاء الخطاب، إلا لمن يدرك الحيوان في هذه الحالة.
نتائج البحث القرآني
والمتحصّل من الآيات أمور:
الأول: حليّة أكل لحم الأنعام إلا ما استثني.
الثاني: حرمة ما أهلّ به لغير الله، أو حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه بشرط كونه فسقاً.
الثالث: حليّة ما ذكر اسم الله عليه مطلقاً، سواء كان الذابح مسلماً أو غير مسلم، على ما بيّناه وقوّيناه.
الرابع: احتمال حلية ذبائح أهل الكتاب، ولو لم يُذكر اسم الله عليها، بشرط أن لا يهلّوا بها لغير الله.
الخامس: احتمال كون المسألة هنا حكماً سياسياً مرتبطاً بكيفية تعاملهم مع المسلمين، وهو الاحتمال الذي يمكن أن يشكّل وجه الجمع بين الأخبار المتعارضة والأقوال المتضادة، ويكون مناسباً لسياق آيات سورة المائدة، وموافقاً للامتنان المستفاد من >اليوم أحلّ لكم الطيبات..<، وموافقاً لاقتدار المسلمين المستفاد من قوله: >اليوم يئس الذين كفروا..<، وبعض الروايات الواردة أيضاً يؤيد هذا الاحتمال كما سيأتي.
* * *
الهوامش
([1]) الشيرازي، تفسير القرآن الكريم 3 : 277.
([2]) مجمع البيان 1: 252.
([3]) المصدر نفسه: 253.
([4]) المصدر نفسه 3: 151.
([5]) وهذا أيضاً لا يفيد شيئاً، وإن أراد السيد الخوئي أن يفهم منه الوثاقة، لكن فيه ما فيه.
([6]) راجع: معجم رجال الحديث 10: 198 ــ 203.
([7]) معجم رجال الحديث 7: 327.
([8]) المصدر نفسه 160:16.
([9]) الخميني، تهذيب الأصول 2: 175 ـ 188.
([10]) وسائل الشيعة 17: 362، الباب الأول من الأطعمة المباحة.
([11]) المصدر نفسه: 4.
([12]) مجمع البيان 4 ـ 3: 357.
([13]) تفسير الجلالين: 34.
([14]) مجمع البيان 4 ـ 3: 357.
([15]) مغنيّة، التفسير الكاشف 3: 255.
([16]) راجع: تفسير نور الثقلين 1: 696.
([17]) مجمع البيان 4 ـ 3: 271.
([18]) مسالك الأفهام 2 : 224.
([19]) مجمع البيان 3: 162
([20]) تفسير القمي 1: 163
([21]) تفسير البرهان 1: 448 و449
([22]) تفسير الدرّ المنثور 2: 261.
([23]) مسالك الأفهام 2: 224.
([24]) وسائل الشيعة 16: 345، الباب 27 من أبواب الذبائح، ح 1.