لقد شرع المولى سبحانه وتعالى الزواج رباطاً مقدساً يجمع بين الرجل والمرأة في علاقة تحفظ للطرفين حقوقهما، وتكفل لهما الحياة الكريمة الهادئة المستقرة، في جو تسوده المودة والرحمة. لينطلق كل منهما بعد ذلك لتحقيق دوره في خدمة المجتمع تملأه الثقة والطمأنينة بأن معه شريك يشد أزره ويعينه على مصاعب الحياة.
هذه الأسرة المتحابة المستقرة التي تصورها الإسلام، هي النموذج القادر على تنشئة الأبناء تنشئة سليمة، وهي اللبنة الأساسية التي منها يتشكل المجتمع القوي الصحيح. وهي التي يجب أن يحميها المشرع ويرسخها في الوعي الجمعي كنموذج يُتطلع إليه.
والعلاقة الزوجية لا تقتصر على الزوج والزوجة وحسب، وإنما تمتد إلى الأطفال والأهل والأقارب، فالزواج مصاهرة بين عائلتين وصلة قرابة جديدة تستحدث بهذا العقد وقد تفوق في بعض الأحيان صلة الدم، كما أن التربية والتنشئة التي يتلقاها الطفل في بيته تؤثر على توجهاته وأفكاره وتحدد إلى درجة كبيرة سلوكه وطباعه ومساره في الحياة.
وكما تكون الأسرة المتوادة المتراحمة حاضنة مثاليةً لجيل المستقبل وسبباً في استقرار المجتمع ككل، فإن الأسرة التي يسودها الشقاق وتعصف بها المشاكل والخلافات تمثل خطراً يتهدد أفرادها،وصحتهم النفسية والجسدية وقدرتهم على العطاء الإيجابي، ومن ثم المجتمع بأسره.
هذا الدور الحاسم الذي تلعبه الأسرة يستوجب من المشرع وقفةً عند الظروف والأوضاع القانونية المحيطة بها، والتي تنظم علاقات أفرادها ببعضهم والآليات المعتمدة لحفظ حقوقهم وضمان استمرار العلاقات الأسرية بشكل صحي ، والإجراءات الرادعة التي تمنع التلاعب بهذه العلاقات والإضرار بها والتعدي على كيان الأسرة المتماسك.
هذه الوقفة لابد وأن تأخذ في عين الاعتبار أن الأسرة واحتياجاتها وديناميكياتها ليست ثابتة، وإنما تتغير وتتأثر بتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فنموذج الأسرة العمانية قبل خمسة عشر عاماً من الآن يختلف اختلافاً شاسعاً عن نموذج الأسرة الآن سواءً من حيث عدد الأفراد، وأنماط المعيشة، وحاجات أفرادها وطبيعة العلاقة بينهم. كما أن الظروف التي تحيط بهم ويتفاعلون معها اختلفت كذلك، وأصبح من الضروري أن يواكب التشريع حاجات الأسرة الجديدة ويكون مستعداً للتعاطي مع ظروفها المتغيرة بحيث يضمن تحقيق مقصدها ودورها الأساسي، ويحفظ حقوق أفرادها ويوفر لهم الحماية الواجبة.
من المتعارف عليه رسمياً وشعبياً أن قانون الأحوال الشخصية العماني، التشريع الأساسي المنظم لشؤون وأوضاع الأسرة، مستمد في أغلبه من الشريعة الإسلامية، وهو في هذا يتمتع بشرعية تفوق غيره من القوانين، وتجعل المطالبة بتعديله تُفهم وكأنها تعدٍ على الشريعة الإسلامية ورفض لأحكامها. وهذه إشكالية خطيرة تجعلنا نغض النظر عن بعض نواحي القصور فيه ونتجاوز عن مثالبه حتى لا نُتهم في ديننا،ونصر على إبقاء الحال على ماهو عليه رغم كل المشاكل والأضرار التي يتسبب بها الوضع الحالي.
لكن: عندما نقول أن قانون الأحوال الشخصية مستمد من الشريعة الإسلامية، فما الذي نعنيه تحديداً بالشريعة الإسلامية؟ النصوص القرآنية فقط؟ الأحاديث المتواترة فقط؟ آراء الفقهاء الأوئل؟ اجتهادات الفقهاء المعاصرين؟ أم مزيج من كل هذا وذاك؟
أحسبني والقاريء متفقين أن القدسية لكلام الله وحده[1]، وليست لاجتهادات البشر أبداً سواءً في فهم النص أو في تقرير القواعد الفقهية. وكل ما جاء من عند بشر فهو قابل للأخذ والرد والدحض والتفنيد والتعديل والتغيير بحسب الحاجة والظروف والمشكل الذي نتعامل معه.
فعندما يقرر أبا حنيفة مثلاً مسألة فقهية تتعلق بالزواج أو الطلاق، فإنه يفسر النص ويجتهد بحسب معطيات زمانه ومكانه وبحسب العلاقة بين الزوج والزوجة في ذلك الزمن ودور كل منهما وحاجة كل منهما، وليس بإمكانه أن يشرع لزماننا نحن وعلاقاتنا نحن، ليس لأنه غير أهل لذلك وإنما لأنها خارج مجال إدراكه في ذلك الوقت. قد تبقى فتواه صالحة فنستمر بالأخذ بها، وقد نرى أنها لم تعد تؤدي المقصد الأساسي من إصدارها وبات ضررها أكثر من نفعها، فندرس موضع الخلل فيها ونصوبه بما يتفق وحاجاتنا في ضوء مقاصد الشريعة الأساسية وروح النص القرآني.
ونحن في فعلنا هذا لم نخالف الشرع لأن أبا حنيفة ليس شارعاً ، وإنما مفسرا ومجتهداً قد يخطيء وقد يصيب وليس إلها ليشرع منذ ألف عام لحاجات من سيأتي بعده من البشر حتى يرث الله الأرض ومن عليها. إننا بفعلنا هذا ننقذ أنفسنا من التناقض والجمود وإشكالات كثيرة لاداعٍ لها.
مثال: اللعان لنفي النسب :
ولو ابتعدنا عن الحديث العام وأخذنا مثالاً حياً من واقع النص القرآني، في الآية السادسة من سورة النور المتعلقة باللعان ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فسر الفقهاء هذه الآية بأن من ضبط زوجته وهي تزني وعجز عن اثبات التهمة عليها، فله أن يلاعنها بالكيفية المذكورة في الآية، وتدرء هي عن نفسها الحد كما ورد في الآية وينتج عن ذلك التحريم المؤبد بين الزوجين، وينتفي نسب الطفل إذا ذكره الزوج في اللعان. (على الرغم من أن الآية القرآنية لم تشر إلى نفي نسب الطفل باللعان).
وقد اعتمد المشرع العماني هذا التفسير في المادتين 78 و79 من قانون الأحوال الشخصية واللتان تنصان على التالي :
المادة 78: اللعان أن يقسم الرجل أربع مرات بالله أنه صادق فيما رمى زوجته به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وتقسم المرأة أربع مرات بالله أنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
المادة 79: أ- للرجل أن ينفي عنه نسب الولد باللعان خلال شهر من تاريخ الولادة أو العلم بها، شريطة أن لا يكون قد اعترف بأبوته له صراحة أو ضمنا وتقدم دعوى اللعان خلال شهرين من ذلك التاريخ.
ب- يترتب على اللعان نفي نسب الولد عن الرجل، ويثبت نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه اذا أكذب الرجل نفسه.
إذا كما نرى فقد اعتمد المشرع العماني اللعان كوسيلة لنفي نسب الطفل عن أبيه، دون الأخذ في عين الاعتبار الآثار الاجتماعية الخطيرة المترتبة على أمرٍ كهذا. كيف يُنفى نسب طفلٍ عن أبيه ويتحول إلى لقيط وابن حرام في نظر المجتمع بمجرد يمينٍ من رجل؟ كيف تصبح الحجة في مصير طفل يمين يحلفها رجل قد يصدق فيها وقد يكذب؟
إن وجود اللعان واعتماده كوسيلة لنفي النسب في زمن النبوة والفقهاء الأول أمرٌ مفهوم ويمكن تقبله في ظل أوضاعهم وظروفهم وغياب أي وسيلة أخرى قاطعة في تحديد النسب. ولكن أن يعتمد المشرع العماني اللعان لنفي النسب في زمننا هذا، زمن فك شفرة الجينوم البشري والتطورات الهائلة في علم الوراثة، لهو أمر غير مقبول على الإطلاق وغير منطقي . ما الداعي لفتح باب اللعان في خلاف يمكن حله بشكل قاطع ومؤكد عن طريق فحص الحامض النووي D.N.A ?
وبعد نفي النسب باللعان يسمح القانون للرجل بأن يكذب نفسه ويعيد نسب الطفل إليه، وكأن مسألة الأنساب هينة ومتروكة لصحوة ضمير مفاجئة أو تغير في ميزان المصالح والحسابات الأخرى، دون يؤخذ في الحسبان مصير الطفل وتأثير ذلك على مستقبله ونشأته وحالته النفسية وقدرته على التعاطي مع مجتمعه بشكل طبيعي حين يكتشف أن أباه أنكره وحلف أيماناً مغلظة ليتبرأ منه، ثم قرر بعد ذلك أنه كاذب مستحق للعنة الله وأن الابن ابنه.
هذه المادة تفتح، بلا شك، الباب للتلاعب بمصير الأسرة واستقرارها وطمأنينتها لمن تغلبت عليه شكوكه وظنونه، في حين أن الخلاف يمكن أن يحسم بفحص طبي سريع بدون الحاجة لأيمانٍ مغلظة واستجلابٍ للعنات الله وغضبه.
ولو أننا استعضنا عن اللعان بفحص الحامض النووي كوسيلة وحيدة يترتب على نتيجتها انتفاء البنوة، فلا أرى في فعلنا هذا ما يخالف شرع الله ، وإنما على العكس من ذلك ستكون هذه الاستعاضة أكثر تحقيقاً لمقاصد الشريعة وأكثر اتفاقاً مع روح الإسلام، لأن الفحص أكثر تأكيداً ونتائجه مضمونة ويعتمد عليها أكثر من يمين رجل تحركه أهوائه وظنونه. وهل يستوي الظن باليقين؟
إن بقاء هذه الثغرة الخطيرة في القانون العماني قد يوقعنا في مأزق مشابه لقضية لعان الطفلة فاطمة في المملكة العربية السعودية والتي استمرت مايقارب العشر سنوات بين أروقة المحاكم بسبب قيام الأب بنفي نسب طفلته باللعان ورفضه لإجراء فحص الحامض النووي واعتبار بعض رجال الدين في المملكة الفحص قرينة لايعتد بها في الشرع ولا تقدم على اللعان. هذه الطفلة عانت الأمرين هي وأسرتها في رحلة عذاب طويلة كان يمكن أن تحسم وبشكل نهائي بفحص سريع لا يكلف شيئاً، بسبب ضيق الأفق والتعنت في تفسير النصوص واتباع طرق الأولين بعد أن أكرمنا الله باكتشافات علمية ومعارف جديدة تفتح أمامنا الأبواب لحياة أفضل.
ألا يشبه اللجوء إلى اللعان في وجود الحامض النووي، الإصرار على أن الأرض مسطحة في وجود الأقمار الصناعية ورغم وصول الإنسان إلى القمر؟!
وأكثر المعترضين على فحص الحامض النووي إنما يؤسسون اعتراضهم على الخوف من فتح الباب أمام الناس للطعن والتشكيك في الأنساب، وهذا إشكال يمكن حله عن طريق وضع ضوابط اجرائية وشروط لمن أراد اجراء الفحص، و فرض عقوبات رادعة جزائياً ومدنياً لمن أجرى الفحص وثبت خطأ ظنه.
بينما الرادع الوحيد في استعمال اللعان هو الخوف من الله عزوجل، وهو رادع قوي لمن تمكن الإيمان من قلبه ولكن لايمكن الجزم بوجوده عند الجميع، ولا يمكننا التعويل في مسألة حساسة كالنسب على تقوى النفس الإنسانية المتقلبة التي قد تقع ضحية للأهواء والشكوك المريضة.
هذا المثال يوضح أن ظروف الزمان والمكان والتطورات العلمية وتغير العلاقات بين الأفراد يؤثر في الحاجات والإمكانات التشريعية، وأن استيعاب هذه المتغيرات لا يعني الخروج على الدين أو رفض أحكام الشريعة وإنما يعني التعايش والمرونة واستعمال العقل الذي شجع عليه الإسلام وحث عليه بدلاً من اتباع أحكام الآباء والأجداد دون تفكر وتبصر.
ومثل ما ينطبق على نفي النسب باللعان ينطبق على سواه من الاجتهادات الفقهية التي تبناها قانون الأحوال الشخصية العماني دون تمحيص ودراسة كافية لمدى تناسبها مع واقع الأسرة العمانية وحاجاتها وديناميكياتها المتغيرة.
من هنا تنبع الحاجة إلى إخضاع هذا القانون للمراجعة في ضوء المتغيرات التي نعيشها الآن حتى نضمن للأسرة الظروف القانونية الملائمة التي تحفظ حقوق أفرادها وتنظم العلاقة بينهم بما يحقق المقصد الأساسي والهدف الرئيس للأسرة وهو توفير الأمان والاستقرار للزوجين وتنشئة أطفالهما في جو تسوده المودة والرحمة والاستقرار.