قراءة استدلاليّة في مبادئ العلاقات الدوليّة
تمهيد
سبق أن تحدثنا حول أدلّة الجهاد الدعوي في الكتاب والسنّة، واستنتجنا أنّ هذه الأدلّة لا تنهض لإثباتٍ موثوق به لهذا النوع من الجهاد بالشكل الذي طرح في الفقه الإسلامي، وأنّ أهمّ ما عثرنا عليه في الكتاب والسنّة كان إطلاق آية الجزية، ودلالة آية نفي الفتنة، إلى جانب حديث ابن عمر المشهور عن النبي’.
وبقي أن نتناول بعض الأدلّة الأخرى التي سيقت في هذا المضمار، والتي يرجع روح بعضها إلى دليل السنّة، وبعضها الآخر إلى دليل العقل، ونطرحها على الشكل التالي:
3 ـ 2 ـ مرجعيّة السيرة الإسلاميّة في شرعنة الجهاد الدعوي
يُقصد بالسيرة الإسلامية هنا سيرة النبي’ والمسلمين الأوائل في مجاهدة الكافرين، فإن مراجعة حروب النبيّ’ تؤكد ابتدائية القتال، وذلك مثل:
أ ــ معركة بدر الكبرى، حيث هجم المسلمون فيها على المشركين، وهم الذين فتحوا النار على قوافل قريش في طريقها بين مكّة والشام.
ب ــ معركة خيبر، حيث هجم المسلمون فيها على حصون اليهود البعيدة جداً عن معاقل المسلمين في شمال المدينة المنورة، ولم يشنّ اليهود فيها أيّ هجوم على ديار المسلمين وأراضيهم، حتى يدافع المسلمون عن أنفسهم.
ج ــ معركة مؤتة، حيث جهّز المسلمون فيها الجيش، واتجهوا شمال الجزيرة العربية، والأمر عينه يجري في بعث أسامة بن زيد([1]).
د ــ غزوة المُرَيسيع أو بني المصطلق، حيث أغار النبي’ فيها على بني المصطلق، وهم غارّون، أي غافلون([2])، وهو ما لا ينسجم مع دفاعية الجهاد كما هو واضح.
وبعبارة شاملة: إنّ تمام حروب النبي’ ــ ما عدا واقعتي أحد والخندق، اللتين كان النبي’ يدافع فيهما عن المدينة ــ كانت ابتدائيةً([3]).
أما ما بعد العصر النبوي فسيرة المسلمين كانت قائمة على الابتداء بشكل أوضح من سيرة النبيّ نفسه، وهذا ما يشكّل دليلاً جليّاً على شرعية ذلك، ولاسيما مع سكوت أهل البيت النبوي وعامّة الصحابة عن ما سمّي بعد ذلك بالفتوحات الإسلامية.
وقفات مع دليل السيرة الإسلامية
إلاّ أن الاستدلال بالسيرة الإسلامية يواجه عدّة مشاكل؛ وذلك:
أولاً: قد وقع خلط كبير في تحليل مسألة الجهاد في السيرة النبوية، فقد تصوّر بعض الفقهاء والباحثين ــ وكما أشرنا سابقاً ــ أنّ الجهاد الدفاعي هو التلبّس الفعلي بدفع المهاجم حالاً، ممّا جعلهم يتصوّرون أنّ العدو في حالة هجوم والمسلمين عمليّاً في حالة دفعه عن احتلال أراضيهم أو إبادة شعبهم أو إفناء دينهم، والحال أنّ أحداً من أهل العرف والعقلاء والمقنّنين في العالم لا يفهم هذا المعنى المحدود للدفاع، فالجهاد المبادر إليه ضدّ من يحتلّ الأرض لا يسمّى ابتدائيّاً وإن كان بدء إطلاق النار فيه من طرف المسلمين المحتلّة أراضيهم، بل هو دفاع عن المسلمين، كما هي الحال اليوم في فلسطين، ولا يُقال: إنّ هذا الجهاد ابتدائي للدعوة، أو أنه بملاك الكفر، بل هو دفاعي بملاك رفع العدوان وتحرير الأرض والإنسان.
وهذا الفهم الخاطئ لمفهوم الابتداء والدفاع في الحرب أوقع بعضهم في أخطاء؛ فمعركة بدر الكبرى كانت حرباً دفاعية([4])، يدافع فيها المسلمون ضدّ ظُلم قريش لصالح حقهم في أموالهم وأراضيهم وعودتهم إلى ديارهم، فهل يقال: إن حروب الفرنسيين ضدّ الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية كانت ابتدائيةً، حتى لو انطلق المحارب من خارج أراضي بلاده التي طُرد منها ليدير المعركة ضدّ المحتلّ؟! وآيات القرآن واضحة الدلالة على الموضوع. والغريب أن بعض المعاصرين التفت إلى موضوع غزوة بدر لكنه أصرّ على أنّ الوضع الفعلي حال الحرب هو الذي يحدّد مقولة الدفاعية، مبتعداً عن تحليل السياق السياسي والاجتماعي الذي أحاط معركة بدر، معتبراً إياه مجرّد تحليلات([5]).
وهكذا الحال في معركة خيبر، فإنّ سببها ما فعله اليهود ـ من بني النضير وغيرهم ـ من الخيانة ونقض العهد والانضمام إلى عدوّ المسلمين ومناصرته في حرب الأحزاب، فهل يقال: إنّ النبي لو حارب هذه المجموعة، التي كادت تقضي على دولته برمّتها في معركة الأحزاب، كانت حربه لها ابتدائية أم دفاعاً عن كيان الدولة وأمنها؟!
وإلى ذلك نضيف معركة مؤتة، حيث اعتدي قبلها على دعاة المسلمين في أطراف الشام فقتلوا، وقتل سفير الرسول’، أليس هذا السياق السياسي مبرراً للردّ؛ للحدّ من هذه الاعتداءات التي تخرق الاتفاقات المدوّنة وغيرها، وتمنع الأمن على أطراف البلاد؟
كيف يمكن أن يكون تجهيز جيش أسامة ابتدائياً، والشواهد التاريخية تؤكّد ــ حتى باعتراف الطرف الآخر ــ أن جيش الكفار كان يستعدّ لضرب المسلمين في تبوك وغيرها؟
وكذا الحال في غزوة بني المصطلق، حيث تذكر النصوص التاريخية أن النبي أحيط علماً بتخطيط الكافرين للهجوم، فاستبقهم إلى ذلك.
وحتى لو لم يقم دليل قاطع على هذه المعلومات الواردة في مصادر التاريخ، فهي لا أقلّ تجعل الأمر محتملاً، ومعه لو لم نستدلّ بهذه الحروب على دفاعية الجهاد إلاّ أنه مع وجود هذه المعلومات التاريخية لا يمكن الاستدلال بها على ابتدائيّته.
إذاً ليس المهم في الابتدائية التي تقابل الدفاعيّة هو من يطلق النار أولاً؟ وإنّما من يخطّط ـ أولاً ـ لفتح صراع، ويحمل نواياً ضدّ الطرف الآخر؛ لهذا تعدّ الضربات الاستباقية للعدوّ شكلاً من أشكال الدفاع أحياناً.
ثانياً: إن السيرة دليلٌ لبّي لا إطلاق فيه؛ لهذا يقتصر فيه على القدر المتيقن، والمقدار المتيقّن منها هو الجهاد الدفاعي، أما الابتدائي فمشكوك، فلا يستند إليها لإثباته([6]).
وقد أورد على هذا الكلام بأننا لا نشك في ابتدائية حروب النبي’، ومعه فلماذا نفترض أن الجهاد الابتدائي يندرج ضمن المشكوك، بل هو مندرجٌ ضمن القدر المتيقّن من السيرة([7]).
وهذا الإيراد في محلّه لمن رأى أنّ شواهد التاريخ تؤكّد له الابتدائية، فالمناقشة معه ليست في لبيّة دليل السيرة، بل ــ قبل ذلك ــ في نفس تفسير ظواهر الحروب النبوية، وقد بيّنا أنّ حروب النبي ’ كانت دفاعيةً في الغالب، وقد أقرّ بذلك بعض العلماء الكبار، مثل: صاحب تفسير المنار ـ وغيره ممّن أشرنا إليهم سابقاً ـ الذي اعتقد بأنّ حروب النبي كلّها كانت دفاعيةً([8]).
ثالثاً: إن السيرة دليلٌ لبي، ومعه لو سلّمنا بأن حروب النبيّ’ والصدر الأوّل من المسلمين كانت حروباً ابتدائية فنحن نحتمل احتمالاً معقولاً أن تكون شرعية الجهاد الابتدائي الذي قاموا به منطلقةً من أحد عاملين أو مجموعهما:
1 ـ السياسة التوسّعية التي كانت مهيمنةً على أيّة دولة ذات مشروع في تلك الفترة تجعل هذا النوع من الحروب متعارفاً، تماماً كما قيل في ظاهرة الاسترقاق، حيث كان عُرفاً سائداً في الحروب آنذاك فجاء الإسلام وأمضى هذا العرف على قانون المعاملة بالمثل، فاحتمال إعمال النبي’ هذه السياسة ــ كونُها عرفاً سائداً من الأعراف الدولية آنذاك ــ واردٌ.
2 ـ وهو الأهم؛ إذ ثمّة احتمال وجيه أيضاً في أن يكون تشريع الجهاد الابتدائي تلك الفترة راجعاً إلى أن الديانة الإسلامية كانت ديانة فتية صغيرة في منطقة لا تمثل عصب الحياة في العالم، وحيث أريد لهذا الدين أن ينتشر، ولا تسمح الدول الأخرى بنشره، وحتى لا يموت في مهده، اتخذت سياسة التوسّع العسكري؛ لتحقيق التكوين الأوّلي المحمي للدولة الإسلامية بحيث يؤمن عليها، فمرحلة الانطلاق لتكوين أمّة قد تستدعي سياسةً تختلف عن مرحلة التبلور والاستقرار، فلعلّ سياسة التوسّع انطلقت من هذه الناحية، ولاسيما بعد ضمّ عدم وجود حريّات دينية آنذاك تسمح بنشر الإسلام دون ممارسة القوّة على الدولة الأخرى.
ولا برهان قاطع لدينا عن هذه الصورة، لكنها ذات احتمال معقول، وحيث لا يفسّر العمل نفسه، بل هو دليل صامت، يبقى دليل السيرة هنا مشوباً بشيء من الإجمال، مما يُعجزنا عن الاستناد إليه.
رسائل الرسول’ إلى الملوك والزعماء
تشكّل رسائل الرسول ’ التي أرسلها في النصف الثاني من العقد الهجري الأوّل إلى الملوك والزعماء في الجزيرة العربية وخارجها مستنداً لإثبات ذهنيّة التوسّع في الإسلام؛ وذلك أنّ هذه الرسائل والمكاتيب كانت قد احتوت على الربط بين الإسلام والسلامة، <أسلم تسلم>، وهذا معناه أنّ الرسول’ كان يعلن الحرب على الكافرين عندما لا يسلمون، وأنّهم إذا لم يسلموا فسوف يكون السيف هو الحَكَم بينه وبينهم؛ نشراً للحق وتقويةً للدين.
ظاهرة الكتب النبوية تستدعي رصدها، وبدراستنا لها وجدناها على أنواع:
الأوّل: الرسائل والكتب التي لم تحوِ أكثر من الدعوة إلى الإسلام، وأنّه إذا أسلم هذا الزعيم أو ذاك فقد سلم، نذكر على سبيل المثال:
أ ـ كتابه’ إلى كسرى ملك الفرس، حيث جاء فيه: <بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيّاً، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس>([9]).
ب ـ كتابه’ إلى المقوقس عظيم القبط: <بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون>([10]).
ج ـ كتابه’ إلى قيصر ملك الروم: <بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسين (الأريسيين)، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون>([11]).
د ـ كتابه’إلى النجاشي الأوّل: <بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أنّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليكم ابن عمّي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرّ، ودع التجبّر، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلّغت ونصحت، فاقبلوا، والسلام على من اتبع الهدى>([12]).
هـ ـ كتابه ’ إلى النجاشي الثاني: <هذا كتاب من النبي إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني (أنا) رسوله، فأسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك>([13]).
ومثل هذه الكتب كتبه ’ إلى ابن أبي شمر([14])، وبكر بن وائل([15])، وإلى الهرمزان عامل كسرى([16]).
هذا النوع من الكتب لا يفيد في إثبات شيء هنا؛ لأنّها كتب دعوة إلى الإسلام، وليس فيها أيّ حديث عن الحرب أو الجزية أو غير ذلك، ويعزز هذا الأمر بكتاب النبي إلى النجاشيّ الأوّل عظيم الحبشة، فإنّ هذا الكتاب قد أرسله النبي قبل الهجرة، بحيث لا يوجد أيّ احتمال في أن يكون الهدف منه شيئاً آخر غير الجانب الدعوي؛ لعدم الإذن بالقتال في ذلك الحين، أي عند هجرة جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة، مع بُعد احتمال أن يكون مراده السلامة فيما بعد ـ أي بعد أكثر من عشر سنين ـ حين سنصبح أقوياء.
وأمّا جملة <أسلم تسلم> الواردة في هذه الكتب، فلا دلالة واضحة فيها على السلامة الدنيوية من الحرب والقتل، بحيث يهدّد النبي بشنّ الحرب على تقدير عدم الإسلام، فكيف كان يمكن للنبيّ أن يرسل رسائل بهذه القوّة بعد الهجرة إلى كلّ هذه الدول ويهدّدها بأنّه سوف يشنّ حروباً عليها لو لم تسلم؟! وهل كان بمقدوره ذلك حقاً؟! ولو أراد ذلك فلماذا لم يرسل الكتب بالتدريج حيث يمكنه خوض مثل هذه الحروب؟ علماً أنّ هناك خلافاً بين المؤرّخين في تاريخ إرسال هذه الكتب؛ فعلى قولٍ: إنّ ذلك كان في السنة السادسة للهجرة؛ وعلى قول آخر: إنّه كان في السنة السابعة؛ وعلى قول: إنّه كان بعد الحديبيّة([17])، وهذه الفترات لا تصلح لأنّ يهدّد النبيّ فيها بالحروب مع دول عظمى على مختلف أطراف العالم، بل لو وقع ذلك بعد صلح الحديبية لكان الأنسب ـ بحسب السياسة العامّة التي انتهجها المسلمون آنذاك في فترة الصلح ـ أن يكون الهدف دعوياً فقط، وليس فيه جانب عسكري.
والذي يهوّن الخطب أنّ هذه الجملة تعني ـ في المقدار المؤكّد من دلالتها ـ أنّك بالإسلام تسلم من النار وغضب العزيز الجبار، وإن لم تفعل ذلك فسوف تتحمّل عصيان قومك؛ لأنك لم تدعهم إلى الدين، ولم تسمح لهم بذلك.
والذي وضع في المخيلة الإسلامية هذه الصورة العكسية عن هذا المعنى هو تصوّر أنّ هذه الكتب هي كتب فتوحات، مع أنّه لا دليل على ذلك من ظاهر اللفظ، وليس هناك إطلاق في هذا النص كما هو واضح.
ولا يستهان بقيمة هذه الكتب على المستوى الدعوي، فقد تركت بعض التأثير على هؤلاء الزعماء وشعوبهم، فبعضهم لم يستجب، مثل: كسرى، لكنّ بعضهم الآخر استجاب ـ ولو بشكل جزئي ـ حسب ما تورده المصادر التاريخية، حيث أسلم ضغاطر أسقف الروم علناً بعد قراءته لهذا الكتاب، وكان من تعليقات المقوقس بعض ما فيه إنصاف للنبي وتأثر إيجابي بدعوته، وقد استجاب المنذر ملك ساوى للكتاب وأسلم، وكذلك ملوك حمير ونجران، وبعض عمّال فارس في البحرين، وغير ذلك من التأثير([18]).
إذاً فهذا النوع من الرسائل غير واضح في دلالة نصّه على البعد العسكري في القضيّة، وكذلك بحسب سياقه التاريخي والعقلاني.
الثاني: الرسائل والكتب التي احتوت حديثاً عن الحرب أو الجزية أو الذمّة أو الأمان، وهي عديدة، نذكر منها:
أ ـ كتابه إلى كسرى بن هرمزد، بحسب بعض المصادر، وقد جاء كالتالي: <من محمد رسول الله إلى كسرى بن هرمزد، أما بعد، فأسلم تسلم، وإلا فاْذَن بحرب من الله ورسوله، والسلام على من اتبع الهدى> ([19]).
ب ـ كتابه إلى كسرى عظيم فارس أيضاً: <من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس أن أسلم تسلم، من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ذمّة الله وذمة رسوله>([20]).
ج ـ رسالته إلى المقوقس صاحب مصر ـ حسب نقل الواقدي (207هـ) ـ: <بسم الله الرحمن الرحيم، من عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صاحب مصر. أما بعد، فإنّ الله أرسلني رسولاً وأنزل عليّ كتاباً قرآناً مبيناً، وأمرني بالإنذار والإعذار ومقاتلة الكفار، حتى يدينوا بديني ويدخل الناس فيه، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى، فإن أنت فعلت سعدت، وإن أنت أبيت شقيت. والسلام>([21]).
وقد تناقش هذه الرسائل بأنّ الرسالة التي أرسلت إلى كسرى عظيم الفرس نقلت في أغلب المصادر التاريخية بالشكل الذي نقلناه سابقاً خاليةً من الجزية والذمّة وما أشبه ذلك، وقد تفرّد الخطيب البغدادي تارةً؛ وابن شهرآشوب أخرى، بنقل هذا النص، وفي المصدرين يوجد إرسال؛ فلا سند في مناقب ابن شهرآشوب (588هـ)، وفي سند الخطيب البغدادي (463هـ) إرسال في آخره عن بعض المشيخة، فتتعيّن الرواية الأشهر في مثل هذه الحال؛ لاستبعاد أن يكون النبي قد أرسل رسالة تهديد إلى كسرى؛ وسبب ذلك أنّ هذه الرسالة إما بعثت قبل نزول آية الجزية في العام التاسع من الهجرة أو بعد ذلك، فإذا أخذنا بالاحتمال الأوّل كان بعيداً؛ لأن ظروف النبي’ لم تكن تسمح بوضع من هذا القبيل في أن يهدّد إمبراطوريات، مثل: الفرس، والروم، وغيرهما، وأمّا إذا اخترنا الاحتمال الثاني فهو وإن كان ممكناً إلا أنّ المذكور في التاريخ أنّ ملك الفرس توفي قبل العام التاسع من الهجرة، فهذه النصوص يشوبها التباس، كما ألمح إلى هذا الأمر العلامة المتتبع الشيخ علي الأحمدي الميانجي، الذي علّق أيضاً على ما ذكره بعضهم، مثل: السيد ابن طاووس (664هـ)، بأنّ عادة النبي جرت على الدعوة إلى الإسلام، فإن أَبَوْا طالبهم بالجزية في رسائله للملوك، بأنّ مثل هذه الرسائل لم تصل إلينا([22]).
كما أنّ الرسالة إلى مقوقس مصر التي نقلها الواقدي ـ مع مخالفتها لسائر الرسائل المنقولة ـ غير تامّة السند؛ لأنّها منقولة عن أبي إسحاق صاحب المغازي، ولم يذكر السند منه إلى الحادثة؛ مضافاً لضعف سند الواقدي بإهمال عبد الواحد بن عوف؛ إذ لم يذكره أحد في مصادر الرجال، لا الشيعية ولا السنيّة.
لكن الحقّ أنّ الدراسة الموضوعية المستوعبة تضعنا أمام ثلاث حقائق تاريخية:
الحقيقة الأولى: إنّ التتبع في كتب التاريخ والحديث والسيرة يفضي إلى العثور على عدد من الرسائل النبوية الواضحة في أنّه لو لم يسلموا لحقتهم الجزية أو فليأذنوا بالحرب القادمة عليهم، مثل: رسالته إلى كل من: أهل عمان، وملك اليمامة، والمنذر بن ساوى، ورفاعة بن زيد الجذامي، وجيفر وعبد ابني الجلندي، ويحنة بن رؤبة وسروات أهل ايلة، وأسقف نجران، وزمل بن عمرو بن عذرة، وأشباههم.
والذي لاحظته من تتبّع الرسائل ومطالعتها رسالةً رسالةً أن هذا الجوّ كان موجوداً في رسائل النبي إلى أهل الجزيرة العربية وأطرافها من القبائل والتجمّعات الصغيرة، أمّا الملوك في الحبشة ومصر والروم والفرس وغير ذلك فلم تحوِ الرسائل الموجّهة إليهم مثل هذا اللون من الخطاب.
الحقيقة الثانية: إنّ رسائل النبي’ إلى الملوك والزعماء خارج الجزيرة العربية لا تحوي خطاباً من هذا النوع، بل هي رسائل دعوية بامتياز.
الحقيقة الثالثة: إنّ بعض الرسائل الموجّهة إلى داخل الجزيرة العربية لم تكن تحوي أيضاً هذا اللون من الخطاب، وهي كثيرة، بل كان خطابها يشبه خطاب تلك الرسائل الموجّهة للملوك الكبار.
أمّام هذه المعطيات الثلاث نقدّم تفسيرات لها، أهمّها:
التفسير الأوّل: أن يكون الأصل هو وجوب الجهاد الدعوي، لكن لم تحوِ رسائل النبي للملوك ولبعض الزعماء الداخليين مثل هذا الخطاب؛ لمصالح وقتية.
التفسير الثاني: أن يكون الجهاد الدعوي مشروعاً، وليس بواجب، ويكون أمره بيد الحاكم، والنبي’ رأى ضرورة ممارسة الخطاب الجهادي الدعوي مع بعض الفئات دون بعض؛ بوصفه حاكماً للمجتمع الإسلامي.
التفسير الثالث: أن لا يكون هناك جهاد ابتدائي دعوي في الإسلام أساساً، وإنّما ضمّن النبي’ بعض رسائله هذا اللون من الخطاب لمصالح وقتيّة فرضتها الضرورات؛ لأنّه كان يريد بناء الدولة الإسلامية القادرة على الاستمرار؛ فقد علم أنّه لا يمكن بناء دولة مستقرّة في مناخ القبائل العربية المتناثرة، فلابدّ من توحيد هذه القبائل في الجزيرة العربية كي تتكوّن منها دولة تقدر على الاستمرار، لهذا احتوت رسائله لبعض من في الداخل هذا اللون من التعاطي؛ تأميناً لبناء الدولة الفتيّة، ونحن نعرف أنّ العقل القبلي كان يوشك على الإطاحة بالدولة حتى بعد كلّ هذه الفتوحات الإسلامية الكبرى التي حصلت في عهد الخلفاء الأوائل، وتناحر المسلمون في حروب قد يعود الكثير منها إلى النزعات القبلية مع الأسف الشديد، فإذا كانت هذه هي الحال بعد بناء الدولة الإسلامية العظمى فماذا كان سيكون عليه الوضع لو أنّ النبي ترك المدينة المنوّرة فقط وبقعاً متناثرة من أجزاء الجزيرة العربية؟!
وهذا يعني أنّ العنوان الثانوي والضرورة الطارئة هي التي فرضت استخدام القوّة استثنائياً ضدّ هؤلاء، ونحن نعرف أنّ أكثرهم لم يحاربه النبي’؛ لأنّه خضع له؛ فإما أسلم نتيجة هذه الرسائل؛ أو دفع الجزية وظلّ خاضعاً لنفوذ الدولة القويّة.
والذي حصل أنّ المسلمين من الصحابة تصوّروا أنّ الأصل في سنّة النبيّ وسيرته هو الحرب مع غير المسلم، فوسّعوا دائرة هذه التجربة النبوية، معتقدين أنّ المفترض هو هذا، وأستعير هنا تعبيراً استخدمه الشيخ محمد أبو زهرة (1394هـ) عند حديثه عن العلاقات الدولية في الإسلام، حيث اعتبر أنّ المسلمين أخذوا مثل هذه المقولات من الواقع، ولم يأخذوها من النصوص([23])، وهذا يعني أنّهم التبس عليهم الأمر في تفسير التجربة النبويّة.
وأمام هذه الاحتمالات يصعب الجزم بترجيح احتمال على آخر؛ لأنّ علماء أصول الفقه يعتقدون بأنّ العمل دليل صامت، والفعل النبوي هنا غير واضح بالنسبة إلينا من حيث منطلقاته ودوافعه وحدود حركته ’ لو كتبت له الحياة الأطول، وبهذا لا يمكننا الاستناد إلى هذه التجربة النبوية للاستدلال بها على شرعية الجهاد الابتدائي بوصفه حكماً أولياّ، لا حكوميّاً يرجع فيه للمصالح الزمنية، فضلاً عن أن تكون التجربة النبوية دليلاً على الوجوب.
موقف أهل البيت^ من الفتوحات الإسلامية
ما تقدّم كان ـ كلّه ـ بصرف النظر عن الاعتقاد الشيعي بإمامة أهل البيت النبوي، وأمّا إذا أضفنا هذا الاعتقاد فسوف نرى أنّ الخلفاء الأوائل مارسوا الفتوحات الإسلامية خارج إطار الجزيرة العربية، وذلك بمرأى من أهل البيت النبوي، ولم نجد انتقاداً يسجّله أهل البيت على عمل الخلفاء في هذا الموضوع، بل الملفت أنّهم كان يشيرون وينصحون الخلفاء في بعض المناسبات، فهذا دليل واضح وحاسم على شرعية الجهاد الابتدائي، وأنّ ما فهمه الصحابة والمسلمون الأوائل من التجربة النبوية كان صحيحاً.
ويشهد لذلك أنّ الإمام عليّاً كان يتحدّث عن أنّ الخليفة الثاني كان يشاوره في مهمّات الأمور، ففي رواية جابر الجعفي، عن أبي جعفر× ـ في حوار الإمام علي مع رأس اليهود ـ جاء: <وأما الرابعة يا أخا اليهود، فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور، فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها، فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ـ ولا يعلمه أصحابي ـ يناظره في ذلك غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلما (أن) أتته منيته على فجأة بلا مرض..>([24])، فهي تدلّ على كمال التشاور والتنسيق بينهما، فلا يحتمل أنّ موضوعاً مثل الفتوحات لا يخضع لهذا الإطار العام الذي تحدّث عنه الإمام علي.
يضاف إلى ذلك ما ورد عن الإمام علي من تقديمه النصائح للخليفة الثاني، مثل: قوله له عندما كان عازماً على غزو الروم ـ كما جاء في الرواية ـ: <قد توكّل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة. والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم، وهم قليل لا يمتنعون، حيٌّ لا يموت. إنك متى تسِرْ إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم بشخصك، فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين>([25]).
وعندما استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، قال: <إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع. ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده. ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم ـ وإن كانوا قليلاً ـ فهم كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك مما بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل في ما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة>([26]).
ولست أريد هنا أن أعلّق على هذه النصوص التي ينصح فيها الإمام علي بن أبي طالب الخليفة عمر بن الخطاب في قضايا تمسّ إدارة عملية الجهاد؛ لأنّها قابلة للجدل التاريخي جداً، فهي محدودة للغاية، ولا سند لها أساساً حتى يجري تقييم سندها، ومجرّد ورودها في نهج البلاغة لا يصحّحها كما هو واضح، فلا يمكن الوثوق بصدورها.
وأمّا رواية جابر الجعفي المتقدّمة فهي ضعيفة السند جداً، كما أقرّ بذلك غير واحدٍ من العلماء، كما أنّ سكوت الإمام علي× عن فعل الخلفاء ربما يكون لعدم وجود مصلحة في النقاش حول هذا الموضوع ـ كغيره من الموضوعات ـ وفق العقيدة الشيعية، وكذلك الحال في جري الإمام علي في أرض العراق بسنّة من كان قبله؛ فإنّ عدم القدرة على تغيير بعض العادات والأعراف قبله ـ كبعض العبادات ـ يشهد على أنّ تغيير سنن مالية بهذه السعة قد يكون صعباً جداً.
من هنا قد يصعب الجزم ـ وفاقاً للمحقق الإصفهاني (1361هـ)، وظاهر السيد الخوئي (1413هـ)([27]) ـ برضا أهل البيت عن الفتوحات الإسلامية بهذه الطريقة، فربما كان لهم رأي آخر.
لكنّ الصحيح عكس ذلك، لا للأدلّة السابقة التي يمكن النقاش فيها جميعاً؛ وإنّما لأنّ موضوعاً بهذه الخطورة والأهمية، ويشكّل مَعْلَماً من معالم تجربة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، لو لم يكن محلّ الرضا والقبول من أهل البيت إلى زمان الإمام العسكري ـ وبالأخص بعد الإمام علي، الذي ربما يقال بأنّ له ظروفه الخاصّة ـ لتمّ انتقاده جداً؛ فقد تتبّع الشيعة كل عثرات الخلفاء الأوائل وخلفاء بني أمية والعباس، وروايات المثالب كثيرة عندهم، وهذا معلم تاريخي كبير يفتخر به المسلمون من غير الشيعة بحقّ هؤلاء الخلفاء الكبار، فكيف لم تتسرّب ـ حتى في الداخل الشيعي الخاصّ ـ أيّة رواية، ولو ضعيفة السند، تنتقد هذه التجربة، أو تشير إلى أنّ خطأ استراتيجياً وقع فيها؟! إنّ هذا يشرف بنا على الوثوق بأنّهم ما كانوا يرون هذه الفتوحات مرفوضة، ويدعم ذلك بسائر الشواهد التي ذكرت، وإن كانت في نفسها قد تقبل النقاش على مستوى الإثبات التاريخي والمدلول، مثل ما تقدّم، ومثل مشاركة خواصّ الإمام علي× في الفتوحات في عهد الخلفاء الأوائل.
فرضا أهل البيت النبوي عن الفتوحات التي قام بها الخلفاء الأوائل يمكن دعوى الاطمئنان به، لكن غاية ما يفيد في استنتاج الموقف الفقهي أنّ الخليفة آنذاك كان يمكنه إذا رأى مصلحةً أن يقوم بفعل الجهاد الابتدائي نتيجة ضرورات، ومن الممكن أن تكون الثقافة العامّة آنذاك ترشد إلى ضرورة القيام بتوسعة جغرافية لنطاق الدولة الإسلامية الفتيّة؛ إذ بهذا يصبح الإسلام ديناً عالمياً محميّاً من التعرّض للاندثار بسقوطه في جغرافية صغيرة، وغير محدود ببقعة جغرافية لا تمثل موقعاً إستراتيجياً في حياة البشر، فضرورات مرحلة الانطلاق والتأسيس تستدعي سياسة من هذا النوع في عالم كانت هذه هي نظمه.
ولعلّ ما يعزّز مثل هذه الاحتمالات ما مال إليه بعض المستشرقين من أنّ الجزيرة العربية كانت تشهد قبيل ظهور الإسلام ظاهرة تصحّر، وأن هذه الظاهرة هي التي دفعت المسلمين للتفكير في الفتوحات خارج نطاق جزيرة العرب، فإذا صحّ هذا التحليل، الذي بُني على النظرية الجغرافية حول الجزيرة العربية، والتي طرحها العالم هوغو فنكلير، واستفاد منها المستشرق الإيطالي ليوني كاتياني، في تفسير ظهور الإسلام ـ بصرف النظر عن صحّة مقولاته ـ فإنّ احتمال الضرورات الزمنية يمكن أن يكون قوياً لصالح التفسير التاريخي لظاهرة الفتوحات دون التفسير النصّي الديني الصرف.
والذي يدفعنا لمثل هذه الفرضيات، التي لا دليل حاسم عليها، وإنّما هي احتمال منطقي يمكن فرضه، أنّنا نتعامل مع أفعال تارةً؛ ومع سكوت عن أفعال تارةً أخرى، والفعل مفتوح على احتمالات، وإذا كان أحدها هو المنصرف لأذهاننا فلأنّ الثقافة الفقهية السائدة قد أنست به؛ نتيجة اشتهار القول بالجهاد الابتدائي، وإلا فلا دافع لتلك الاحتمالات إلا بإقامة الدليل على نفي جميعها، كي يتعيّن تفسير الفعل أو السكوت عنه بفريضة الجهاد الابتدائي بالعنوان الأوّلي.
ونتيجة الكلام حول دليل السيرة النبوية والإسلامية ورسائل النبي’ وكتبه أنّها على أبعد تقدير تؤكّد الجهاد الابتدائي تاريخياً، لكنّها لا تستدعيه فقهيّاً بوصفه حكماً أولياً في الشريعة، وإنّما هو حكم قابل للتشريع الزمني نتيجة ضرورات، ومن المعروف أنّ نظام المهم والأهم ونظام الضرورات يجريان في الشريعة الإسلامية بمختلف أحكامها تقريباً، وليس هنا فقط.
4 ـ 2 ـ الاستناد إلى الإجماع الإسلامي لإثبات الجهاد الابتدائي
يُستند لإثبات الجهاد الابتدائي ــ بعد الكتاب والسنّة ــ إلى دليل الإجماع، على أساس اتفاق فقهاء المذاهب والفرق الإسلاميّة على شرعية هذا الجهاد ووجوبه، وأنّ مقاتلة الكافرين بملاك الكفر، لا فقط بملاك الدفاع وردّ العدوان، وكلمات الفقهاء في هذا المجال كثيرة، ولا داعي لاستعراضها، فالإجماع المحصّل والمنقول تامّان، ولا أقلّ من الشهرة الفتوائية الواسعة. وحيث يكون الإجماع دليلاً كاشفاً عن الموقف الشرعي فإنّ هذا الإجماع القويّ جدّاً هنا يغدو كذلك تلقائيّاً.
وقفات نقدية مع دليل الإجماع
لكن هذا الإجماع قابلٌ للمناقشة، وذلك:
أولاً: إن ذهاب مشهور الفقهاء إلى ما قيل أمرٌ لا يصحّ إنكاره، إلاّ أن بعض الفقهاء لا وضوح لكلماتهم في ما يعطي دلالةً على مثل هذا الجهاد، وإنما يتحدّثون عن أصل وجوب الجهاد، دون إشارة إلى نوعيّته، وعلى سبيل المثال: نلاحظ نصّ الشيخ الصدوق (381هـ) في كتاب <الهداية>، حيث يقول: <الجهاد فريضة واجبة من الله عز وجل على خلقه، بالنفس والمال، مع إمامٍ عادل؛ فمن لم يقدر على الجهاد معه بالنفس والمال فليخرج بماله من يجاهد عنه، ومن لم يقدر على المال، وكان قوياً ليست له علّة تمنعه، فعليه أن يجاهد بنفسه، والجهاد على أربعة أوجه ــ وساق رواية فضيل بن عياض المتقدّمة ــ، وقد روي أن الكادّ على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله، وروي أنّ جهاد المرأة حُسن التبعّل، وروي أنّ الحج جهاد كلّ ضعيف>([28])، وبهذا انتهى كتاب الجهاد عنده، فأيّة دلالةٍ في هذا الكتاب على الجهاد الابتدائي، مع احتمال كون مراده هو خصوص الدفاعي؟! والكلمات التي من هذا القبيل ليست بالنادرة، ولاسيما عند القدماء.
ثانياً: إنّه لو انعقد الإجماع صغروياً فهو معلوم المدركية أو مطمأنّ بها، ولا أقلّ من احتمال كونه مدركياً، حيث الآيات الدالّة أو القريبة الدلالة موجودة، وكذا ظاهر بعض الروايات كما أسلفنا، ومعه كيف يكون إجماعاً كاشفاً عن الحكم الشرعي؟!
ثالثاً: لو استُدل بالشهرة فالجواب أوضح، وهو أنه لا حجية للشهرة الفتوائية في حدّ نفسها ــ كما قرّر في علم أصول الفقه ــ إلاّ إذا حصّلت يقيناً، وهو صعبٌ هنا، ولاسيما بعد سريان مسألة المدركية إلى الشهرة أيضاً؛ لأن المدركية لو أسقطت كاشفية الإجماع فهي مسقطة لكاشفية الشهرة بطريقٍ أولى، بعد عدم كون الشهرة دليلاً تعبّدياً بنفسه.
فالإنصاف أن الاستدلال بالإجماع أو الشهرة في مثل هذا الباب الوفير بالأدلّة في غير محلّه. نعم، هو حسنٌ من باب التأييد.
5 ـ 2 ـ اعتماد دليل العقل في تشريع جهاد الدعوة
إنّ تطهير الأرض من الكفر أمرٌ حسن، وكذلك نشر التوحيد والعدل، وحيث يتوقف تحقيق ذلك على الجهاد الابتدائي فيكون حسناً، بل واجباً.
يظهر هذا الدليل في كلمات العديد من الباحثين، ضمن صياغات مختلفة، وإن لم يطرحوه بوصفه دليلاً اجتهادياً.
إلاّ أنّ هذا الوجه وأمثاله واضح الدفع، فالغاية لا شك في حُسنها، بل وجوبها، إنما الكلام في الوسيلة، وشرعية الغاية لا تبرّر شرعية الوسيلة دائماً، ولاسيما أنّ الوسيلة فيها قتلٌ ودم وحروب يذهب ضحيتها بعض المسلمين أيضاً، كما أنّه من غير المعلوم أن تنتهي بمئات السنين، فمثل هذه الوسيلة يصعب القول بأنّ الغاية تبرّرها.
يضاف إلى ذلك أنه من غير المعلوم أنّ الله يريد إبادة غير الإسلام من العالم؛ وذلك بدليل القبول القرآني بنظام الذمّة، فلا ينبغي الاستعجال في رسم صورة الغاية المنشودة قبل مراجعة المصادر الاجتهادية الأخرى، فهذا الوجه ضعيفٌ أيضاً.
خلاصة واستنتاج
وبهذا يتمّ الكلام في أدلّة شرعية ووجوب الجهاد الابتدائي، وقد تبيّن أنّها لا تنهض لإثبات هذا الجهاد بالعنوان الأوّلي بشكل حاسم؛ حيث إنّه بعد مراجعة مجمل الوقفات لا يحصل لنا اطمئنان ووثوق بتشريع هذا الجهاد. نعم، توجد له بعض الشواهد الجديرة، التي ينبغي وضعها أمام أدلّة نفي هذا الجهاد، وإجراء مقارنات ومقاربات بين أدلّة النظريتين، وقد توصّلنا هناك إلى أنّ بعض الأدلّة الأقوى للجهاد الابتدائي، مثل: إطلاق آية الجزية وحديث ابن عمر المشهور، وسيرة المسلمين بعد النبي’، ولاسيما مع ضمّ سكوت أهل البيت، لا تنهض لمواجهة أدلّة نفي الجهاد الابتدائي من نصوص الكتاب والسنّة.
فالأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم، والحرب إمّا دفاعيّة بالمعنى الذي شرحناه للدفاعية؛ أو اضطرارية، تفرضها ظروف طارئة يرجع فيها إلى قيادة الدولة الإسلامية الشرعية. والله العالم.
الهوامش
([1]) الآصفي، الجهاد: 30 ـ 31.
([2]) انظر حول الغزوات أيضاً: عبد الله البرّاك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد: 132 ـ 134.
([3]) شمس الدين، جهاد الأمة: 200.
([4]) يشكّك ابن قرناس في صحّة الحادثة المروية في التاريخ الإسلامي عن هجوم المسلمين على قافلة المشركين، الأمر الذي تسبّب بحرب بدر، ويقول بأنّ قريشاً كان لها رحلتان: الأولى في الصيف إلى الشام؛ والثانية في الشتاء إلى اليمن، ومعركة بدر وقعت في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة، وهو الموافق لشهر مارس/آذار من عام 624م، وهو تاريخ لا يتطابق مع تاريخ الرحلة المعهودة إلى الشام، فانظر: ابن قرناس، الحديث والقرآن: 119 ـ 120.
([5]) الآصفي، الجهاد: 31 ـ 32.
([9]) انظر: تاريخ الطبري 2: 295؛ والبداية والنهاية 6: 338؛ والمبسوط 8: 123.
([10]) انظر: السيرة الحلبية 3: 295 ـ 296؛ وأعيان الشيعة 1: 244.
([11]) انظر: مسند أحمد 1: 263؛ وصحيح البخاري 1: 6، و5: 169؛ وصحيح مسلم 5: 165ـ 166؛ والذهبي، تاريخ الإسلام 2: 504.
([12]) انظر: تاريخ الطبري 2: 294؛ وسبل الهدى والرشاد 2: 394.
([13]) انظر: سيرة ابن إسحاق 4: 210؛ والبداية والنهاية 3: 104.
([15]) الطبقات الكبرى 1: 281؛ وأسد الغابة 4: 344.
([17]) انظر: الأحمدي، مكاتيب الرسول 1: 30 ـ 31.
([18]) انظر: المصدر نفسه 1: 33 ـ 34.
([19]) مناقب آل أبي طالب 1: 70.
([20]) تاريخ بغداد 1: 142؛ وكنـز العمال 4: 438.
([21]) الواقدي، فتوح الشام 2: 39 ـ 40، دار الجيل، بيروت.
([22]) مكاتيب الرسول 1: 97، 114.
([23]) محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام: 51، دار الفكر العربي.
([27]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 43 ـ 45؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 1: 841 ـ 843.