ترجمة: الشيخ مرتضى الساعدي
تمهيد ـــــ
ثمة الكثير من العوامل التي سببت هذا التخلّف الملحوظ في بلاد المسلمين، منها الفقر الفاحش لكثير من الناس، ومنها بعض الطبقات المتموّلة البورجوازية، ومنها بعض التعاليم الدينية، وكذلك شيوع الفكر الماركسي الذي يدعي مناوءته للنظام الطبقي والشعارات الاشتراكية التي رفعت للمطالبة بالعدالة والمساواة الاجتماعية. هذه العوامل وغيرها هي التي حدت بالمفكرين الإسلاميين إلى البحث الجدّي والواعي لدراسة علل الخلاف بين المسلمين بحيث صرنا نجد في ثنايا الكتابات الإسلامية المعاصرة الكثير من هذه الأفكار الإصلاحية.
وتعالج هذه المقالة أربع نظريات مهمة، تمثل حصيلة أفكار بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين في إيران، وللمقالة بعد ذلك رأي خامس تشير إليه. وتعتقد هذه المقالة أن كثيراً من الخلافات تتوقف معالجتها على فهم الرأي الخامس إن لم يكن ذلك في كل العصور فلا أقلّ في عصرنا الحاضر.
خمس نظريات في عوامل اختلاف المسلمين ــــــــ
وهذه الأسباب هي: 1 ـ العامل الطبقي في الاختلاف. 2 ـ العامل النفسي في النزاع. 3 ـ العامل العقائدي والثقافي وبعبارة أخرى صراع المدارس والرؤى. 4 ـ العامل الأخلاقي والعلمي إلى جانب النظرية المختارة.
وإذا قمنا بدراسة هذه الآراء وإرجاعها إلى العلل الأساسية التي انطلقت منها، فسنجد أن الرأي الأوّل ينطلق من فلسفتي: التاريخ والاجتماع، أمّا الرأي الثاني فمن دراسات الأناسة، فيما يقوم الرأي الثالث على فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وينبني الرابع على فلسفة الأخلاق، ليبقى الخامس منبعثاً من فلسفة الدين وفلسفة العلوم.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض المفكّرين الآخرين عالجوا هذا الموضوع عبر علم الجغرافيا السياسية أو الإنسانية أو العرقية، وهو خارج عن محل بحثنا.
ولا تبحث هذه المقالة عن الجذور التاريخية لهذه التنظيرات أو مقارنتها وتطبيقاتها ولا معيار مدى مطابقتها للواقع أو فاعليتها؛ لأن كل واحد من هذه المواضيع يحتاج إلى بحث مستقل. كذلك لن تتطرق للأسس الفلسفية المعتمدة لدى كل نظرية، بل تحصر اهتمامها بالجانب المختص بتحليل الفلسفة ذات الطابع الاجتماعي، دون التطرق للتحليلات التي تكوّنت على أساس الدراسات السياسية البحتة، كالنظريات التي تذهب إلى أن فكرة المؤامرة وتدخل الأجنبي هي العلة الأساسية للخلاف.
1 ـ العامل الطبقي في الاختلاف، نظرية الدكتور شريعــتي ـــــــــ
وتعتبر بعض المصادر أن العامل الطبقي كان السبب الرئيس للخلاف، لترى ـ في المقابل ـ أنّ الوئام والتلاحم في المجتمع ينتجان عن مساعي الطبقات المسيطرة.
وقد نشر في السنين الأخيرة كتاب يحمل عنوان (موضع كيريهاي طبقات اجتماعي/ مواقف الطبقات الاجتماعية)([1])، والعنوان نفسه يصرح بمضمون النظرية التي تحدّثت عن الطبقات المستضعفة والمستكبرة والمترفة، وعن رؤوس الاقتصاد، والمنذرين الإلهيين والرهبان والأحبار، وعن حكومة الدين الكاذبة، وهذه الطبقات تتنازع فيما بينها للحفاظ على مصالحها.
وترجع هذه الطبقات جميعها إلى: 1 ـ أصحاب الثروة الاقتصادية. 2 ـ الطبقة الفقيرة. بمعنى أن المنذرين الإلهيين إنما يظهرون بدافع الدفاع عن المستضعفين وتدخل النظريات الدينية والثقافية حلبة الصراع للدفاع عن القدرات الاقتصادية.
وتنطلق هذه النظرية في تحليلها لنزاعات الماضي والحاضر من الرجوع إلى الآيات القرآنية مع التقسيم الآنف الذكر، ولا تتيسر الوحدة المنشودة والتلائم في المجتمع إلا بانهزام القدرات الاقتصادية والسياسية وأتباعها وانتصار المستضعفين وسيطرتهم. وقد هاجم المنذرون الإلهيون ثلاثة محاور حتى يقيموا العدالة الاجتماعية ومن ثم يصل المجتمع إلى درجاته المنشودة من الرقي والتقدم:
1 ـ الهجوم على محور (القرية الظالمة) وهدم أسسها.
2 ـ الهجوم على الممارسات والأساليب الفاسدة كالتفاوت الطبقي أو مظاهر السرقة والفحشاء والتطفيف الارستقراطية.
3 ـ الهجوم على القيادة الفاسدة([2])، أي علية القوم وأشرافهم الفاسدون.
ويطلق مصطلح (القرية) الوارد في القرآن الكريم على الأنظمة القبلية البدائية الخالية من المنازعات الحادة والشديدة، لكن بعد ذلك تعقدت هذه المجتمعات البدائية شيئاً فشيئاً وتحولت إلى طبقات تتخذ أشكالاً سياسية واقتصادية مختلفة تشهد الكثير من الصراعات الطبقية الداخلية([3])، وتعزي هذه النظرية الفقر والظلم وعدم المساواة إلى التعالي الطبقي، وهذا ما يؤدي إلى صراعات اجتماعية وسياسية لا تقف عند تقسيم المجتمع إلى طبقتين؛ بل تنسحب على الشارع العام لتؤدي إلى كثير من التشظي. وتعتقد هذه النظرية أن جذور جميع أنواع الاختلاف ترجع إلى منطلقات طبقية تتسم بالنفعية الاقتصادية عموماً أو بالدفاع عن صنف معين أو شريحة خاصة([4])، وكذلك بناءً على هذا لا يمكن تحقيق الانسجام الاجتماعي إلا عن طريق مشروع تاريخي وتبنّي دعوات الأنبياء والمصلحين وقيام مجتمع عادل تسوده المساواة بين جميع الشرائح المختلفة.
كما تؤكّد هذه النظرية على أن وجود طبقات تعبد المال وتجمعه سببٌ رئيس لتعميق المسافات الفاصلة بين فصائل المجتمع، مما يسبب تزايد حالات الفقر الفاحش فيه، وهو ما يؤدي بدوره إلى ظهور صراعات اجتماعية أو حتى سياسية شديدة.
لقد درس الدكتور علي شريعتي الصراعات الطبقية في العديد من كتبه وأعماله منطلقاً من فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع التاريخي، وعالج البحث بطريقة أكاديمية حديثة؛ لذا يمكننا أن نعدّه المؤسس لهذه النظرية في العصر الإسلامي الحديث([5]).
وقد عولجت هذه المسألة في كثير من الدراسات الفكرية منذ الحركة الدستوريّة في إيران وإلى العصر الحاضر، سيما في الخمسين سنة الأخيرة؛ حيث اتخذت صوراً وأشكالاً متنوعة، ولتقابل بالرد تارة وبالقبول أخرى، مما لا يسع المجال هنا لتتبّعه.
لقد طرحت هذه الدراسات تحت مسميات مختلفة كإسلام السوق، ويقصدون به الإسلام الذي يتأثر بآراء التجار، والتحالف الثلاثي الذي يقع بين أصحاب المال والسلطة من جهة وأهل المكر من رجال الدين من جهة أخرى. والمجتمع العاري من الطبقات الذي تسوده المساواة. وتحتوي هذه القراءات على آراء وانطباعات مختلفة، لكنها أحياناً تعالج كلّها بمعالجة واحدة ويحكم عليها بحكم واحد، وعلى سبيل المثال يتهم أصحاب هذه النظرية كافّة بالإلحاد الشرقي أو بالتأثر بآراء ماركس في فلسفة التاريخ والاجتماع([6]).
وقد كان للمرحوم مطهري دور بارز في تشريح ونقد جوانب مختلفة من هذه النظرية؛ حيث عالجها في كثير من محاضراته وكتبه المختلفة([7])، من جهة أخرى نجد أن هناك فكراً آخر ينكر أساس هذه النظرية عبر إنكار التضاد فلسفياً حيث يعتبر أن الوحدة العقائدية والاجتماعية هي العامل الأساس لتقدم المجتمع وازدهاره، لكن هذا الفكر أيضاً لم يسلم من النقد([8]).
2 ـ العامل النفسي في الاختلاف، نظرية العلامة الطباطبائي و … ــــــــ
وقد تعرض العلامة الطباطبائي إلى جذور الخلافات بين المجتمع([9]) وشرحها بتفصيل واسع عند تفسير الآيات 109 ـ 119 من سورة هود المباركة([10])، وقد درس الخلاف والصراعات من زاوية علم النفس البشري قال: «الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى، فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد وهو يؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية وبانضمام اختلاف الأجواء والظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية والشخصية في المجتمعات الإنسانية، وقد أوضحت الأبحاث الاجتماعية أن لولا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني ولا طرفة عين. وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه إلى نفسه حيث قال: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}(الزخرف: 32) ولم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس وخالف هدى العقل»([11]).
إنّه يرى أن الطبيعة البشرية مجبولة على التقوى والفجور على حدّ سواء([12]). ولم يقصر الطباطبائي نظره على التفاوت الفطري بل وسعه ليشمل الاختلافات الاجتماعية. وهو بذلك يكون قد طرح نظرية جديدة في الفكر الإسلامي وهي التي يطلق عليها أحياناً (نظرية التوحش الطبعي والتمدن الفطري)([13])، وهو يعتبر وقوع هذه الخلافات بين البشر حتمياً وبديهياً ونابعاً من الفطرة البشرية. لكن توجد أيضاً نقطة اشتراك بين جميع البشر هي عبارة عن جوهر الإنسانية أو الصورة الآدمية.
وعلى الرغم من هذه الاختلافات كلّها بين مشاعر الناس وإدراكاتهم التي تؤدي بالنتيجة إلى اختلاف المقاصد والطموحات إلا أنها تتحد في الجامع المشترك الإنساني([14]). والطباطبائي يرى في القانون ضرورة ملحة لإزالة الخلاف الاجتماعي أو بعبارة أخرى استثماره بطريقة أفضل([15]). كما يعتبر الأحكام الدينية أفضل طريق لإرجاع الحقوق المسلوبة إلى أهلها ورفع الظلم والتعدي عن الآخرين.
وللشيخ مطهري بحث في هذا الموضوع عند توضيحه نظرية العدل الإلهي، وأنه كيف يتناسب القول بالعدل الإلهي مع ما نجده من الفروقات بين البشر؟ وهو بحث يمكن أن نعتبره تتميماً لنظرية الطباطبائي؛ فهو يقول: إن الصحة والسقم والجهل والعلم أو الضعف والقوة أو غيرها من الفروقات الموجودة بين الناس تعالج كلها في علم الكلام الشيعي بمعادلة الشر العارض حينما تبحث في نظرية العدل الإلهي، ومن جهة أخرى يرى أن الفروقات الكامنة في شخصيات الناس إنّما هي ممهدة لتقدم المجتمع وتطوره شرط الاستغلال الإيجابي والصحيح لها([16]).
التفسير الخاطئ لنظرية الطباطبائي عند العلامة جوادي الآملي ــــــــ
وهناك من المعاصرين فيلسوف آخر متأثر بمدرسة صدر المتألهين هو الشيخ جوادي آملي، يبدو أنه لم يستوعب جيداً مراد الطباطبائي في نظرية التوحش الطبعي؛ لذا فسرها على أساس قوى النفس عند أرسطو ففصل بين إنسانين: إنسان خاضع لقوى النفس الشهوانية، وهذا هو الوحشي بالطبع، وإنسان آخر خاضع لقوى النفس العاقلة وهو المدني بالفطرة([17])، وقد يستعمل أحياناً اصطلاح مدني بالطبع مرادفاً للمدني بالفطرة في مقابل الوحشي بالطبع([18]).
ونحن نعتقد أن هذا كلّه بعيد عن نظرية الطباطبائي؛ والدليل ما كتبه العلامة نفسه حول الاستخدام بعد نظرية بقاء الأصلح لداروين.، ففي الواقع هو يقبل بنظرية داروين لكن منضمةً إلى وجود الوعي البشري([19]).
لقد وجد الطباطبائي ـ بوصفه أحد الفلاسفة الإنسانيين الواقعيين ـ في الإنسان اتجاهين وسلوكين: أحدهما عالٍ والثاني دانٍ، وهذان الاتجاهان ملازمان له في كل الظروف، واعتبر أن الأول موجود في طبيعة الإنسان، والثاني يرجع إلى فطرة الإنسان، وقد استرعى انتباهه اهتمام القرآن الكريم بتوضيح كلا البعدين، أما نظرية أرسطو التي انطلقت من الفلسفة المشائية التي لها فروضاتها الخاصة، فقد قوبلت فيما بعد بانتقادات حادّة.
ومع أن جذور الخلافات الاجتماعية قد درست بدقّة في هذه النظرية الإنسانية وطرح الحلّ القانوني أو الشرعي للوقوف بوجه النتائج السلبية الناتجة عنها، إلا أنه لم توضح صلة هذه الخلافات بالتشريع القانوني لإقامة العدالة بشكل جيد؛ لأن القانون في حدّ ذاته لا يعطي أية ضمانات عملية بل هو بحاجة إلى منفذين أكفاء هم الذين يطبقونه على وجهه الصحيح لأجل بسط العدل. وبنظرة عامة إلى التاريخ نجد أن القوانين التي كانت تدّعي العدالة كانت الخلافات الاجتماعية إلى جانبها دائماً وقليلون جداً هم الأفراد الذين وفقوا لتطبيق العدل، وما عدا ذلك فالتاريخ مملوء بالظلم والتعدي من بعض الناس على بعضهم الآخر.
أحد أسباب إقبال الناس على المدرسة الداروينية ـ الاجتماعية والأخلاقية هو اليأس الذي أصابهم وعدم وجود سبيل صحيح لحلّ المشكلة؛ لقد تبنت المدرسة الداروينية شرعية السلطة العليا في عملية تنازع البقاء وبقاء الأصلح وأيدتها([20]).
وينقل العلامة الطباطبائي أيضاً عن بعض المفسّرين تفسيرهم لكلمة (الزبد) الواردة في القرآن الكريم على أساس تنازع البقاء؛ حيث يفنى دائماً الزبد الباطل، أي الأنواع العاجزة في المجتمع، ويبقى الحق أي الأنواع الأكمل التي تستطيع أن تكوّن حضارةً في المجتمع([21]). ثم يطرح الطباطبائي رأيه بعد ذلك فيقول: «وإن كان قد أشير في الآيات التي يبحثون هم فيها إلى مسألة تنازع البقاء بين أنصار الحق من جهة وبين أنصار الباطل من جهة أخرى وانتصار أتباع الحق في النتيجة، لكن هذا الانتصار لم يكن من جهة أن أتباع الحق كانوا أكثر عدة وتجهيزاً بل من جهة التأييد والعناية الإلهية. نحن نعتقد أن المحور الأساسي الذي يدور حوله المجتمع البشري هو محور الاستخدام».
وتوضيح هذا الكلام أن كل فرد من أفراد البشر يريد أن يستغلّ قوى الآخرين لصالحه، وبما أنه لا أحد يرضى بتوظيف قواه مجاناً لخدمة الآخرين، تصير النتيجة أن كل فرد يقدّم بعض قواه لخدمة الآخرين وبقبالها ينتظر منهم توظيف قواهم لخدمته، وبناءً على هذا فالاستخدام سينتهي إلى تشكيل (المجتمع المتعاون) وهذه المنافع الدائمة الكامنة في القوى الموهوبة من الله التي تسري دائماً بين أفراد البشر وتحكم المجتمع، هي التي تضمن حفظ المجتمع وتكامله ورقيّه([22])، وطريق التخلّص عند العلامة في كلامه هذا قريب جداً من واقع البشرية؛ فهو لا يرى أن تحقق الوفاق والتلائم في المجتمع منوط بإزالة الخلاف نهائياً؛ لأن ذلك مستحيل، وإنّما يتحقق بالتصالح والتعاون الجماعي في ضوء تشريع القوانين لتنظيم أفراد البشر. أما هذا التعاون الجماعي فيستند إلى مفروضات ومقدّمات لم يتطرق لها الطباطبائي في كلامه كثيراً، ومن جملتها نظرية تفاوت الأفهام التي كان يجب عليه تبنّيها حتى يمكن التصالح على أساسها.
3 ـ نظرية العامل الأخلاقي في الاختلاف ـــــــ
إنّ موضوع علم الأخلاق هو دراسة حالات الطبع البشري من حيث إن الخلق صفة روحية وباطنية ترسخت في الإنسان ولها ردود أفعال وانعكاسات تنسحب على سلوك الشخص وتصرفاته. وفي هذا العلم يصنف علماء الأخلاق الصفات النفسية وخصائصها. وأحياناً يقومون بتقسيمها إلى أفعال حميدة وأفعال ذميمة ويوصون الإنسان باتباع محامد الأخلاق واجتناب رذائلها. ويبحث علم فلسفة الأخلاق عن مبادئ علم الأخلاق، فيتساءل ـ على سبيل المثال ـ: ما هي ملاكات الحسن والقبح في الأفعال والصفات؟ ما هي غاية الأفعال الأخلاقية؟ ما معنى السعادة والكمال والاستعداد للتربية و..؟
وفي هذا المجال طرحت نظريات عدّة للمفكرين الإسلاميين المعاصرين، فقيل: إن سعادة الأفراد ستؤدي إلى سعادة المجتمع، وأفعالهم سينتج عنها محاسن الأخلاق ومحامدها، وهذا ما سيتحقق في المجتمع المثالي الذي يموج به التآلف الروحي وتتحقق الوحدة المنشودة. إن النظرية التي تنظر لبحث الخلاف والوفاق الاجتماعي من منظار فلسفة الأخلاق تدرس عند الإنسان هذه المفاهيم الثلاثة: التكليف، المسؤولية، الاختيار([23]). لكنّ نظرية هؤلاء لم تتكفل بتوضيح تام للعلاقة بين الفرد السعيد أو كما يصطلح عليه في الأخلاق المشائية بـ (النفس المعتدلة)، وبين المجتمع السعيد أو المعتدل. وقد ذكر مطهري في جوابه لـ (كارليل) ـ الذي يعتقد أن المجتمع يتشكل من مجموعة أفراد متفرقين مستقلين لا يجمعهم جامع واحد ـ أن نظريته هذه تقوم على فرضيتين كلتيهما غير تامة، وهو يرى أن الأفراد لهم دور في المجتمع؛ لأن المجتمع كله كيان واحد([24]).
ويرى مصباح يزدي أن المجتمع المثالي الإسلامي عبارة عن مجتمع يعتقد أفراده يمعتقدات أخلاقية ويعملون أعمالاً متطابقة مع التعاليم الإسلامية([25])، وهذا الفيلسوف مع كونه لا يرى أصالة واقعية المجتمع، لكنه يؤمن بتأثير الفرد على هذا المجتمع([26]). وعلى كل حال فالنظرية الأخلاقية ترى أن البشر إنّما يتحلّون باعتدال الخلق وحسن السلوك إذا تجنبوا الأخلاق الذميمة؛ ولهذا يغضون الطرف عن الطمع والحرص والجشع الذي لا حدّ له ويقنعون بالمستوى المعقول من المعيشة. هكذا أناس سيتوافقون آلياً وسيتمكّنون من إرساء مجتمع تقلّ فيه الخلافات أو تنعدم أساساً.
4 ـ نظرية العامل العقائدي في الاختلاف ــــــــ
وتحتل النظرية العقائدية حيزاً مهماً من بين جميع النظريات التي طرحت في مجال الخلافات الاجتماعية، حيث تعتبر هذه النظرية أن سرّ جميع النزاعات يكمن في تعدّد الاتجاهات العقائدية وتنوع الميول وكذلك التعصب الطائفي. وتقترح طريقين لإزالة هذه الخلافات:
الأول: إزالة العقائد المختلفة ونشر الدين الواحد العام.
الثاني: نبذ التعصّبات وتجنب فرض العقائد الخاصّة فرضاً على الآخرين.
هذه الحلول والأسس الكلامية والفلسفية التي طرحوها تعتبر مصدراً مهماً في ثراء هذه النظرية، إلاّ أن الخلاف الجوهري بين هذه النظرية وما سبقها من نظريات يتمثل في رؤيتها التي تنطلق من زاوية فلسفية وكلام ـ جديدية، أما أنّه كيف يكون الدين سبباً لإيجاد الخلاف أو سبباً لإزالته؟ فهذا من تبحثه فلسفة الدين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الجهة الإيجابية والسلبية للدين؛ فقال تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}.
يستطيع الدين والتعاليم الدينية أن يوجد علاقات حميمة وصلات وطيدة بين أفراد المجتمع، لكنّه بنفسه يتحول ـ أحياناً ـ إلى أكبر عامل لزرع بذور الخلاف. ويعتقد العلامة الطباطبائي أن علّة تسبيب الدين للخلاف إنّما ترجع إلى رجال الدين ومبلّغيه أنفسهم، لا إلى الدين نفسه؛ فهو يرى أن رجال الدين إنّما يتنازعون من جهة البغي والطغيان والخروج على تعاليم الدين الصحيحة. وبناءً على هذا فالخلاف ليس مقتضى الفطرة البشرية، بل يرجع إلى الخروج عن مقتضيات هذه الفطرة؛ لأن الدين فطري، والأمر الفطري الصادر من نظام الخلق لا يمكن أن يوجد أيّ تغيير أو يسبّب أيّ خلاف.
ومن الواضح أن الطباطبائي لم يبيّن إلا الخلاف المذموم الناتج عن الخروج على تعاليم الدين والبغي، وهو المشار إليه في الآية الكريمة: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}، وإلاّ فليس كل خلاف ناتجاً عن البغي والتمرّد، والطباطبائي نفسه في مقام آخر أشار إلى أن بعض الخلافات والفروقات الاجتماعية إنّما هي أمر طبيعي وعادي لابدّ منه لرقي المجتمع وتقدمه.
5 ـ نظرية عدم الكفاءة والأهلية والاختصاص، النظرية المختارة ـــــــ
وهناك نقطة دقيقة في رأي الطباطبائي، ترشدنا إلى النظرية الخامسة؛ ففي معرض دراسته لأسباب ظاهرة الخلافات أكّد أنّها اختلاف آفاق وتفاوت القوى الإنسانية؛ على أساس الآية الكريمة: {وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}(هود: 119)؛ فإن الوحدة الأولى المشار إليها في الآية كانت ناتجة عن خفاء القوى البشرية المكنونة وعدم تفتح الآفاق الإنسانية، وكلما تطوّر الإنسان تنتشر الخلافات تبعاً وبنفس النسبة، فنحن نرى أن التقدم التكنولوجي والنهضة العلمية في عصرنا الحاضر قد عمّقت الفروق وأوجدت بوناً شاسعاً فيما بين الناس أكثر من ذي قبل، لكن هذا النوع من الخلافات ليس مذموماً بل هو ضروري ولابدّ منه ولا يمكن التخلّص منه، ويمكننا أن نطلق عليه: اختلاف الآفاق البشرية، أو الفروقات التخصصية؛ بحيث إن كل متخصّص في عمل ما ينشيء علاقات اجتماعية مع الآخرين أو في نطاق العمل ترتبط بحقله العلمي؛ فقصة موسى والخضر التي أخبر عنها القرآن الكريم توضح لنا الفرق بين العلم والفهم؛ فالخضر ـ وانطلاقاً من العلم الذي يمتلكه ـ أقدم على بعض الأعمال التي جعلت موسى يعترض عليه، وكانت نتيجتها الافتراق([27])، ونلاحظ أن هذا النوع من الخلاف الذي جرّ إلى الافتراق لم يستند إلى أحد الدوافع التي بيّنت في النظريات الأربع السابقة من أخلاقية أو طبقية أو عقائدية أو نفسية، فهذا النوع الخامس من الخلاف يستند إلى العلم. وتؤكّد هذه النظرية أن الوفاق لا يمكن أن يتحقق إلا حينما تحترم المجتمعات علماءها المختصّين أو النخب، ويأخذون بآرائهم ونظرياتهم.
إن تطفل الأشخاص غير الكفوئين على المسائل المرتبطة باختصاص الآخرين هو خطوة أولى نحو الخلاف، حتى أن المتخصّصين في علمٍ ما يعتبرون أنفسهم كالتلاميذ في العلوم الأخرى. وفي قصة موسى والخضر نجد أن موسى ـ مع ما كان يحظى به من مقام شامخ في النبوة ـ صار الخضر أستاذاً له يعلّمه ما لم يكن يعلم([28]).
إنّ هذه النظريات الخمس جميعها تنظيرات إذا أردنا الحكم عليها بحكمٍ ما فيمكننا القول: يجب أن توزن وفق المقاييس العلمية وتخضع للتجربة قبل أن تقبل. وقد تحمل كل واحدة منها نصيباً من الصحة، وتحدّد علّةً واحدة من العلل التي أوجبت الخلاف، لكن الملاحظة الجديرة هنا أن البشرية ستتجاوز الخلافات الجغرافية والعرقية، بل وحتى العقائدية، وسيأخذ الخلاف شكلاً جديداً أهم من سابقه وهو الخلاف المعلوماتي والفكري. لقد رحلت النزاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي سبق ذكرها جميعها ليحلّ محلها أقطاب الخبرة العلمية والتكنولوجية. وفي كل أفق أو مجال من المجالات الإنسانية يكتب التوفيق للمتخصّصين في ذلك المجال بينما يكتب الفشل لغيرهم حتى في مجال السياسات العليا. ويحتل العلم الاستراتيجي وفنّ الإدارة الحكيمة المرتبة الأولى في مجال السياسات العليا، والذين تمكّنوا من الوصول إلى بعض المناصب الإدارية ولا يملكون اطلاعاً كافياً عليها سيكون نصيبهم الفشل دائماً، بل سيتحولون إلى سبب من الأسباب التي تثير الخلاف وتعمّقه. والسبيل الوحيد لحلّ الخلافات يتمثل في أن ينسحب غير المتخصّصين وغير الكفوئين من المجالات التي تحتاج إلى تخصّص، ليفسحوا المجال للمتمكّنين علمياً في أيّ حقل واختصاص.
بناءً على هذا يمكن تمثيل هذه العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالنظريات الخمس السالفة الذكر على النحو التالي:
النظرية الأولى: المجتمع الطبقي = الخلاف = الصراعات الطبقية.
النظرية الثانية: التوحش الطبعي والاستخدام = الخلاف = صراع المحكومين.
النظرية الثالثة: التخلّق بالأخلاق الذميمة = الخلاف = أزمات اجتماعية وأخلاقية.
النظرية الرابعة: الميل إلى حذف عقائد الآخرين = الخلاف = الصراعات الطائفية.
النظرية الخامسة: عدم مراعاة الاختصاصات = الخلاف = أزمة في فاعلية النظام السياسي والاجتماعي، وأزمة شرعية في المجال السياسي، وصراع نخب علمية مع خصومها.
وهناك علاقات متبادلة بين كل واحد من هذه المحاور الخمسة، معنى ذلك أن النظرية الأولى تذكر أن المجتمع الطبقي يؤدي إلى الخلافات، وهذه الخلافات إذا لم يسيطر عليها فإنّها ستساعد على تعميق الفواصل وتشديدها، فيما النظرية الخامسة تنصّ على أنه إن لم تراع الاختصاصات الإنسانية فإنّ ذلك سيؤدي إلى وجود الخلاف بين الأوساط العلمية وبين خصومهم المسيطرين، هذه الخلافات ستكون من العوامل التي تتسبّب في إيجاد شريحة لا تحظى بتأييد الأوساط العلمية، وهي شريحة المدّعين الكاذبين، والاصطدام بين هذه الشريحة وبين الأوساط العلمية يحمل معه الاضطراب دائماً، ونتيجة هذا حدوث أزمات جديدة تشمل الميادين الاجتماعية والسياسية.
الهوامش
(*) باحث في الحوزة والجامعة، ومشرف وكاتب في العديد من الموسوعات الإسلامية.
([1]) زهرا رهمورد، موضع كيري طبقات اجتماعي، طهران، منشورات القلم، 1357ش/1978م.
([3]) حبيب الله بيمان، حيات ومرك تمدّنها: 18، طهران، منشورات القلم، 1356.
([4]) راجع: حبيب الله بيمان، برداشتي از فلسفة تاريخ از ديدكاه قرآن؛ وله أيضاً: مالكيّت، كار وسرمايه؛ وأبو ذر ورداسي، نابيوستكي فئودالسيم در ايران.
([5]) علي أكبر، بيرامون طبقات؛ ورسول جعفريان، نقدي بر اسلام شناسي درسهامي مشهد، وهما منشوران في مجلتي: جهان نو، ونور علم؛ وانظر: علي شريعتي، زير بنا وروبنا فلسفه تاريخ.
([6]) راجع: مطهري بايه كذار نهضت نوين در بازشناسي اسلام أصيل: 99 ـ 101، نشر سازمان مجاهدين انقلاب اسلامي.
([7]) مثل فلسفة التاريخ، والمجتمع والتاريخ، والدوافع نحو المادية، ونقدٌ للماركسية.
([8]) راجع: أبو الحسن بني صدر، تضاد وتوحيد، روش شناخت بر بايه توحيد؛ وله أيضاً: مقالة: در روش، والتي تعرّض لها المرحوم مطهري بنقد مفيد في هذا المجال، طبع مع الأصل.
([9]) عبد الكريم سروش، نقد روش شناخت بر بايه توحيد، وهي مقالة ملحقة بكتاب: تحرير نو از نقدي ودر آمدي بر تضاد ديالكتيكي، طهران، ياران، 1361ش/1982م.
([10]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 11: 42 وما بعدها.
([13]) راجع: عبد الله جوادي آملي، شريعت در آينه معرفت: 401.
([16]) راجع: مرتضى مطهري، العدل الإلهي.
([17]) راجع: عبد الله جوادي آملي، مقالة: نظريه علامة طباطبائي در توحش طبعي وتمدن إنسان، الملحقة بكتابه: شريعت در آينه معرفت.
([19]) مقالة: قرآن وتنازع بقا وانتخاب اصلح، ضمن مجموعة مقالات منشورة بجهود السيد هادي خسروشاهي، ج1: 257.
([20]) ايان باربور، علم ودين: 114 ـ 119، ترجمة: بهاء الدين خرمشاهي.
([21]) مقالة: قرآن وقانون تنازع بقا وانتخاب اصلح، مصدر سابق 1: 255.
([23]) كمثال راجع: مرتضى مطهري، إنسان در قرآن: 43 ـ 58؛ ومحمد تقي مصباح اليزدي، دروس فلسفه اخلاق: 173 ـ 183، وفي النقد للعوامل المؤثرة في التاريخ نوقش بصورة متكاملة عند مطهري في كتاب فلسفه تاريخ 1: 9 وما بعدها.
([24]) راجع: مطهري، جامعه وتاريخ: 313 ـ 314، 480 ـ 481.
([25]) محمد تقي مصباح اليزدي، جامعه وتاريخ از ديدكاه قرآن: 414.
([26]) المصدر نفسه: 231 ـ 233.