أحدث المقالات

التطوّر الفقهي أنموذجاً

المقالة I.                     مقدّمة

في عصر الشيخ الطوسي، وإثر التحولات السياسية، اشتدّت الخلافات بين الشيعة والسنّة، ومن جانب آخر فإنّ هناك خلافات وقعت بين كبار علماء الشيعة نتيجة لتعارض الروايات في المجال الفقهي والكلامي والحديثي، لذلك قال المعاندون ببطلان المذهب نتيجة للخلافات الداخلية في المذهب، ونتيجة لذلك وقع الانحراف الفكري، وأعرض بعض الشيعة عن المذهب الشيعي([1]).

كما قال بعض المحققين: إنّ «الشيخ الطوسي قد هاجر إلى بغداد في ظروف كانت فيها المنازعات العلميّة والمذهبيّة على أشدّها بين السنة والشيعة، وكانت هذه المنازعات أحياناً تنجرّ إلى الخشونة نتيجة للتعصبات المذهبيّة، ومن جانب آخر فإنّ مشايخ الشيعة قد وقع بينهم الخلاف وعدم الانسجام الكامل، بحيث صارت التحقيقات العلميّة في خطر عظيم.

وقد كتب الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه (الفهرست) مذكّراً أنّ (أحمد بن الحسين) بادَرَ بتأليف كتابَين: أحدهما حول الأُصول؛ والآخر حول مصنفات الشيعة، ولكنه مات بصورة مفاجئة، وأُتلِفَت كتبه من قِبَل أقربائه»([2]).

وكتب النجاشي أيضاً في ترجمة أحمد بن محمد بن أحمد طرخان، المكنّى بأبي الحسين جرجرائي: «إنه كان شخصاً موثّقاً وصحيح السماع، ويُعدّ من أصدقائنا، وهناك شخصًٌ يُعرف بابن أبي العباس قَتَلَه؛ لأنه كان يعتقد بأنه علوي، ولا تعجبه طريقته» ([3]).

ومن ذلك كله يظهر كيف كانت الظروف المحيطة بالشيخ الطوسي، والتي كانت تهدّد كيان التشيّع من داخل وخارج الحوزة الشيعيّة؛ لانعدام الأمن والاستقرار الذي كان هو السائد آنذاك، وفي تلك الظروف وتلك الأزمات دخل الشيخ بغداد، وتبنّى بقوّة رفع التناقضات العلميّة والاجتماعيّة، وأدّى دوره الإيجابي في الوحدة بين الطرفين([4]).

ودخل الشيخ الطوسي الميدان في ذلك الوقت ببسالة وحكمة وحِنْكَة، واتّخذ طريق الاعتدال في تلك الأجواء المشحونة، وأوجد التنسيق والوحدة بين علماء الشيعة، كما سعى إلى رفع وحل التعارض في الروايات، وهكذا حفظ الشيخ الطوسي بتعقّله الشيعة من الأخطار والتهديدات.

وكان الشيخ الطوسي يعلم بمتطلبات عصره وزمانه، حيث قام بتأليف كتب قيّمة في مجالات مختلفة، وبالخصوص في مجال الفقه والحديث، فقد أحدث انعطافاً عظيماً في الفقه والاجتهاد الشيعي.

ونحن بدورنا نريد أن نسلط الضوء على تلك الفترة لتبيين دور الشيخ الطوسي في إيجاد النهضة العلمية والتحول الحيوي في الفقه والاجتهاد الشيعي، وإظهار دوره في إيجاد مَخْرَجٍ لرفع التعارض في المذهب من أجل حفظ وبيان العدالة والاعتدال فيه.

المقالة II.                   إطلالة عابرة على حياة الشيخ الطوسي

أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي عالِمٌ عَلَمٌ إسلامي معروف وفقيه لايُدانى، استحق لقب (شيخ الطائفة) بجدارة، ولد الشيخ الطوسي في شهر رمضان عام 385هـ([5])، وبعد أن أكمل دراسة المقدمات العلمية في بلده سافر عام 408هـ إلى بغداد لتكميل معلوماته([6]).

وتتلمَذَ هناك على يد الشيخ المفيد، الذي يعتبر من أكبر علماء الشيعة آنذاك، وأيضاً حضر عند بقيّة العلماء الأعلام في عصره، وبعد وفاة الشيخ المفيد عام 413هـ حضر الشيخ عند السيد المرتضى، الذي وصَلَت إليه الرئاسة الشيعية لمدة 23 سنة، حيث أكمل خلالها معلوماته وتأليفاته وتحقيقاته. وبعد وفاة السيد المرتضى عام 436هـ تربّع الشيخ الطوسي على مقام الرئاسة العلمية للشيعة.

ونتيجة للشهرة العلمية والاعتدال الذي يتحلّى به الشيخ فوّض إليه الحاكم العباسي القائم بأمر الله كرسيّ علم الكلام، وهذا الأمر يدل على الدرجة العلمية التي وصل إليها الشيخ، حيث إنّ عالماً شيعياً إيرانياً وصلَ ـ بتفويض خليفة سنّي ـ إلى أعلى مقام علمي في بغداد عاصمة العالم الإسلامي السنّي.

ونتيجة للظروف والتحولات السياسية التي عانت منها بغداد، والاضطرابات التي عانى منها الشيعة، وما آلت إليه مكتبه وحوزة الشيخ الطوسي التي هوجمت وأُحرِقَت، نتيجة كل ذلك هاجر الشيخ عام 448 أو 449هـ مجبراً إلى النجف الأشرف([7]).

وحضور الشيخ في النجف لمدة 12 عاماً كان سبباً لجلب أنظار العلماء والمحققين إليها، ولذا يعتبر الشيخ الطوسي مؤسّس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وفي عام 460هـ غادر الشيخ الطوسي هذا العالم، ودُفن في مدينة النجف([8]).

المقالة III.                دور الشيخ الطوسي في التطور العلمي لمذهب التشيع

في زمن الشيخ الطوسي كان السنة يعملون ضد الشيعة، مستخدمين أنواع الوسائل المتاحة لديهم، وأحدها الإعلام المضاد للشيعة من خلال اتّهام بأنّ علمائهم بأنهم يجتنبون طرح المسائل الأُصولية والاحتياجات العقلية في كتبهم الفقهية، وهم يكتفون بنقل الآيات وذكر الأحاديث مع سندها، لذلك استخفّ المخالفون بعلماء الشيعة وعدّوهم من السذّج([9]).

ونتيجة لنظرة الشيخ الطوسي العميقة ومعرفته بزمانه آنذاك، وللوقوف بوجه هذه الاتّهامات التي كان يوجهها المخالفون إلى مذهب التشيّع والرد على شبهاتهم، شمّر الشيخ عن ساعدَيه، ودخل مُعترك التحقيق والتأليف، وقام بتصنيف الكتب الفقهية، وكذلك التفسير، حيث أحدَثَت كتاباته انقلاباً عظيماً، وحَفظَت التراث الشيعي الضخم.

وقد كَتَبَ الشيخ في مواضيع مختلفة، كالفقه، والأُصول، والتفسير، والحديث، والكلام، والرجال، والتاريخ، والدعاء([10])، كما أنه كتب تأليفاته ضمن شرائط خاصّة؛ لأنّ هدفه كان في البداية بيان وتوضيح أكثر ما يمكن من كتبه.

ولبيان عظمة ما كتبه الشيخ الطوسي سوف نشير إجمالاً إلى بعض تأليفاته الكثيرة، فمن آثاره القيّمة كتابه (التبيان) في تفسير القرآن، حيث إنه ـ ولأول مرة ـ استفاد من الأدلة العقلية في التفسير، فأحدث تحوّلاًعظيماً في علم التفسير. كما أن الشيخ الطبرسي المفسّر الشيعي المعروف مجّدَ ومدحَ الشيخ الطوسي في كتابه([11]).

وكتب الشيخ الطوسي في علم الرجال كتابين من الكتب الأربعة الرجالية الشيعية المعروفة، وهما (الرجال)، و(الفهرست)، ورجال الكشي([12]) الذي كتبه تحت عنوان (اختيار معرفة الرجال)، وصار في متناول مَن جاء بعده([13]).

وجاء كتابه (الفهرست) رداً على أُولئك المخالفين الذين اعترضوا على الشيعة قائلين: إنّ الشيعة ليس لهم سابقة علميّة في الكتابة، فجاء الشيخ وأورد في كتابه أكثر من تسعمئة نفر من كتّاب الشيعة، وحدود ألفَي كتاب من كتب الشيعة([14])، وكذلك كتب في الفروع الأُخرى من العلوم الإسلامية، فمثلاً: ألّف في فرع الكلام تلخيص الشافي، والمفصح، والغيبة، وفي الحديث ألّف كتابَين من الكتب الأربعة للشيعة، وهما: تهذيب الأحكام والاستبصار. وفي أصول الفقه ألّف (عدّة الأُصول)، أمّا في مجال الفقه فقد ألّف ثلاثة كتب قيّمة: النهاية، والمبسوط، والخلاف([15]).

وقد حفظ الشيخ الطوسي من خلال تصنيفاته الكثيرة علوم الشيعة والأُصول الأولية الحديثيّة، حيث انتقلت إلى الأجيال التي جاءت بعده، وقد أشار الشيخ الطوسي في كتابه (الاستبصار) إلى هذه القضية([16]).

لذلك كتب البعض حول دور الشيخ الطوسي في انتقال مواريث الشيعة جيلاً بعد جيل قائلاً: «إنه ربط طبقة المتقدمين بالمتأخرين»([17])، إنّ كل كتابٍ من كتب الشيخ يحمل على عاتقه أحد احتياجات المذهب، وكل كتاب كان يؤدي خدمة جليلة للفكر الشيعي، لذا يعتبر البحث حول دور الشيخ الطوسي في التطور العلمي لمذهب التشيّع واسعاً ومتشعّباً جداً، وله أبعاد مختلفة، ونحن سوف نتناول دوره في تطوّر الفقه الشيعي فقط.

المقالة IV.               دور الشيخ الطوسي في تطور الفقه الشيعي

كان علماء الشيعة إلى ما قبل الشيخ المفيد والشيخ الطوسي يفتون وفقاً لمتون الآيات القرآنية والأحاديث، ولا يتعرضون للمباحث الأُصولية، وكانت كتبهم الفقهية فروعاً قد وردَت في الروايات فقط، ولم يكن مكانٌ للعقل والفكر والأقوال المختلفة والاحتجاجات العقلية في بحوثهم.

وهذا الأمر أدّى بالفِرَق الإسلامية الأُخرى إلى القول بسطحيّة الفكر الشيعي، وصار غَرَضاً للتجريح والانتقاد، ولم تكن هذه الطريقة مفيدة في تلبية حاجات المجتمع آنذاك.

ونتيجة لذلك لجأ الفقهاء إلى استنباط واستخراج المسائل على أساس الأُصول والقواعد من الكتاب والسنّة، ووضعوا أوّل دعائم الاجتهاد، وتعمّقوا في الفقه، ويمكن أن نشير إلى أحد السبّاقين في هذا المضمار وفي هذه المرحلة، وهو الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني، حيث ألّف كتاب (المتمسّك بحبل آل الرسول)([18])، ويعتبر العماني أول من هذّب الفقه في بداية الغيبة الكبرى، وطبّقه مع القواعد الأُصولية، وهو الذي روّج لمصطلح (الاجتهاد).

ثم جاء محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي، وهو أحد فقهاء الشيعة الأعلام، والذي وسّع حدود الاجتهاد والاستدلال في الفقه، ودَفَعَهُ إلى الإمام، ولكنّه متّّهَم بالعمل بالرأي والقياس([19]).

وكذلك ساهم الشيخ المفيد بشكل كبير في توسعة طريق الاستدلال والتعقّل في الفقه والكلام الشيعي، فصار هناك تحوّل كبير في الفقه والكلام الشيعي، وقد استلهم من أُستاذه ابن أبي عقيل العماني الطريقة الاجتهادية، حيث اتّخَذَها مثالاً، وكتبَ أول كتاب كامل وشامل في علم الأُصول، وأسماه (التذكرة بأُصول الفقه).

ثم جاء بعد الشيخ المفيد التلميذ الثاني للعماني، وهو السيد المرتضى، الذي استفاد في استنباطه للأحكام من الأدلة الأُصولية اللفظية والعقلية، لذلك لم يوافقه المحدّثون والأخباريون من الإمامية([20])، فصنّف السيد المرتضى كتابه (الذريعة إلى أُصول الشريعة)، حيث توسّع بعده علم الأُصول.

وهنا أحسّ الشيخ الطوسي الذي هو من خيرة تلاميذ الشيخ المفيد والسيد المرتضى بالحاجة إلى إحداث تحول وتغيير في الفقه والاجتهاد الشيعي، فأسّس لقضية الاجتهاد المطلق في الفقه والأُصول([21])، وله آثار قيّمة في مجال الفقه والأُصول وبيان المسائل الشرعيّة، فقد ألّف تلك الكتب، ولكلٍّ منها طريقته الخاصّة التي تتناغم ومتطلبات ذلك الزمان، حيث إنه ارتأى الوصول في كل واحد منها إلى هدفٍ معيّن، والعامِل المشترك في كل تأليفاته هو الدفاع عن حريم التشيّع.

وصنّف أول كتاب له في ذلك، وأسماه (النهاية في مجرد الفقه والفتاوى)، بالإضافة إلى الكتب السابقة، حيث كان يقوم بذكر الأحاديث أولاً، ثم بعد ذلك يتعرّض إلى ذكر الأحكام على أساس تلك الروايات.

وكان فقهاء الإمامية إلى ما قبل زمان الشيخ الطوسي يكتبون رسائل متفرقة في مبحث فقهي أو أكثر، ولم نعثر على كتابٍ جامع يشمل جميع المباحث الفقهية، وقد ألّف الشيخ الطوسي ـ ولأول مرّة ـ كتاباً يشتمل جميع المباحث الفقهية في ذلك الزمان، وأسماه (النهاية)، حيث تكلم بشكل تفصيلي على كل المباحث الفقهية([22]).

يقول الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه (المبسوط): «كنتُ عملتُ على قديم الوقت كتاب النهاية، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأُصولها من المسائل وفرّقوه في كتبهم، ورتّبتهُ ترتيب الفقه وجمع النظائر، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيَّنتُها هناك، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك»([23]).

وعلى هذا فقد حفظ الشيخ الطوسي ميراث الشيعة من خلال كتابه (النهاية)، الذي يعتبر من مُبتكَرات الشيخ، فقد قام بجمع الأحاديث الفقهية من المصنّفات الحديثيّة الأصلية، وجعلها في مكان واحد، كما أنه عمل بما اعتاد عليه المتقدمون من فقهاء الإمامية، وقال بعضهم: «كتاب النهاية له مكانة عالية جداً عند الشيعة، حتى قيل: بقي الشيعة ثمانين عاماً بعد الشيخ الطوسي بدون مجتهد، واكتفوا بكتاب النهاية، وعمل علماء الشيعة طوال هذه الفترة بفتاوى (النهاية)، ولم يجرؤ أحد أن يُفتي خلاف كتاب الشيخ»([24]).

ثم كتب الشيخ الطوسي كتابه (المبسوط)، وقد تميّز عن طريقة المجتهدين، حيث تناول البحث والتوجيه في الروايات وتفريعاتها من علم الأصول، وأظهر الفقه في الفروع والاجتهاد مقابل أهل السنة، وعندما ألّفَ كتابه (الخلاف) وسّع من خلاله الفقه الشيعي المقارن، وتعرّض للبحث والاحتجاج على أهل السنّة.

أما كتابه (الجمل والعقود في العبادات) فقد بيّن من خلاله المسائل الفقهية بعبارات موجزة، كما أنّ البعض عبّر عن هذا الأثر؛ باعتباره أول كتاب من هذا النوع، بالفقه الكلاسيكي([25]).

وبناء على ما تقدم لا يمكننا أن نعرف الرأي النهائي والواقعي للشيخ الطوسي من خلال آثاره وكتبه الفقهية؛ لأنّ كتبه كانت تحاكي ذلك الزمان الذي أُلِّفت فيه، وتعبّر عن احتياجات المذهب الشيعي في عصره.

كما أنّ بعض المستشرقين قالوا في الشيخ الطوسي: كان الشيخ الطوسي مورداً للانتقاد، وسبب الانتقاد هو اتّباعه لطريقة المجتهدين في كتابه (المبسوط)، بينما اتّبع طريقة الأخباريين في كتابه (النهاية)، حيث إنّ السيدة نلينو قد أثارت ذلك الانتقاد.

والظاهر أنّ الشيعة الإمامية حتى زمان الشيخ الطوسي كانت تتّبعِ طريقة أصحاب الروايات، وبعبارة أخرى: إنّ الشيعة كانت تعتمد في استنباط أحكامها الفقهيّة والتفسيريّة على الروايات.

السيدة نلينو سَعَت إلى إبعاد التقيّة عن طريقة الشيخ الطوسي في البحث وإسنادها إلى ابن ادريس الحلي، وقالت: إنّ اتّباع الشيخ الطوسي لهاتين الطريقَتَين في كتابَيه كان بسبب التفاوت بين هذين الكتابين؛ فأحدهما كتاب روائي؛ والآخر كتاب فتوائي.

ويجب أن يقال: إنّ الفرق بين هذين الكتابين ليس فقط في طبيعة وماهيّة المحتوى لكل منهما، بل هناك فروق أخرى، وقد فتح الشيخ الطوسي بعمله هذا باب الاجتهاد في علم الكلام عند الشيعة، وأراد أن يضع الأساس للاجتهاد الذي لا ينحرف عن الرواية([26]).

وهكذا أظهر الشيخ الطوسي من خلال آثاره وتصنيفاته الفقهية الاعتدال والشمولية والعمق الفكري، حيث تحرّك الفقه والاجتهاد الشيعي في زمانه.

وإنّ علو مرتبة الشيخ الفقهية وعظمته العلميّة بين علماء الشيعة الآخرين أدّى إلى عدم الجرأة في إبراز الآراء الأخرى والتفقّه مقابل آراء الشيخ الطوسي لفترة طويلة، بحيث لم يتجرّأ أحد أن يصدر فتوى تخالف فتاوى الشيخ الطوسي لمدّة قَرنين، حتى جاء ابن إدريس الحلّي وفتح الباب في ذلك، ونقد آراء الشيخ الطوسي وأفتى بعض الفتاوى المخالفة لفتاوى الشيخ([27]).

وهكذا تربّع الشيخ الطوسي ذلك الرجل العظيم على قمّة المذهب الشيعي، ولازال منذ ألف عام، وبقي مناراً بسبب نيّته الخالصة ومحبّته للإسلام وسعيه للدفاع عن حريم الدين، وتفانيه في حفظ كيان التشيّع.

المقالة V.                  أُسس التطوّر الفقهي عند الشيخ الطوسي

أحدَثَ الشيخ الطوسي تحوّلاً عظيماً في الفقه، من خلال أفكاره العميقة ومعرفته بزمانه وما يحتاج إليه، حيث عَمَدَ إلى تأليف الكتب الفقهية والحديثيّة، وكان مبنى الشيخ الطوسي يميل نحو استخدام الجانب العقلي إلى جانب الكتاب والسنّة، علاوة على ميله للفقه المقارن، حيث كان يجد الحلول المناسبة لرفع التعارض بين الروايات والاعتدال في معايير جرح وتعديل الروايات.

وسوف نعرض بشكل إجمالي التطور الفقهي عند الشيخ الطوسي في ما يلي:

المقالة VI.               1ـ العقل إلى جانب الكتاب والسنّة

حارب الشيخ الطوسي الجمود والقشريّة الموجودة في المذهب، وكان يعتبر الذين يتوصلون إلى فهم أُصول الدين من خلال العقل ذوي منزلة رفيعة خاصّة، وقد حرّك الفقه والاجتهاد الشيعي بشجاعة،وبذلك أدخلهُ في مرحلة جديدة، وكان الشيخ لا يجوّز التعبّد والتقليد في أُصول الدين، ويقول منتقداً أُولئك الذين لديهم جمود فكري، والذين كانوا موجودين في الأوساط الشيعيّة: «إذا سألتَ أحدهم عن التوحيد أو العدل أو الإمامة والنبوّة فبدل أن يجيبوك بالدليل العقلي يكتفون بنقل بعض الروايات ويسكتون»، فالشيخ الطوسي حاله حال أي عالم إسلامي واع ٍ يقول بوجوب الوصول إلى الأُصول والعقائد اجتهاداً من خلال البحث العلمي المباشر للوصول إليها من مظانّها([28])، وكذلك من أجل أن تتفتّح الذهنية عندهم.

وقد كتب الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه (المبسوط) يقول: «فإني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإماميّة، ويستترونه، وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة المسائل،… وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوّق النفس إلى عمل كتابٍ يشتمل على ذلك، تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل، وتضعف نيّتي أيضاً فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به؛ لأنهم ألقوا الأخبار وما رووها من صريح الألفاظ، حتى أنّ مسألة لو غُيِّر لفظها، وعُبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم، لتعجبوا منها، وقصر فهمهم عنها» ([29]).

كما يمكن أن نشاهد بوضوح اتّخاذ الشيخ الجانب العقلي في الفقه التفريعي والاجتهادي، وقد سار الشيخ الطوسي على طريق أساتذته الشيخ المفيد والسيد المرتضى في استنباط الأحكام والفروع الفقهية من الأُصول والقواعد، فألّف كتابه (عدّة الأُصول) في أُصول الفقه، يقول في مقدمة كتابه: «قبل كتاب (عدة الأُصول) ما كان هناك كتاب في أصول الفقه غير كتاب أبي عبد الله (الشيخ المفيد)، ولم يكن كتابه يفي بالغرض، ورغم أنّ السيد المرتضى قد بحث هذا العلم في تقريراته وأماليه بشكل واسع لكن لم يكن هناك كتاب بعنوان مرجع يُرجع إليه في هذا العلم رغم الأهميّة الكبرى التي يحظى بها هذا الموضوع، ورغم أنّ بيان الشريعة يبتني عليه، لذلك قمت بتأليف كتابي (عدة الأُصول) في هذا المقام »([30]).

كان فقهاء الشيعة قبل زمان الشيخ الطوسي يبحثون في المسائل التي هي أقل من المسائل الفرعيّة، ولذلك صاروا غرضاً لانتقاد فقهاء المذاهب الأُخرى.

ويشير الشيخ الطوسي في بداية كتابه (المبسوط) إلى هذه الحقيقة فيقول: إني لا أزال أسمع أنّ الفقهاء الذين ينكرون أصل الولاية يقلّلون من شأن فقه أصحابنا الإمامية ويعتبرونه لا قيمة له، ويقولون: إنّ المسائل التي تعالج الفروع قليلة عندهم..، ويضيف الشيخ القول: ولو نظروا في أخبارنا وفِقهنا لعلموا أنّ جُلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمتنا..؛ إما خصوصاً؛ أو عموماً، أو تصريحاً أو تلويحاً. من أجل ذلك قمت بتأليف هذا الكتاب ليعلموا أنّ الشيعة الإمامية يمكنهم استنباط جميع المسائل ببركة أحاديث الأئمة^، ولا حاجة لهم بإعمال القياس وأمثاله.

ويقول الشيخ أيضاً: وهذا الكتاب إذا سهل الله تعالى إتمامه يكون كتاباً لا نظير له لا في كتب أصحابنا ولا في كتب المخالفين؛ لأنيّ إلى الآن ما عرفت لأحد من الفقهاء كتاباً واحداً يشتمل على الأُصول والفروع مستوفياً عند المخالفين لمذهبنا، بل كتبهم وإن كانت كثيرة لكنها غير مجتمعة في كتاب واحد([31]).

والشيخ بكتابته (المبسوط) يكون قد ألّف أكمل كتابٍ للفقه التفريعي والاجتهادي.

وقد أظهر الشيخ في كتابه دقّة النظر، وسِعَة البصيرة، وقوّة الاستدلال، وتفقّهه، عند بحثه للتفريعات في استخراج الجزئيات من الأُصول.

قال البعض: «رغم أنّ الشيخ المفيد والسيد المرتضى، اللذين هما من أساتذة الشيخ، قد سَبَقا الشيخ في البحث في أكثر المسائل الفرعية، لكن الشيخ بلا مبالغة، هو الذي فتح باب التفريع على مصراعيه»([32]).

فعلى هذا يعتبر الشيخ الطوسي ـ بحق ـ من المدافعين عن مذهب التشيع مقابل المخالفين من أهل السنّة، ودفاعه العقلي عن ذلك على الصعيد الفقهي قد كَسَرَ العادة التقليديّة السائدة آنذاك، وتوّجَ عمله ذلك بتأليفه كتاب المبسوط الذي هو أول كتاب كامل يحتوي على المسائل الفرعيّة والاجتهاديّة للفقه الشيعي، حيث استنبط الأحكام والفروع من الأُصول، وأضفى مسحة الاعتدال والاتّزان على الفقه الشيعي، وكان يؤكّد على الكتاب والسنّة، وكذلك يستخدم الأدلّة العقليّة في الاستنباط، ونرى استخدامه للطريقتين في آثاره ومصنّفاته.

فقد سلك في كتابه (النهاية) طريقة المحدثين الشيعة، حيث كان يذكر الحديث مع سنده، أما في كتابه (المبسوط) فنراه يستخدم طريقة التفريع واستنباط الجزئيات من الأُصول.

وقد صرّح بعضهم حول هذه المسألة بالقول: «الشيخ ليس أخبارياً صرفاً، بحيث يتّخذ الخبر مبنىً لاستنباطه، ولم يقع تحت تأثير أهل الرأي، ولم يستخدم القياس في استنباطه، بل إنه يستفيد من الكتاب والسنّة في حال وجودهما، ويستخدم الدليل العقلي حيث فقدهما، فبناءً على ذلك نستطيع القول: إنه أعطى للاجتهاد علاوة على الكمال والإطلاق أعطاه الاستقلال والاعتدال أيضاً، فيمكن أن نقول: أنه أوجد دورة خاصّة كاملة للفقه»([33]).

المقالة VII.             2ـ الميل للفقه المُقارن

كان عصر الشيخ الطوسي محلاًّ لتضارب لآراء والعقائد، وكانت تتشكل اجتماعات وتجري مناظرات بين علماء الشيعة وأهل السنّة، وتُطرح فيها أيضاً آراء الشيعة وعقائدهم مقابل أهل السنّة، وهناك آثار قيّمة ومفيدة في الفقه المقارن تركَت أثرها العميق في هذا المجال، فقد كتب الشيخ المفيد كتاباً تحت عنوان (الإعلام في ما اتَّفَقَت عليه الإماميّة من الأحكام واتَّفَقَت العامّة على خلافهم)، والسيد المرتضى له أثر قيّم تحت عنوان (الانتصار)، لأجل إثبات آراء الشيعة والاستدلال المناسب بها([34]). أما الشيخ الطوسي فقد كتب (مسائل الخلاف)، حيث أكمل الطريق في علم الفقه المقارن، ووسّعه بشكل أكثر جامعيّةً وكمالاً، وأقوى استدلالاً، حيث صار مدار البحث والاحتجاج مع أهل السنّة، وكتاب الخلاف يدلّ على قوّة الاستنباط والاستدلال عند الشيخ الطوسي، وهو مؤشر على إحاطة الشيخ العلميّة بكل أقوال المذاهب الإسلامية.

حتى قال البعض: إنّ «كتاب الخلاف للشيخ الطوسي أول كتاب شامل في مجاله كُتب عند الإماميّة، بل نستطيع القول: إنه أول كتاب كُتب في مجاله بين فقهاء الإسلام، فلا يوجد له نظير بين فقهاء الإسلام، ولم يكتُب أحد في هذا المجال>.

ويمتاز هذا الكتاب عن غيره من ناحيتين:

1ـ إنه يحتوي على كل المباحث الفقهية وكل الكتب الفقهيّة.

2ـ يتعرض لآراء ونظريات كل الفقهاء في كل مسألة يطرحها، ولا تجد ذلك   في الكتب التي ألّفها أهل السنة، أي إنّها لا تحوي نظريات كل الفقهاء»([35]).

وقف الشيخ الطوسي في كتابه (الخلاف) أمام فقهاء المذاهب الأُخرى، وكان مبنى استدلاله يعتمد على الدليل الذي يحظى بقبول المذهب المخالف، وقد أشار الى هذه المسألة في مقدمة كتابه، وأنه ذَكَرَ الدلائل التي يقبلها الطرف المخالف أعم من ظاهر القرآن والسنة القطعيّة والإجماع ودليل الخطاب وغيره، ثم يضمّ إليها الحديث الواصل عن أهل البيت ^ ([36]). وسوف نشير إلى بعض النماذج حول هذه المسألة:

الشيخ الطوسي في (كتاب الطهارة) يقول حول مسح الرأس في الوضوء: «مسح جميع الرأس غير مستحب، وقال جميع الفقهاء: إنّ مسح جميعه مستحب، دليلنا أنّ استحبابه يحتاج إلى دليل شرعي، وليس في الشرع ما يدلّ عليه، وأيضاً أجمَعَت الفرقة على أنّ ذلك بدعة، فوجب نفيه»([37]).

ويقول حول مورد المسح على العمامة: المسح على العمامة لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ومالك، وقال الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق: ذلك جائز. دليلنا: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6) فأوجب المسح على الرأس، ومن مسَحَ على العمامة لم يمسح رأسه، وأيضاً إجماع الفرقة يدلّ على ذلك. ثمّ استدلّ بعدها برواية عن الامام الصادق × حول هذه المسألة([38]).

وفي مورد إيصال الماء داخل العين عند غسل الوجه في الوضوء يقول الشيخ: «إيصال الماء الى داخل العين في غسل الوجه ليس بمستحب،.وقال أصحاب الشافعي: إنه مستحب، وحُكي عن ابن عمر مثل ذلك، دليلنا أنّ الأصل براءة الذمّة، والوجوب والندب يحتاجان إلى دليل، وأيضاً قوله تعالى: {فَاغسِلُواْ وُجُوهَكُم} ولم يقل: وأعينكم، ثم أشار الشيخ في هذا المورد إلى حديث الأعرابي، وإجماع فقهاء الشيعة»([39]).

وهكذا فالشيخ الطوسي بذِكْره موارد الاختلاف بين الفقه الشيعي وفقه العامة، ذَكَرَ أدلة الشيعة ودافعَ عنها باستدلاله القوي المُقتدر مقابل أهل السنة، لهذا قال بعض المحققين حول الشيخ الطوسي: «لقد أظهر الشيخ استقلالية الفقه الشيعي مقابل الفقه السني، وبالأخص مقابل كل واحد من المذاهب المهمّة لأهل السنّة، ورغم أنّ أهل السنة لا يريدون إلى الآن الاعتراف بهذا الاستقلال، الذي سعى إليه السيد المرتضى، ولم يستطع النجاح في الوصول إليه، لكن الشيخ الطوسي نجح عملياً في إعطاء الاستقلالية للفقه الشيعي» ([40]).

المقالة VIII.          3ـ العناية الخاصّة بحل إشكالية التعارض بين النصوص

     كانت مسألة التعارض والتناقض في روايات الشيعة في القرن الرابع والخامس مسألة كلاميّة جدّية بين الشيعة وأهل السنّة، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتَقَدنا، بحيث دخلت على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ الشبهةُ، وكثير منهم رَجَعَ عن اعتقاد الحق لمّا اشتبه عليه الوجه في ذلك.

فمِن أجل ذلك كلّه كَتَبَ الشيخ الطوسي كتابه (التهذيب)؛ من أجل صيانة المذهب وحفظه، وقد ردّ الشبهات ورَفَعَ التّعارض من الروايات، وجَمَعَها، وعمل على تأويلها([41])، وقد بيّن الشيخ الغاية من تأليفه كتاب (تهذيب الأحكام)، حيث قال: «ذاكَرَني بعض الأصدقاء أيّده الله.. بأحاديث أصحابنا وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد،..حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا،.. حتى دَخَلَ على جماعة ممّن ليس له قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوب النظر ومعاني الألفاظ شبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك..، فالاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة والأحاديث المتنافية من أعظم المهمّات في الدين ومن أقرب القربات إلى الله تعالى..، وطُلب منّي أن أقوم بشرح رسالة أُستاذي الشيخ المفيد المعروفة بـ(المقنعة)، وأستَدِل بها إمّا من ظاهر القرآن أو من صريحه أو فحواه أو دليله أو معناه، وإمّا من السنّة القطعيّة، أو إجماع المسلمين، أو إجماع الإمامية.

ثم أذكرُ بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك، وأنظر في ما ورد بعد ذلك مما ينافيها ويضادّها، وأبيّن الوجه فيها، إمّا بتأويل؛ أو أذكر وجه الفساد فيها..

وطُلب منّي أيضاً مهما تمكّنْتُ من تأويل بعض الأحاديث، من غير أن أطعن في أسنادها، وأجتهد في أن أروي في معنى ما أتأوّله حديثاً آخر يتضمّن ذلك المعنى، إمّا تصريحاً أوتلويحاً>([42]). ويشتمل كتاب التهذيب على مجموعتين من الروايات: روايات متوافقة مع بعضها؛ وروايات متعارضة.

وصنّف الشيخ الطوسي كتاباً آخر بعد كتابه التهذيب، وأسماه (الاستبصار في ما اختلف من الأخبار)، وقد ذكر فيه الروايات المتعارضة فقط، ثم قام ببيان طريقة جمعها وتأويلها([43]). وقال بعض المحققين «إنّ الشيخ الطوسي دائم المراجعة للجوامع الحديثية، ويتعمّق في الكتب الفقهية، لذلك يرى دائماً أنّ الاختلاف في الفتوى يرجع إلى الاختلاف في الحديث؛ فنراه يرجع دائماً إلى تأويل وتوجيه الحديث لكي يرفع التناقض بينها»([44]).

وهكذا سعى الشيخ الطوسي في هذين الكتابَين بأقصى ما يستطيع لجمع الأحاديث المتعارضة أو تأويلها، كما ردّ أقلّ عدد ممكن من الروايات بدليل ضعفها أو تعارضها.

وتوجيهه للروايات وتأويلها قلّل من اختلاف الفتاوى عند علماء الشيعة، كما أجاب على طعون المخالفين لمذهب التشيع؛ وذلك من خلال حمل الروايات المتعارضة على التقية أو الضرورة أوماشابه ذلك.

وإنجاز الشيخ الطوسي لهذا العمل الجبّار يُعلّمُنا طريقة التأويل وجمع الروايات بطرق مختلفة، ويبيّن لنا كيفيّة فهم وتأويل الروايات وجمعها، وطريقة الاستنباط والتفقّه وبيان طريقة اجتهاده، وفَتَحَ الشيخ الطريق للأجيال القادمة في البحوث الفقهية والاجتهادية.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ الشيخ حفظ لنا ميراثاً حديثياً وفقهياً شيعياً من الضياع، من خلال ذكره للروايات المختلفة والمتعارضة وتدوينها في كتبه، فصار بذلك مادّةً أساسيّة للعلماء والفقهاء الشيعة في الأزمنة التي تَلَت زمان الشيخ الطوسي، فصار من الممكن التعمّق فيها وسَبْرِ أغوارها أكثر فأكثر، كما ويمكنهم أن يصلوا إلى فهم جديد للروايات من خلال اجتهادهم، وبذلك حفِظَ الفقه الشيعي من الضَّياع.

المقالة IX.                4ـ الاعتدال في معايير جَرح الرواية وتصحيحها

كانت ظروف الشيعة في زمان الشيخ الطوسي قاسية، حيث كان الشيعة يتعرّضون لهجوم المخالفين دائماً، وكان بين علماء الشيعة اختلاف كبير في آرائهم وفتاواهم، وقد صنّف الشيخ كتاب (التهذيب) الذي نَقَدَ به طريقة أساتذته، كما قَبِلَ الأحاديث التي ردّها أُستاذه السيد المرتضى، حيث التزم طريقة الاعتدال في التعامل مع الروايات.

وكان العلماء قبل الشيخ الطوسي يعتبرون أحد معايير قبول الرواية هو إيمان الراوي وعدالته، والعدالة تعني أن يكون الراوي مجتنباً الفسق والفجور([45])، أمّا الشيخ فقد غيّر هذا المعيار، وعمل بسيرة العقلاء، والتي يقبل على أساسها رواية الفاسق إذا كان صادقاً.

وقد بيّنَ في كتابه (عدة الأُصول) أنه «إذا ارتكب أحدٌ محرّماً في بعض أعماله، أو فَسَقَ في بعض جوارحه، لكنّه في الرواية ثقةٌ وصادق، فإنّ فِسقَه وخَطأه لا يسبب ردّ روايته، والعمل جائز بروايته؛ لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة، واعلم أنّ الفسق يمنع من أداء الشهادة للفرد، ولا يمنع من روايته»([46]).

أمّا بالنسبة إلى الأخبار المُرسلة، فإنّ الشيخ يقول بحجّية بعض الرواة حتى لو جاءت روايتهم مرسلة، مثل: ابن أبي عُمير، وصفوان بن يحيى، ودليله أنّ هؤلاء لا يروون عن غير الثقات.

ولكن بعض العلماء قالوا: إنّ هذه المسألة من اجتهادات الشيخ الطوسي، ولم نعثر لها على شاهد من كلام المتقدمين في تأييدها([47]).

علاوة على ذلك فإنّ الشيخ قليلاً ما يعتمد على جرح وتعديل الرواة في كتبه الرجالية، فلم يذكر الكثير من المعلومات عن الرواة في (الفهرست) و(الرجال)، وفي مقدّمة (الفهرست) وَعَدَ صريحاً بالتعرّض إلى جرح وتعديل الرواة والتعريف بعقائدهم المنحرفة، ولكنّه عندما يشرح أحوال الرواة لا يتعرّض إلى هذه المسألة([48]). وهذا يدلّ على أنّ هدف الشيخ الطوسي هو التقليل من النقد الموجّه لمؤلّفي الشيعة.

وفي كتابه (الرجال) قليلاً: ما يتعرض إلى توثيق أو تضعيف الرواة، وكان يحترز من التضعيف الشديد للرواة، فمثلاً: يتعرّض لذكر اسم أحد الرواة في عدّة أماكن من كتابه، ولكنّه يقول بتضعيفه في مكان واحد فقط([49])، وقال بعض المحققين حول هذه المسألة: «هذا نوعٌ من الجرح الخفيّ للرواة الشيعة الضعفاء عند الشيخ الطوسي، كي لا تتوجّه الأنظار صوبهم إذا ضَعّفَهُم بشكل مباشر»([50]).

وفي بعض الأحيان يستند الشيخ الطوسي في كتبه الحديثيّة، مثل: التهذيب والاستبصار، إلى الأخبار الضعيفة في مقام جمع وتأويل الروايات، لكنّه لا يتعرّض إلى جرح وتعديل الرواة، وهذه الطريقة التي اتّبَعَها الشيخ أثارَت حفيظَة بعض المحققين، أمثال: الشهيد الثاني في كتابه الدرائي، حيث يقول «أنا أتعجّب للشيخ الطوسي الذي يشترط في كتبه الأُصوليّة الإيمان والعدالة للراوي من أجل قبول روايته، أمّا في كتبه الحديثيّة والفقهية فإنّك تتفاجأ بالغرائب التي عنده، التي من جملتها أنّك تراه مرّة يعمل بالخبر الضعيف مطلقاً، ويُخصّص بعض الأخبار الصحيحة بذلك الخبر الضعيف، وذلك عندما تتعارض بعض الأخبار بدليل إطلاقها مع خبر ضعيف، ومرّة أُخرى تراه يُشير إلى ضعف إحدى الروايات فيردّها، ومرّة تراه يردّ خبر الواحد ولا يعمل به؛ لأنه لا يورث العلم والعمل، كما فعل أُستاذه السيد المرتضى>([51]).

ويردّ أحد المحققين على تعجّب الشهيد الثاني وبعض علماء الرجال حول سيرة الشيخ الطوسي باستناده إلى الأخبار الضعيفة، وعدم جرح وتعديل الرواة، بالقول: «أتعجّب من الشهيد الثاني وسائر علماء الفقه والرجال الذين لم يطّلعوا على مقدّمة كتاب التهذيب والاستبصار، أو أنهم لم يتدبّروا فيها لكي يتّضح لهم أنّ طريقة الشيخ كانت من أجل المصلحة، حيث إنها كانت في زمنٍ اقترح فيه رجلٌ من أهل السياسة على الشيخ الطوسي ذلك الاقتراح، وأيضاً من أجل أن يكمّ أفواه أعداء المذهب، ويصبّ الماء على نار الحرب والجدال الداخلي المُستَعِر، مثل: فتنة ابن الغضائري، وقتل أحمد بن طرخان الجرجرائي، حيث كانت عاصمة المذهب متعرّضة للخطر آنذاك»([52]).

المقالة X.                  النتيجة

أحسّ الشيخ الطوسي ـ بحنكَتِهِ ومعرفته بأُمور زمانه ـ بوجوب التغيير في جميع العلوم، وبالأخصّ الفقه الشيعي؛ لأجل الدفاع عن مذهب التشيّع.

إنّ فكرة الشيخ الطوسي في التطور الفقهي مُبتنية على: الاستفادة من العقل إلى جانب الكتاب والسنّة؛ والميل نحو الفقه المقارن؛ وإيجاد الحلول لرفع التعارض والتناقض في الروايات؛ والاعتدال في معيار الجرح والتعديل للروايات.

وقد كسر الشيخ الطوسي ذلك الجمود الذي طال الفقه من خلال كتاباته وآثاره الفقهية التي طرحها بشكل جديد يتماشى وواقع الحال.

الهوامش

(*) أستاذة مساعدة في كليّة الإلهيات والمعارف الإسلامية في جامعة طهران.

([1]) انظر: الطوسي، تهذيب الأحكام، المقدمة: 3.

([2]) الطوسي، الفهرست: 2.

([3]) النجاشي، الرجال، رقم 210.

([4]) معارف، پژوهشي در تاريخ حديث شيعة: 525.

([5]) الطوسي، التبيان، المقدمة 1: 7؛ الامالي، المقدمة.

([6]) الحلّي، خلاصة الأقوال: 148.

([7]) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم 8: 173 ـ 179، الصدر، نگاهي به آثار فقهي شيخ طوسي، المقدمة.

([8]) الطوسي، التبيان، المقدمة 1: 7 ـ 77؛ الطوسي، الأمالي، المقدمة.

([9]) الطوسي، المبسوط، المقدمة.

([10]) الطوسي، التبيان، المقدمة: 21ـ37؛ وكذلك الاستبصار، 1: المقدمة.

([11]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 7.

([12]) بعضهم نقل أن رجال الكشي اسمه (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين)، انظر: ابن شهرآشوب، معالم العلماء، رقم 679. وبعضهم عرّفه باسم (معرفة الرجال)، انظر: التستري، قاموس الرجال 1: 15.

([13]) الدواني، هزاره شيخ طوسي 1: 257.

([14]) الطوسي، الفهرست، المقدمة: 9؛ قرباني، علم الحديث ونقش آن در شناخت وتهذيب حديث: 93.

([15]) الطوسي، التبيان، المقدمة؛ الدواني، هزاره شيخ طوسي 1: 66ـ71؛ الصدر، نگاهي به آثار فقهي شيخ طوسي: 8.

([16]) الطوسي، الاستبصار 4: 305.

([17]) الخوئي، معجم رجال الحديث 1: 44.

([18]) الطوسي، الفهرست: 96؛ الخوانساري، روضات الجنّات 2: 259.

([19]) النجاشي، رجال النجاشي: 385 ـ 387؛ الدواني، هزاره شيخ طوسي 1: 382 ـ 383.

([20]) الگرجي، تاريخ الفقه والفقهاء: 145ـ149.

([21]) الطوسي، التبيان، المقدمة 12:1.

([22]) الصدر، نگاهي به آثار فقهي شيخ طوسي: 32.

([23]) الطوسي، المبسوط 2:1.

([24]) الصدر، نگاهي به آثار فقهي شيخ طوسي: 34.

([25]) الطوسي، الجمل والعقود في العبادات: 13ـ14.

([26]) الدواني، هزاره شيخ طوسي، مقالة بعنوان: الشيخ الطوسي والمستشرقون، لجورج عطّية، ترجمة: أحمد آرام 1: 266ـ267.

([27]) الطوسي، التبيان، المقدمة: 12، الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية: 93.

([28]) الدواني، هزاره شيخ طوسي 1: 356، مقالة تحت عنوان (الهامي از شيخ الطائفة)، للشهيد المطهري.

([29]) الطوسي، المبسوط 1: 1ـ2.

([30]) الطوسي، عدّة الأُصول 1: 5 ـ 10.

([31]) الطوسي، المبسوط 1: 1ـ2.

([32]) الگرجي، تاريخ الفقه والفقهاء: 181 ـ 182.

([33]) الگرجي: 181.

([34])الگرجي ، تاريخ الفقه والفقهاء: 146.

([35]) الصدر، نگاهي به آثار فقهي شيخ طوسي: 64.

([36]) الطوسي، الخلاف، المقدمة: 45 ـ 46.

([37]) الطوسي، الخلاف 83:1.

([38]) الطوسي، الخلاف 1: 85 ـ 86.

([39]) الطوسي، الخلاف 85:1.

([40]) الگرجي، تاريخ الفقه والفقهاء: 186.

([41]) الطوسي، تهذيب الأحكام 1: 2ـ3.

([42]) الطوسي، تهذيب الأحكام 1: 2ـ3، مع تلخيص المطالب.

([43]) الطوسي، الاستبصار 1: 2ـ3.

([44]) البهبودي، گزيده تهذيب: 16.

([45]) ارجع إلى: الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية: 91 و183.

([46]) الطوسي، عدّة الأُصول 382:1.

([47]) الخوئي، معجم رجال الحديث 69:1.

([48]) معارف، پژوهشي در تاريخ حديث شيعة: 445.

([49]) معارف، پژوهشي در تاريخ حديث شيعة: 448ـ449.

([50]) البهبودي، معرفة الحديث: 54 ـ 55.

([51]) الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية: 90.

([52]) البهودي، نگاهي تهذيب: 1/17.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً