تعرّض الفقه الإسلامي منذ سنواته الأولى لفقه الصراع المسلّح في الداخل الإسلامي، وذلك تحت عنوان فقه البغي، استناداً إلى الآية الشريفة، وهي قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
وقد اتخذ البحث في فقه أهل البغي محاور متعدّدة، سأطلّ على بعضها في هذه الورقة المختصرة، محيلاً إلى البحث الفقهي الخاصّ الذي قدّمته في هذا الإطار:
1ـ في ما يتعلّق بأصل جهادية مواجهة أهل البغي في الداخل الإسلامي نجد نظريةً طرحها بعض العلماء المعاصرين من فقهاء الإمامية ـ ومنهم: الشيخ محمد مهدي شمس الدين ـ وبعض المتخصّصين في فقه الجهاد عند أهل السنّة ـ من أمثال: الدكتور محمد خير هيكل ـ تتحدث عن أنّ مواجهة أهل البغي وقتالهم لا يتصل بمسألة الجهاد بالمعنى الفقهي المصطلح، أي إنّ قتال أهل البغي ليس جهاداً، وإن كان جائزاً ـ بل واجباً ـ شرعاً.
وتقوم هذه النظرية على الاعتقاد بأنّ الجهاد له أحكامه الخاصّة، مثل: ما يتعلّق بالشهيد في ساحة المعركة من حيث تغسيله وتكفينه أو دفنه في ثيابه، وأنّ هذه الأحكام قد لا تلحق شهداء معركة المواجهة مع أهل البغي في الداخل الإسلامي.
وعلى النقيض من هذه النظرية نجد اتجاهاً في الفقه الحنبلي يتحدّث عن أنّ جهاد البغي يعدّ أفضل من جهاد الكافرين؛ محتجّاً بأنّ الإمام عليّاً قد اشتغل في مدّة خلافته بقتال البغاة، دون جهاد الكفار.
وفي تقديري فإنّ كلتا النظريتين غير صحيحة؛ لأن العناصر التي تقوّم مفهوم الجهاد في سبيل الله موجودة في مجاهدة أهل البغي، ولاسيما مفهوم (القتال في سبيل الله)، الذي تختزنه الآية الكريمة هنا: {فقاتلوا…حتى تفيء إلى أمر الله}، وليس الجهاد متقوّماً ـ حتى لو سلّمنا جدلاً بعدم جريان أحكام الشهيد على الشهيد في حرب البغاة ـ بالأحكام الخاصّة بالشهيد؛ إذ لا مانع داخل فقه الجهاد من التفصيل في الأحكام بينها.
كما أنّ عدم شمول الكثير من آيات الجهاد القرآنية لحالة جهاد البغاة؛ لانصرافها إلى جهاد الكفار، لا يضرّ ـ لو سلّم ـ ببقاء مفهوم الجهاد الشرعي في جهاد البغاة؛ لكفاية آية البغي في هذا المجال، علماً أن الجهاد الدفاعي مذكورٌ في القرآن، وهو لا يختصّ بجهاد الكفار، وإن كان مورده ذلك؛ لأنّ مفهوم الدفاع مفهوم عقلائي، والآيات إنما ترشد للمرتكز العقلائي، ولا تؤسّس مفهوماً تعبدياً، والعقلاء لا يميزون في باب الدفاع بين شخص وآخر من حيث الدين، من الزاوية المبدئية، بل يرون الدفاع حقاً مشروعاً في الحالات جميعها، وإن قبلوا بعض التفاصيل الجزئية الخلافية.
كما أنه ليس من الواضح أنّ تفضيل جهاد أهل البغي على جهاد الكافرين بنحو إطلاقي؛ لأنّ سيرة الإمام علي بن أبي طالب دليلٌ صامتٌ، لا يمكن أن يمنحنا إطلاقاً في هذا المجال، مع عدم وجود نصّ شرعي يثبت الأفضليّة المطلقة. فما صدر عن أمير المؤمنين× لا يثبت المدّعى؛ من حيث إمكانيّة أن يكون بملاك أنّ الظرف لم يكن يسمح بغير ذلك، بحيث كان اختيار هذا الأمر بمثابة ترجيح للأولويات الزمنية، لا عملاً بمقتضى القاعدة الشرعية الأوّليّة في الموضوع. علماً أنّنا بحثنا مفصّلاً في محلّه (مجلّة الاجتهاد والتجديد، الأعداد: 8 ـ 12) عن شرعية الجهاد الابتدائي، وتحفَّظنا عن القول بوجود هذا الجهاد في الشريعة الإسلامية ـ خلافاً لمشهور الفقهاء ـ. فإذا أريد للإمام علي ابن أبي طالب أن يقدّم جهاد البغاة على غيرهم والحال هذه فلابدّ من إثبات وجود اعتداء من طرف الكفار في زمان خلافته على أطراف بلاد المسلمين، مع سكوته× عن ذلك، مفضِّلاً جهاد البغاة. وهو أمر يصعب تأكيده تاريخياً.
2ـ النقطة الثانية التي أجد أنّها نقطة هامة في ما يتعلق بفقه مواجهة أهل البغي في الداخل الإسلامي تتصل بتحرير هذا المفهوم من قيدين أساسيين:
القيد الأول: قيد العصمة في إمام المسلمين الذي تخرج عليه الفئة الباغية. فإنّنا لم نجد هذا القيد في كثير من الروايات، فضلاً عن الآية القرآنية الكريمة، التي هي الأصل في هذا التشريع. نعم، الخروج على الإمام المعصوم من أكبر مظاهر البغي، إلا أنّ الخروج لا يقف عند الإمام المعصوم، بل يشمل مطلق الحاكم الشرعي الذي تملك حكومتُه الشرعيةَ التامّة.
والمشكلة الأساسية تكمن في ما نلاحظه من تركيز البحث الفقهي ـ في الغالب ـ على البغي بمعنى الخروج على المعصوم، في حين أنّ هذه المسألة لا تقع إلا في حياة المعصوم وظهوره، فأيّ معنى للبحث المفصَّل عنها والمعصوم أدرى بتكليفه الشرعي، مع إهمال البحث عن فقه الخروج على الحاكم الشرعي أو خليفة المسلمين، وهي مسألة كثيرة البلوى على اختلاف نظريات المسلمين في شرعية هذا الحاكم أو ذاك.
القيد الثاني: وتحرير المفهوم منه يظلّ هو الأهم في هذا الإطار، وهو ثنائي: السلطة والمعارضة. فإننا إذا راجعنا كلمات الفقهاء المسلمين بمذاهبهم نجد أنّهم يربطون مفهوم البغي غالباً بمفهوم السلطة الشرعية، فيما العديد من الروايات الشريفة ـ مضافاً إلى الآية الكريمة نفسها ـ ليس فيها مثل هذا القيد، وإنما تشمل مطلق الصراع الداخلي بين المسلمين، سواءٌ بين جماعتين من قبيلتين أو عشيرتين أو حزبين أو تيارين سياسيين أو دولتين مسلمتين أو معارضة وسلطة شرعية. فالمهم أن يكون هناك اعتداء وظلم من فريق مسلم على فريق مسلم آخر، فيستطيع الفريق الآخر حينئذ، بل تستطيع الفئة المحايدة ـ بعد إجراء عمليات الصلح وفشلها ـ، التدخُّل لدعم المظلوم في مواجهة الظالم.
ولعلّ السبب في تماهي مفهوم جهاد أهل البغي مع ثنائي (السلطة والمعارضة) هو أنّ الذي يبدو من تضاعيف الفقه الإسلامي ومصادره القديمة أنّ التجربة العلوية شكّلت المصدر الرئيس لأحكام فقه البغاة، كما يبيّن ذلك العلامة الحلي(726هـ) في بعض كتبه (انظر: تذكرة الفقهاء 9: 392)؛ حيث اعتقد بعض الفقهاء أنّ فقه أهل البغي لا يؤخذ من الآية الكريمة، ولا من أكثر النصوص الحديثيّة الواردة في هذا الموضوع، وإنّما يعرف من سيرة الإمام علي بن أبي طالب في هذا المجال، بل قد نقل عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي(204هـ) أنّه كان يرى أنّنا لم نعرف فقه أهل البغي إلاّ من خلال سيرة الإمام علي. وهذا التفكيك يضعنا أمام صورة فقهية تكاد تتضح أكثر فأكثر، وهي أنّ لبعض الفقهاء ـ مثل: السيد الخوئي ـ اصطلاحين في أهل البغي: أحدهما: المفهوم العام للتقاتل الداخل ـ إسلامي، والمأخوذة أحكامه من الآية القرآنية الكريمة؛ وثانيهما: المفهوم الخاص للبغي، وهو الخروج على الإمام؛ وأنّ الأحكام التفصيلية التي ذكرت للحرب مع البغاة، مثل: التعامل مع جرحاهم وأسراهم وأموالهم وغنائمهم ونحو ذلك، راجع إلى البغي بالمعنى الثاني، لا الأوّل، وهذا ما جعل سيرة الإمام علي× المستند الرئيس في الفقه المدرسي لأخذ أحكام البغاة.
لكنّ بإمكاننا الأخذ بإطلاقات الآيات والروايات؛ لترتيب أحكام عامّة على البغي، مع تقييد بعض الأحكام الخاصّة ـ التي لم نجد لها مدركاً سوى سيرة الإمام علي ـ بقيود محدّدة، نقتصر فيها على القدر المتيقن من دلالة السيرة والفعل الصامت لأمير المؤمنين، كقيد المواجهة مع السلطة، وقيد كون السلطة معصومة و… وهذا غير جعل البغي مفهوماً خاصّاً من الأوّل، كما فعل جمهور الفقهاء.
هذا كلّه، فضلاً عن إمكانية التشكيك في وجود أحكام خاصّة بجرحى البغاة وأسراهم ومدبريهم، تزيد عمّا تقتضيه القواعد العامّة في التعامل مع مطلق المسلم؛ لضعف مستند النصوص الخاصّة اللفظية سنداً، على ما بحثناه مفصَّلاً في محلّه. وعلى تقدير تمييز الإمام علي× في هذا المجال فلا يعلم كونه من باب الحكم الإلهي؛ لاحتمال انطلاقه من ولايته على النفوس والأموال، انطلاقاً من حالة الصمت في أفعال المعصوم، كما قرّر في علم الأصول. فالحقُّ عدم الأخذ بهذا الحكم الخاصّ بالجرحى والأسرى والمدبرين، وفاقاً في ذلك للسيد الخوئي(1413هـ) في فتاواه (انظر: منهاج الصالحين 1: 389 ـ 390).
وهناك تحرير ثالث يمكن إضافته، لكنه ليس مقابلاً لأيّ تقييد فقهي بشكل دقيق، وإنما يواجه وعياً شعبياً موروثاً، وهو تحرير البغي من مفهوم الخصام المذهبي؛ فإنّ ربط البغي بفكرة الإمام المعصوم قد يعطي إيحاءً في الوعي الجماهيري بأنّ البغاة هم المعارضون للإمام في الثقافة الشيعية، وكل معارض للإمام لا يمكن أن يكون جزءاً من الداخل المذهبي، الأمر الذي يستدعي تلقائياً إدراجه في الآخر المذهبي، مما يوحي بأن قضية البغي قد دخلت في الثنائيات المذهبية، فعندما نقوم بتحرير مفهوم البغي من مسألتي العصمة في الإمام تارةً، والسلطة والمعارضة أخرى، كما شرحناه قبل قليل، فهذا ما سيخرج مفهوم البغي عن السياقات المذهبية، ويربطه بالسياقات الإنسانية أو الاجتماعية أو السياسية.
3ـ وإذا أخذنا مفهوم البغي وطبّقناه في ثنائي (السلطة والمعارضة) فلابدّ لنا من التمييز بين المعارضة السلمية والمعارضة المسلحة. إن عدم مبايعة الحاكم لا تعني بغياً، حتى لو كان الحاكم شرعياً، وكان عدم مبايعته غير جائز من الناحية الفقهية. والمعارضة السلمية التي تسلك السبل القانونية والشرعية في ممارسة معارضتها لا تمثل بغياً أيضاً؛ لأنّ البغي الذي تحدّثت عنه الآية القرآنية يتصل بموضوع الاقتتال، ولا يرتبط بموضوع الاختلاف أو الخلاف بنحو مطلق. فأية معارضة في الإسلام لا تنضوي تحت مفهوم البغي إلاّ إذا تحوّلت إلى معارضة سلبية مسلّحة، تواجه السلطة الشرعية بطريقة تتخطّى كلّ المعايير القانونية والقنوات الصحيحة في هذا المجال.
ومن هنا لا يحقّ للحاكم ـ حتى لو كان شرعياً في حكومته ـ أن يواجه أيّة حركة معارضة بطريقة عُنفية، ما لم تتحوّل حركة المعارضة هذه إلى حركة عُنفية، وعند ذاك فقط يكون من حقّ الحاكم أن يواجهها من منطلق ردّ البغي والظلم.
وبتعميم هذه الفكرة، بربطها بما أسلفنا الإشارة إليه آنفاً، يظهر بوضوح أن عدم الاعتقاد بإمامة الإمام المعصوم لا يمثل بغياً، بل حتى معارضته معارضة سلمية مهما وصفناه لن يكون بغياً بالمفهوم الشرعي والقانوني، فلا يصحّ الانتقال في الوعي العام من الغيرية المذهبية إلى مفهوم البغي، ولا يعني نقض أو نقد الإمام المعصوم بطريقة سلمية أن الناقد باغٍ أو ناصب، بصرف النظر عن كوننا نعذره في عدم اعتقاده أو لا نعذره، وفي أننا نصوّب مضمون ما يقول أو لا نصوّب، وهذه نقطة مهمة تصبّ في إطار رؤيتنا التحريرية لمفهوم البغي من قيود لا تتصل بمفهومه.
4ـ على خطٍّ آخر تقول النظرية المعروفة في الفقه الإسلامي ـ السنّي والشيعي ـ بأنه لابدّ في البغي أن يكون قائماً على تأويلٍ سائغ، أي على نظرية سياسية اجتهادية تعارض الحاكم في ما يقول وفي ما يسلك. ولا نجد في ما بأيدينا من أدلّة، ومن عمومات ومطلقات، أنّ هذا الشرط أساسيٌّ. فحتى لو خرجت الفئة الباغية بطريقة ظالمة، تعرف هي بظلمها، ولم تكن تملك نظريةً سياسية بديلة، أو تأويلاً اجتهادياً مبرّراً شرعاً، يظلّ من حق الحاكم أو الفئة المظلومة أن تواجه هذا البغي بالطرق التي تسمح بها الشريعة الإسلامية، وترتيب أحكام البغي على هذه الفئة. فالتأويل السائغ شكلٌ من أشكال مصاديق البغي، إلا أنه ليس الصورة الحصرية له على مستوى الواقع التطبيقي.
ولعلّ ما دفع الفقهاء إلى هذا التصوّر هو استحضار تجربة الإمام علي في أنّ معارضيه كانوا يملكون نظرية سياسية بديلة يتأولونها لتقديم وجهة نظرهم في الحياة السياسية الإسلامية. وقد أشرنا إلى أنّ السيرة العلوية بالغة الأهمية هنا، لكن لا يمكن الوقوف عندها، وتجاهل سائر العمومات والمطلقات الواردة في الكتاب والسنّة.
5ـ ولابدّ أن أشير أخيراً، في نهاية هذه المداخلة المتواضعة، إلى أنه من الضروري أن تُفتح فقهيات الصراع الإسلامي ـ الإسلامي؛ لأنّ هذه الفقهيات لم ينظّر لها منذ زمن بعيد، إما بحجّة أنّ مفهوم البغي مرتهن لعصر حضور المعصوم، أو بافتراض أنّه أسير لثنائي (السلطة والمعارضة)، مع هيمنة فكرة حقّ السلطة حتى لو كانت جائرة في ممارسة الحكم، دون أن يُسمح للمعارضة ـ حتى لو كانت محقّة ـ في أن تمارس دورها في نقد الحاكم ولو بالطريقة السلمية.
إنّ فتح الدراسات في عنوان الصراعات الإسلامية ـ الإسلامية، وتحديد الأحكام الفقهية المتصلة بهذا الموضوع، يظلّ ضرورةً لتطوير دراساتنا الجهادية والسياسية والعلائقية في ما يتصل بالداخل الإسلامي، إن شاء الله تعالى.
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) (*).
(*) نصّ الكلمة التي ألقيت في «ملتقى فقه التعايش في الشريعة الإسلامية»، في المملكة العربية السعودية (القطيف)، بتاريخ 11/2/2010م، بوصفها خلاصة للبحث الفقهي المقدَّم للملتقى، مع بعض التصرُّف والتعديل.