هل هناك مذهبٌ محصَّن من النزعة العنفيّة؟
حيدر حبّ الله(*)
ليس هناك من شكٍّ أنّ ظاهرة العنف ـ بأشكاله ـ تغزو العالم الإسلامي غزواً مبيناً، وتترك بصماتها على الحياة، وعلى العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الناس.
لقد كتب كثيرون عن هذه الظاهرة، وكفونا مؤونة الكلام في كثيرٍ من جوانبها. ولا أريد أن أتحدّث عن هذه الجوانب هنا، فالمجال لا يسَع. لكنَّني سأشير إلى موضوعٍ محدَّد جداً، يحاول الجوابَ عن السؤال التالي:
هل هناك مذهب إسلامي اليوم، أو مجتمع مذهبي إسلامي، محصَّنٌ إزاء النزعة العنفية التي تجتاح بلداننا، أم لا؟
وقبل أن أُجيب يلزمني شرح السؤال نفسه؛ حتّى لا نقع في لُبْس الكلمات. فأنا لا أتكلَّم عن العنف بين المذاهب فقط، بل يستوعب كلامي العنف داخل المذاهب الدينيّة؛ وذلك أنّ بعض المذاهب الإسلاميّة تنظر إلى ظاهرة العنف الديني المتنامي اليوم على أنها ظاهرة وُلدت من رَحِم مدرسةٍ دينيّة ومذهبيّة محدَّدة، ومن ثم فهذه الظاهرة لا معنى للحديث عن استنساخها وتكرارها في فضاءات مذاهب أو تيارات أخرى؛ لأنّ المكوِّنات والعناصر التي تشكَّلت منها هذه الظاهرة لا نجدها في سائر المذاهب أو الفضاءات الدينيّة. وهذا ما يمنحنا شعوراً بالطمأنينة بأنّ مثل هذه الظواهر لن نشاهدها في هذا المجتمع المذهبي أو ذاك.
وبدرجةٍ أعلى من الصراحة، يتمّ اليوم التعاطي مع تيارات العنف الديني على أنها تستمدّ من الفقه الحنبلي، والعقيدة السلفيّة تغذيتها التي تمنحها الدوام والبقاء. وهذا معناه أنّ الأشاعرة والإمامية والإسماعيليّة والصوفيّة والزيديّة والإباضيّة والاعتزال الجديد و… في مأمنٍ من تمدُّد هذه الظاهرة إلى داخله، كما تمدَّدت داخل المجتمع المؤمن بالخطّ السلفيّ بالمعنى العام. وأيضاً فإنّ المالكيّة والجعفريّة والحنفيّة والزيديّة والشافعيّة و… هي الأخرى في مأمنٍ من ذلك؛ لأنّ نظامها الفقهي والاجتهادي لا يشكِّل بيئةً حاضنة لهذه التوجُّهات العنفيّة الحنبليّة.
والآن بإمكاني أنْ أكرِّر السؤال: هل هناك بيئةٌ في المجتمع الإسلامي الكبير في مأمنٍ من ظهور نزعة عنفيّة فيه، تستمدّ شرعية وجودها من داخل مجتمعها وتاريخها، أم لا؟
لكي نطلّ على الموضوع نحن ملزَمون بالتمييز بين السبب والدليل، وفقاً لكلمات فلاسفة المعرفة. فالسبب هو العناصر التي دفعت لاختيار فكرةٍ معيّنة، بينما الدليل هو المقدِّمات العلميّة التي تقف مجتمعةً لتثبت فكرةً ما، أو تفرض الاقتناع بفكرةٍ ما. والسببُ غيرُ الدليل أحياناً على الأقلّ. إنّ السبب إذا تغاير مع الدليل يصبح هو العنصر الذي دفع العقل الإنساني للتنبّه للدليل نفسه، فأنت تنبَّهت للدليل بتأثير السبب أحياناً، وإنْ كنتَ لا تنتبه للسبب وأنت تشاهد الدليل.
في قضية العنف الديني المعاصر هناك أسبابٌ، وهناك أدلّة:
أما الأسباب، فكثيراً ما لا تكون لها علاقة بالدين نفسه، ولا بمنظومته الفكريّة. بل نحن نجدها في فشل سياسات الإصلاح السياسي والاقتصادي في الأنظمة العربيّة والإسلاميّة، وفي تدهور الوضع المعيشي وارتفاع نسبة الفقر، وفي ازدياد الفاصل الطبقي بين الأغنياء والفقراء حدَّ تلاشي الطبقة الوسطى، الأمر الذي ولَّد جحافل من الفقراء والعاطلين عن العمل، وفي تراجع الشعور بالأمن والاستقرار، وفي فشل السياسات التعليميّة والتربويّة للدول بما لم يقلِّل من نسبة الأمّية ولم يرفع مستوى الوعي العلمي، وفي تعاظم حجم ودور الدولة بما أدّى إلى تراجع دور كلٍّ من القطاع الخاصّ ومؤسَّسات المجتمع الديني…، وفي الإحباط العام الناتج عن فشل الدول في مدّ المواطن بالكرامة بعد سلسلة هزائم مع الغرب ومع الكيان الغاصب و…، وفي الاستبداد والقمع المتواصل من السلطات العربيّة والإسلاميّة، وتقلّص مساحات الحريّة حتّى أبعد الحدود و…
هذه هي الأسباب ـ أو بعض الأسباب ـ التي تؤدّي إلى توجُّه الشباب نحو العنف. فعندما تعيش إحباطاً شاملاً فأنت قد تكون مجبَراً على العنف؛ لردّ اعتبارك، أو لتحصيل مطالبك، وإلاّ فستموت كَمَداً في بيتك.
كانت هذه الأسباب بعينها عناصر إكراه للشباب المسلم للاندفاع نحو أيّ بيئةٍ يمكنها أن تعيد إليه الشعور بذاته، وأن تنفِّس له احتقانه وغضبه… إنّ الشباب ضائعٌ تائهٌ فَقَدَ هويَّته، وهو يبحث عن أيّ هوية تمنحه شعوراً بالأمان الداخلي والطمأنينة، حتّى لو أدَّتْ هذه الهويّة الجديدة إلى موته الشخصي.
لقد فتَّش المسلم والعربيّ عن هويّته التي ضاعت في مكانٍ ما، فأخذ يبحث عنها في القومية فلم تنفعه، وفي الشيوعية أو الاشتراكية فلم تنفعه، وفي مواطن أخرى… إنّه يريد هويّةً لا تجعله متلاشياً في هذا العالم… لهذا هو حَذِرٌ من الهويّة الغربية؛ لأنّ العولمة قد تُفنيه… فكان أنْ وجد بعض الشباب المسلم هويّته في الإسلام… عمقٌ تاريخي، وإنجازاتٌ ماضية، ومنظومةٌ كاملة، وضخٌّ روحي هائل، وشعورٌ بعلاقة ما فوق طبيعية مع الله، قد تترك أثراً على سكينته، وتهدِّئ من روعه.
وعندما دخل فضاء الإسلام بظهوره العملي الحيّ نجح في مكانٍ، وخسر في أمكنة أخرى. فقد فشلت الكثير من الحركات الإسلامية في تحقيق الطموح؛ إمّا لفشل ذاتي تارةً؛ أو لضغطٍ خارجي شديد أخرى. وذهب الكثير منها إلى التأقلم والتبيُّؤ مع المحيط، ممّا أعطى هذه الشريحة من الشباب شعوراً مضاعفاً بالإحباط… فلم يَرَ جديداً في هذه الحركات الإسلاميّة السياسية، فلم يجِدْ أمامه سوى العنف وتفريغ الشحنات السالبة الهائلة بأيّ طريقةٍ ممكنة، بعد أن عجزت الطرق الأخرى عن تفريغها… فسقط في أحضان العنف الديني بشقَّيْه: القولي؛ والعملي.
ماذا تتصوَّر أن يحصل عندما تعطي مُدْمِناً ـ مثلاً ـ حزمةً من أغراض، وفيها الكتاب والدواء والقلم واللباس والموادّ المخدِّرة؟ من الطبيعي أن يبعثر الأغراض، وتلتقط يده حبوب المخدِّر، ليُقْبِل عليها هائماً غير واعٍ.
ماذا تنتظر من عطشان أعطيتَه بيتاً مجهَّزاً مفروشاً بالأثاث الكامل وأدخلته إليه…؟! هل تعتقد أنه سيذهب لمشاهدة التلفاز أم للاستلقاء على الفراش أم سيركض نحو الماء؛ ليرفع عطشه؟!
عندما اتَّجه الشباب العربي والمسلم نحو الإسلام؛ بوصفه الأمل الأخير بالخلاص بعد يأسٍ كبير ألمَّ به، اتّجه وهو غاضبٌ على مجتمعه، يائسٌ منه غير راضٍ عنه، بل هو حاقدٌ عليه، ولديه عقدةٌ منه. هذا الضغط المتراكم أدّى إلى أنّه عندما أُلقي بين يديه الإسلام بوصفه رؤيةً ومشروعاً يمكنه أن يساعده في تفريغ احتقانه، وفي الانتقام من المحيط الفاشل الذي عانى منه، وفي إبداء تمايزه التامّ عنه…، أسرعت يده إلى كلّ عنف في التاريخ ليعيد تظهيره وإنتاجه، فظهر العنف التديُّني المعاصر، أو فلنكُنْ أكثر دقّة: كان هذا أحد العوامل المساعدة على ظهور العنف الديني المعاصر، وقد نتج عن ذلك ظهور صورةٍ جديدة للإسلام، هي الصورة العنفيّة.
إنّ هذه المفردات العنفيّة موجودةٌ في التراث والتاريخ منذ زمنٍ بعيد، وليست شيئاً جديداً. وكلُّ مطَّلع يدرك ذلك بشيءٍ أقرب إلى البداهة. لكنْ عندما تظهر هذه المفردات، ولا تُبدي معها سائر العناصر، سيبدو المشهد قاتماً. وعندما تقرأ فكراً من خلال عمليّة التقاطٍ مبرمجة لعناصر محدَّدة فيه يجمعها عنصرٌ معيّن فإنّ هذا معناه أنك اقتطعْتَ الصورة. فحالُك حال شخص يفتِّش في كتابٍ عن هَفَوات الكاتب، ثم يقدِّم لنا الكتاب على أنّه هذه الهَفَوات فقط. إنّ الصورة ستبدو مغايرةً تماماً لشخصٍ آخر قدَّم الكتاب بعناصر قوَّته وضعفه معاً.
هذه مجرَّد أمثلة. والسؤال الآن: هل هناك مذهبٌ لا يعيش أبناؤه الأسباب المتقدِّمة؟ وأيضاً هل هناك مذهبٌ لا يمكن أن نلتقط في تراثه الصور العنفيّة خاصّة؟
إذا تمكَّنا من تقليص الأسباب في جواب السؤال الأوّل فإنّ خطر السؤال الثاني سيزول؛ لأنّ العنف ـ بمعناه العامّ ـ ظاهرةٌ موجودة دائماً، إنّما الخطر في استبدادها بإدارة المجتمع. لا أريد أن أدخل في الحديث عن تاريخ المذاهب الفقهيّة والعَقْدية عند المسلمين، ولا أريد أبداً أن أساوي بينها، بل أريد أن أقول بأنّه لو توفَّرت الأسباب المشار إليها أعلاه فإنّ سائر المذاهب قد تكون عرضةً أيضاً لظهور عنفٍ ديني في بيئتها. فالتراث كبير، وفيه ـ عند الجميع ـ من كلِّ الألوان والأصناف، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومهما اختلفَتْ المستويات بين المذاهب والفرق فهي لا تؤثِّر كثيراً على قدرة الشباب المُحْبَط على التقاط العناصر (السلبية)؛ لتكبيرها وتظهيرها، بل قد ذهب كتّابٌ ومفكِّرون ومثقَّفون وناشطون كُثر في عصرنا ـ كما رأيناهم ـ ضحايا هذه الصورة المكبَّرة والمضلِّلة، وهم لا يشعرون بأنّ الصورة نفسها التي يطَّلعون عليها منقوصةٌ، وأنّ سبب نقصانها هو فضاء أنتج التقاطاً واعياً أو غير واعٍ لنَمَطٍ محدَّد من أجزاء هذه الصورة.
إنّ جميع الديانات ـ بما فيها الديانات الوضعية ـ، وجميع المذاهب والفرق الدينية، وجميع التيّارات الفكرية، تقريباً، قد مرَّتْ بمراحل عنفٍ رهيب. والتاريخ أمامنا؛ لكي نقرأ ونراجع. وليس هذا حال الإسلام وحده، بل الجميع سواءٌ في هذا. إنّما يظهر الأمر عندما يتراجع حال حَمَلَة الدِّين أنفسهم، عنَيْتُ المعتنقين له. والمسلمون اليوم في حالٍ عصيب. فمن الطبيعيّ ظهور جماعات فيهم تحاول التقاط سلبيّات التراث أو بعض مظاهره بطريقةٍ مبتورة؛ لإنتاج تديُّن عنفي مختلف، يجدون فيه تنفيساً لغضبهم من مجتمعاتهم، واحتقانهم من المحيط.
حَسَناً، ما هو المقصود بهذا كلِّه؟
المقصود التنبيه من نومة الشعور بأنّ مذهباً ما قد يكون في مأمنٍ من ظهور تيّار عنفيّ فيه، وأنّ ما تجده اليوم من عنفٍ خطابي ربما يتحوَّل لاحقاً ـ لو استمرّ الوضع بهذه الطريقة ـ إلى عنفٍ دمويّ.
وبعض الحلّ يكمن في:
أـ إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل الأوطان المسلمة.
ب ـ عدم الغرور بأنّ مذهبي أو طائفتي ليس فيها مشاكل فكريّة. فليس هناك تراثٌ متعالٍ، ولا بُدَّ من تجفيف منابع التطرُّف في التراث عبر نقد عناصره المترهِّلة من جهةٍ، وربط عناصره العنفيّة بسائر أجزائه من جهةٍ ثانية؛ كي لا نسمح بفكّ الارتباط بين عناصره، بما يوفِّر إمكانيّة تشكيل وعيٍ ديني معوجّ… وهذا يعني أنّ المفكِّر المسلم وعالم الدين والمرجع الديني والإعلام الديني معنيٌّ جدّاً بتقديم صورةٍ مختلفة عن الصورة القائمة، ليس من خلال تغييرٍ لغوي شكلي مضلِّل، وإنَّما من خلال الاعتراف بوجود مشكلةٍ في التراث الديني لمذهبه، والإقدام الجادّ على تفكيكها بجرأةٍ ووَعْي، قبل أن يأتي جيلٌ يكوِّن منها تديُّناً عنفيّاً. وهذه الخطوة يمكنني اختصارها بضرورة تفتيت البيئة التراثيّة الحاضنة للاتّجاه العنفيّ؛ كي يشعر هذا الاتّجاه ـ عندما يريد استغلال هذا التراث ـ بأنّ أمامه مشكلةً عظيمة على مستوى الشرعيّة.
ج ـ نجاح المؤسَّسة الدينية المعتدلة والتيّارات والحركات الدينيّة الوسطيّة في إرضاء رغبات الشباب الاجتماعيّة والروحيّة من جهةٍ، وتنفيس احتقانهم وغضبهم ولعنهم لواقعهم من جهةٍ ثانية… وهذا ما يحتاج إلى رؤيةٍ فكرية متنوّعة، ونهضةٍ كبيرة في هذه المؤسّسة وهذه التيارات. فكلَّما فشلت المؤسّسة الدينية والتيارات الإسلاميّة في تحقيق منجَزٍ أو في استيعاب هذه الفئات الشبابية (لا في قمعها أو مقاطعتها أو الاستهزاء بهمومها) فعلينا أن نتوقَّع من الشباب أحد طريقين:
الطريق الأول: الإلحاد أو اللادينيّة أو اللاأَدْريّة أو اللاأُباليّة إزاء الدين.
الطريق الثاني: التطرُّف الديني الذي يبلغ به الغضب أن يستبدَّ بمعرفة الدين، وهو جاهلٌ به.
إنّ هذه الوريقات هي تنبيهٌ وتحذير أجده ضروريّاً للتنبُّه لما يمكن أن نقع فيه لاحقاً، وإنْ كان قد يخالفني فيه كثيرون. وقد رأينا عند بعض المذاهب ـ وأنا مصرّ في هذه الوريقات على عدم الدخول في مفرداتٍ صريحة وواضحة؛ تحسُّباً من أيّ استفزاز ـ بذور ولادة جماعاتٍ عنفيّة صغيرة جدّاً، في فضاءٍ عنفي خطابي متنامٍ. وهذا ما ينذر بإمكان تورُّطنا في مدٍّ عنفيّ واسع، نسأل الله العافية منه، وإنْ كنتُ مقتنعاً تماماً بأنّ إمكانات ولادة تيّارٍ عنفيّ تظلّ مختلفة النسبة كثيراً بين المذاهب والمناطق والبلدان والظروف.
(*) نشر هذا البحث بوصفه كلمة تحرير للعدد المزدوج 34 ـ 35، من مجلة نصوص معاصرة في بيروت، عام 2014م.