حوار مع: د. الشيخ أحمد عابدي(*)
توصيف المشهد العقلي في الحوزات الدينية ــــــ
_ مع شكرنا وتقديرنا لإتاحتكم هذه الفرصة، فإنكم وفي إطار المسائل التي طرحت في لقاء أساتذة الحوزة العلمية في قم مع السيد القائد علي الخامنئي كنتم قد طرحتم بعض الأمور، ولهذا فأول سؤال نوجهه لكم: كيف تقيّمون حالة العلوم العقلية في الحوزة العلمية؟ وما هو مقدار التطور الحاصل في هذا المجال؟
^ أما في ما يختص بأهمية وضرورة العلوم العقلية في الحوزة العلمية في قم فقد ذكرتُ عند السيد القائد أن أهم خصائص الحوزات الشيعية ـ وخلافاً للحوزات الأخرى ـ هو الاتجاه العقلي. فمع احترامنا للعلوم النقلية فإن التفكر العقلي كان الميزة الدائمة للشيعة، ولذا فإنّ من نعرفهم من فلاسفة الشيعة وعرفائهم هم أتباع مدرسة البيت^.
وعليه فإنّ نقطة قوة الحوزات الشيعية هو الاتجاه العقلي. وقد تركت لنا مؤلفات كثيرة في العلوم العقلية، كالمنطق، والكلام، والفلسفة، والعرفان، والأخلاق، والسير والسلوك، والحكمة العملية.
ولا تنحصر العلوم العقلية بالعلوم المذكورة، بل تشمل مجالات أخرى، كالفلسفات المضافة، مثل: فلسفة الحقوق، وفلسفة الفن (فلسفة الجمال)، وفلسفة السياسة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة العلم أيضاً. وهذه المسألة هي نقطة قوة المذهب الشيعي. وعلى أية حال فإن الكثير من عظمائنا كانوا فلاسفة، في نفس الوقت الذي كانوا فيه فقهاء، وعلى رأس هؤلاء الإمام الخميني&، وكذلك كان العلامة الطباطبائي.
ولذا فإنّ أعلاماً، أمثال: صدر الدين الشيرازي، الذي كان فيلسوفاً متبهراً، كان محدثاً بارعاً ومجتهداً بكل معنى الكلمة. وهذا ما يتجلى في شرحه لأصول الكافي؛ وشيخ الإشراق هو فيلسوف إشراقي، وفي نفس الوقت فإنّ لديه كتباً في الفقه الاستدلالي؛ وكذا الحال بالنسبة إلى المحقق الداماد. وعلى أية حال فإن كبار العلماء في الحوزة العلمية، كالخواجة نصير الدين الطوسي وغيره، كانوا جامعين للعلوم. وقد كانت هذه نقطة قوة الشيعة في طول التاريخ.
وفي الوقت الحالي نحن بحاجة إلى المواجهة مع بعض النزعات الأشعرية والسلفية والتفكير الظاهري والجمود الفكري والتقدس الظاهري، وذلك يتحقق من خلال الاتجاه العقلي. وبناءً على ذلك إذا كانت وظيفة علماء الدين المواجهة مع الخرافات والأساطير فإن صاحب النزعة العقلية هو من يستطيع مواجهة الخرافات، أما الدليل النقلي وحده فلا يميِّز الخرافة عن الحقيقة.
لقد ذكرت هذه الكلمات للتأكيد على أهمية وضرورة الاشتغال بالعلوم العقلية. أما عن منزلة العلوم العقلية في الحوزة العلمية اليوم فإن تصوري أنه كما يبحث في الفلسفة عن التشكيك في الوجود، فإن الموجود المشكك له مراتب: مرتبة عليا؛ ومرتبة سفلى، إذا أردنا أن نبين منزلة العلوم العقلية في الحوزة لابد أن نقول: إنّ هذه العلوم في الحوزة في صورة مشكِّكة أيضاً. يعني إذا كنت ترى أن دراسة كتابَيْ «بداية الحكمة» و«نهاية الحكمة» هي دراسة للفلسفة في الحوزة فيقال: إن هناك الكثير من طلاب الفلسفة. إلا أنّ هذين الكتابين في الحقيقة لا يبلغان أن يكونا فهرساً لأبحاث الفلسفة؛ لأن القدماء عرّفوا الفلسفة بأنها «معرفة الإنسان نفسه». فالحقيقة أن الفلسفة تعني معرفة النفس، والحال أنّ كتابي «البداية» و«النهاية» ليس فيهما أي بحث عن معرفة النفس. فإذا اعتبرنا تلك الكتب فلسفة، وهي المرتبة الأولية والدنيا من الفلسفة، نقول: إن منزلة الفلسفة جيدة جداً في الحوزة. أما إذا اعتبرنا الفلسفة دراسة كتب، مثل: الأسفار، والحكمة المتعالية، والقبسات، فإن دراسة هكذا متون فلسفية متقنة قليلة جداً في الحوزة. وإذا أردنا تفسير الفلسفة بالنحو الذي كان يدرِّسها السيد الإمام الخميني&، والذي كان في الحقيقة درس خارج الفلسفة (المراحل العالية في دراسة الفلسفة)، وليس دراسة لمتن خاص، أو السيد الآشتياني، الذي كان يدرس الفلسفة في المدرسة الفيضية، ولم يرتبط بحثه بأي متن أصلاً، إذا اعتبرنا ذلك هو معنى الفلسفة فلابد أن نقول: إنه لا يوجد أيُّ درس فلسفة في الحوزة.
وعلى أية حال لابد أن نلاحظ الفلسفة والعلوم العقلية بصورة تشكيكية. ومرتبتها الدنيا لها في الحوزة طيف واسع، لكن مستوياتها العليا قليلة جداً. ولابد من البحث عن حلٍّ لذلك. وهذه في الحقيقة نقطة قوة الحوزة العلمية، ولا ينبغي أن تسلب منها. وكان السيد القائد قد أكّد في لقائنا معه على ضرورة الاحتفاظ بكون الحوزة العلمية في مدينة قم هي المرجع والمركز للفلسفة، أي إن الناس لابد أن يشعروا بأنهم إذا أرادوا تعلم الفلسفة فلابد أن يشدّوا الرحال إلى مدينة قم، وأن يدرسوا الفلسفة عند أهلها في قم المقدسة. ولهذا فإن مكان فلاسفة، أمثال: الفيلوسف الكبير رفيعي القزويني& خالٍ في الحوزة العلمية. وهناك ضرورة أن تحتلّ الفلسفة منزلة أفضل في الحوزة العلمية. وهناك خطوات بدأت في هذا المجال، مثل: الكثير من المؤسسات التابعة للحوزة، أو الفروع العلمية المختصة بالعلوم العقلية الموجودة في الحوزة، والتي تدرس الفلسفة، بنحو مقتضب، إلاّ أن هذه في حدّ التعرف على أبجديات الفلسفة. أي إننا إذا بحثنا عمن يبحث بعمق ويحلل ويناقش فهذا ـ للأسف ـ نادر. ولابد أن نقول: إنه لا تعصب لدينا. وإذا أراد شخص أن يعارض الفلسفة فلا اعتراض لدينا، ونتقبله، أي إنه لا تعصب لدينا للفلسفة. أما إذا أراد فرد أن ينقد شيئاً دون أن يفهمه فهذا خطأٌ في الحقيقة. يقول الملا هادي السبزواري في كتابه (الفارسي) أسرار الحكم: «المهارة (الفن) هي فهم كلام الآخرين، لا رفضه». وللأسف فإننا نشاهد بعض من ينتقد الفلسفة لا قدرة له على دراسة وتبيين المباحث الفلسفية. وهذا في الحقيقة مضرٌّ جداً، وهو مخالف للدين؛ لأن الدين يقول: «الناس أعداء ما جهلوا». وعليه فلو فهم شخص الفلسفة ونقدها فلا إشكال في ذلك. فمثلاً: كتب السيد عبد الأعلى السبزواري&، وهو من المراجع بعد السيد الخوئي، نقداً للفلسفة، أو نقداً على شرح المنظومة لا إشكال فيه، وكان جهداً علمياً قيّماً؛ لأنه درس الفلسفة وفهمها، ثم انتقدها، وهذا لا خلل فيه، أما اذا انتقد أحدٌ الفلسفةَ دون دراستها فهذا خطأٌ كبيرٌ. والبعض قد يدرس الفلسفة أو يدرِّسها إلا أنه يقوم في الحقيقة بترجمة أحد المتون الفلسفية. مثلاً: تجد بعضهم أحياناً يدرس الأسفار لكنه يترجم المتن. وهذا في الحقيقة ليس دراسة للفلسفة.
وعليه فإذا استطاع شخص أن يغلق الكتاب، ثم يحلل المتن، ويوضِّح المراد من الموضوع الفلسفي؛ أو يستطيع أن يفكِّر تفكيراً عميقاً، فهذا ما يصح تسميته بالتفكير الفلسفي. وهذه المسألة قليلة في الحوزة إلى حدٍّ ما. والحقيقة أن هناك فعاليات قد بدأت في الحوزة، إلا أنها قليلة، رغم وجود أرضية لاستعدادات كثيرة في الحوزة، لأني أتذكر أنه في بعض الأوقات لم يكن هناك شرح ٌواحدٌ للفصوص، وقد توجد بعض محافظات البلاد لا يكون فيها كتاب أسفار واحد، لكن في مدينة قم توجد الكثير من المصادر الفلسفية، ويُطبع بعضها، بالإضافة إلى المكتبات الفلسفية العديدة المنتشرة في هذه المدينة. وعلى أية حال فالأرضية مناسبة للتأمل العقلي والبحث الفلسفي، لكنها ليست بالمستوى الذي يجب أن تكون عليه الفلسفة.
كيف تزدهر العقليات في الحوزة العلمية؟ ـــــــ
_ ما هي العوامل المؤثرة في ازدهار الفلسفة وانتشارها في الحوزة العلمية؟
^ العامل الأول والنقطة الأساسية هي أننا نعتبر الفلسفة والكلام والعرفان دروساً ثانوية وغير أساسية؛ لأن المنطق مقدمة لعلم الكلام، والكلام مقدمة للفلسفة، والفلسفة مقدمة للعرفان، والعرفان أيضاً مقدمة لتهذيب النفس وللسير والسلوك. ولهذا فإننا لا نعتبر ـ في أية حال ـ تهذيب النفس والأخلاق أو السير والسلوك أمراً ثانوياً وغير أساسي. فالنقطة المهمة هنا أن نعتبر هذه العلوم علوماً أساسية، وليست ثانوية، بالمقارنة مع العلوم الأخرى، ولا نقصر الفلسفة على أصالة الوجود والتشكيك، أو الاشتراك المعنوي للوجود؛ لأن التفكير العقلي والتفكير الاستدلالي وكون الباحث ذا نزعة عقلية أمرٌ مهمٌ جداً.
العامل الثاني أن نلاحظ من هم الذين عملوا على ازدهار الفلسفة، فهؤلاء هم أعلام، أمثال: الإمام الخميني، والعلامة الطباطبائي، والشهيد المطهري، وقد كانوا ـ في الحقيقة ـ في قمة الأخلاق وتهذيب النفس، وعليه إذا أردنا الترويج للعلوم العقلية في عصرنا الحاضر فلابد أن يتصدى لتدريس الفلسفة أعلامٌ مثل: الشيخ الأنصاري الشيرازي، الذي يمثل في الحقيقة إنساناً عظيما وورعاً. وحينذاك تأخذ الفلسفة مكانتها الحقيقة. أما إذا لم يوجد الفرد المناسب لهذه المهمة، أو لم يكن لديه جناحا العقل النظري والعقل العملي ـ كما تقتضيه الفلسفة ـ، فسيكون هذا من أكبر العوامل المبعِدة للطلاب عن دراسة الفلسفة.
والعامل الآخر لازدهار الفلسفة هو أن يفهم مدرِّسو الفلسفة أبحاثها جيداً، أي أن يكون المدرس قد استوعب الفلسفة حقاً وفهمها جيداً، لا أن يتلاعب بالاصطلاحات. وأضرب لكم مثالاً: لقد كان المدرس الأفغاني يقول: «إذا كنتَ في درس وقال الأستاذ شيئاً ولم تفهمه فاطلب من الأستاذ أن يكرِّره، فإذا كرَّره ولم تفهمه اطلب منه تكراره لمرة ثالثة، فإذا بيَّنه لمرة ثانية ولم تفهمه قل لأستاذك: إنك أيضاً لم تفهم المبحث جيداً». وهذا الكلام من المدرس راقٍ. ولابُدّ أن يكون أستاذ الفلسفة هكذا، أي إنك إذا رأيت الأستاذ بيّن وكرر المبحث ثلاث مرات ولم تفهمه فهذا يدل أن الأستاذ نفسه لم يفهم المسألة.
فالفيلسوف هو الفرد الذي فهم المباحث حقاً، وبعد استيعابها قام بتدريسها، لكن إذا أراد تدريس الأبحاث الفلسفية من لم يفهمها فإن الناس والدارسين سينفرون من الفلسفة.
والعامل الآخر المؤثر في هذا الباب أن الكثير من الطلاب يرون أنهم إنما يدرسون الفلسفة لأنها مقدمة للعرفان، والحال أن درس العرفان في الحوزة قليل جداً؛ أو يرون أن بعض الأفراد يؤذون الفلاسفة ويكفرونهم ويتجاسرون عليهم، وهذا أمر لا يليق بالحوزة وطلاب العلوم الدينية؛ ففي هذه الحوزات كان هناك على الدوام أفراد متحررون. والحرية الفكرية بين طلاب العلوم الدينية وفي الحوزات العلمية لا توجد في أي مكان آخر. ويحتمل أن يكون ابن كمونة يهودياً، وقد كتب عدة مؤلفات ضد النبي الأكرم‘ في هذه الحوزات.
وبناءً على ذلك إذا أراد شخص أن يؤلِّف كتاباً فليكتب، ولا اعتراض عليه. لكن لا ينبغي أن يتجاسر على الدين، وعلى الأشخاص؛ لأن «حياة العلم بالنقد والرد». إن هذا المجال من حرية الفكر الموجود في الحوزات العلمية لا يوجد حتى في الجامعات. وأنا أعرف الآن بعض أساتذة الجامعات لا يجرؤون على طرح أفكارهم، أو طباعة كتبهم؛ لأنهم سيفصلون من الجامعات، ولذا يأتي هؤلاء الأفراد إلى الحوزة ليطرحوا أفكارهم، أي إن الحوزة لها القابلية الكبيرة على استيعاب كلامهم. وسعة الصدر هذه ضرورية جداً للحوزة. لكن البعض ـ للأسف ـ يضعّف نقاط القوة هذه ويسحقها.
العلوم العقلية ومناخات التجديد ـــــــ
_ بالنسبة لمصادر العلوم العقلية هل الاعتماد الأكبر على المراجع والمصادر القديمة أم أن هناك تجديداً وتنظيراً قد حصل في العلوم العقلية؟
^ نحن مسلمون، ونريد الدراسة في المجالات الإسلامية والتحقيق فيها. وهذا يختلف عمّن يريد دراسة الهندسة أو من ينهج منهجاً علمانياً (بعيداً عن الدين). فالذي يقول: إنه لا علاقة له بالدين يأتي من البداية ويقول: إني أبحث عن شيء جديد. لكن الفرض أننا مسلمون، ولدينا ديننا، وإذا أردنا أن نتكلم عن ديننا فلابد أن نطلع على ما جرى خلال 1400 سنة مضت، يعني أن نعرف بدقة ما قاله القرآن، وتفسيره، ونراجع كلمات العلماء خلال 1400 سنة من تاريخ الإسلام.
وبناء على ذلك إذا كان المقصود بالتجديد في العلوم العقلية التجديد من دون الالتفات إلى تاريخ الإسلام والفكر الإسلامي، من الآيات والروايات وأحاديث المعصومين^، فهذا التجديد لا قيمة له، وعدمه أفضل من وجوده. أما مَنْ يريد تجديداً ذا قيمة فلابد أن يتعرف على التراث. والحقيقة أن التجديد في هذا المجال ليس متاحاً لكل أحد، وإنما يقوم به أمثال ابن سينا، وشيخ الإشراق، وصدر المتألهين، والعلامة الطباطبائي. والواقع أن نفس الابتكار ليس ضرورياً في الوقت الراهن. والأمر المهم أن هناك مسائل أسَّس لها علماء مثل: صدر المتألهين، وابن سينا، والسهروردي، لكنهم لم يفصِّلوا الكلام فيها، فعلينا القيام بتفصيلها وتبيينها.
أضرب لكم مثلاً: لاحظوا أن صدر المتألهين لم يفصِّل الكلام في الفلسفة السياسية. وبغض النظر عن العلوم السياسية وما يتعلق بالأخلاق والمسائل الأخلاقية، هل نستطيع أن نطرح فلسفة سياسية على أساس الحكمة المتعالية أم لا؟ لقد وضّح صدر المتألهين مباني هذه المسائل، أما نفس الفلسفة السياسية، وما هي أصولها؟ وما هي مبانيها؟ فهذا ما لم يتعرض له.
لماذا أهملت الفلسفة في الحوزة العلمية؟ ــــــ
_ لماذا أهملت الفلسفة العملية في الحوزة؟ وما هو المطلوب لتقوية الحكمة العملية؟
^ أما حول العلوم التي تبحث حول تهذيب النفس فأحدها الحكمة العملية، وهي الأخلاق، والآخر هو العرفان، سواء العرفان العملي أم العرفان النظري؛ والآخر هو السير والسلوك. وعلى سبيل المثال: عندما يقول أستاذ لطلبته: عليكم بصلاة الليل، ولا تضيعوا أوقاتكم، وليكن لكم برنامجٌ منظم، وافعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، فهذا ليس درس أخلاق. هذه مواعظ وإرشادات. ولابد أن نميز بينهما. فالموعظة والإرشاد أمر حسن جداً ومطلوب، وكل إنسان يحتاج إلى الموعظة، لكن المسألة الأخرى هي بحث الأخلاق والحكمة العملية. كان في النجف 300 درس أخلاق، رغم أن عدد الطلاب لم يكن بتلك الكثرة، فإذا كان هناك 300 درس فمن المرجَّح أن يكون في كل درس اثنان أو ثلاثة طلاب، أي أن يكون للأستاذ طالبان أو ثلاثة طلاب خصوصيين، ويعمل معهم، فإذا كان درس الأخلاق بهذا النحو فإنه سيكون مفيداً في الحقيقة، ويحصل المتعلِّم منه على ثمرة. أن يفهم المتعلِّم أين تبدأ الأخلاق، وأين تنتهي، فهذا هو بالضبط جهد فلسفي.
وإذا لاحظتم فإن الذين درسوا الأخلاق أو كتبوا فيها على امتداد التاريخ هم فلاسفة. الإمام الخميني ـ مثلاً ـ كان أستاذ أخلاق، وكان فيلسوفاً أيضاً؛ والعلامة الطباطبائي كان أستاذ أخلاق، وكان فيلسوفاً؛ وكذلك الخواجة نصير الدين الطوسي كتب في الأخلاق، وهو فيلسوف؛ وابن مسكويه من كبار علماء الأخلاق، وكان من كبار فلاسفة عصره أيضاً؛ والنراقيّان (الوالد والولد) كانا فيلسوفين، أي إنكم إذا لاحظتم أكبر أساتذة الأخلاق والمؤلفين في الأخلاق تجدون أنهم كانوا فلاسفة؛ فإنها تحتاج إلى فكر منسجم. وهذه نقطة مهمة.
ولاحظوا أن الكتب الأخلاقية على امتداد التاريخ هي كتب أدبية. ومنها ـ مثلاً ـ: «گلستان سعدي» [الروضة]، فهو كتاب أدبي وكتاب أخلاقي أيضاً؛ ومنها: «كيمياي سعادت»، للغزالي، فهو كتاب أخلاق وكذلك كتاب أدبي؛ ومنها: «كتاب الأخلاق الناصرية»، للخواجة نصير الدين، فهو كذلك. كل ذلك لأن من كانت لغته فارسية، ويريد أن يتكلم بها، فلابد أن يكون فصيحاً وبليغاً، وإذا أراد أن يكتب أو يتكلم بالعربية فكذلك، وإذا لم تكن لغته، سواء في الفارسية أو العربية، جيدة لا يمكن أن يصبح أستاذاً في الأخلاق. والسبب في كون القرآن الكريم وأهل البيت^ في قمة الفصاحة والبلاغة هو هذه المسألة أيضاً. فمن يريد تهذيب النفوس لا يستطيع التأثير في الآخر إذا لم يكن كلامه فصيحاً وبليغاً. إذاً لابد أن يكون الذين لديهم أفكار فلسفية فصحاء وبلغاء، وأن تكون لغتهم الأدبية متينة، مثل: المرحوم الشيخ المشكيني، الذي كان يتحدث بفصاحة وبلاغة. وهكذا أفراد يصلحون أساتذة أخلاق. وكذلك هو حال الميرزا جواد الملكي التبريزي. وكذلك هو أبو سعيد أبو الخير، وكتب الخواجة عبد الله الأنصاري، فإن كتبهم كتب أدبية وكتب أخلاقية أيضاً. إذاً إذا أردنا لتهذيب النفس والسير والسلوك، أو الحكمة العملية والعرفان العملي، أن تستعيد مكانتها في الحوزة العلمية فلابد أن يتصدى لها أساتذة فصحاء وبلغاء، وفلاسفة متقين، وأن تكون هناك دروس أخلاق خصوصية.
نواقص في المناهج التعليمية العقلية ــــــــ
_ ما هي ميزات ونواقص المتون الدرسية في مجال العلوم العقلية في الحوزة برأيكم؟
^ إن كتابي «البداية» و«النهاية» كانا ضروريين.
وقد كتبهما العلامة الطباطبائي& لطلاب مدرسة (حقاني) قبل الثورة. والإنصاف أنهما كتابان جيدان ومفيدان جداً. لكن هناك ضرورة تقتضي أن تجدد هكذا مؤلفات. مثلاً: بعض المواضع في «البداية» هي نقد لما في «شرح المنظومة»؛ ولذا فإن الطالب المبتدئ، الذي يدرس «البداية» دون اطلاع على «شرح المنظومة»، لا يمكن أن يفهم «البداية». وكذا من يدرس الفلسفة لكي يفسِّر القرآن تفسيراً فلسفياً، أو يفهم الروايات فهماً فلسفياً، أو يأولها تأويلاً عرفانياً، حيث ترى العلامة الطباطبائي قد تعهد في «البداية» و«النهاية» أن لا يذكر حتى كلمة قرآنية واحدة. وكان غرضه& أن ينضج الطلاب عقلياً فقط؛ لأن طلاب الحوزة هم أشخاص متدينون، فعندما يُستدل له بآية قرآنية فإنه يُسلّم ويقبل بدون نقاش. وهذا الهدف من العلامة الطباطبائي كان هدفاً قيّماً (سامياً)، لكنه لا يعلِّم الطالب فهماً فلسفياً للقرآن والحديث أو العرفان. ولهذا فإني أعتقد أن على الطلاب أن يدرسوا «شرح المنظومة»، وهو أمر ضروري جداً؛ لأن الطالب إذا درس «شرح المنظومة» فإنه ـ بالإضافة إلى تقوية لغته الأدبية ـ سيفهم الفلسفة جيداً، فضلاً عن أنها تحوي بالإضافة إلى الحكمة المتعالية الحكمة المشّائية والإشراقية بينما لا يوجد في «البداية» و«النهاية» حكمة إشراق وفلسفة مشائية. وفي «شرح المنظومة» هناك مباحث عرفانية كثيرة أيضاً، بينما لا يوجد في «البداية» و«النهاية» عرفان إطلاقاً. و«في شرح المنظومة» تجد بحث الأخلاق والمعاد، وأبحاث الطبيعيات، والمنطق ومعرفة النفس، وبحث الفلكيات، وأمثالها من الأبحاث التي لا يوجد أيُّ منها في «البداية» على الإطلاق. ولهذا فإني أرى أن «البداية» و«النهاية» جيدة لدرس الحوزة وامتحاناتها، أما من يريد أن يفهم الفلسفة فلابد أن يدرس «شرح المنظومة».
والخلاصة أنه لابد من تدوين متون دراسية جديدة، لكن ما لم تكتب تلك المتون الجديدة فإن هذه المتون الموجودة جيدة جداً، ويجب أن لا يُساء الظن بها، لكن لا متن منها منزَّهٌ عن النقصان، وليست هي الهدف النهائي، ولابد من تدوين متون جديدة. وعلى أية حال فإن قلم كتاب الدرس يختلف كثيراً عن قلم كتاب المطالعة، ومتى ما كُتب أفضل من هذه فلابد من دراسة الأفضل. والحقيقة أنه ليست هناك متون أفضل من تلك الموجودة حالياً.
ترنّح الفلسفة في الحواضر العلمية ـــــــ
_ في ما يتعلق بالفلسفة المقارنة هل تقدمت الحوزة خطوات في هذا المجال؟ وهل أن تقدمها مقبول أم لا؟
^ الفلسفة المقارنة في الحوزة وبوصفها درساً ضمن دروس الحوزة لم تتقدّم. نعم، توجد في مدينة قم بعض المؤسسات يُوجد فيها قسم الفلسفة المقارنة، إلا أنها بضع وحدات لدرس الفلسفة المقارنة، وهي قليلة جداً. وطبعاً توجد في الغرب الفلسفة الوجودية والذرائعية (پراگاتزم) والفلسفة التحليلية. والتعرف على هذه الفلسفات أمرٌ مفيد جداً. وتتضح لمن يدرس تلك الفلسفات نقاط القوة في الفلسفة الإسلامية. لكن للأسف فإننا على اطلاع أن بعض المؤسسات في قم تدرِّس الأديان العالية أو الفلسفة الغربية لطلاب لم يدرسوا الفلسفة الإسلامية بعدُ. ومن الطبيعي أنّ من لم يدرس الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية والعرفان الإسلامي، ويقدم على دراسة العرفان البوذي، فإن ضرره عليه أكثر من نفعه. نعم، ينتفع من العرفان البوذي أو الفلسفة المقارنة أو الفلسفة الغربية مَنْ درس كتاب الأسفار جيداً، وفهمه. وإذا كان يتقن كتاب الشفاء، ثم شرع في الفلسفة المقارنة، فسيكون عملاً مقارناً ومفيداً، وهو مقبول في المجامع العلمية. والكتب التي دونت في الحوزة حول الفلسفة المقارنة كثيرة والحمد لله، وذات شمول، وفيها بارقة أمل لمستقبل زاهر، إن شاء الله تعالى.
_ نشكركم على إتاحة الفرصة لهذا الحوار.
_______________________
(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية، باحث خبير في علوم الحديث والنقد والعقليات، له نظريات خاصّة في فلسفة الشريعة وأصول الفقه.