أحدث المقالات
في صيف السّنة الماضية كانت لي زيارة جميلة مع صديقتي إلى بلد البوسنة والهرسك سُطِرت فيها ذكرياتٌ لا تُنسى عن هذا البلد الغني، ورُويَت خلالها حكايات حَفَرت في داخلي معانٍ و صور كثيرة لازالت باقيةً معي.
فلأروي لكم اليوم حكايةً من ذلك البلد والتي بدأت خيوطها تلتف حولنا يوماً بعد يوم حتى جرَّتنا إليها بالكامل ذات صباح.
“سربرنيتشا” كلمة أشبه بالتّعويذة كلّما أُلقِيت على أي بوسنيّ يُرى الوُجوم يُريح أطرافهُ على مُحيّاه. فكان لابد لنا من سَبر أغوار مدينة رادَفَت حروفها لوعة البوسنيّين.
تواعدنا ذات صباح مع السائق نِرمين ( إسم للذّكور في البوسنة مما أحرجَنا كثيراً معه في البداية) الذي أخذنا في حافلته مع مجموعة أخرى من السيّاح الأجانب، وقد كان وقت الرحلة طويلاً حيث أنّ المدينة تقع في العمق الصِّربي البعيد عن سراييفو.
قصة سربرنيتشا الحزينة بدأت في أيّام حرب البوسنة عندما كانت القوات الصربية تُذيق البوسنيّين المسلمين كلَّ أنواع القتل والتعذيب والاعتداء والحصار فقط لاختلاف الدين، ولاقتناص الأرض والسُّلطة بعد سقوط يوغوسلافيا الشّيوعية. فقُتِل مَن قُتِل وشُرِّد مَن شُرِّد وسَط صمتٍ دولي مقيت يَنتفض أحياناً بِحِراكٍ شَكلي من منظّمة الأمم المتّحدة لتهدئة الأوضاع ظاهرياً من خلال إرسال قوات حفظ السلام- الذين لقبوا من قبل البوسنيّين بالسَّنافر لخُوَذِهم الزَّرقاء وعدم جِدِّيتهم في احتواء الأزمة-. لكنّ الإخفاق الأكبر لهذه المنظّمة كان في “سربرنيتشا”، ففي أيام الحرب انتكس الوضع الانساني للناس في تلك المدينة وما حولها من المدن وتمّت محاصرتهم من قِبَل القوات الصربية والتي كان أغلبها من الصربيّين المتطرِّفين الملقّبين ب” الچتنيك”، وهم جماعات مسلحة متطرفة تشكِّل جزءاً أساسياً من القوات الصربية يُعرَفون بِلِحاهِم الطويلة وتطرُّفهم الديني للمسيحية الأرثوكسية وبحبِّهم للقتل بالسّكاكين والخناجر- ألا يأخذك عقلك إلى جماعة تؤدي دوراً مسرحياً شبيهاً هذه الأيام!-. وعليه قامت قوات حفظ السلام الدولية -المكونة من كتائب هولندية في تلك المنطقة- بإعلان مدينة سربرنيتشا منطقة آمنة وواقعة تحت الحماية الدولية مقابل تسليم البوسنيّين لأي سلاحٍ يملكونه. أُعلِن هذا القرار وسط بكاء البوسنيّين لشدّة فرحهم مُعتقدين أنه الخَلاص بعينه، فانتفضَت الحشود البشريّة وسلَّمَت سلاحها وبدأت بالزّحف والتّهافُت بالآلاف على هذه المدينة الصغيرة تحت أعين القوات الدولية التي ضَمَنت لهم السلام، ولكن أيُّ سلام…
أحاطت القوات الدولية باللاجئين الذين لم يكن لديهم أدنى فكرةٍ عمّا يُخَطَّط لهم، فقد حاصَرَت القوات الصربيّة المدينة ثم دخلتها بكل هدوء وعلى مرأى القوات الدولية التي لم تحرك ساكناً، فتبخرت كذبة “المنطقة الآمنة” أمام ذهول البوسنيّين. وبدأت القوات الصربيّة بعَزل الرجال والصبيان ابتداءاً مِن عمر ١٤ سنة وتحميلهم في حافلات والذهاب بهم بعيداً، في حين تم اغتصاب المئات من النساء والفتيات علناً أمام الجنود الهولنديّين وباقي الجموع أو باقتلاعهم من عائلاتهم وأخذهم بعيداً في الظّلام.
وخلال ثلاثة أيام تم تصفية وقتل أكثر من ثمانية آلاف رجل وطفل بوسنيّ في مذبحةٍ هي الأكبر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية.
وصلنا إلى سربرنيتشا..
كان الجوّ هادئاً ولكنه لم يكن هدوءاً مريحاً، بل كان هدوءاً يحكي عن جرحٍ غائر تُرى آثاره على المنازل والأشجار وحتى النسَمات.
كان بانتظارنا امرأة من أهل المدينة تدعى ” آمِرة” لتحكي لنا جوانب القصة، حيث أنها عايَشت الحدث بكل تفاصيله وهي فتاة صغيرة مع عائلتها. تقابَلنا عند المقبرة الجماعية لشهداء المذبحة والتي كانت في الحيّ الذي وقعت فيه معظم الأحداث وتكَدَّسَ فيه اللاجئين. فكان هناك مصنع البطاريات الذي حوصر فيه آلاف اللاجئين والمنازل التي جرت فيها الكثير من عمليات التعذيب والإعدام.
تفَرَّقنْا حالَ وصولنا ودون أن نشعر في زوايا المقبرة الهائلة وكأنَّ كلاًّ مِنّا يريد أن يعيش الوِحدة ولكن، معهم، شهداء سربرنيتشا.
١٢ سنة، ٥٠ سنة، ٢٤ سنة،…
محمد، عِزَّت، حسين، إبراهيم،…
أرقام وأعمار وأسماء حُفِرَت على حجارةٍ بيضاء تناثرَت على تلك الأرض، كانت مُلكا لأناسٍ يوماً ما، منهم مَن ترك أُماًّ، ومنهم مَن استودع طفلاً، ومنهم مَن سنوات عمره لم تُخَلِّف له أثراً في الدنيا غير بِضع دفاتر دراسية لا زالت أُمّه تحتضنها لتُقبِّل خطَّ يده المتعرِّج فتستذكِر دِفء فلذة كبدٍ رحلت عنها.
لم يكن بمقدوري أن أكبتَ دموعي بعدها، فمن يزور سربرنيتشا لا يَقوى على ذلك.
أخذَتْنا آمرة إلى داخل مصنع البطّاريات الذي لازال على حاله بكل ظلاميّته ورطوبته. تَسمَع صدى الأصوات وكأنّها اختلطت بصرخاتِ مَن كانوا فيه بالأمس، فكَم مِن طفلٍ قُتِل هنا وكم مِن امرأةٍ اغتُصِبَت هنا. قالت لنا آمرة أنَّ والدتها أَلبَسَت أختها ذات ال١٦ عاماً بشكلٍ تظهر فيه كسيّدة عجوز وأَمَرَتها أن تُحَدِّب ظهرها وتُغطّي وجهها حتى لا يُعتَدى عليها. لكن غيرها لم يَسلَم مِن اغتصابات جماعية علنية، وأحياناً كان الضبّاط الصِّرب يُشيرون إلى فتاة أو طفلة صغيرة فتُؤخذ ثم يتم إرجاعها وقد ذهبت مَسحة الحياة مِن وجهها دون أن تتكلَّم. كثيرٌ منهن قد اعترَفن باغتصابهن مؤخراً بسبب العار والصدمة النفسية، فقد أخبرتنا آمرة بقيام الممثلة العالمية أنجلينا جولي- مهتمة جداً بقضية البوسنة- بعمل جلسات حديث ومصارحة مع النساء وحينها اعترفت الكثيرات بتعرضهن للاغتصاب فكانت صدمة آمرة كبيرة، حيث أنَّ الكثير منهن هن صديقاتها، لكن ظلَّ الأمر سراًّ بين حناياهن لسنواتٍ وسنوات.
كلّ ذلك حدث وسربرنيتشا “منطقة آمنة”..
كلّ ذلك حدث وسربرنيتشا ” مقراًّ للخُوَذ الزرقاء”..
فكيف نُنهي هذه المعادلة! وكيف تُجاب الأرض التي غَصَّت بالجُثث أو الأم التي لا تجد مَن يُقبِّل جبينها كلَّ صباح!
سِرٌّ كبير وإخفاقٌ هائل لا زال يَحومُ حول منظمة الأمم المتحدة والذي لازال البعض يُبرِّره أو يُخفيه حتى يومنا هذا، وقد رأيت لمحة من ذلك السّلوك أثناء خروجنا من المصنع، حيث استوقف آمرة رجلاً أوروبياً فاتضح أنَّه كان جندياً هولندياً ضمن قوات حفظ السلام في سربرنيتشا ذلك اليوم. بدأ الحديث بشكل طبيعي حتى احتدَّ النِّقاش عندما تبيَّن أنّ الرجل يعيش حالة إنكارٍ غريبة، فحاول بكلِّ جهده أن يُبرِّر سبب عدم صَدِّهِم للصِّرب وعدم وقْف القتل أو الاغتصاب أو التعذيب أو أيّ فعلٍ مُستَهجَنٍ حتى وإن كان شتيمة! فَعَن أيّ سلامٍ كنتم قد أتيتم لِتَحفظوه وأنتم ترونَهم يُبيدون آلافاً وآلاف! ولماذا تَستميتون للتَّبرير إن كانت ضمائركم وعقولكم مُطمئنة! ولماذا انتحر الكثير من جنودكم بعد المذبحة! ولماذا ولماذا!
ولماذا رَسَمتَ وشماً على ذراعك بعبارة
Never forget 11-07-1995
وهو يوم المذبحة في المدينة!
في النهاية استسلم الجندي وأعطى آمرة سِراً أوراقاً بها إحداثيات أماكن دفن بعض الضحايا الذين لم تُكتَشف رفاتهم بعد والتي لا أعرف كيف حصل عليها.
عُدنا إلى سراييفو..
 وتركنا سربرنيتشا تحت وطأة ألمِها وتساؤلاتها، بأُسَرٍ لا زالت تزور القبور وترفع أيدي أطفالها للدُّعاء لمَن مات بسبب اختلاف وَصْلِه لإلهِه.
اذبَح واقتُل وشَرِّد… المسيرةُ لن تقف.. والطفل لن ينزل يده عن الدعاء.
حدث في مثل هذا اليوم 11-07-1995 مذبحة سربرنيتشا.
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً