د. الشيخ حسن آقا نظري(*)
مقدّمة
يعتبر توازن الدخل في نظرة عامة المكانة المناسبة لتوزيع الدخل أو الثروة والفرص بين أفراد جماعات المجتمع. ومن الواضح أن مفهوم المكانة المناسبة يختلف باختلاف الرؤى([1]). إلا أن أغلب النظريات تسعى إلى رفع المستوى المعيشي للطبقات الفقيرة من خلال نفقات الطبقات المرفَّهة في توزيع الدخل والثروة.
ومن هنا تسعى هذه المقالة لتقديم صورة عملية عن التعاليم الإسلامية إلى حدٍّ ما في ما يرتبط بتوزيع الدخل، من دون التوجه إلى الأسس الفلسفية للعدالة؛ ليتّضح بذلك مكانة النظام الضريبي الإسلامي في إيجاد توازن الدخل.
1ـ أسس توزيع الدخل
يمكن تلخيص أسس توزيع الدخل والثروة في الإسلام بصورة عامة بالشكل التالي:
أـ المبادلة وسيلة إيجاد الدخل والثروة.
ب ـ الحاجة.
1ـ1ـ المبادلة
وفقاً لأصل المبادلة فإن كل شخص يتقاضى بمقدار ما له من سهم في إيجاد الدخل والثروة. وتلعب المبادلة دوراً كبيراً في المفهوم الإنساني للعدالة، باعتبارها أساساً للتوزيع؛ وذلك لأن هذا الأصل يربط الجزاء بالجهد. إلا أن من الضروري الالتفات إلى أن مسار إيجاد الدخل وطرق توزيعه تختلف باختلاف الرؤى. ومن هنا فإن الحصول على الدخل في الإسلام يحدّ بحدود شرعية وقانونية. وكما هو الحال في عالم اليوم أيضاً إنما يمكن قبول نتيجة المبادلة إذا كانت ضمن إطار القوانين المقررة. وقد تم البحث عن الدخل غير المشروع في المكاسب المحرمة في الفقه الإسلامي([2]).
كما أن منع الربا والاحتكار والإجحاف في القيمة و… يؤدي إلى أن يفقد المستثمر ـ باعتباره أهمّ عامل في التمايز ـ في كسب الدخل تفوُّقه إلى حدٍّ ما في أسواق النظام الرأسمالي.
إن كسب الدخل يحدّ أيضاً بعناوين حكومية، من قبيل: (مصلحة النظام الإسلامي والمسلمين)، وعناوين ثانوية، كـ (قاعدة لا ضرر). وهكذا الأمر بالنسبة إلى نظام كسب السهم وفقاً للقوانين الإسلامية (العقود الإسلامية، مثل: المضاربة، الشركة و…)، فإنه يلحظ هو الآخر حدوداً لكسب الدخل([3])، كما يحدّ توزيع الدخل والثروة بقوانين الحقوق الشرعية (الزكاة والخمس و…)، والإرث.
ومن الجدير بالذكر أن أصل المبادلة ذو جدوى لأغلب أفراد المجتمع، سوى الأطفال والعاجزين. ومن الممكن قبول نتائجه في صورة رعاية الأحكام الشرعية والقانونية. فكما يؤكد الإسلام على حفظ كرامة الإنسان يؤكد على حفظ أمواله، ولا يسمح بالتعرض لها.
1ـ 2ـ الحاجة أساس آخر للتوزيع
وفقاً لهذا الأصل فإن بإمكان كل فرد أن يتمتع بالدخل والثروة في المجتمع بما يتناسب وحاجته. وينقسم المحتاجون عموماً إلى قسمين:
الأول: ويشمل المعاقين، والشيوخ، والصغار الذين لا وليّ لهم، والمرضى الذين لا يتسنّى لهم الحصول على الدخل بشكل من الأشكال.
الثاني: مَنْ لا يمكنهم تلبية حاجاتهم رغم وجود مصدر دخل لديهم.
كما تنقسم الاحتياجات بصورة عامة إلى ثلاثة أقسام: الضروريات، والحاجات، والكماليات.
وتشمل الضروريات كل ما لا تقوم مصالح الدين والدنيا إلا بها، فلو فقدت لاختل نظام المجتمع. وتدعى الحاجيات الحياتية أيضاً([4]).
وتتضمّن الحاجات ما يحتاج إليه الإنسان للتوسعة في حياته.
وأما الكماليات فتضمّ الحاجات التي يمكن التعبير عنها بـ (البضائع) و(الخدمات الجمالية).
والسؤال الذي يتبادر هو: ما هو مستوى الحاجات الذي يعدّ معياراً لتوزيع الدخل؟ ومن الضروري هنا التفكيك بين واجبات الأفراد والدولة الإسلامية، وكذلك بين المطلوب من الأفراد على نحو الوجوب أو الاستحباب تجاه الفقراء.
إن إحدى تعاليم الحقوق الإسلامية ضمان الفقراء اجتماعياً؛ لأن الإسلام كدين شامل وواقعي يعدّ الفقر من أهم موانع بسط القيم الإلهية، ومنها: الكرامة الإنسانية.
2ـ الضمان الاجتماعي
يعتمد الضمان الاجتماعي على أصلين، هما: أصل التكافل العامّ، ويعني مسؤولية الأفراد بعضهم إزاء بعض؛ وأصل مشاركة الأفراد في الدخل الحكومي. وكلّ واحد من هذين الأصلين يتَّسم بملاحظات خاصّة، من حيث نوع الحاجات التي لابدّ أن توفر اعتماداً عليهما، وتعيين الحد الأدنى للقمة العيش.
2ـ 1ـ التكافل العام
تدلّ الآيات والروايات على أن المسلمين مسؤولون مقابل المحتاجين ونظرائهم في الخلق، ولا سيما إخوانهم في الدين، على مستويي الوجوب والاستحباب، وذلك من قبيل:
1ـ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34).
إن هذه الآية تدل على وجوب الإنفاق. ولئن حصر أغلب المفسِّرين الإنفاق في الآية بالزكاة الواجبة فإن العلامة الطباطبائي يعتقد بأن المقصود من الإنفاق فيها لا يقتصر على الزكاة، وإنما يعمّ متطلبات المجتمع الضرورية، كالجهاد، والدفاع، وحفظ الأرواح من الهلكة، وأمثالها([5]).
2ـ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾ (الماعون: 1 ـ 3).
3ـ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ﴾ (المدثر: 41 ـ 34).
4ـ ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ العَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾ (الحاقة: 30 ـ 34).
ويستفاد من هذه الآيات أن إطعام المسكين من الواجبات. وليس المقصود من الطعام نفس الطعام، وإنما باعتباره عنواناً لضرورات الأفراد المحتاجين. وهو من قبيل ما يقال: أنا بحاجة إلى رغيف الليل، والمقصود بيان شدّة احتياج الفرد.
وفي صحيح سماعة قال: «سألت أبا عبد الله×: قوم عندهم فضول، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس تسعهم الزكاة، أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم، فإن الزمان شديد؟ فقال×: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحقّ على المسلمين الاجتهاد فيه، والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل الحاجة، والعطف منكم، تكونون على ما أمر الله فيهم، رحماء بينكم متراحمين»([6]).
والمقصود من الحاجة هنا الحاجة الشديدة (الضروريات)؛ لأن رفع الحاجات غير الضرورية لا يعدّ وظيفة اجتماعية عامّة.
ويعتبر صاحب الجواهر دفع حاجات مَنْ لا يمكنهم توفير لقمة العيش واجباً كفائياً، وخصوصاً بالنسبة إلى مَنْ كانت أنفسهم في خطر، فإن حفظ أنفسهم كنفس محترمة أمر ضروري. ومن هنا يبين عدم وجود حاجة لدليل خاص، غير دليل ضرورة حفظ النفس المحترمة([7]).
كما أن من الواجبات في الفقه الإسلامي على الإنسان المسلم نفقة أقربائه، من قبيل: الأب، والأم، والأجداد، والأولاد والأحفاد، وإن كان الوجوب مشروطاً بقدرة الفرد وحاجة الطرف الآخر، بحيث لا يملك نفقة حياته في ذلك الوقت([8]). وهكذا تجب هذه النفقة إذا زاد عن نفقة الشخص وزوجته. ومقدار هذه النفقة طعام اليوم والليلة، والثياب المناسبة، وجميع أدوات وأثاث البيت اللازمة. ولم يحدَّد الحدّ الأدنى للنفقة الواجبة على الأقرباء، وإنما يجب أن يكون الطعام والملبس والمسكن بما يناسب شأنه والزمان والمكان وبالمقدار الكافي([9]).
نعم، يستحب الإنفاق على بقية الأقرباء. وقد تمّ التأكيد عليهم بشكل أكبر بالقياس إلى غيرهم. وهناك آيات وروايات كثيرة ترغِّب المؤمنين في الإنفاق والمواساة والمساواة.
قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ (النساء: 36).
وقال: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10).
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم…﴾ (البقرة: 254).
وقال: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ﴾ (المعارج: 23 ـ 24).
وقال الإمام علي×: «أمسك المال بقدر ضرورتك، وقدّم الفضل ليوم حاجتك».
ويقول أبو المأمون الحارثي: قلت لأبي عبد الله×: «ما حق المؤمنين على المؤمن؟ قال:…والمواساة له في ماله»([10]).
ويقول النبي|: «يا عليّ، سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك؛ ومواساة الأخ في الله؛ وذكر الله على كل حال»([11]).
ويقول الإمام الصادق×: «فليعطه ما يأكل ويشرب ويحجّ ويتزوّج ويتصدّق و…»([12]).
ويتضح من خلال ما جاء في الآيات والروايات من تعبيرات أن الأحكام المرتبطة بالكفاية تنشأ من علاقة الأخوة، والعضوية في المجتمع البشري الصالح. وهو ميدان آخر لإيجاد روح التعاون والمحبة في المجتمع الإسلامي، ليزيد المؤمنون في إيمانهم من خلال سلوك هذا الطريق.
ومن الطبيعي أن الإسلام قد أوجب التكافل العام على نحو الوجوب الكفائي؛ لضمان ضروريات حياة الفقراء. ومن البديهي أن الدولة الإسلامية؛ بما أنها الضامن لتطبيق التعاليم الإسلامية على القادرين من أبناء المجتمع، عليها إلزام توفير هذا المستوى من المعيشة. وعلى هذا الأساس فهي تفرض على مَنْ يتملَّصون من الواجبات الشرعية والتكاليف الإلهية اتّباع القانون. فهي كما تعبّئ المسلمين للجهاد تفرض على الأغنياء القيام بالضمان الاجتماعي للمعوزين([13]).
ومن الجدير بالذكر أن المؤمنين يتحملون القسط الأكبر من نفقات رفع الفقر في المجتمع الإسلامي؛ ليقوموا، وانطلاقاً من روح الإيمان والأخوة، بالسعي لتأمين الحياة الكريمة والمتعارفة لنظرائهم في الخلق، ولا سيما أقربائهم وجيرانهم، كما تدل على ذلك سيرة المسلمين.
ومن الواضح أن على الدولة الإسلامية رسم السياسات والتطبيقات للتفكير بحلول لإيجاد أرضية الإنفاق والصدقات والخيرات في المجتمع. فمثلاً: ينبغي أن تنظِّم قوانين الضرائب بحيث لا تمنع عن أعمال الخير، بل تؤدي إلى زيادتها.
2ـ 2ـ مسؤولية الدولة الإسلامية
إن الدولة الإسلامية ملزمة بتوفير حياة مناسبة للأفراد، بالإضافة إلى الإشراف وضمان تطبيق الأصل الأول (التكافل العامّ)، كما أنها مسؤولة بشكل مباشر وفقاً للأصل الثاني، أي مشاركة المجتمع في مصادر الثروة (دخل الدولة) وضمان الإعالة.
تكون إعالة الفرد بتوفير أدوات ومتطلبات حياته بمقدار الكفاية. والكفاية من المفاهيم المرنة، التي تتغير بحسب درجة الرفاهية العامة.
وعليه فإن على الدولة توفير الحاجيات الأساسية والعامة في ما يرتبط بالمطعم والمسكن والملبس. وينبغي أن يكون إشباع هذه الحاجات كافياً ولائقاً، من حيث الكمية، والكيفية.
ومن الممكن أن يشمل الحاجات غير الأساسية، والتي توجد في ظل أعلى المستويات الحياتية.
إن في الإسلام قوانين كثيرة تدلّ على مسؤولية الدولة وحدودها. ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر يوضِّح فيه حقوق الإمام وواجباته يقول×: «وهو وارث مَنْ لا وارث له، يعول مَنْ لا حيلة له»([14]).
وتعتبر الزكاة أحد مصادر بيت المال. والمقدار المسموح بدفعه منه إنما هو حدّ الغنى كما ذكر([15]). ويجيز الفقهاء صرف الزكاة في توفير المنزل، والخادم، ووسيلة النقل الضرورية، بما يتناسب وشأنه الاجتماعي، وكذلك الملبس المناسب، من حيث الفصل والسفر، وحتى ما كان للزينة([16]). إذاً فالحاجة هي من المعايير في توزيع الدخل في الإسلام إلى حدّ الكفاف، وتوفير مستوى المعيشة المتعارفة. ومن هنا فإن الفقراء الذين لا يتمتعون بمستوى من الحياة الكريمة ـ مهما كان السبب ـ هم شركاء في مصادر الثروة، ويجب أن يستفيدوا من سهمهم، من دون ملاحظة مقدار مشاركتهم في الدخل الوطني.
ومن الممكن الآن تحديد التوزيع المطلوب للدخل والثروة من منظار الاقتصاد الإسلامي.
إن جميع مَنْ كان لهم مشاركة في أمر الإنتاج بالمعنى العام في إطار القوانين الإسلامية لهم حقّ التمتُّع بنتائج مبادلاتهم، وذلك وفقاً للمعيار الأول، أي المبادلة. كما أن الأفراد الذين ليس لهم سهم في المبادلات المذكورة؛ بسبب فقدان عوامل الإنتاج (المعدمون والشيوخ)، أو الذين يشاركون في المبادلات، ولكن حاصل عملهم لا يكفيهم، فإنهم شركاء في نتائج المبادلات، وذلك وفقاً للمعيار الثاني، أي الحاجة.
وعليه يمكن ادّعاء أن توزيع المصادر الأولية عادل، وعمل الاقتصاد سالم، في ظروف تتحكم فيها الحالة الإسلامية.
إن التعريف العملي للعدالة الاقتصادية هو أن يكون جميع الأفراد في مثل ذلك المجتمع في مستوى حياتية متوازنة، رغم أن اختلاف دخلهم وثروتهم أمر طبيعي.
ولكن ينبغي أن لا يكون تراكم الثروة بيد الأغنياء، بحيث يتداول المال بينهم فقط([17]).
إن هذا يمكن أن يكون معياراً للتمايز، إلا أن تحديد المستوى الجائز لتمركز دوران النقد بين الأثرياء أمر صعب جداً. ومن هنا، وبدلاً من المعيار المذكور، نضع الأصل التالي: «إذا كانت آثار سياستين اقتصاديتين متشابهة فمن الضروروي ترجيح تلك السياسة التي تقلِّل تمركز الدخل والثروة».
إن لهذا الأصل انعكاسات عملية كثيرة للسياسة الاقتصادية، ومنها: إنه عندما يتم تدوين سياسة لإيجاد الدخل لابدّ أن تكون الأهمية أقلّ لزيادة دخل تلك المجموعة من المواطنين الذين يتجاوز دخلهم الأساسي حدّ المتوسط العام في المجتمع([18]).
ومن الجدير بالذكر أن مستوى الدخل والثروة سيكون عرضة للتغيير؛ بسبب تأثير الاقتصاد العالمي على الاقتصاد الداخلي.
إن الأحكام الأوّلية للمبادلات وحقوق المالكية و… لا يمكنها توفير المستوى المتوازن للثروة والدخل في الظروف غير الطبيعية أيضاً. فالتعريف المذكور ناقص من هذه الجهة. إلا أننا في الجمهورية الإسلامية؛ ونظراً لوجود فاصلة كبيرة بيننا وبين هذا التعريف على الأقلّ، فإنه تعريف مناسب لتقويم الآثار التوزيعية للضرائب في الدول ذات الهيكلية المشابهة في توزيع الدخل والثروة. وفي النتيجة فإن الضرائب التي تهدف إلى إيجاد مستوى واحد للمعيشة ستكون ذات أثر توزيعي إيجابي. ومن الممكن دراسة الآثار التوزيعية للضرائب الإسلامية من خلال هذا المعيار.
3ـ دور الضرائب الإسلامية في توزيع الدخل
يمكن تقويم الأثر التوزيعي للضرائب الإسلامية من جهتين: رفع المستوى المعيشي للمحتاجين (الضمان الاجتماعي)؛ وخفض التمايز (توازن الدخل والثروة). وفي النتيجة توازن المستوى المعيشي في المجتمع.
3ـ 1ـ الأثر التوزيعي على صعيد الضمان الاجتماعي
إن توفير متطلبات الفقراء أهم فلسفة لتشريع الزكاة، من حيث البعد الاجتماعي. وقد بيّن القرآن الكريم مصارف الزكاة، فقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 60).
ووفقاً لرأي الفقهاء فإن مصرف في سبيل الله ـ وكما مضى ـ أعم من مصارف الجهاد والدفاع عن الإسلام. ومن هنا يمكن الاستفادة منها في برامج القضاء على الفقر، من قبيل: إيجاد فرص العمل، والخدمات العامة، ولا سيما في المناطق المحرومة، و…
ويذهب جميع الفقهاء إلى أن نصف الخمس (سهم قرابة الرسول) هو لرفع فقر أبناء رسول الله الفقراء. وهناك من الفقهاء من يذهب ـ كما مرّ ـ إلى أن الخمس سهم واحد، وليس سهمين، ويتصرف فيه الحاكم الإسلامي (الولي الفقيه) في مصالح الإسلام والمسلمين. ومن المعلوم أن رفع حاجة الفقراء، وتوفير حياة كريمة، من أولويات المجتمع الإسلامي.
3 ـ 2ـ الأثر التوزيعي على صعيد توازن الدخل والثروة
إن توازن المعيشة في المجتمع يؤدي إلى رفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة من جانب، وحفظ مستوى دخل وثروة الأثرياء من جانب آخر. وفي النتيجة يرتبط بخفض مستوى معيشتهم.
يمكن لدراسة سعر الضرائب أن توضِّح آثار توزيع الضرائب في إيجاد توازن من هذا القبيل. فالضرائب التصاعدية لها قدرة أكثر تعادلية من الناحية النظرية. وهكذا هي حال الضرائب التناسبية والنزولية، مع قطع النظر عن كيفية إنفاقها، فلها آثار توزيعية بترتيب صفر وسالب.
أـ سعر ضرائب الدخل
إن سعر ضرائب المحصولات الزراعية المشمولة بالزكاة ـ وكما جاء في الفصل الأول من هذا القسم ـ بين 5% إلى 10%، وبصورة تناسبية. نعم، إن أصحاب الدخل الأقلّ من حدّ نصاب الزكاة ـ في ما يرتبط بهذه المحصولات ـ معفوّون من دفع الزكاة. وأما بقية الدخول فهي مشمولة بالخمس، وسعرها النهائي 20%.
ولكن السعر الضريبي المتوسط ـ في غير المعادن ـ يساويATr = 2% – 2% Ai/Yi.
وكما مرّ في بحث الجدوى العملية فإن السعر المذكور، وإنْ كان تصاعدياً، إلا أنه؛ وبسبب قرب الرغبة النهائية لاستهلاك العوائل، يتّسم بتصاعد محدود، مما يجعل سعر متوسط قليلي الدخل أقلّ من كثيري الدخل، وذلك بملاحظة شمول نفقات المعيشة بالإعفاء، كما أن الأسعار المذكورة لن تختلف كثيراً عن سعر الزكاة.
ويتعلَّق أعلى سعر للضرائب على الدخول بالدخل الحاصل عن طريق المعادن، حيث تصل إلى 20%.
ب ـ سعر ضرائب الثروة
إن سعر ضرائب الأنعام الثلاثة تنازلية إلى حدٍّ ما، ثم تصبح تناسبية تقريباً. والسعر التناسبي في الإبل أكثر من البقر والغنم، وسعر زكاة البقر أكثر من الغنم، ولكنه مهما يكن لا يتعدّى 2% (وفي بعض الحالات 2,5%).
فإذا كان عدد الغنم أقلّ من أربعين، والبقر أقلّ من 30، والإبل أقلّ من 5، لا يتعلق بها الزكاة. نعم، هي مشمولة بخمس دخل الكسب.
وهكذا هي الحال بالنسبة للأنعام الواقعة بين نصابين، فهي وإن كانت فاقدة لشروط الزكاة، فلا تتعلق بها الزكاة، إلا أنها مشمولة بقانون الخمس.
وعلى هذا الأساس إذا كانت زيادة الثروة أكثر من نفقات حياة الأسرة فستكون جزءاً من ضرائب الدخل، وفيها الخمس.
ج ـ سعر زكاة النقدين
إن سعر زكاة النقدين ـ وكما مضى في الفصل السابق ـ تناسبي تقريباً، ويعادل 2,5%.
إن هذا السعر صفر إلى أن يبلغ نصاب الذهب المسكوك (15 مثقالاً عادياً)، ونصاب الفضة المسكوكة (105 مثاقيل عادية).
وهكذا يترتب الحد الأدنى من الزكاة إذا كان المقدار بين النصابين.
ومن هنا يقترن السعر المتوسط بمقدار من التذبذب في ما بين نصاب وآخر، إلا أن هذا التذبذب لن يؤدي إلى تغيّر ملحوظ في السعر التناسبي. وعليه فإن تأثير زكاة النقدين على توزيع الدخل صفر تقريباً.
ولكن باعتبار أن زكاة النقدين تتكرر في كل سنة فإن عدم تداولها عند الضرورة يؤدي إلى انخفاض ثروة أصحابها. وبذلك تؤثِّر على توزيع الثروة.
وكما أشير فإن أحد أهمّ الأهداف الاقتصادية للدولة الإسلامية إقامة العدل الاجتماعي، وهي تفرض توفير حياة متعارفة لأبناء المجتمع الإسلامي، دون أن تحدّ مصادرها المالية بالضرائب الثابتة. ويمكن للدولة الاستفادة من الأموال العامة في هذا السبيل.
كما عدّ القرآن الكريم المساكين من ضمن مصارف الفيء([19]). وورد في الرواية أن الخراج وما شابهه إنما هو لتلبية حاجات المسلمين([20]). وهكذا إذا لم تكفِ الزكاة لسدّ حاجات الفقراء كان على وليّ الأمر سدّ الحاجة من الأموال الأخرى التي تدخل ضمن صلاحياته([21]).
خلاصة واستنتاج
إن ما يمكن استنتاجه من مجموع هذا البحث ما يلي:
1ـ إنما يكون توزيع الدخل والثروة مناسباً في الاقتصاد الإسلامي عندما تكون معيشة أفراد المجتمع في مستوى متعارف أو متقارب، وتنخفض سيطرة تداول الثروة والدخل من قبل عدد خاصّ.
2ـ ترفع الأموال الشرعية الواجبة (الضرائب الثابتة) مستوى معيشة المحتاجين، من خلال توفير المتطلبات الضرورية وغير الأساسية لهم، كما ينخفض مستوى التمايز في الثروة والدخل، وذلك بإعفاء هذه الطبقة في الغالب من الضرائب المذكورة، وأخذ الضرائب من الطبقات ذات الدخل الكبير. ولكن بما أن سعر هذه الضرائب تناسبي تقريباً، وصعودي إلى حدٍّ ما، فإن مقدار هذا الانخفاض لن يكون كثيراً.
3ـ إن الناس مكلَّفون عند الضرورة بتوفير الحاجات الأساسية للفقراء. وتتحمَّل الدولة مسؤولية تفعيل ذلك، بالإضافة إلى ما يدفعون من أموال شرعية واجبة.
4ـ يظهر أن الإسلام يستفيد بصورة أكبر من زيادة النفقات (الدخل العام)، بدلاً من الضرائب، في عملية إيجاد العدالة العمودية (توازن الدخل والثروة). وعليه لابدّ من أخذ نفقة الاستفادة من الخدمات العامة، كالصحة، والتعليم، من الأثرياء. ومن اللازم أن يتمّ تسديد الرسوم أو الضرائب على أساس قدرة المسدِّدين.
والنتيجة أنه يجب تدارك فقر الطبقات ذات الدخل المحدود من خلال التسديدات الانتقالية، وذلك في صورة وجود مشاكل تطبيقية في رعاية هذا الأصل.
5ـ إن تأكيد التعاليم الإسلامية وترغيبها بالإنفاق، والصدقات المستحبة، والخيرات، والأوقاف، والمساعدات الاختيارية، يبيِّن أهمية دور الناس في إيجاد توازن الثروة في الإسلام. ومن هنا فإن على الدولة ملاحظة هذه النقطة في سياساتها وتصميماتها بشكل متناسب.
الهوامش
___________________
(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وعضو الهيئة العلمية لمركز بحوث الحوزة والجامعة، متخصّص في الاقتصاد الإسلامي، من إيران.
([1]) حسن سبحاني، نظام هاي اقتصادي: 122.
([2]) الإمام الخميني، المكاسب المحرمة 2: 251.
([3]) اقتصادنا: 409، 610؛ دفتر همكاري حوزه ودانشگاه، مباني اقتصاد إسلامي، فصل 9.
([4]) جامعة الملك عبد العزيز، دراسات في الاقتصاد الإسلامي: 19 ـ 25.
([5]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 9: 251.
([7]) جواهر الكلام 36: 432 ـ 433.
([8]) تحرير الوسيلة 2: 456 ـ 457.
([9]) المصدر السابق؛ وأيضاً راجع: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 6: 30 ـ 36.
([10]) الكافي 2: 171، كما نقل عنه الحياة 5: 101.
([11]) الحياة 5: 25، نقلاً عن تحف العقول: 14.
([12]) الحياة 2: 4، 113، نقلاً عن الوافي 2: 63.
([15]) المصدر السابق 6: 379، ح3.
([16]) الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى 2: 307.
([17]) ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ (الحشر: 7) .