محاولة للجمع بين الخاتمية والإمامة والمهدوية
أ. حسين سورنجي(*)
ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي
مقدّمة ــــــ
لقد أثار الشيخ الدكتور عبد الكريم سروش في محاضرته الأخيرة في باريس، تحت عنوان: «التشيّع وتحديات الديمقراطية» إشكالاً حول خصوص انطباق مفهوم الإمامة والمهدوية على ختم النبوة. الأمر الذي استدعى ردود أفعال كثيرة. وهو إشكال يقوم على آراء إقبال اللاهوري في تفسيره لمسألة الخاتمية. ويتضح من خلال النتيجة النهائية التي توصل إليها أنّ همّه يتلخص في الديمقراطية، والتخلص من الوحي، أكثر من انشغاله بالجمع بين الخاتمية وبين الإمامة والمهدوية. وإنّ نفس هذه الأولية في حدّ ذاتها موضع تأمل وتحقيق. ولكننا نروم هنا أن نثبت ما إذا كان هذا الإشكال في خصوص عدم الانسجام بين الإمامة والخاتمية وارداً أو لا.
نظريتان في العلاقة بين العقل والوحي ــــــ
يبدو أنّ حلّ هذا التعارض رهنٌ بالتدقيق في فلسفة النبوّة نفسها، والنسبة بين العقل والوحي. وهناك رؤيتان في خصوص النسبة بين العقل والوحي: الأولى: وهي التي تشكل أساساً لطرح الإشكال المتقدم، تقول بأنّ النسبة بين العقل والوحي نسبة تبادلية. فهما أمران متعارضان في نفسيهما. ولذلك كان الوحي في مرحلة هو الحاكم دون العقل، ولكن العقل آخذ بالنمو التدريجي حتى يصل إلى درجة يضع فيها حدّاً لهيمنة الوحي وسيادته. وعلى هذا المبنى تكون الخاتمية إعلاناً لنهاية الوحي. وحيث تكون الإمامة بنحو ما استمراراً لهيمنة الوحي لا يمكن قبولها بحال من الأحوال.
الثانية: وهي ترى أنّ النسبة بين العقل والوحي هي نسبة المتلازمين، فأحدهما لازم والآخر ملزوم، فهما ليسا متعارضان، بل مؤيِّدان ومتمِّمان لبعضهما. وفي هذه الرؤية التي تنسجم معها عمدة النصوص الدينية يكون العقل حجة باطنة، والوحي حجة ظاهرة. وأساساً فإنّ التدين هو شغل الإنسان العاقل والمفكر، وإنّ الوحي يخاطب العقل بالدرجة الأولى، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ (البقرة: 242)، وقال أيضاً: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2). ولا يتمرد على حقائق الوحي التي قرع الله بها أسماع العقول([1]) إلا الذين يتبعون الآباء والأجداد تبعية عمياء([2])، أو كبار القوم([3])، أو سنن الجاهلية([4]).
وفي الرؤية الأولى، حيث مرحلة سيادة الوحي، إذا لم يكن الناس قد بلغوا مرحلة النضج الفكري فهم بحاجة إلى قيّم وولي أمر باسم النبي، ولكن حيث يغدو العقل مكتملاً، وقد تمكن الناس من إدراك الحقائق بأنفسهم، لن تعود هناك من حاجة. وإنّ ختم النبوّة يضع حدّاً لولاية الأشخاص([5])؛ وأما في هذه الرؤية ففي جميع العصور، وحتى في عصر الأنبياء السابقين، كان هناك عقلاء يستمعون إلى أقوال الأنبياء، بل كان الأنبياء أنفسهم يعرضون كلماتهم ودعوتهم في قالب من الأدلة والبراهين العقلية([6])، ويطالبون المعارضين لهم بما عندهم من الأدلة والبراهين على مخالفتهم([7]). وطبعاً على أساس هذه الرؤية لابد من إيضاح معنى ختم النبوّة.
والحقيقة أنّ الإشكال الذي يذكره الدكتور سروش في ما يتعلق بانسجام ختم النبوّة مع الإمامة والمهدوية وارد على مبنى الرؤية الأولى، التي هي رؤيته، ويبدو أنها العمدة في آرائه في مجال المعرفة الدينية، من قبيل: الحدّ الأدنى من الدين، والعلمانية، والتعددية الدينية، وبسط التجربة النبوية، وما إلى ذلك. فلم تبْقَ إلا مسألة واحدة مهمة تبدو لي أنها أهملت، ولم تأخذ نصيبها من البيان والتفسير في خصوص أفكار سروش، وهي جدوائية التديّن في عصر الخاتمية. والذي استنبطته شخصياً من مجموع آرائه هو أن التدين أمر غير عقلائي. وطبعاً ليس من الضروري أن يكون مخالفاً للعقلانية. ومن الأفضل القول بأن التدين مسألة ذوق لا أكثر، فهو تابع لمحض الذوق الشخصي والباطني، وليس له أية موضوعية على الإطلاق. ولذلك ليست هناك من ضرورة للتدين، وإن كان لا يترتَّب أي ضرر على من يتبناه، الأمر الذي يثبت بدوره أن مشكلته الأساسية لا تكمن في الجمع بين الإمامة وختم النبوة، وإنما تكمن في الجمع بين الإمامة، بوصفها واحدة من العناصر المكوِّنة لهذا التدين الذوقي، وبين الديمقراطية.
إلا أنّ صرف اختلاف تلك الرؤية عن هذه الرؤية لا يمكنه حل التعارض المذكور. وإنما نستطيع الإجابة عن هذا التعارض منطقياً إذا أثبتنا صحّة الرؤية الثانية، وإمكان الدفاع عنها. وعندها يمكن على أساسها أن نجيب عن التعارض المتقدم منطقياً. وهذا ما ننوي الخوض فيه.
إنّ المنطق الذي نستنبطه من النصوص الدينية يحكم بضرورة النبوّة والتديّن. وإنّ هذه الضرورة ناشئة من نوع معرفتنا الإلهية، ولا ينكر إدراك المعرفة الإلهية. أو لا يؤمن بها إلا على نحو سطحي وقشري سوى الذين ينكرون النبوّة([8]). طبقاً لهذا المنطق فإننا إذا عرفنا الله بالحكمة والرحمة فإنّا سندرك أن الله لا يقوم بفعل عبثاً. وإنه لمن العبث أن يخلق الإنسان ليميته بعد مدّة وينتهي الأمر، والله تعالى منزه عن ذلك قطعاً. فالإنسان سيحظى بحياة خالدة. وإنّ غاية الإنسان هي الوصول إلى الله تعالى والوصول إلى جميع الكمالات والكمال المطلق([9]). إنّ الله موجود مطلق ولا متناهٍ، فمن الطبيعي أن تكون الغاية لا متناهية. وواضح أيضاً أنّ العقل الإنساني يدرك أنه لا يستطيع وفقاً للحسابات الاعتيادية، وما يملكه من عمر محدود، أن يقطع هذه المسافة اللامحدودة، وإنما الطريق الوحيد لطيّ هذا المسير هو الاستعانة بالسبل غير المتعارفة؛ ليتمكن من طي المسير اللامحدود في مدة محدودة، ولذلك ينزل الله الوحي، ويضع هذا السبيل غير المتعارف، أي غير طريق التجربة والاستدلال العادي، في تصرف الإنسان. وبهذا المعنى تغدو النبوّة أمراً ضرورياً([10]).
في العبارة المتقدّمة يتعيّن على الإنسان أن يتعرّف الطريق؛ ليتمكن من طيّ المسير. إذاً النبيّ معلِّم، وليس متحكِّماً، وإذا تمّ إثبات عصمة النبي، وإذا كان يحقّ للنبي أن يكون مشرعاً، فهذا لا يعني أنّ مرحلة النبوّة هي مرحلة التحكم، وإنما حتى في هذه المرحلة نجد العقل هو الذي يثبت أصل العصمة للنبي؛ وذلك لأنّ هذه السبل يجب أن تصل إلى الإنسان بشكل كامل ودقيق جداً. وحيث إن المجتمع الإنساني ـ كما هو حال الأفراد ـ يطوي مراتب الإدراك بالتدريج فإن هناك ضرورة إلى تغيير الدروس والمعلِّمين بشكل تدريجي ـ وكما يعبّر الأستاذ الشهيد مطهري: كالتلميذ الذي يبدأ من الصف الأول، ليتقدم ويتدرج في السطوح والمستويات العليا، سنة بعد سنة ـ حتى يصل إلى مرحلة من البلوغ العقلي تؤهِّله لاستيعاب برنامج الهداية دفعة واحدة. وهذه المرحلة هي مرحلة ختم النبوّة. إلا أنّ هذا الكلام البسيط، الذي يحظى بقبول الدكتور سروش وإقبال اللاهوري إجمالاً، بحاجة إلى تعبير دقيق. فتارة نعني ببلوغ العقل الإنساني أنه يصل إلى مرحلة يستغني معها؛ لطيّ الطريق إلى الكمال، عن الهداية، ويغدو بإمكانه أن يدرك كلّ شيء بنفسه. وهذا هو المعنى الذي يذهب إليه الدكتور سروش في ما يتعلق بختم النبوّة. وقد ذكره في مختلف كتبه. وهو نفس نظرية إقبال اللاهوري، التي عبر عنها الشيخ الشهيد مرتضى مطهري بختم الدين، وليس ختم النبوّة([11]). فطبقاً للاستدلالات المتقدمة لا يكون هذا الكلام صحيحاً؛ وذلك لأن المعضلة والمسألة الأولى ـ أي طريق الوصول إلى غاية غير محدودة في زمن محدود ـ لا زالت قائمة على حالها، ولا يمكن للعقل الاعتيادي أن يحلّ هذه القضية لوحده أبداً. ووفقاً لهذا الدليل يبقى الوحي والمشروع الإلهي ضرورياً على الدوام([12]). إنّ بلوغ العقل البشري بمعنى أن الإنسان يمكنه أن يستوعب مشروع الهداية مرّة واحدة، من دون أن يكون بحاجة إلى التدرُّج أو تكون هناك حاجة إلى وحي جديد، لا أنه لن تكون هناك حاجة إلى محتوى الهداية التي وصلتنا من طريق الوحي. فعدم الحاجة إلى تجديد الوحي شيء وعدم الحاجة إلى أصل الوحي شيء آخر.
وعي الإمامة في ظل فلسفة العقل والنبوّة ـــــ
إلى هنا تمّ حل التعارض بين ختم النبوّة أو تجديدها، دون أن يستلزم من ذلك ختم الدين. ولكن لا يزال بحث التعارض الظاهري مع الإمامة ـ الذي هو أصل محل البحث ـ على حاله. إلا أنّ التدقيق في هذا المعنى من بلوغ العقل البشري يمكنه إثبات عدم هذا التعارض أيضاً. ولكي يتضح هذا الجانب من البحث من الأفضل أن نذكر إشكالاً آخر، وهو هل أنّ أعراب الجاهلية في عصر النبي أو الناس في عصر الفلاسفة الإغريق قبل ذلك بقرون كانوا قد وصلوا إلى مرحلة البلوغ العقلي؟ وأساساً ما هو المعيار في قياس بلوغ العقل البشري؟ أليس هذا الكلام كلاماً تحكُّمياً؟ وهل أن ما قاله إقبال اللاهوري، من أنّ مرحلة الخاتمية هي مرحلة العقل الاستقرائي للبشر، قد تحقق في تلك المرحلة الزمنية أم أنه يعود إلى القرن السابع عشر للميلاد؟([13]).
لو دققنا جيداً لوجدنا أنّ هناك معياراً لبلوغ العقل البشري. ولو فهم ذلك المعيار بشكل صحيح لوجدنا أنّ الإمامة لا تخالف بلوغ العقل، بل هي في الأساس من لوازمه. ولكي يتضح ذلك المعيار علينا الرجوع مرّة أخرى إلى عصر تجديد النبوّة. فقد كان هناك نوعان من الأنبياء في التاريخ: أنبياء للتشريع؛ وأنبياء للتبليغ. والفئة الأولى تأتي بشرائع جديدة، وتنشأ عمدة نشاطاتهم من جهة التغيير في مقتضيات الزمان، وعدم بلوغ البشرية لاستيعاب مشروع كامل من جهة أخرى؛ والفئة الثانية تعمل على تطبيق ذلك المشروع على المسائل والأوضاع السائدة، من خلال الاستعانة بالوحي ما دامت سارية المفعول، وكذلك توضيح خطأ التحريفات التي طالت أصل المشروع (النصوص المقدّسة)، من خلال إظهار النص الأصيل.
لو دققنا النظر فسوف ندرك أن عدم بلوغ العقل البشري كان في موردين. وعندما ينتفي الموردان يكون إمكان عرض مشروع كامل وانقطاع الوحي الجديد مفهوماً.
ويعود السبب الأساسي للمورد الأول من التحريف في الكتب السماوية إلى انحصار قراءة النصوص المقدسة، بل انحصار العلم، على فئة خاصة من المجتمع، وهي طبقة الأحبار والرهبان، حيث كان هؤلاء يعمدون إلى تحريف النصوص لصالحهم، ويبقى عامة الناس في غفلة من ذلك. وفي مرحلة ختم النبوّة يبلغ تعلُّم الناس وحفظهم للنصوص المقدسة مرحلة لا يمكن معها لطبقة خاصة أن تقوم بأي نوع من أنواع التحريف.
والمورد الثاني هو إمكان انطباق المشروع العام على حوادث العصر بشكل كامل، فحيث لم يكن الناس قد وصلوا إلى بلوغهم العقلي لم يتمكنوا من الانطباق بشكل دقيق، وكانوا لذلك يختلفون. ولذلك كانت هناك حاجة إلى أن يعلِّم الله مجموعة خاصة طرق الانطباق الصحيح من طريق الوحي، وهؤلاء هم الأنبياء المبلِّغون. والواقع أنّ أنبياء التبليغ كانوا من خلال الاستعانة بالوحي الجديد يتمكنون من تطبيق مضامين الكتاب المقدس وشريعتهم على حوادث ومسائل عصرهم.
وفي مرحلة ختم النبوّة انتقلت مسؤولية تطبيق المشروع العام على حوادث العصر إلى العلماء. ولكن ما هو العمل لو اختلف العلماء فيما بينهم؟ فإذا ظهر بعد ذلك شخص، ولو باسم الإمام، يعمل على تعلم الانطباقات الصحيحة من طريق الوحي كان ذلك هو النبيّ التبليغي. وهنا مكمن المسألة المهمة التي تشكل أساس مفهوم بلوغ عقل الإنسان، وهو ظهور إنسان أو مجموعة من الناس تستطيع استلام جميع محتوى الوحي من النبي، وليس من طريق الملائكة كما هي العادة، واستيعابها بعقولهم، من دون أن يكونوا في حاجة لانطباق كل حادثة جديدة على المشروع العام إلى وحي جديد. وهؤلاء هم الأئمة المعصومون^. إنّ المسألة التي هي في غاية الأهمية في ما يتعلق بالأئمة^ هي أنّ علمهم بالقرآن مقدَّم على علمهم بالغيب، دون العكس، في حين أنّ الأنبياء التبليغيين كانوا يتوصَّلون من طريق الوحي (علم الغيب الجديد) إلى فهم كتابهم المقدس بشكل صحيح. والأئمة هم الذين بلغ إدراكهم العقلي مقداراً([14]) يمكِّنهم من الحصول على جميع معارف الوحي من نبيّ عصرهم، ويتوصَّلون إلى معرفة الغيب من خلال علمهم بذلك الكتاب. إنّ النبي التبليغي يسند كلامه إلى ملك الوحي، وأما الإمام فإنه يسند كلامه إلى النبي والقرآن، وهو في استناده هذا معصوم من الخطأ.
قد يشكل هنا بأنّ الكلام كان حول بلوغ العقل البشري، وليس بلوغ عقل بضعة أشخاص.
ويمكن الإجابة عن ذلك بجواب جدلي، وبجواب آخر عقلي دقيق.
أما الجواب الجدلي فهو أنه كلما قام شخص أو شخصان بعمل معين فإننا ننسب ذلك العمل إلى جميع الناس. ومن ذلك أننا نقول مثلاً: «لقد بلغت الإنسانية مرحلة متقدمة من العلم مكَّنتها من الوصول إلى القمر»، في حين لم يصل إلى القمر سوى بضعة أشخاص.
وأما الإجابة العقلية الأدق فهي أن نقول: بما أن المرحلة هي مرحلة بلوغ العقل البشري لفهم المعارف فإن إدراك المعارف لا ينحصر بالأئمة المعصومين^. والحقيقة أنّ إحدى وظائف الأئمة^ الأصيلة، بوصفهم أئمة، هي مساعدة الناس للوصول إلى هذا البلوغ الفكري والعقلي، من خلال تربية المجتهدين. وكما ذكرنا سابقاً فإنه من الطبيعي أن يبدأ عددٌ من الناس بفهم معارف الدين، كما كان في الأمم السابقة ـ غير الأنبياء التبليغيين ـ رجالٌ من الأحبار والرهبان. وإنّ مهمة الأئمة المعصومين^ في مرحلة ما بعد النبوّة لا تكمن في بيان آحاد الأحكام، واستخراجها من النصوص المقدّسة، بل إنّ مهمتهم الأساس تكمن في بيان أساليب فهم النصوص المقدّسة، أو تصحيحها([15])، أي لابد من أن تأتي مرحلة يظهر فيها الكثير من المجتهدين، ويبدأون فهم الدين، ويواجه سائر الناس ـ كما في عصر الأنبياء السابقين ـ تعدداً في الأقوال، وطبعاً لابد لهم من الرجوع إلى معصوم يبيِّن لهم الأساليب الصحيحة من الخاطئة، من قبيل: إنّ القبح والحسن الشرعي خطأ، وإن القياس باطل، وكذلك الاستحسان، في حين أن تفسير القرآن بالقرآن صحيح، وبذلك يتم بيان حدود الصحيح من الخطأ.
ولذلك فقد وردت الكثير من الأحاديث التي تقول في مضمونها: «الإمام كالكعبة، يؤتى ولا يأتي»، بمعنى أنّ الإمام من حيث كونه إماماً هو غير عالم الدين، فعلماء الدين موظفون بالتبليغ، بل وحتى الذهاب إلى الناس، في حين أن الإمام بوصفه إماماً ليس من مهمته ذلك، بل على العلماء؛ لكي يحصلوا على الفهم الصحيح، أن يواصلوا الرجوع إلى الإمام، وأن يعملوا على تصحيح أساليبهم([16]).
ومن خلال ذلك يتضح أنّ مرحلة حضور الإمام في المجتمع؛ بغية حل معضلات فهم الدين، يمكن لها أن تكون مرحلة محدودة، أي بالمقدار الذي يتم فيه تعليم طرق الفهم الصحيح للدين، ويتم إجمالاً نقد الأساليب الخاطئة وتصحيحها من قبل الأئمة^. وإنّ الأئمة أنفسهم كانوا يصرّون على هذا الأمر. ولذلك كانوا يعملون على تربية بعض التلاميذ، وكانوا يأمرونهم بالجلوس في المساجد والإفتاء. وهذا الكلام غير مقتصر على الفقه، بل يشمل العقائد والكلام أيضاً، حيث عمد الأئمة إلى تربية وإعداد العلماء في هذه الحقول والاختصاصات، وكذلك في بعد الأخلاق والعرفان، أي في جميع محاور الإسلام وأبعاده الثلاثة: العقائد؛ والأخلاق؛ والأحكام.
وخلاصة الكلام: إنّ بلوغ العقل البشري، الذي يعتبر العامل والسبب في اختتام مرحلة النبوات، رهنٌ بثلاثة أمور:
1ـ وجود إنسان أو مجموعة من الناس يستطيعون استيعاب جميع معارف الوحي، وأخذها عن النبي مرّة واحدة، لا عن طريق الوحي إليهم، وينقلون هذا الفهم إلى الآخرين.
2ـ وجود إنسان أو مجموعة من الناس الذين يحصلون تدريجياً، من خلال التعلم على يد هؤلاء المعلمين، على قابلية التفسير، وتطبيق الوحي على المسائل الجزئية.
3ـ صيانة أصل الكتاب من التحريف.
وبذلك يتضح أنّ وجود الإمام لا يتنافى مع ختم النبوّة، بل هو من لوازمها. ومن باب مسك الختام نشير إلى أنه ربما كان معنى كلام النبي الأكرم في حديث الثقلين المعروف: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي» هو أنّ فهم هذا المشروع بحاجة إلى معلِّمين قد أحاطوا علماً كاملاً وصحيحاً، من خلال العصمة؛ لكي يقوموا بتعليمنا إياها. وطبعاً بعد تعليمهم لنا يغدو باستطاعتنا أن نحيط فهماً بهذا المشروع([17]).
الإمامة والغيبة ــــــ
بالاستفادة من مجموع ما تقدم يمكننا الإجابة عن إشكال آخر ذكره الدكتور سروش في بحوثه التالية في ما يتعلَّق بعدم انسجام الإمامة مع غيبة صاحب العصر والزمان#([18]) أيضاً. وخلاصة الإشكال: إنه بعد تقبل الغيبة تفرغ الإمامة من محتواها على المستوى العملي؛ لأنه إذا كانت الإمامة للحيلولة دون وقوع الإنسان في الخطأ في فهم الدين بعد رحيل النبي فإنّ جميع المشاكل التي واجهها أهل السنة بعد رحيل النبي| سيواجهها الشيعة بعد غيبة آخر الأئمة. فإذا كانت الحكمة من الإمامة هي عصمة الذهن من الوقوع في الخطأ في فهم الدين بعد النبي فيجب عدم حصول الغيبة أصلاً، فإذا حصلت الغيبة يفهم من ذلك عدم ضرورتها من رأس.
وبالالتفات إلى ما تقدم يمكن الإجابة عن هذه الشبهة بأنّ وظيفة الإمام الأساسية من حيث فهم الدين تكمن في تعليم الأساليب الصحيحة لفهم الدين، وليس بالضرورة تعليم جميع محتوى الدين([19]). وإذا كان كذلك فعندها يمكن لمرحلة حضور الإمام في المجتمع؛ من أجل حل المشاكل الماثلة أمام فهم الدين، أن تكون مرحلة قصيرة ومحدودة([20])، أي بالمقدار الذي يتسع لتعليم الأساليب الصحيحة في فهم الدين، وتعريض الأساليب الخاطئة لنقد الأئمة^ على نحو الإجمال. ومن ثمّ لا تكون الغيبة بمعنى إيكال الناس إلى أنفسهم وإهمالهم؛ وذلك أولاً: إنّ الغيبة يمكن أن تحصل في وقت تمّ فيه تثبيت عموميات الأساليب الصحيحة لفهم الدين في إطار معرفة الإسلام الأصيل، الذي قبله الأئمة، وقاموا على أساسه بوضع التعاليم الصحيحة لفهم الدين. وثانياً: إنّ من جملة المهام التي يضطلع بها الإمام، ولا يسعنا في هذه العجالة الخوض في تفاصيلها، هي مهمّة الولاية المعنوية، الذي تعتبر من أهم الفوائد الوجودية للإمام في جميع الأعصار، حتى في عصر الغيبة، ويمكن للناس فيها أن يستفيدوا من وجود الإمام كما يستفاد من الشمس إذا حجبها الغمام. وطبعاً فإن هذه الولاية المعنوية ليست ناظرة إلى إيصال المنافع الفردية فحسب، بل إن الإمام يضطلع في الأبعاد الاجتماعية من ناحية، حتى بالإشراف العام على تيار الدين والتدين في المجتمع؛ لتحقيق قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9) ([21]). ومن هذه الناحية يتضح أن الشيعة لم يوكلوا إلى أنفسهم. وهذا ما أكد عليه صاحب العصر والزمان# في توقيع له بشكل صريح، إذ يقول: «إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم»([22]).
وفي الختام نذكِّر للمرّة الثانية بأنّ بحثنا يدور حول ضرورة حضور الإمام في عملية بيان الدين بعد رحيل النبي الخاتم|، وليس بيان جميع الأمور التي تثبت ضرورة الإمام، وإلا فإن وجود الإمام يمكن أن يكون ضرورياً من ناحيتين أخريين في الحد الأدنى، وهما: ناحية الولاية المعنوية، التي أشرنا إلى بعض فوائدها إشارة عابرة؛ وناحية الحكومة والهداية الظاهرية لجميع الناس، وهي مشروطة طبعاً بتوفر الشروط وإعداد الأرضية لقبول الناس، ويبدو أنها من أهم الفلسفات المترتبة على ظهور الإمام بعد غيبته. وإنّ التفصيل في هاتين الناحيتين يحتاج إلى مقال آخر.
الهوامش:
(*) باحث في الفلسفة وعلم الكلام.
([1]) قال تعالى: ﴿لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾ (الملك: 10)، وقال تعالى: ﴿أفأنتَ تسمع الصمّ ولو كانوا لا يعقلون﴾ (يونس: 42).
([2]) قال تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾ (البقرة: 242)، وقال تعالى: ﴿قالوا أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا﴾ (يونس: 78).
([3]) قال تعالى: ﴿إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا﴾ (الأحزاب: 67).
([4]) قال تعالى: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون﴾ (الزخرف: 23)، وقال أيضاً: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون﴾ (المائدة: 104).
([5]) والملفت للانتباه أنّ هذه الرؤية إلى النبوّة كانت تطرح في الأمم السابقة، حيث كان أعداء الأنبياء من المتنوّرين وكبار القوم، الذين يعبّر عنهم القرآن بـ (الملأ)، حيث حكى القرآن عنهم قولهم: ﴿ولئن أطعتم بشراً مثلكم أنكم إذن لخاسرون﴾ (المؤمنون: 34).
([6]) قال تعالى: ﴿فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملأه﴾ (القصص: 32).
([7]) قال تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ (البقرة: 111). وكذلك راجع: النمل: 64؛ والأنبياء: 24؛ والقصص: 75.
([8]) قال تعالى: ﴿ما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ (الأنعام: 91).
([9]) قال تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق﴾ )المؤمنون: 115 ـ 116(.
([10]) وطبعاً فإنّ بحث الولاية المعنوية والهداية الباطنية يختلف عن بحث الهداية الظاهرية. وإنّ البيان المذكور آنفاً يهدف إلى ضرورة الهداية الظاهرية.
([11]) وللبحث بعمق ودقة في خصوص المقارنة بين آراء إقبال اللاهوري والأستاذ الشهيد مرتضى مطهري والدكتور عبد الكريم سروش راجع كتاب «وحي وأفعال گفتاري»، لمؤلفه علي رضا قائمي نيا.
([12]) لابد من الالتفات إلى أنه يتعين علينا أن نعبّر عن بلوغ العقل بشكل لا ينفي الوحي، وهذا هو مكمن البحث. فنفس الوحي يحثّ الإنسان على التدبّر والتعقل، وإننا نستخدم عقلنا كي نصل إلى التدين الكامل، لا لنغدو ملحدين. وهذه مسألة مهمة قد أغفلها الدكتور سروش وتجاهلها بشكل كامل.
([13]) في منطق الدكتور سروش يعتبر هذا الكلام تحكمياً. ولذلك فإنه يصرح في بعض كتبه بأن بحثنا هنا من باب تحصيل الحاصل، واللغز إذا تم حله يغدو سهلاً، فما دام ختم النبوة قد تحقق فإننا نعلل حصول ذلك ببلوغ العقل، وإلا فليس هناك أي معيار أو ضابطة في البين. وهذا الكلام وإن كان صحيحاً إلى حد ما، حيث إننا نقوم ببيان ختم النبوة بعد وقوعها، إلا أنّ هذا لا يستلزم من الناحية المنطقية تحكماً، وعدم وجود معيار لهذا الأمر. فهل تحليل الأمر دائماً بعد وقوعه يعني التحكم وعدم وجود معيار لذلك التحليل؟! وهل تحليلاتنا التاريخية تحكمية بأجمعها؟! أفلا يمكننا اليوم أن نقول مثلاً: إنّ نابوليون بونابرت قد أخطأ في سياسته الكذائية، حيث انتهت بإخفاقه، وأنه لو لم يقم بذلك العمل لكان أفضل، ولما مُنِي بالفشل؟ طبعاً أنا أوافق بأن اللغز والأحجية إذا حلت تبدو سهلة، ولكن هذا لا يعني أن بيان اللغز وحلّه والخوض فيه من التحكم.
([14]) لابد من الالتفات هنا إلى أنّ العقل هنا لا يعني الاستدلال، بل هو مطلق الفهم. وإنّ الإمام علي× مثلاً قد توصل إلى مقدار من الفهم، بحيث كان النبي يستطيع في ظرف مدة قصيرة من فتح ألف باب من العلم له، وكل باب من هذه الأبواب ينفتح على ألف بابٍ آخر. ولابد على وجه الخصوص من الالتفات إلى التعبير بفتح باب العلم في هذا الحديث المعروف. فلم يقل: إن النبي زوّدني بمجموعة من المعلومات، وإنما قال: فتح عليّ باب العلوم، ولذلك فإن حديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» حديث عميق للغاية في كيفية الجمع بين الخاتمية والإمامة.
([15]) وطبعاً لابد من الالتفات إلى أنّ مقام بحثنا ليس في خصوص فهم الدين، وإلا فإن للأئمة شأنين آخرين، هما: شأن الولاية المعنوية والباطنية؛ وشأن ممارسة الحكم. وإنّ البحث في أسباب تمتعهم بهذين الشأنين، وعلاقة هذين الشأنين بالشأن المتقدم، يحتاج إلى موضع آخر.
([16]) وبذلك لا تكون تسمية المذهب الشيعي بالمذهب الجعفري تسمية اعتباطية أو جزافية، لأن عمدة أساليب الفهم الصحيح قد تمّت على يد الإمام جعفر الصادق×.
([17]) وقد استفدنا ذلك من كلام العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، فإنه حيث تعرّض لأسلوب تفسير القرآن بالقرآن ذكر هذا الإشكال القائل: أليس في هذا الشيء نفي للرجوع إلى النبي؟ أليس ينبغي الرجوع إلى النبي لفهم القرآن؟ وإنّ الجواب الذي ذكره، وأصبح أساساً لطريقة الحل التي ذكرناها، يقول: «إننا تعلمنا أسلوب تفسير القرآن بالقرآن من الأئمة أنفسهم».
([18]) وقد جاء في نص عبارته: «وهنا نضيف أنّ الشيعة من خلال طرحهم نظرية الغيبة يكونوا قد أخروا الخاتمية لقرنين ونصف القرن من الزمن، وإلا فإنّ نفس الآثار المترتبة على الغيبة متفرعة عن الخاتمية أيضاً، مع فارق أنّ بالإمكان بيان تفسير معقول للخاتمية الذاتية للنبي، خلافاً للغيبة العارضة والمفاجئة وغير المتوقعة للإمام المنتظر…».
([19]) أكبر شاهد لنا على ذلك هو سلوك الأئمة^ أنفسهم في تعليم التلاميذ، وإرجاع الناس إلى هؤلاء التلاميذ، وقد مرّ توضيحه.
([20]) وطبعاً لابد من الالتفات إلى أنّ البحث يدور حول الضرورة وعدم الضرورة، وليس حول الفوائد المتعددة المترتبة على حضور الإمام الملموس في المجتمع. ولا شك في أنّ غيبة الإمام تحول دون وصولنا إلى الكثير من المعارف الإسلامية، وأنّ الطريق الذي كان بإمكاننا من خلال حضور الإمام طيه في مدة قصيرة علينا الآن أن نقطعه بشق الأنفس واستغراق مدّة طويلة. إلا أنّ كلامنا كان حول ضرورة الحضور، التي تلقي مسؤولية على كاهل الإمام، وإذا تمّ تحقيق تلك المسؤولية في حدها الأدنى تنتفي تلك الضرورة، وعندها يكون حضور الإمام من باب اللطف الذي يقوم به الله سبحانه وتعالى في حقّ المجتمع، وبعد ذلك لا تعني غيبته تعطيل الوظيفة التي تقع على عاتقه ضرورة.
([21]) لقد عبر في هذه الآية بصيغة الجمع. ولو تمّ التدقيق في نظائر هذا التعبير لأدركنا أنّ التعبير بصيغة الجمع إنما يكون في الموارد الذي يتم فيه القيام بالفعل الإلهي من طريق الوسائط، مثل: الملائكة، أو الأولياء الصالحين. وعليه فإنّ هذا الحفظ للذكر (القرآن) ليس من أفعال الله المباشرة، بل هو أمر يقوم به الله تعالى بتوسط الأئمة^ وموقعهم في الهداية.
([22]) محمد خادمي شيرازي، تحفه إمام مهدي#: 120، نقلاً عن بحار الأنوار 53: 175.