التحديدات النظرية لفرضية البحث
مقدّمة
نقصد بـ (التأسيس الأصولي) وضع الآراء الإجرائية والفكر النظري الدستوري على أسس كفيلة بمشروعيته. واستخدامنا لفظ التأسيس يراد به أيضاً الإشارة إلى عدم وجود (سوابق استدلالية) لذات الأدلة على ذات المدلول. ونريد بالأصول «مجموعة الآيات القرآنية والمرويات من السنّة المطهَّرة بمعناها الشامل لسنّة أهل البيت^، ومقتضى الإجماعات، ومعطيات المسالك العقلية، التي تصلح نصوصاً تقع دلالتها على مشروعية التأسيس النظري».
النظرية الدستورية: نريد بلفظ (نظرية) التصوّر النظري الذي ينطلق من رؤى كبرى فلسفية أو عقائدية، وله أركان وشروط وموانع، أي إنها حكم كلّي مركَّب من مجموعة من الأحكام الجزئية التفصيلية، يصلح لجمع ما له صلة بموضوع محدَّد، يمكننا استخدامه لتفسير الوقائع.
أما الدستور فهو القانون الأعلى في البلاد الذي يحدّد سلطات الحاكم، وحقوق المحكومين، وطبيعة الدولة وعلاقاتها، وصلاحيّات سلطاتها، وأسلوبها الاجتماعي والاقتصادي.
ويهدف هذا البحث إلى الكشف عن الأسس الأصولية المثبتة لشرعية الدولة الدستورية، كما جاءت عند النائيني، ويحلِّلها كاشفاً مدى نجاح هذه الأدلّة في البرهنة على مشروعية الأطروحة الدستوريّة البرلمانية.
لأنّ ضابطة الفقه الإسلامي دائماً أن الحكم الفقهي، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو على مستوى سلوك الدولة، سواء كان من مستجدّات النوازل أو من الأحكام المعروفة، يجب أن يشفع بالدليل الأصولي فأيُّ قول بلا دليل يعدّ استحساناً مردوداً في عرف الفقهاء. لذلك اعتنى الشيخ النائيني بأنْ يقدّم أدلّته الأصولية على أطروحته الدستورية، التي اعتبرت ابتكاراً مميّزاً في عالم أطبقت عليه معطيات غلق الاجتهاد، والتعامل التقليدي مع الوقائع الحاضرة، وحكمها بالفهم التاريخي والتقليدي للفقهاء. فقد أخرج النائيني أطروحته في ظرفٍ زمانيّ كان يعاني من تحدّيات كثيرة. ولقد استجاب النائيني لتحدٍّ مزدوج ذي وجهين:
الأوّل: قبول الشيعة البقاء خارج الفعل التاريخي، وخارج نطاق التفكير في نمط الدولة الحاكمة، ورضوا أن يكونوا تابعين لغيرهم، تحت مقولة «انتظار الإمام المنتظر#»؛ لما رواه الكليني أنّ «كلّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله تعالى»([1]). وهو واحدٌ من سبعة عشر حديثاً نقلها أيضاً الحُرّ العاملي في الوسائل([2]). فإخراجهم من هذه الحالة، التي تحوَّلت عندهم إلى مرتكزات راسخة، أمر في غاية الصعوبة، ولا سيما أنّه في ألفٍ من السنين وقرنين لم يقارب أغلب فقهاء الشيعة قضايا السلطة وأحكام الإدارة العامة للدولة والمجتمع، إلا لماماً، وعلى حذر شديد، تحت مقولة: «التقية من السلطان». وخلاصة القول: إنّ الشيعة لم يقاربوا قضايا الحكومة والسلطة وإدارة الدولة، لا على مستوى الفكر والحوار مع الآخر, ولا على مستوى الفقه والأحكام والقوانين التي لها صلة بالقانون الدستوري والدولي. وحينما نجري مقارنة مع فقه المذاهب الأخرى فإننا سنجد أن تلك المذاهب قد توغَّلت في الفقه السلطاني، وصنَّفت في الأحكام السلطانية، فيما كان فقه الشيعة فقه المجتمع الذي لا يعترف بشرعية السلطة، الذي عزم على عدم الاعتراف بالوضع السياسي السائد، لكنْ دون أنْ يقدِّم بديلاً جاهزاً، سوى بديل مؤجَّل، هو «دولة الإمام الحجّة». وهو ليس بديلاً بأجلٍ مسمّى، إنّما بديل مؤجَّل ومفتوح على الأزمنة البعيدة. والإشكال يبقى دائماً في الحاضر، وفي ضرورة بناء الدولة على أسس العقيدة الشيعية. ويظهر ذلك في فتوى السيد المرتضى بحرمة إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة([3])؛ لأنها من مخصَّصات الإمام.
الثاني: هو عدم وجود (بديل نظري محدَّد) في عموم الفكر الإسلامي لأسلوب الإدارة العامة للدولة والمجتمع. فهناك كلّيات أصولية، كالشورى والبيعة وضرورة وجود إمام لكل عصر، لكنْ ليس في التراث الإسلامي برمّته هيكلاً نظرياً كاملاً لطبيعة السلطة وشكلها وسلطتها، وطبيعة تلك السلطات، وصلاحيتها، وحقوق الأفراد والمؤسّسات. وأمّا النموذج العملي التاريخي، المتمثِّل في سلطة بني أمية، والعباسيّين، والعثمانيّين، فلا يصلح أساساً مرجعياً؛ لعدم تطابقه مع الفهم الإسلامي الصحيح للسلطة وحقوق المواطنة، ولا أساساً تطبيقياً أمام تطورات وإنجازات الإصلاح السياسي الذي حصل في أوروبا والغرب، الذي بانت ملامح نجاحه في آفاق الناس واضحة، فصارت المعادلة الناتجة عنه أنه لا يمكن التخلص من الاستبداد التاريخي إلاّ بالتفكير الخلاق بالبديل. فما هو البديل لأنماط الاستبداد المزمن في عالمنا الإسلامي؟ على هذه الإشكالية المعرفية والاجتماعية والعقائدية اشتغل الشيخ النائيني، وكان عليه أن يقدِّم مسوغات علمية لأطروحة الدولة الدستورية، وأن يقدِّم الأدلة الكافية التي تعادل تراكم المألوف عند الناس، أي «عدم الاقتراب من مقولة الحكم والسلطة»، وللروايات الكثيرة في ذلك، وأن يقدِّم الأدلة الكافية على مشروعية اعتماد نموذج نشأ في الغرب، ويراد له أن يكون الأنموذج في بلد من بلدان العالم الإسلامي، وأن يوفِّر لهذه الأطروحه تياراً مسانداً لها من الفقهاء، من خلال عرض الأدلّة الأصولية الكافية لإقناعهم.
بيد أن مَنْ يقرأ الأطروحة يجد أنه لم يشِرْ إلى ما يؤيِّده من دراسات سابقة، مثل: خراجية المحقّق الكركي([4])، وآراء القطيفي([5])، وأدلّة النراقي في عوائد الأيام([6])، وآراء الشيخ جعفر كشف الغطاء، وصاحب الجواهر([7])، والسيد بحر العلوم في بلغة الفقيه([8]).
بل إنه قدَّم أطروحته دون الإشارة إلى تلك المحاولات التي سبقته، والتي ربما تقارب رؤيته.
إن الحديث عن أطروحة النائيني تجيب عن مجموعة تساؤلات يطرحها عصرنا، وهي:
1ـ هل يمكننا القول بيقين: إنّ لدينا فكراً سياسياً إسلامياً حتّى نتحدث عن تطوّره؟
2ـ هل الفكر السياسي الإسلامي هو (منتَج النصّ القرآني) أو هو معطى التجربة النبوية؟
3ـ هل كان نشاط الرسول الأكرم| نشاطاً دعوياً، أم أنّه| تلقّى الرسالة من الله عزّ وجلّ، وكلِّف بتبليغها كمشروع حضاري إنساني شامل، بحيث يكون الجانب السياسي جزءاً مهمّاً منه؟.
4ـ هل يعني الفكر السياسي فقط «نظريّة إدارة الدولة»، أم أنه نظريّة الإصلاح والتصحيح الحضاري، سواء كان من موقع مقاومة الطغيان (الفكر السياسي للمعارضة) أم من موقع إدارة الدولة (نظرية الحكم الصالح)؟
5ـ هل أفرزت التجربة السياسية الإسلامية الرسمية «نموذجاً سياسياً» متميِّزاً ذا سمات وملامح واضحة؟ وهل هذه التجربة محلّ اعتراف من المسلمين كافّة، ولا سيّما إذا أخذنا بالاعتبار ما رافقها من قمع واستبداد ومصادرة للحقوق والحريات؟
6ـ هل قدَّمت الحواضر العلميّة في العالم الإسلامي، كالأزهر والنجف والزيتونة، نظرية عمل سياسية بديلة للنموذج الرسمي، أم استغرقتها الدراسات الفقهية والأصولية والدراسات التخصُّصية المحضة أو التقليدية؟
على هذه الأسئلة تدور أوراق التطوُّر في الفكر السياسي، وعلى بعضها ستدور هذه الورقة.
إن الاعتقاد البرهاني بالإسلام ديناً خاتماً لا يتيح مجالاً للتعامل معه بوصفه «مشروعاً أخلاقياً غيبياً أخروياً»؛ لأنه في الأصل كلمة الله الخاتمة للإنسان، التي تكون سعادته حصيلة تطبيق أحكامه، التي تنظم حركة الإنسان.
ويعدّ الجانب السياسي جزءاً أساساً من المشروع الإسلامي. لذلك أجد من العيب المنهجي القول: إننا بحاجة إلى إثبات أنّ في الإسلام فكراً سياسياً طالما تعاملنا معه بوصفه مشروعاً حضارياً. ثم إنّ هذا النمط من الفكر قطعاً هو منتَج النصّ القرآني؛ وذلك من خلال كلّ الآيات الشريفة التي تتحدّث عن الطاعة لله سبحانه، ولرسوله، ولأولي الأمر، تلك الطاعة المطلقة، وكذلك الآيات التي تتحدث عن البيعة، والحكم بما أنزل الله…، إلى غيرها من النصوص الآمرة ببناء الدولة وإدارة المجتمع.
إنّ هذه الآيات تعدّ من النصوص المؤسِّسة للإلزام والالتزام بالموقف العامّ، ولا سيما الموقف السياسي. ولأنه قد ثبت في علم الأصول أن أقوال النبيّ| وأفعاله وتقريراته حجّة، ومرجعية ملزمة، ولأغراض الإفادة من التفصيل والبيان والتأسيس، فإنّ التجربة النبوية في شقّها المكّي هي تجربة الكتلة السياسية التي لها عقيدتها ومنهجها ورؤاها وتفضيلاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولها قيادتها وانضباطها السياسي، ولها فعالياتها السياسية، كالتظاهر والاعتصام، والهجرة إلى (الحبشة والمدينة)، والطواف على القبائل لنشر الفكر الجديد، والدخول في حوارات ومحاولات إقناعية مع الناس. ثم في سيرته| تجد حركة منظمة باتّجاه تشكيل كيان سياسي جديد في المدينة، ليكون الشقّ الثاني تجربة (المدينة)، فيكون الشقّ المدني، الذي هو شقّ إدارة الدولة والمجتمع، وتأسيس القضاء والرقابة والعلاقات الخارجية، وممارسة مهام الدفاع المسلَّح عن كيان الإسلام إزاء العدوان الجاهلي المتكرِّر، وعقد المعاهدات، كمعاهدة الحديبية، وتوزيع الثروة، وإعادة بناء المجتمع على أسس عقائديّة.
كلّ ذلك يشكِّل بنية الفكر السياسي الإسلامي في المدينة. وأبرز وثيقة لهذه البنية «صحيفة المدينة»([9]).
صحيحٌ أنّ الأصل في نشاط النبيّ محمد| أنه نشاط دعويّ، إلا أنّ هذه الدعوة لما كان هدفها تطبيق مشروع حضاري، وهدف المشروع الحضاري خلق الإنسان الأنموذج، الذي يتمتّع بحقوقه التكريمية كافّة، ويتحمل مسؤولياته الفردية والمجتمعية كافّة، ليتحقّق المفهوم القرآني للعبادة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، أي الطاعة المطلقة على وفق لاهوت التحرير، وليس على لاهوت الاستبداد. لكلّ ذلك فإن جانب المشروع السياسي يعدّ في غاية الأهمية.
صحيحٌ أن الإسلام هو الحلقة الأخيرة من الأديان، إلاّ أننا ننظر له بوصفه جزءاً من مسيرة التوحيد، وجزءاً من تتابع النبوّات، التي مثَّلت موجات إصلاحيّة متتابعة. فمنذ نوح وإبراهيم‘ كان الأنبياء يحملون مشروع البناء والتصحيح، ولا يتصوّر أن لا يكون هذا المشروع مبنياً على الممارسة السياسية، التي لا بدّ أن تنطلق من فكر سياسي. فقديماً عرف تاريخ التجارب النبويّة ممارسة الصدّيق يوسف× لإدارة الدولة، وتجارب سليمان وداوود‘.
قال الطبري: «لم يجتمع ملك الأرض، ولم يجتمع الناس على ملك، إلاّ على ثلاثة: النمرود؛ وذي القرنين؛ وسليمان». فاعتبرت تجربة داوود في التوراة تجربة ملوك، بينما هي في القرآن تجربة نبويّة سياسية.
قال تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ (النساء: 163).
وقال عزّ وجلّ: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ (الأنبياء: 79 ـ 80).
وقال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه…﴾ (ص: 26).
قال الطبري: فلما قتل داوود جالوت أقبل الناس على داوود فأصبح ملكاً([10])، وكان داوود يتزعَّم مجموعة من الناس؛ للخلاص من استبداد جالوت.
ونقل عن أحمد بن المفضَّل: «كان لداوود ثلاثة أيام: يومٌ يقضي بين الناس؛ ويومٌ يخلو لعبادة الله؛ ويومٌ لنسائه»([11]).
والخلاصة أن الإسلام حلقة في مشروع التوحيد التاريخي، الذي يتسم بالنزعة التصحيحية، سواء في موقع تنظيم تطلعات المجتمع، وطرق خلاصه من الظلم والجور والامتهان، أوفي مجال إدارة تطلعات المجتمع، وهو يحقق للناس مصالحهم، ويوفر مقدمات سعادتهم
وفي مجال الفكر الشيعي فإن إعلان الغدير في 18/ ذي الحجة / 10هـ يعدّ إعلاناً سياسياً رسمياً بامتياز؛ لأنه يشخِّص الحامل النوعي للتجربة الحضارية بشمولها بعد النبيّ|([12]). وربما على مقتضى هذا الإعلان تبلور معنى التشيُّع المذهبي، وتميَّزت ملامحه وقواعده وبنوده الأساسية. ومن المدهش أنّك تلحظ أن الأئمّة^ قد مارسوا الفعاليات السياسية على مستوى المعارضة، ومارسوها على مستوى إدارة الدولة، فنتج عن (تجاربهم) نظرية عمل سياسية للمعارضة على النهج الإسلامي الشيعي، كما نتج عنهم نظرية عمل سياسية لإدارة حكومة صالحة على النهج الإسلامي. لذلك ليس من العسير القول: إن التجربة الشيعية أفرزت أنموذجاً سياسياً متميِّزاً، وذا ملامح واضحة، ومختلفة عن النماذج الأخرى.
بيد أن هذه التجربة، على ثرائها وعمقها وقوتها الذاتية والتاريخية، تعرضت للعزل والتعتيم والطمس المنظم، فلم تتمتَّع بقبول جميع المسلمين، وظلَّت تمثِّل تياراً رافضاً لأنموذج الاستبداد التاريخي الرسمي، الذي اعتبر ضمن المنظومة الإسلامية، وعلى مستوى الفكر الاسلامي السنّي، الذي لم يقدِّم هو الآخر «النموذج السياسي» البديل أو المتَّفق على مشتركاته. فخلاصة ما قدَّمته حركات الإسلام السياسي السنّي (حزب التحرير/ الإخوان المسلمون) شعار إعادة الخلافة، و شعار (الإسلام هو الحلّ)، دون أن يكون لإعادة الخلافة مجموعة آليات. ولقد انتبه (العالم الإسلامي السني) من غفوته بعد غلق الاجتهاد في القرن السادس الهجري على وقع غزو أوروبا له مطلع القرن الرابع عشر، وصار وجهاً لوجه أمام تحدٍّ منهجيّ ومعرفي كبير، وفارق في المستوى المدني والسياسي، فوقع في حيرة الإجابة عن كثير من المشكلات، ومنها:
1ـ هل سيرفض المسلمون الغرب كاملاً، سواء في نزعته الاستعمارية وعلومه وأفكاره ومناهجه، أم يجرون نوعاً من التمييز والفرز، ويأخذون ما ينفعهم منه، ويَدَعون ما لا ينفعهم؟
2ـ هل يجب أن يلجأ المسلمون إلى المواجهة المسلَّحة مع الغرب، دون حساب لإمكانياتهم وقدراتهم مقارنةً بإمكانيات الغرب؟
3ـ هل الحكومات المحلّية التي ستحكم بلدان العالم الإسلامي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية حكومات مسلمة؟ وهل الحاكمون مسلمون أو كفّار؟
4ـ هل تبدأ مسيرة التصحيح أو الصحوة الإسلامية من تطهير المعتقدات وتصحيح العبادات، أم من الوصول إلى السلطة وإدارة المجتمع، ليكون بعدها تحقيق الأنموذج المطلوب؟
5ـ هل يجوز للمسلمين اعتماد الوسائل الغربية الحديثة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، مثل: صيغ الأحزاب، والجمعيات المدنية، والصحافة، أم أن هذه الآليات ولدت من رحم ثقافة كافرة؟
6ـ هل يقتضي القبول بنظام ديموقراطي إقرار المسلمين لغيرهم من المخالفين عقائديّاً، والرضا بشراكتهم السياسية، أم أنّ الاعتراف السياسي اعتراف بوجود منافس، ولا يستلزم منه الاعتراف بشرعية الخصم السياسي؟
أقول: إنّ كلّ هذه الأسئلة لا تزال تمثِّل في رواق الفكر السياسي السنّي جدليّات يدور حولها الحوار والتجاذب والاختلاف.
بينما قدَّم الفكر الشيعي من النجف الأشرف إجابات عميقة وثريّة عن بعضها. ففي مجال الرؤية الإسلامية الشيعية للدولة قدّم ثلاث نظريات أساسية لطبيعة (الأنموذج السياسي)، وهي:
1ـ النظرية الدستورية «النائيني».
2ـ نظرية ولاية الفقيه «الخميني».
3ـ نظرية ولاية الإنسان على نفسه «السيستاني».
وفي هذا البحث سأتناول الرؤية الدستورية الإسلاميّة الشيعية وفق ما جاء في التنظير الفقهي والأصولي للشيخ النائيني. وفي الأبحاث القادمة إن شاء الله نتناول بقية النظريات.
بدءاً أريد أن أسجِّل أن أوروبا خاضت تجارب اجتماعية وسياسية عديدة، وقدمت تضحيات كبرى، وصححت أخطاءها بذاتها، حتّى استطاعت أن تقلِّل من فواجع شقاء الإنسان، بوصولها إلى تحقيق النظام الدستوري البرلماني، وبه حقَّقت مصداق الدولة القوية، واستطاعت أن تجتاح الشرق الإسلامي بمدنيّتها وبتطورها فكرياً، قبل اجتياحه عسكرياً، ولا سيّما قبل توريط الدولة العثمانية كطرف في محور خاسر في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م).
ففي مطلع القرن العشرين كان النموذج الأوروبي الديموقراطي البرلماني خيار النخب الثقافية والمتعلِّمين من المسلمين في الجامعات الغربية خارج العالم الإسلامي، وحينما طرح البديل الأوروبي «الديموقراطية» على شعوب العالم الإسلامي وقف الناس منه ـ كما هو الديدن في الاستجابات ـ ثلاثة مواقف: موقف رافض للبديل بالجملة؛ وموقف يقبله على علاّته بلا فحص لمدى مقبوليته في نسيج التراث؛ وموقف تأمَّل فيه الفلاسفة والمفكِّرون فأخذوا منه المشترك الإنساني.
وكان الشيخ النائيني من الفئة الثالثة، فكانت أوائل السطور في رسالة التنزيه تنطلق ممّا اتّفق عليه المسلمون جميعاً، وعقلاء العالم أجمع، من أن نظام العالم يتوقَّف على حكومة تدير أمور الناس([13]).
ثم استند إلى الاستدلال بـ «الضرورة»، أي ما تقتضيه العقلية والطبيعية، حين قال: «ومما هو معلومٌ بالضرورة أن نظام هذه الحكومة يجب أن يكون منتزعاً منها»([14]). ثم دخل على الموضوع من بوابة الشريعة المطهَّرة في وجوب حفظ بيضة الإسلام، وأنها من شؤون الإمامة، ثم انعطف على كيفية استيلاء السلطان على السلطة، فوصف في ذلك أنموذجين: الاستيلاء بالغلبة، وهو أنموذج الاستبداد؛ وأنموذج الاستيلاء بالاختيار الحرّ، وهو أنموذج المشروطة([15]). وشرح صور وأضرار الاستبداد، ثم عرض فوائد الأنموذج الثاني، وأوضح أن من شروطه إيجاد دستور وافٍ يميِّز الوظائف، ومن شروطه إيجاد جهة للمراقبة والمحاسبة تقوم بها هيئة مسدَّدة من عقلاء الأمة وعلمائها وخبراء الحقوق والمطَّلعين على مقتضيات العصر، سمّاه «المجلس النيابي»، الذي أوكل إليه مراقبة تصرُّفات السلطة التنفيذية، والتأكد من مطابقة القوانين لأحكام الشريعة، ومواد الدستور. وكان النائيني قد قسَّم مهام المجلس النيابي في سنّ القوانين إلى قسمين، هما:
الأوّل: ما وجد له نصّ، فهذا تتكفَّل الشريعة ببيانه.
الثاني: ما لم يوجد فيه نصّ، فهو موكولٌ إلى (أهل الاختصاص والخبرة)، وهو تابعٌ للمصالح، فكلُّ ما أدّى إلى مصلحة صحّ، والعكس بالعكس([16]).
ثم انتقل إلى إثبات مشروعية هذا النموذج، فقال: «أما مشروعية نظارة هذه الهيئة المتخصّصة فأدلّتها موجودةٌ، طبقاً للمذهبين السنّي والجعفري». فأما على المذهب السنّي فلمّا كانت الأمور تناط بأهل الحلّ والعقد فهؤلاء هم أهل الحلّ والعقد (أي أعضاء المجلس النيابي). وعلى المذهب الشيعي فإنّ الأمور لما كانت منوطةً بالنواب العامّين في عصر الغيبة «فيكفي لتحقيق المشروعية المطلوبة اشتمال الهيئة المنتدَبة على عدّة من المجتهدين العدول، أو المأذونين من قبلهم»([17])، ومعهم أهل الخبرة المطَّلعين على أحوال العصر.
قبليّات «تنبيه الأمّة»
أقصد بـ (القبليات) المركوزات الذهنية عند الناس حول الحكومة والسلطة والرؤية السياسية قبل أطروحه النائيني. وقبل صدور الوثيقة السياسية المتميِّزة «تنزيه الملّة وتنبيه الأمّة» كان الفقه الشيعي على موقفين، هما:
الأوّل: موقفه المعروف من العمل السياسي مطلقاً بكلّ أشكاله؛ لأن مفهوم الدولة «تشكيلاً أو إدارة» هي من مهامّ الإمام الغائب#، وهو مشهور المذهب. ويمكننا أن نلتمس ذلك في كتابات مجتهدي الشيعة، من المفيد إلى عصر النائيني، في مباحث صلاة الجمعة، والقضاء والحدود والتعزيرات، وجوائز السلطان، والولاية من الحاكم الجائر… صحيحٌ أنه قد ظهرت في القرن العاشر آراء للفقهاء حول الخراج، وسلطة السلطان المخوَّل من الفقيه الجامع للشرائط، كما هي آراء المحقق الكركي(940هـ)([18]) في تنصيبه للشاه طهماسب تحت إشرافه([19])، إلاّ أن ذلك جاء لتحقيق أوضاع خاصّة، فلقد استحدث طهماسب منصب شيخ الإسلام، وتسلَّمه المحقِّق الكركي، وقد ورد في مرسوم التنصيب أنّ الفقيه نائب الإمام#([20]). ومن ذلك مثلاً ما أكَّده الشيخ جعفر كاشف الغطاء(1227هـ) حول فكرة نيابة الفقيه عن الإمام، حينما أذن لفتح علي شاه القاجاري بتزعُّم معركة باسم الإسلام في شمال إيران ضدّ الروس؛ ولعل ذلك لتشجيع الناس للالتحاق به. أما ما ورد في عوائد الأيام من استعراض الأدلّة النصّية لسلطة الفقيه في زمن الغيبة ([21]) فقد ذكر أنّ أسلافه من العلماء يذكرون الموضوع، ولا يذكرون الدليل، فتبرَّع النراقي لذكر الأدلة بالتفصيل. ومن هنا يظهر لنا أنموذجان:
1ـ أنموذج النأي والابتعاد تماماً عن ملامسة الفكر السياسي وإدارة الدولة والمجتمع؛ وذلك للانتظار العقائدي لظهور إمام العصر#. وأيُّ اقتراب من ذلك يعدّ عدواناً على حقّه#.
2ـ أنموذج تنصيب الفقيه الجامع للشرائط مرشداً عامّاً للدولة والحكومة، ولكن ليس على رأس الهرم في إدارة المجتمع. وركيزته أمران: «النصوص ذات الدلالات المتعدّدة المختلف في مقتضاها، مثل: مقبولة عمر بن حنظلة؛ وضرورات المجتمع في ضرورة وجود سلطة حاكمة يحدِّدها منظور سياسي، ولا سيما مع عدم الاعتراف الشيعي المتوارث بشرعيّة السلطات الرسمية القائمة، والنماذج السياسية التاريخية لتجربة المسلمين عامّة.
وكان على النائيني أن يحقِّق انتقالة مهمّة ونوعية؛ إذ إنه حينما يعرض لنظام حكم دستوري برلماني فإنّه يقدِّم لائحة فكرية وقانونية لنهضة سياسية تحتوي على تنظير فقهي يؤسِّس لمشروعية ذلك الأنموذج.
لكنّه رغم تلك القبليات، ورغم كون النظام الدستوري البرلماني في الأصل والنشأة والتطور «إنتاجاً أوروبياً»، فإن النائيني فعل كما فعل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد عندما ترجموا علوم اليونان، فإنهم درسوها أوّلاً، واستبعدوا منها كلّ ما لا يتلاءم مع منهجهم العقلي والإيماني، ثم أعادوا صياغتها في نظريّاتهم بما يتلاءم مع معاييرهم، ثم أضافوا عليها ما يسدّ نقصها. فالنائيني قدَّم اللائحة البرلمانية وثيقة مهمّة من وثائق الفكر السياسي الإسلامي، ولعلّها أوّل مدونة تنظيرية مستقلّة في الفقه السياسي الإسلامي، استند فيها إلى مبادئ العدالة والمساواة، والى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعان بالسوابق النصّية، مثل: صحيفة المدينة، التي شكلت أنموذجاً مبكِّراً للدساتير. وبذلك حقَّقت رسالة النائيني هدفها بالجزم بعدم مشروعية الحكم الاستبدادي، وكذلك بعدم اختياره أنموذج ولاية الفقيه أنموذجاً للحكم؛ لأنه يرى أنّ صلاحيات الفقيه في حدود الأمور الحسبية، وقد تردَّد في التمسك برواية ابن حنظلة؛ لأنه عامل الفقيه إمّا من جهة كونه من آحاد الناس الذين يجوز لهم التصدي، أو إذا تعيَّن عليه تكليف ما فيجوز له التصدّي أيضاً، ولكنْ لا بوصفه الفقيه أو المجتهد جامع الشرائط.
إنّ الخطورة البالغة على مشروع النائيني أنّ الأنموذج الأوروبي في مطلع القرن العشرين، وانتشار أفكار الغرب عن طريق مؤسّسات الاتّحاد والترقّي، قد أصبح أمراً (مفكَّراً فيه) في عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول، وأمراً مفكَّراً فيه في إيران أيام ناصر الدين شاه، ولا سيّما وقد تتابعت الدعوات لإصلاح النظام القاجاري، والمطالبة بجعله مستنداً إلى قاعدة شعبية دستورية محدَّدة. وكان الدافع للمطالبة الخلاص من الاستبداد المزمن، الذي عاشته أجيال المسلمين. والخلاص من الاستبداد مهمّ لمواجهة النفوذ الأجنبي القادم، الذي يجد في الاستبداد مجالاً خصباً له، يستغلّه للإطاحة به دون أن يكون له نصير، ثم يعبث بعد ذلك في مقدّرات الناس، وهذا يعني أنّه يتناول فكراً غربياً، ويعيد إنتاجه ضمن مقولات تراثية إسلامية، وأنه يدخل في مواجهة عنيفة مع قوى الاستبداد الحاكمة في تركيا وإيران. وأخيراً فهو تحدٍّ للمرتكز الذهني التاريخي بقبول الاستبداد.
يقول بعض الباحثين «يمكن تحديد (1894) بداية لظهور هذا التوجُّه»([22]). عن طريق المطبوعات والرسائل البريدية وغيرها انتشر الفكر الغربي، حتّى أنه قد أرسل علماء النجف في (1902) رسالة إلى الشاه مظفر الدين يناشدونه إصلاح الحالة السياسية، وإنشاء مجلس تمثيلي. وبعد حوادث اعتصام (1905) أجريت انتخابات في إيران، في (1906)، لانتخاب نواب المجلس، وأعلن الدستور في ذي القعدة (1906). وقد أيَّد مراجع النجف العشرة آنذاك، الذين وكَّلوا الشيخ محمد كاظم الخراساني بتأييد هذا التطوُّر الإيجابي([23]). ولكنْ لم تدم فترة التجربة الدستورية في إيران؛ إذ أعلنت الأحكام العرفية في (1908م)، وأجهضت التجربة البرلمانية، فانتقلت مهمّة التنظير إلى رواق البحث والدرس العلمي في النجف. فكانت رسالة (تنزيه الملّة وتنبيه الأمّة) خلاصة فكرية مكثّفة لبيان أهمّية وضرورة خلق دولة مدنية دستورية نابعة من تراث الإسلام وقيمه النبيلة، واعتبارها أطروحة سياسية. وقد وضع للتدليل على مشروعيتها عشرات الأدلّة الأصولية؛ إذ تقول المصادر أنها صدرت في النجف أوّل مرة في آذار (1909).
لقد استطاع النائيني أن يتجاوز المنشأ الأوروبي للنظرية الدستورية، بتخليصها ممّا علق بها من الثقافة الغربية، وبدعمها بالأدلّة الشرعيّة. وبهذا تظهر عبقرية النائيني؛ إذ لم تستغرقه الرؤية الأوروبية، ولم يظهر مبرِّراً لها، وإنه حين حوّل هذه الرؤية إلى نطاق الدرس العلمي فإنه أراد أن يوفِّر لنظريته عدداً من القادة الدينيّين الذين يؤمنون بضرورة الدولة المدنية؛ لمواجهة القوى السياسية للاستبداد. وأخيراً فإنه قدَّم نفسه مصلحاً لمرتكز ذهني عند المسلمين بقبول الاستبداد، بوصفه قدراً حتميّاً.
فصحيحٌ أنّ الأنموذج الدستوري البرلماني في الأصل تجربة أوروبية، إلاّ أنّ النائيني قد جعل فكرة الأنموذج الدستوري في العالم الإسلامي مؤسّسة على مفاهيم الإسلام: «الشورى، العدالة، الأمر بالمعروف، تجربة النبيّ الأكرم|، وسلوك الإمام علي×».
وتلاحظ نباهة النائيني في أنه أدرك أن الغرب يريد أن يدير العملية الدستورية البرلمانية في بلدان العالم الإسلامي وفق المقاسات الغربية، فلم يمكِّنهم من ذلك، وجعلها تستقي من تراث الإسلام. فكان موقف الغرب من أطروحة برلمانية إسلامية موقفاً سلبياً، ظهر إمّا بتحريض بعض (المحسوبين على الفقهاء) بالوقوف ضد النظرية الدستورية، أو تخريبها بمساندة القوى التي تقف ضد (التطوّر الدستوري) في أوساط الناس البسطاء. فكان النائيني المفكِّر الذي يصنع الوعي غير المرتبط بالغرب، فيضطر الغرب لإفشال التجربة الدستورية بالانقلابات، أو بمساندة الاستبداد. ولذلك تخلّى الرواد الأوائل عن أنموذج النائيني في ظلّ هذه الإرهاصات؛ لأن الذي حصل في إيران أن التجربة البرلمانية شوّهت إلى الحدّ الذي تحوّلت إلى تجربة اغترابية، فرفع روادها يدهم عنها، فاضطر الغربيّون إلى إجهاضها نهائيّاً، بإسناد حركة استبدادية سيطرت على السلطة من جديد، وامتدت حتى 1979، حيث زحفت جماهير المحرومين فأسقطت الديكتاتورية، لكنْ إلى أنموذج ولاية الفقيه، وليس إلى الأنموذج الدستوري البرلماني المدني.
مرتكزات النظريّة الدستورية
أسند النائيني نظريّته إلى ثلاثة مرتكزات:
1ـ إن استقامة نظام العالم متوقّفة على وجود حكومة، فهي ضرورة فطرية.
2ـ إن السلطة هي المصداق الخارجي لنظام سياسي يؤسِّسه فكر سياسي، ولا بدّ أن ينبع هذا الفكر من تراث الأمّة وفكرها، فتكون الحكومة والسلطة نتاج فكر الأمّة وتراثها.
3ـ لقد جعلت الشريعة الإسلامية (الإمامة) أهمّ من جميع التكاليف؛ لأنها تحفظ النظام الداخلي للمجتمع، وتؤسِّس لحماية الوطن من الأخطار الخارجية. ووصف النائيني الطريق إلى السلطة بأنّه ذو مسلكين:
الأوّل: بالاستيلاء. فتكون البلاد والعباد ملكاً للمتغلِّب.
الثاني: بالانتخاب. لتؤدّي الحكومة وظيفتها، وهي تحقيق المصالح للناس.
يقول النائيني: «إنما اعتبرت العصمة شرطاً في مذهبنا في الوليّ؛ للحيلولة دون الاستبداد، إضافة إلى أغراض نبيلة أخرى. ومع فقد هذه الشخصية المعصومة يصعب علينا تحقيق حكومة عادلة. لذلك تبقى السلطة حقّه الشخصي. ولكنْ لأجل تمشية مصالح الناس اضطررنا إلى غصب حقّه، لكن طلبنا حاكماً مقيّداً؛ لئلا يستولي علينا الاستبداد. ولا يتحقق هذا إلاّ بأمرين:
1ـ إيجاد دستور وافٍ، تتحدَّد فيه الوظائف، شرط أن تكون بنوده موافقةً لمقرّرات المذاهب ومقتضيات الشرع.
2ـ إيجاد نظام للمراقبة والمحاسبة، من خلال هيئة منتخبة من عقلاء الأمّة وعلمائها، الخبراء بالحقوق، المطلعين على مقتضيات العصر (مندوبو الأمة) (المجلس النيابي).
ثم تتوالى الرسالة في توصيف الأنموذج، والاستدلال على هذه الأطروحة. ويحدِّد النائيني وظيفة المسلمين السياسية في عصر الغيبة بأنّهم حملة الوهج الرباني، وأنهم جند الله في تحقيق العدل والحقّ تحت راية إمام حق معصوم. لكنْ لمّا لم نتمكن من أن نؤدي واجبنا تحت رايته الشريفة فإننا يجب أن نرفع عن أنفسنا على الأقلّ ثقل الأنظمة الاستبدادية. ويقرّ النائيني أن هذا البديل لا يخلو من إشكالات، بيد أنه الأنموذج المتيسِّر. ويجيب في الفصل الرابع من الرسالة عن الإشكالات التي أثارها خصوم هذا التوجّه. ويحدِّد أخيراً مسوِّغات صحّة تدخل النواب في صياغة الوعي السياسي.
اللائحة الأصولية الاستدلاليّة للنظرية الدستورية
قدَّم النائيني لائحة استدلالية، مكوّنة من مجموعة من الأدلة، لنظريته البرلمانية الدستورية. وفي ما يلي عرضٌ سريع لها:
أـ الاستناد إلى ضرورة حفظ النوع، وحماية بيضة الإسلام من تدخُّل الأجانب. ويكون بذلك قد استدلّ بالقانون الطبيعي، والسنن الفطرية.
ب ـ إن تجربة المسلمين من أهل السنة في إناطة المسؤولية بأهل الحلّ والعقد تعدّ سابقة مؤيِّدة للأنموذج النيابي. وعند الشيعة فإن أمر الأمّة منوط بالنواب العامّين لعصر الغيبة، وهم المجتهدون، فيكفي اشتمال مجلس النواب على عددٍ منهم، أو المأذونين من قبلهم، أو ممَّنْ تمضى تصرُّفاتهم من المجتهدين.
ج ـ إن هذا النموذج يحرِّر الأمّة من العبودية السياسية. والتحرير مقصد شرعي، وهو يجعلهم على قدم المساواة مع الحاكم، وهذا مقصد شرعيّ آخر. وهنا يورد عدّة شواهد قرآنية، وأحاديث نبويّة، ومقتطع من نهج البلاغة. وبذلك يستند إلى عشرات النصوص القرآنية والنبوية وما روي عن الإمام عليّ والأئمّة^.
د ـ لمّا ذمّ الله الانقياد الأعمى فقد يسري الذمّ إلى مصاديقه، ومنها: الخضوع المطلق لمالكية السلطان المستبدّ، وتحكّمه، ولا سيما إذا كان ظالماً.
هـ ـ المستبدّ غاصب للمقام الرباني للإمام، وظالم للعباد في نفس الوقت، فتلزم مقاومته؛ لتوفّر الداعي؛ لأن الاستبداد أشنع أنواع الظلم والاستعلاء، ويجب المصير إلى الضدّ النوعي له، وهو الحكومة البرلمانية.
و ـ استدلّ للمساواة في الحقوق والأحكام بعدّة أحاديث، واعتبر مهمّات السلطة كلها تعود إلى باب الأمانة. وأداء الأمانة واجبٌ شرعي.
ز ـ استند إلى أن الأمر بالمعروف من ضروريات الدين، والنهي عن المنكر كذلك، ولا يشترط في الممارسة التمكُّن من الردع. لذلك فإقامة الحكم الدستوري من باب الأمر بالمعروف.
ح ـ إن المهام الحسبية لا يرضى الشارع بإهمالها؛ لأن في ذلك اختلال النظام العامّ. لذلك هي ملزمة للفقيه والمكلف على حدٍّ سواء، طالما حصل التمكُّن من الأداء.
ط ـ لو أنّ شخصاً غصب وقفاً، ولا يمكن رفع يده، إنّما يمكن الحدّ من تصرّفاته، فحينئذ يكون الحدّ من تصرّفاته واجباً. وعليه فلمّا لم نتمكن من تحقيق دولة المعصوم# فعلينا الحدّ من الظلم والجور والاستبداد، بإقامة الدولة المدنية الدستورية. «وهنا استخدمت تنقيح المناط».
ي ـ الاستناد إلى آيات الشورى، التي أفاض في أنها إنما وجبت على النبيّ|، رغم أنه معصوم مسدَّد، لتدريب الناس بعده على تمشية أمورهم بالشورى بين الحاكم والمحكوم. واستدلّ بكلام أمير المؤمنين في ضرورة المشاورة، في رسائله× إلى عمّاله وولاته على الأمصار.
ولما كان المراد من الشورى مع النبيّ|، رغم أنه معصوم، جعلها مسلكاً دائميّاً بين الحاكم والمحكوم([24]) فلا بدّ أن تكون هي المسلك الشرعي.
إن الهيئة المسدّدة ـ من العلماء المنتخبين ـ لمهامّ المراقبة والمحاسبة وسدّ الفراغ التشريعي تحلّ محل العصمة بدرجةٍ ما، على رأي الشيعة، وتحلّ محلّ القوة العلميّة على رأي مَنْ يرى طاعة أهل الحلّ والعقد.
إن مقبولة عمرو بن حنظلة توجب الأخذ بالمشهور، ونواتج الشورى من أصدق أنواع المشهور.
استند النائيني إلى دليل المصلحة العامّة التي تتحقَّق من النظام الدستوري، والمفاسد المترتبة على الاستبداد, ولا سيّما في بيانه لمصالح المجتمع في العدل والشورى، وإقامة الدستور. وجلب المصالح ودفع المفاسد من الأمور المطلوبة شرعاً وعقلاً.
استعان بالإشارة إلى تجارب الأمم الأخرى، فقال: «إن المطَّلعين على تاريخ العالم يعلمون أن الأمم المسيحية لم يكن لها نصيب من المدنية، إلا أن حسن ممارستهم لهذه المبادئ، وجودة استنباطهم، رفع مستواهم»([25]).
استند في الرسالة على قاعدة التزاحم، «وهي ضرورة الاشتغال للروايات بشأن دولة الإمام الحجّة#»، لكنْ لتعذُّر «تحقُّق هذا النموذج في العصور الحاضرة يصار إلى دولة دستورية عادلة؛ لتقلل من شقاء الإنسان».
بيَّن النائيني أن القرار الذي يتّخذ في الشأن العامّ إمّا ان يكون معطى التوافق العامّ بين النواب، أو تنازل طرف عن حقّه في الاعتراض عليه، أو المصالحة مع المتضرِّر به، أو تمّ الأخذ بالأكثرية، ورفض الأخذ برأي الأقلّية، أو الإعراض عن تمشية أحوال الناس. وبذلك يضع النائيني خطه عمل إجرائيّة في مسالك اتّخاذ القرار([26]).
الموقف من ولاية الفقيه
يقول باحثٌ: «إن النائيني لم يدخل الفقيه في قلب الحكم، ولم يجعله محور الحكومة، بقدر ما يطلب تطبيق الإسلام في أطروحته المدنية الدستورية»([27]).
وإنه «أراد أن يجعل النظام الديموقراطي إسلاميّاً في أساسه، فأبعد الفقيه عن الحكومة والحاكمية»([28]). وهذا ما جعل بعض الباحثين يرى أن ولاية الفقيه خطاب شيعي منفصل عن خطاب المشروطة([29]). فالشأن السياسي شأن عام متاح لجميع القادرين عليه، ولا ينحصر بجهةٍ؛ لأن الأساس الأصولي ولاية الأمّة على نفسها.
إن الشيخ النائيني ترك كثيراً من التفاصيل الخاصّة بفقه الدولة للاجتهاد، بأبعاده المكانية والزمانية والمعرفية، بعد أن وضع الأنموذج الجوهري. ولا أظنّ أن ما ذهب إليه د. خليل آل عيسى، من أنه يدعو إلى ملكية مقيّدة بالدستور، صحيحاً.
الخاتمة والاستخلاص
يجد الباحث في رسالة «تنزيه الملة»، التي تعدّ الأطروحة الأساسية المستقلّة للأنموذج المدني الدستوري الإسلامي في عصر الغيبة، أنّ النائيني وجد أن ظاهرة الاستبداد المزمن قد تساند مع ظاهرة انتظار الإمام صاحب العصر، فتكون سدّاً أمام إقامة أنموذج يحقّق مصالح الناس، ويحمي البلدان من هجوم وغزو فكريّ عاصف يشنّه الغرب مطلع القرن العشرين. فحاول أن يفتِّت أسس مقبولية الاستبداد، ويعترف بدولة العدل الإلهية، ويهيّئ لها بأنموذج تقلّ فيه تجاوزات السلطة على حقوق الإنسان السياسية والمدنية، وانشغل؛ لثقل المهمة الإقناعية، بأنموذجه في حدود الإطار العام، ولائحة الاستدلال. وقد تعاونت جهتان على إحباط تجربته الأولى: القوى الغربية، التي تريد تطبيق البرلمانية وفق مقاساتها؛ والثانية: بسطاء أهل العلم وغوغاء الناس في الوقوف ضدّ هذه التجربة الرائدة. لكنّها رغم العصف الهائل بقيت نظرية تؤطّر لخيار الأمّة.
وأظنّ أن الاستخلاص الأساسي أن ننطلق من حيث انتهى النائيني؛ لتطوير التجربة نظرياً وتطبيقياً، ونقدها، وإصلاح ثغراتها؛ لأجل بناء أنموذج حضاري مدني إسلامي في العراق.
الهوامش
([4]) المحقّق الكركي، قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج.
([5]) القطيفي، رسالة جوائز السلطان.
([6]) أحمد النراقي، عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام.
([7]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام.
([8]) محمد بحر العلوم، بلغه الفقيه.
([9]) ابن هشام، السيرة النبوية 1: 501.
([10]) الطبري، تاريخ الأمم والملوك 1: 195.
([12]) الطباطبائي، تفسير الميزان 5: 102.
([13]) تنبيه الأمّة وتنـزيه الملّة: 99.
([16]) المصدر السابق: 337؛ المشروطة والمستبدة: 257؛ ويلاحظ بحث ماجد الغرباوي في مجلة المنهاج، العدد 10: 287.
([22]) مذكرات السيد محمد، قال: إنه عرض مشروعه من أجل الدستور على المنابر عام 1894.
([23]) علي الوردي، لمحات اجتماعية 3: 116.
([26]) حميد الغرابي، الفقه الدستوري: 160.