الشيخ علي سراقي(*)
ترجمة: نظيرة غلاب
مقدمة ـــــ
بعد أن كان التفسير الترتيبي المنهج المتداول بين المفسرين ظهر التفسير الموضوعي، الذي شكل قفزة نوعية في مجال التفسير، بحيث شغل اهتمام المفسرين، الذين رأوا فيه المنهج الأرقى والطريقة المثلى في الإحاطة بالمراد القرآني، وخطوة إلى الإمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي. لذا وجدنا من الضرورة التفصيل في بيان ماهية هذا المنهج التفسيري، وتشخيص قواعده ومسائله وأصوله، مع فرز خصوصياته، وما يحتمل أن ينتج عن هذا المنهج من آفات في تفسير الوحي؛ وذلك بلحاظ الكبرى التي تقرر أن كل منهج بشري يريد أن يقرأ الوحي السماوي له آفات وكبوات تعترض طريقه، وبالتالي تفرض عليه تحديات.
وبلحاظ كون التفسير الموضوعي منهجاً فتياً وحديثاً، حيث إن العمل به لا زال في مراحله الأولى ـ رغم أن جذوره قديمة ترجع إلى عهد النبي الأكرم والأئمة من أهل بيته^، فإن ما يمكن أن يعترضه من مشاكل طبيعيٌ؛ بالنظر إلى أن كل الجهود المبذولة حتى الآن هي جهود للمؤسِّسين والمكوِّنين الأوائل له، وبالتالي فإن ما سنحدِّده من آفات وسلبيات ليست كل شيء؛ لأنها نتاج استقراء غير تام، ولربما مع مرور الوقت، وبروز العديد من التفاسير القائمة على هذا المنهج، يظهر المزيد من الآفات والاشتباهات.
لمعرفة آفات التفسير الموضوعي لابد ابتداءً من تحديد تعريف جامع ومانع له، ومعرفة المراحل التي يقطعها لتحديد المعنى الموضوعي للقرآن ومن ثم تتضح لنا مواضع الضعف ومكامن الهفوة.
حول معنى التفسير الموضوعي ومراحله ـــــ
التفسير الموضوعي هو كشف الموقف النظري للقرآن الكريم، سواء في ما يخص موضوعاً من مواضيعه أو مقطعاً من مقاطعه([1]).
انتخاب موضوع من مواضيع القرآن، ثم تجميع الآيات حول هذا الموضوع، وتفسير الآيات وفق ترتيب خاصّ ناظر إلى زمن نزول كلّ واحدة منها أو إلى خصوصيات أخرى، ثم استخراج الموضوع المحوري فيها، ثم المقايسة أو المقاربة الموضوعية بين مجموع تلك الآيات، ثم استخراج نظرية قرآنية من كل ذلك، كل هذا يدخل ضمن ما يصطلح عليه بالمراحل التي يقطعها المفسِّر وفق منهج التفسير الموضوعي([2]).
أخطاء تلحق التعريف الصحيح ــــــ
الملاحظ أن عدم إعطاء تعريف دقيق للمراد بالتفسير الموضوعي فتح المجال أمام إدراج بعض أنواع التفسير للقرآن، أو لبعض المعارف المتعلقة بالقرآن، تحت لواء التفسير الموضوعي. ومن الأمثلة على ذلك([3]):
1ـ تفسير السور المكية، للدكتورمحمد البهي.
2ـ إمعان النظر في نظام الآيات والسور، لمحمد عناية الله الهندي.
3ـ الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم، للدكتور محمد حجازي.
4ـ النسخ في القرآن، لمجموعة من المؤلِّفين.
5ـ علم المناسبات (نظم الدرر في تناسب الآي والسور)، للبقاعي.
ويتضح من هذا أن إدراك المعنى المفهومي، أو ما يصطلح عليه عند الأصوليين بمفهوم الوصف، يقي من الخلط بين هذا العلم وبين غيره. ولعل عدم الدقة في تفسير معاني علم من العلوم يخلق نوعاً من الضبابية، ويرسم ملامح الغموض والإبهام، وبالتالي يُدرج علمٌ ضمن علوم أخرى؛ لمجرد وجود نوع من المشتركات، سواء اللغوية أو المفاهيمية. والملاحظ في المواضيع السابقة أنها في الحقيقة مجرد دراسات قامت بتجميع العديد من القضايا التي هي من التفسير التجزيئي، وكان الملاحظ فيها هو التشابه، وليست من التفسير الموضوعي، الذي يقتضي ضمن خصوصياته الأصيلة وحدة في الموضوع، وقرآنية الموضوع، بشكل كامل وتامّ.
أخطاء تلحق مراحل اختيار الموضوع ــــــ
أـ خروج بعض المواضيع أو المناهج عن دائرة النظرية القرآنية: فاتباع التفسير الموضوعي لا يعني أن يأتي المفسِّر بكل موضوع خارجي من العلوم التي يتم ابتكارها أو اكتشافها يوماً بعد يوم، ثم يحاول أن يجعلها قرآنية، بحيث يسقط عليها مدلول الآيات، ثم يدعي في النتيجة أنها ضمن البعد الشمولي للقرآن. فالقرآن منهج ديني إلهي، وليس من شأنه الخوض في تفاصيل وجزئيات العلوم البشرية، رغم أنه قد ذكر العديد من الحقائق العلمية، والتي استطاع العلم اليوم تأكيدها أو بعضها. ولعل البعض قد أخذتهم الحماسة، أو لشغفهم بدعوة الناس إلى الايمان بالقرآن، وبالتالي الحديث عن القدرة الإلهية، فأخذوا يسقطون الآيات القرآنية على بعض الظواهر الكونية أو العلمية. (الأطباق الطائرة في القرآن) و(القنبلة الذرية في القرآن) من جملة هذه الكتابات الحماسية، والتي يظهر التكلف في المعنى فيها واضحاً، بحيث تضع الوحي الإلهي في غير مكانته، والمذنب في هذا الموقف لا ينظر إلى نيته([4]).
ب ـ الذهاب إلى اختيار موضوع كلي، بحيث لا يوجد نظر محدد حوله: كأن يختار التقوى، فالتقوى موضوع شامل لمواضيع أخرى ولا يمكن إدراك الرابط الكوني أو الروحي بينها وبين الرزق مثلاً، أو بينها وبين العلم، حيث لا يمكن استخلاص نظرية مقننة لمفهوم جميع الآيات الناظرة إلى هذا الموضوع([5]).
ج ـ عدم تحديد الهدف: إذ لا يكفي في مجال التفسير الموضوعي الإقرار أن الهدف الصرف هو توضيح جميع جوانب الموضوع، أو أن المسالة علمية صرفة، أو نحوها، بل لابد أن يكون الموضوع ضمن المبتلى به بين أطياف المجتمع المسلم، أو المجتمع البشري بشكل عام، ويكون مساهماً في هداية البشرية؛ لأن القرآن هو كتاب هداية، وليس مجرد كتاب نظريات علمية أو نحوها، بل المراد باستخلاص النظرية القرآنية إيجاد حلٍّ لمعضلة بشرية([6]).
د ـ اختيار موضوع مع وجود أفكار مسبقة وتصور ذهني أولي: ففي إطار التفسير الموضوعي لا يقبل من المفسِّر أن تكون له نظرة مسبقة لموضوع من المواضيع، ثم يأتي إلى القرآن، محاولاً إيجاد سند وشاهد شرعي على تلك الأفكار والتصورات؛ لأن هذا يعني في حقيقته جر القرآن لكي يكون حجة على أفكاره ونظرياته، وبالتالي يسعى إلى تحميل القرآن ما ليس له به علاقة، أو ربما تكون العلاقة عكس ما ذهب. وهذا يدخل في اصطلاح علوم القرآن ضمن التحريف المعنائي للقرآن. وقد سعى البعض لكي يثبت أن اليهود والنصارى مؤمنون بالمعنى القرآني، فاستخرج آيات حول الموضوع جعلها في صورة المؤيِّد لمذهبه([7]).
هـ ـ عدم اختيار الاسم الجامع: كأن يختار المفسِّر عنوان الحرب والصلح في القرآن، أو الفاظاً أخرى، نحو: الحرب، القتال، الضرب، الثبات، السلام، الهزيمة، الفرار،…. والمفروض اختيار العنوان الشامل لكل هذه العناوين الصغيرة، فيكون الأولى اختيار عنوان (الجهاد في سبيل الله) ليكون الموضوع المحور، وبعدها يضم إليه المشتركات اللفظية، والمعنائية، أو ما يقرب للموضوع المحور من عناوين أخرى([8]).
و ـ إغفال العناوين المنتزعة: كثيراً ما تكون مواضيع في القرآن لا يوجد لها في حد ذاتها اسم، لذا لابد من انتزاع اسم لها من ألفاظ قرآنية قريبة لها في الجملة. وكمثال: إن القرآن قد تحدث عن موضوع ظهور الأمم والحضارات، وطغيانها، ثم هلاكها، وذلك خلال سور متعددة، وبأساليب مختلفة. ولعل أقرب عنوان يعكس حقيقة هذه الظاهرة عنوان (السنن الإلهية في ظهور الأمم وذهابها)؛ وذلك لأن لفظ السنن([9]) أقرب الألفاظ القرآنية التي تشمل هذه الظاهرة. ولابد من التأكيد على أن يكون اللفظ المنتزع قرآنياً بالجملة، أو مشتقاً من الألفاظ القرآنية، بحيث لا يكون دخيلاً على ألفاظ القرآن، أو غريباً عنها، أو العدول عن المشترك اللفظي القرآني لاختيار آخر خارج عن القرآن لمجرد انبهار المفسِّر نفسه بتلك العناوين، كمَنْ يستبدل عنوان الشورى، والذي هو لفظ قرآني، بعنوان (الديموقراطية في القرآن)، مع وجود فرق موضوعي بين اللفظين، لكن لوجود تقارب معنائي يستعمل المصطلحات الغربية بدل الشورى. نعم، قد يوجد دخل مقدَّر مفاده: إن القرآن يعطي الأهمية القصوى للمعاني، وما الألفاظ إلا طريقية. والجواب: حقيقة القرآن أن اختيار اللفظ المناسب واستحضار المعنى المناسب واحدة من نقاط الإعجاز فيه، ولا يجوز تحت أي مسوغ الاستغناء عن الألفاظ القرآنية تحت عنوان أن المعنى هو الأهم، وإلا فالقرآن سماوي في كل أبعاده، ومعجز في كل جوانبه([10]).
أخطاء تلحق مراحل تجميع آيات الموضوع ــــــ
أـ الاكتفاء بمعجم الآيات القرآنية: لاينبغي الاكتفاء بالمعاجم القرآنية، حيث إنه ليس بعيداً أن لا تذكر المعاجم بعض الآيات التي تدخل ضمن الموضوع؛ بسبب أنها لا تحمل الكلمة نفسها. وكمثال على هذا: إن هناك العديد من الآيات التي موضوعها (الرحمة الإلهية)، ولكن لفظ (الرحمة) لم يرِدْ فيها بشكل مباشر، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ﴾ (النحل: 61)، أو في قوله ضمن الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾ (فاطر: 45)، وهي آيات ظاهرة في رحمة الله تعالى بعباده، رغم أن كلمة (الرحمة) لم ترِدْ فيها بشكل مباشر([11]). بالإضافة إلى أن الاكتفاء بالمعاجم والانطلاق منها يضع المفسِّر ضمن الأفكار والنظرية المسبقة، وهي من الآفات التي تلحق تحديد مراحل التفسير الموضوعي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ب ـ التساهل في تجميع آيات الموضوع قيد البحث: فمن الآفات الأخرى في هذا الجانب أن المفسر يتساهل إلى حدٍّ كبير في تجميع الآيات بمجرد احتمال مشابهتها للموضوع، أو قربها منه، ولا يتعب نفسه في دراسة الآيات على حدة، وهذا يسبب في تراكم الآيات.
كما أن الاحتمال العقلي الناتج عن عدم الإدراك الصحيح يضحي بالاحتمال العقلائي، وهذه في حدّ ذاتها إحدى المشكلات التي تعترض طريق البحث العلمي، وقد تستدرج المفسِّر إلى مواضيع لا علاقة لها بالموضوع قيد التحقيق، وبالتالي تنزلق بالنتائج إلى طريق الاشتباه والخطأ. والاستعمال المعقول لمساحة التساهل يكون في شمول الاختيار لكل الآيات المرتبطة بنفس الموضوع، وليس كل ما احتمله عقله عن طريق الحدس والظن([12]).
ج ـ التشدد الناتج عن الوسوسة والإفراط في تجميع الآيات: وهذه النقطة تقع على طرف النقيض بالنسبة إلى النقطة السابقة. وكلا النقطتين ـ كما سيلاحظ ـ تقع عن طريق التفريط أو الإفراط، وهو ما يصدق عليه التشدد في اختيار الآيات، لمجرد احتمال الناتج عن التخمينات، الفاقدة إلى مؤيد أو دليل. وهذه الخطوة تجعل التفسير ضعيفاً، وبالتالي فقيراً، وينتج نظرية مبتورة؛ لأنه لم يأخذ جميع الآيات المتحدة في الموضوع بعين الاعتبار والبحث([13]).
الأخطاء التي تلحق مراحل العمل التفسيري ــــــ
أـ عدم مزاولة التفسير بالقدر المطلوب: كل مَنْ ظنّ أنه يستطيع من دون مزاولة وسابق معرفة بالتفسير أن يجمع الآيات المتوحِّدة في الموضوع، وأن يضم بعضها إلى بعض، أي أن يدخل إلى التفسير الموضوعي بهذه الشروط، فقد ضلّ وأضلّ. فلابد للمفسِّر، شأنه شأن أيّ مشتغل بعلم من العلوم، من شروط وأدوات لا غنى له عنها، وهي أن تكون له مزاولة سابقة للتفسير الترتيبي أو التجزيئي، بحيث تكون له خطوة في التفسير الترتيبي، وأخرى في الموضوعي. كما لابد له من ممارسة التفاسير الأخرى، حتى تتكوَّن له معرفة بمواضيع الآيات، وبالتالي ينجح في ضمّ بعضها إلى البعض([14]).
ب ـ الأحكام المسبقة: فوجود بعض المفاهيم والاعتقادات السابقة في خصوص موضوع من المواضيع يجعل المفسِّر يبني عليها في تفسيره للآيات القرآنية، أو لا أقلّ يطبعها بطابعه، ويغلب عليها لونه. فمحمد البهي يعتقد أن الآيات المدنية قد نزلت لتشكيل المجتمع المدني، أو بمعنى آخر: إن الآيات المدنية موضوعها المحور هو بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ولهذا وجدناه يطبع كتابه (منهج القرآن في تطوير المجتمع) بهذا المنحى، ويبني كتابه على هذه الأحكام المسبقة. وقد انعكس هذا الأمر على الخطوات المنهجية في كتابه، حيث سعى أولاً إلى انتقاد الأسلوب الجاهلي في تكوين القبيلة أو العشيرة وما شاكلها، ويريد بها أن يهيئ الأرضية لآيات النهي، والتي يغلب على طابعها الجانب الروحي، وليس المادي، وبالتالي تتطلب روحية وفضاءً روحياً وسيعاً، وهو الأمر الذي استدعى أن تنزل الآيات على فترة، وليس دفعة واحدة، ويصل إلى أن الوحي الجديد يكون من أجل خلق مرحلة جديدة وأكثر تكاملاً في حياة القوم أو البشرية، والتي تقوم في الأساس على الإيمان بالوحي وبيوم الحساب. فمحمد البهي؛ وانطلاقاً من هذه المرجعيات المسبقة، عمل على تفسير الآيات القرآنية، وإدراج العديد من الآيات ضمن هذا الموضوع بشكل لم يستند فيه إلى أي دليل علمي أو نقلي، وليس له توثيق تاريخي أو شاهد من أسباب وشأن النزول، كما فعل بالنسبة إلى مسألة تحريم الربا، حيث تحدث عن أن الشارع اعتمد فيها التدريج، ولم ينهَ عن الربا في مكة، كذلك الشأن بالنسبة إلى الصلاة والزكاة، وعيَّن لكلّ واحدة منهما زمان النزول، في الوقت الذي يعتبر موضوع تحديد زمان نزول الآيات من أشد المواضيع القرآنية إشكالية في مجال التفسير([15]). نعم، قد يكون للتدريج نواحٍ موجبة في ما يخصّ التربية والتعليم ومعالجة المشكلات الاجتماعية، لكن كون التدريج بهذه المميزات لا يعني الخوض في الآيات من دون دليل أو شاهد مقبول، وهو ما يلاحظ على كتاب محمد البهي، حيث افتقر كثيراً إلى الدليل والمستند.
ج ـ عدم المعرفة بترتيب النزول: من شروط المفسِّر معرفته بترتيب النزول، حتى يكون دقيقاً في تفسيره؛ لأنه من غير هذه المعرفة قد يجعل الآية الأولى قيداً أو إطلاقاً للثانية، في حين يكون العكس هو المراد. ومثاله في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 130)، هذه الآية قد نزلت قبل الآيات الأخرى المحرِّمة للربا مطلقاً، كما في سورة البقرة، الآيتان 275 و280، والآية من آل عمران قد حرمت الربا بشكل تدريجي، وأشارت إلى الربا الذي تكون فيه الأموال أضعافاً مضاعفة، بينما الآيتان من سورة البقرة، والتي نزلت بعد آية آل عمران، قد حرمت مطلق الربا، قليله وكثيره. وإذا لم يكن المفسِّر على اطلاع بترتيب نزول هذه الآيات فسيقع في المحذور، حيث سيجعل التحريم المطلق أول ما نزل، ويعتقد أن آية آل عمران جاءت لتقيِّد هذا المطلق، فيصبح الربا المطلق في سورة البقرة مقيداً بالآية من سورة آل عمران، وبالتالي يصبح الربا القليل ممّا لا إشكال فيه([16]).
د ـ الانبهار بالعلوم: مال بعض المفسِّرين إلى تفسير القرآن وفق النظريات العلمية الجديدة، وهو أسلوب يضرب في العمق أصول التفسير الموضوعي؛ لأنه ـ وبشكل تدريجي ـ سيعطي الأصالة للعلوم الجديدة، وبالتالي سيرفع من قيمة نظريات العلوم التجربية التي تعتمد الظنّ والاحتمال، وهذا سيلحق الأذى بمنهج التفسير الموضوعي؛ لأن التجربة كل يوم في تطور، بينما الحقائق القرآنية ثابتة([17]).
وقد جرّ هذا التيار العديد من المفسِّرين، فالدكتور خزعلي ضمن كتابه (أحكام القرآن) قد عمل على تفسير مبدأ الخلق وفق تحقيقات العلوم التجربية، التي تقول بأن منشأ العالم الذرة، فقال: إن منشأ الخلق هو الذرة، والتي تسمى بالخلية، التي توجد في النطفة، وهذه الخلية تنمو وتتطور لتنقسم إلى خليتين، وذلك ضمن تفسيره لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ (الأعراف: 189)، ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء﴾(النساء: 1). فكتب يقول: الظاهر أن المراد بـ «نفس واحدة» الخلية، يعني الذرة الموجودة في النطفة، وبعدالتطوّر والنمو تنقسم إلى خليتين([18]).
نوفل عبد الرزاق، المشغوف بتفسير القرآن وفق النظريات الرياضية والتجربية، عمل هو الآخر على تفسير نفس الآية من سورة الأعراف وفق ما جاءت به العلوم الحديثة، فقال: إن الإلكترون هو الجوهر الذي شكل الخلق الأول، وسكونه، وانسجامه مع زوجه، التي هي البروتون، حيث إن شحنة البروتون تكون موجبة، وشحنة الإلكترون تكون سالبة، والتقاؤهما يحدث التعادل والانسجام في الذرة([19]).
لكن قراءة متأنية وبعيدة عن مثل هذه التجاذبات تبين أن التفسير العلمي لا يبين المراد الإلهي من هذه الآية، وخصوصاً إذا تم تتبع باقي الآيات، حيث يصدر عن هذين الزوجين الدعاء والمناجاة، وهي أمور لا يمكن أن تصدر إلا من العاقل والمكلَّف شرعاً، ولا يمكن أن تصدر من الذرة.
ومن الأمثلة الأخرى على الانزلاق في تفسير القرآن وفق النظرة العلمية أن أحد المؤلفين كتب يقول: إن منشأ القول بأن أبا البشرية هو آدم× خلق من طين هو التوراة، وأن المفسرين للقرآن إنما اتبعوا ما جاء في التوراة؛ لعدم اطلاعهم على النظريات العلمية، وكرروا الحديث عن آدام وحواء، بينما الصحيح ماجاء به داروين، الذي قال بنظرية التطوُّر، فالإنسان كان قرداً، ثم تطَّور؛ لعوامل الطبيعة وما تفرضه من تحديات، إلى الإنسان الذي نراه اليوم يمشي على البسيطة([20]).
هـ ـ الانبهار بالغرب والتودد إليه: من بين التفاسير القرآنية الحديثة تلك التي كتبت بواسطة مفسِّرين إسلاميين حركيين انعطفوا إلى تفسير الآيات وفق النظريات الغربية، حيث تأثروا كثيراً بالمفاهيم الغربية وقوانينها في الأخلاق والاجتماع، وعملوا في هذه التفاسير على محاولة إيجاد نوع من الانسجام والتوافق بين المدارس الفكرية أو الفلسفية الغربية وبين المفاهيم القرآنية والوحي الإلهي. هؤلاء في الحقيقة وجدوا أنفسهم بين أمرين: كونهم يؤمنون بأصالة الوحي الإلهي، وأن القرآن من عند الله؛ وانبهارهم بالحضارة والتمدُّن الغربي، الذي يقوم على إنكار ما وراء المادة. وحتى يجمعوا بين هذين المتناقضين سلَّموا أنفسهم إلى تأويل الآيات والتصرف الصرف في معانيها، وهو عمل يغفل في حقيقته عن أصالة وحقيقة المفاهيم القرآنية، ويعطي الأصالة لفكر ذي منشأ بشري. وقد عملوا على تفسير بعض الماورائيات وفق النظرة المادية. ويظهر هذا الاتجاه في التفسير الموضوعي ضمن التفاسير التي كُتبت زمان استعمار الغرب للدول الإسلامية، خصوصاً الهند ومصر، وهي تفاسير تحمل تأويلات مفجعة، وبعيدة كل البعد عن الحقيقة القرآنية([21]).
و ـ الاتجاه العقلي والبراغماتي: الاتجاه العقلي في الوسط السني من الاتجاهات الحديثة في التفسير، التي ظهرت خلال القرن الرابع عشر. وقد كان هذا الاتجاه ردة فعل على الاتجاه الأخباري أو التقليدي الذي حكم الفقه والتفسير طيلة الفترة السابقة. والاتجاه العقلي، كما الاتجاه العلمي، لم يستطع أن يحفظ نفسه ضمن حدود الاعتدال، لينتهي إلى حافة الإفراط([22]). وكان من أبرز الوجوه في هذا الاتجاه محمد عبده، الذي اعتبره باقي المفسِّرين الذين ساروا على دربه أستاذهم الأول([23]). وذهب محمد عبده إلى أن القرآن يجب أن يخضع للعقل في جانبيه النظري والعملي، وإذا وقع التعارض بين العقل والنصّ فإن العقل يقدَّم على ظاهر النص([24]).
وتبعه تلميذه رشيد رضا، الذي قال بأن المصلحة العامة مقدمة على النصّ والإجماع في حالة عدم توافقهما([25]). ويرى عبده أن العقل يحكم باختلاط المفسدة في تعدد الزوجات مع العدالة، وذلك ضمن تفسيره لقوله تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ…﴾ (النساء: 3)، ويرى تقدم حكم العقل على النص في هذا الموضوع. وكذلك يرى جواز الربا إذا كانت ستمنع من انتقال مال المسلمين إلى الكفار([26]).
وقد كتب السيد قطب ينتقد الاتجاه العقلي المفرط عند محمد عبده قائلاً: لقد عاش الشيخ محمد عبده في زمن تحول التفكر والتحليل العقلي في أوروبا إلى الله. وقد توجه المستشرقون بالاتهام للإسلام بأنه يعطل العقل، وخصوصاً في ما يخص مبحث «القضاء والقدر». وقد قام محمد عبده لينصر الإسلام، ولينافح عنه مثل هذه التهم، وذلك بإعلانه الحرب على جمود العقل في التفكر الشرقي، وأراد أن يجعل العقل في نفس سطح الوحي، غافلاً عن كون الوحي أعلى مرتبة وأشرف من العقل، وهو الوسيلة التي تبين الخطأ من غيره، وطريق الصواب من غيرها([27]).
ز ـ التفريط في الاستفادة من المعلومات البشرية: هذا النوع من المفسِّرين يقعون على الطرف المقابل من أصحاب الاتجاه العقلي، حيث إنهم ينكرون الاستفادة من العلوم والمناهج البشرية في التفسير، ويقتصرون على القول بأن فهم القرآن يجب أن يتم من خلال القرآن نفسه، وأن ينطلق بذهن بسيط في تفسير القرآن. ومن الواضح أن تفسيراً من هذا النوع سيكون ناقصاً، ولا يملك دعائم القوة والشمولية في احتواء المعاني([28]).
كان السيد الشهيد محمد باقر الصدر يروم بدعوته إلى تفسير القرآن وفق مواضيعه استحضار روح العصر والواقع الفكري البشري كعنصر مهمّ في قراءة معاني الآيات. فالقرآن حقيقة مطلقة تتجلى لكل أهل عصر وفق قدراتهم العقلية واحتياجاتهم الفكرية. يبدأ التفسير الموضوعي من الواقع البشري ليعود إلى القرآن، لا أنه يريد أن يحمّل القرآن ما وجد في ظرف الحياة الواقعية، أو أنه يريد الاستسلام أمام ما وصل إليه العقل البشري من علوم، فيفسر الآيات والسور وفقها؛ ليعطيها الأصالة، ويحفظ لها مكانة الرمز. وإنما أراد السيد الصدر أن يبدأ التفسير من الموضوع الخارجي وينتهي بالقرآن، أن يوحِّد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم؛ لأن التجربة البشرية تغني التفسير بما تقدّمه من موارد، وفي نفس الوقت تبقى للقرآن القيمومة والعطاء المتجدد، يبقى ذلك المعين الذي لا ينفذ([29]). ويضيف السيد الصدر قائلاً: إن رسالة التفسير الموضوعي في كلّ مرحلة وفي كل عصر أن يستحضر المفسِّر التجربة البشرية، ويطرحها بين يدي القرآن الكريم، ليستنطق القرآن؛ رغبةً في إيجاد أجوبة لكلّ ما طرح من مشكلات وإشكالات. إن استحضار هذه التجارب البشرية لا يعني أنها ندٌّ للقرآن أو في خط التساوي معه، وإنما القرآن هو المرجع، له مطلق القيمومة والعطاء المستجد، وهو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام نحو مواضيع الحياة البشرية المختلفة([30]). كذلك نجد الشيخ جوادي الآملي يبين أن الاستفادة من المعلومات والخبرات البشرية تعمل على رشد التفسير وإنمائه، قائلاً: هناك فرق بين التحميل والتحمل، وكلما استفاد الإنسان مما تمنحه التجربة البشرية ومن كتاب الكون كلما كانت قدرته على تحمل معاني الآيات القرآنية أقوى وأكثر([31]).
ح ـ إغفال تناظر الآيات: فلمعرفة مفاهيم القرآن شرط أساسي في التفسير الموضوعي، ألا وهو معرفة السياق العام للآيات. فالآيات القرآنية تشكل وحدة في ما بينها، وليس هناك استقلال تام لبعضها عن بعض، بل لابد من النظر إلى باقي الآيات لأجل الوصول إلى المفهوم الصحيح، والمعنى الكامل للآيات. والسياق، إلى جانب مسائل أخرى تماثله، من الشروط الخاصة في تحقُّق التفسير الموضوعي. وكما قيل فالنظر إلى كل القرآن من الأصول التي يبني عليها المفسِّرون اليوم التفسير الموضوعي([32]). وقد كتب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، في مقدمة تفسيره الموضوعي: «كل أجزاء عالم الوجود تشكل وحدة يرتبط بعضها ببعض، والأسلوب الصحيح لمعرفتها والاطلاع على حقائقها هو بحثها في اجتماعها وارتباطها. والأمر في القرآن بنفس الشكل، فالارتباط بين الآيات ارتباط موضوعي دقيق، بمعنى أن هذا الارتباط يكمن في توحيد مواضيعه ووحدتها، ولابدّ في التفسير من استحضار هذه الحقيقة، وهي أن النظر إلى كل القرآن شرط في فهمه وكشف معانيه ومراده»([33]). وهذا ما يؤكده الشيخ جوادي الآملي، حيث يقول: إن القرآن في كل آياته «مثاني»، بمعنى أنه معطوف بعضه على بعض، ولها نفس الاتجاه، ويفسر بعضه بعضاً، نستند إلى بعضه ونلجأ إلى أخرى. وهذا هو الأسلوب المعبِّر عن أن كل القرآن منسجم بعضه مع البعض([34]). ونفس هذا الرأي نجده عند العلامة الطباطبائي، حيث يبين «أن من عجائب القرآن أن الآية الواحدة منه لا يمكنها أن توضح المعنى مستقلة عن باقي القرآن، وأنه كلما انضمت آية إلى أخرى مناسبة لها بلحاظ الموضوع كلما كان المعنى أوضح، وكلما ظهرت حقيقة جديدة، ولما تنضم إليهما آية ثالثة يصبح المجال أدقّ في تقرير تلك النتائج وتثبيتها. وهذه إحدى خصوصيات القرآن… ولو أن المفسِّرين سلكوا هذا المنهج في تفسير القرآن لاستطاعوا الشرب من منبعه الزلال، ولاستفتحوا كنوزه العظيمة، ولاستشرفوا الأمة والإنسانية بمفاهيم ونظريات تفوق بكثير ما بأيدينا اليوم»([35]).
ونخلص إلى أن النظر إلى القرآن بلحاظ كليته وترابطه من الأمور والقواعد الهامة للمشتغلين بمواضيع القرآن، وإغفال وحدة الآيات في سياقها العام منقصة للتفسير، ولن تكشف مفهوماً أو معنى([36]).
الخلل الذي يلحق مرحلة استخلاص النظرية ــــــ
أـ عدم الالتزام الكامل بكل معاني الآيات: في مرحلة استخلاص النظرية على المفسِّر أن يلتزم باستحضار كل ما استخلصه من معاني ومفاهيم، بدون زيادة أو نقيصة، وأن لا يدخل عناصر أخرى خارجة عن القرآن، كالروايات، واللغة، وما تقرر أنه خارج عن نص القرآن؛ لأن من شأنها أن تضيف إلى النظرية شيئاً دخيلاً. كما لا ينبغي إخفاء ما تبين من مفاهيم قرآنية، تحت أية غاية، ولو كان بغرض الدفاع عن القرآن. وقد سلك هذا بعض المفسِّرين، حيث عمدوا إلى إخفاء بعض المفاهيم حتى لا تعاب على القرآن، أو تكون مورد إحراج لهم، وهم يتصورون أنهم يحسنون صنعاً، كما هو الشأن في موضوع تعدُّد الزوجات، والطلاق، والربا، فعمدوا إلى تأويلها بما يرضي مخالفيهم، وهم في حقيقة الأمر إنما أبطلوا مفاهيم قرآنية. وللإشارة فإن الاستفادة من السنة، أو اللغة، أو العقل، في شرح وتبيين المعاني، مع وجود قرينة؛ لكي تكون شاهداً على المتن القرآني، ضروري في التفسير الموضوعي. ولا ينبغي أن يتعدى استعمالها هذه الموارد، لأنها حينها سوف تصبح عنصراً مكوِّناً للنظرية، وتصبح لها الموضوعية؛ لأن الغرض من التفسير الموضوعي هو استخلاص نظرية قرآنية في ما يخص موضوعاً من مواضيع العصر والمرحلة. ففرقٌ كبير بين أن تبحث عن العلم في القرآن وأن يكون الموضوع هو العلم في القرآن والسنّة، وقد يأتي الموضوع في البحث عن العلم بشكل مطلق، حيث يكون البحث في القرآن، ثم في السنة، ثم في مباحث أخرى، كالتاريخ، والفلسفة، ومصادر أخرى([37]).
ب ـ استبعاد القرآن والاشتغال بأمور أخرى: وهو أن يستغرق المفسِّر في توسيع الموضوع بحيث يجري وراء أمور هامشية، ممّا يجعله يخرج عن إطار التفسير الموضوعي، ويجعل الاستفادة من القرآن قليلة تكاد تظهر أو لا تظهر في الصورة العامة للتفسير. ولعل السبب في ظهور هذا الأسلوب هو محاولة مسايرة الركب، والظاهر أنها تجد قبولاً عند بعض الشرائح العصرية أو المعصرنة، وتظهر هذه الدراسات تحت عناوين، مثل: «الدراسات القرآنية»، و«حول القرآن». وقد انجرّ وراء هذا الأسلوب علماء قدامى، مثل: الفخر الرازي، وحديثاً: الشيخ الطنطاوي، وقد قيل حول تفسيرهما: «فيهما كل شيء إلا التفسير». وهناك موارد أخرى ابتُليت بما ابتُلي به الأخيرين، مثل: عباس العقاد في (الإنسان في القرآن)، وعفيف طبارة في كتابه (اليهود في القرآن)([38]).
ج ـ الاستعجال في استخلاص النظرية، وعدم التزام الدقة: لابدّ للمفسِّر وفق التفسير الموضوعي من التزام الدقة حين استخلاص النظرية القرآنية حول موضوع من المواضيع، ولا ينبغي أن يتسرع ولا يراعي الدقة في تجميع الآيات الموحدة في موضوعها أو المرتبطة بشكل من الأشكال بنفس الموضوع، ليصدر حكماً أو يبني أحد الأصول على ما توصل إليه؛ لأن استقراءه للآيات سيكون حينئذ استقراءً ناقصاً، وبالتالي سيكون الحكم مبتوراً، وتكون النظرية خاطئة بالتبع؛ لأنها لم تنطلق من جميع الشواهد، الأمر الذي يجعلها ناقصة من المنشأ. وقد وقع في هذا المسلك الخاطئ العديد ممَّن اشتغل في حقل التفسير الموضوعي، ونذكر على سبيل المثال: ابن فارس في كتابه (الإفراد)، حيث قال: في القرآن أينما أتت كلمة «برّ» و«بحر» فالمراد بالبحر الماء والمراد بالبر الثرى، إلا في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم: 41)، حيث المراد بالبرّ البرية والعمران. ونظراً لكون استقرائه للمفردة لم يشمل جميع الآيات فقد استخلص نظرية خاطئة، وحمّلها للقرآن، وبدل أن يعالج أمراً فقهياً طرح إشكالات جديدة، فمثلاً: في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ (المائدة: 96) لا شكّ أن حكم المجال الجوي هنا داخل تحت حكم الحرمة، فالمحْرِم بالحج إذا اصطاد طيراً في الهواء فقد وجبت عليه الكفّارة، ولكن وفق نظرية ابن فارس فلأنّ الصيد لم يكن على الثرى فلا كفارة عليه. كذلك أخطأت نظرية مَنْ قال: إنه كلما جاء لفظ «قليل» في القرآن فهو يعنى أقلّ من عشرة. وهذا الاستنتاج الخاطئ وقع بلحاظ الاستقراء غير التام لجميع الآيات القرآنية التي جاء فيها هذا اللفظ، والتسرع في استخلاص النظرية، من دون مراعاة شروطها ضمن التفسير الموضوعي. فإذا كان لفظ «قليل» يعني أقل من عشرة فما هو الجواب بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13)؟ فهل نطبق هنا هذه النظرية؟! فلو كان المقصود بالقليل في الآية الأنبياء والرسل وحدهم، دون المؤمنين من باقي العباد والصالحين، فإن الواقع والوثائق التاريخية والنصوص الدينية تؤكد أنهم أكثر من عشرة أضعافاً مضاعفة([39]).
د ـ عدم الاعتناء بخصوصيات القرآن: فالمفسِّر حين يغفل خصوصيات القرآن ولا يضعها نصب عينيه حين استخلاص النظرية القرآنية فإن الخطأ والاشتباه سيرافقه في تحديد القواعد، وإعلان الحقائق القرآنية. ومن الخصوصيات الأساسية التي حاول بعض المفسِّرين طرحها في هذا الميدان:
1ـ إن القرآن هو الأصل التامّ لجميع العلوم.
2ـ إن القرآن في نهاية الإحكام والإتقان.
3ـ القرآن خالٍ من الزيادة والتكرار.
4ـ القرآن كتاب لهداية البشرية.
5ـ القرآن لا يحتمل فيه الخطأ مطلقاً.
6ـ بيانات القرآن مبنية على الحقّ، ولا شيء غيره.
7ـ إن مجازات القرآن لا تشبه المجازات في غيره؛ لأنها مبنية على الصدق.
8ـ ليس بين ألفاظ القرآن ترادف([40]).
الهوامش:
(*) باحث متخصص في مجال علوم القرآن الكريم.
([1]) تقارير درس الأستاذ محمود رجبي، مؤسسة الإمام الخميني للتعليم، 1384.
([3]) عبدالستار فتح الله سعيد، المدخل إلى التفسير الموضوعي، القاهرة، كلية أصول الدين، 1406هـ.
([5]) تقارير الأستاذ محمود رجبي.
([6]) صلاح عبدالفتاح الخالدي، التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق: 61، الأردن، دار النفائس.
([8]) عبدالستار فتح الله سعيد، المصدر السابق: 60.
([11]) كامران إيزدي مباركه، شروط وآداب تفسير ومفسّر: 15، طهران، أمير كبير، 1367.
([12]) تقارير درس الأستاذ محمود رجبي.
([14]) محمد علي رضايي إصفهاني، درسنامه روش ها وگرايش هاي تفسيري: 490، قم، مركز العلوم الإسلامية العالمي، 1382.
([15]) أبو طالب محمدي، منابع وروش هاي تفسير موضوعي پژوهش هاي قرآني، العدد 7 ـ 8: 167.
([16]) عبدالستار فتح الله سعيد، المصدر السابق: 63.
([17]) أبو طالب محمدي، المصدر السابق: 168.
([18]) المصدر نفسه، بالنقل عن: محمد خزعلي، أحكام القرآن.
([19]) عبد الرزاق نوفل، القرآن والعلم الحديث: 155، بيروت، دار الكتاب العربي.
([20]) يد الله سحابي، خلقت إنسان: 7، طهران، شركة الأسهم.
([21]) جعفر السبحاني، منشور جاويد 1: 21، ط فرهنگ.
([22]) أبو طالب محمدي، المصدر السابق: 169.
([23]) المصدر نفسه، بنقل عن: فهد بن عبد الرحمن الرومي، منهج المدرسة العقلية: 127.
([24]) محمد عبده، الإسلام والنصرانية: 72.
([25]) محمد رشيد رضا، تفسير المنار 5: 212.
([26]) فهد بن عبدالرحمن الرومي، المصدر السابق: 402.
([27]) سيد قطب، ويژگي هاي أيديولوژي إسلامي: 62، ترجمه: السيد محمد خامنه إي، طهران، كيهان.
([28]) تقارير درس الأستاذ محمود رجبي.
([29]) السيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 26.
([31]) عبد الله جوادي آملي، تفسير موضوعي 1: 74، قم، إسراء.
([32]) محمد باقر الصدر، المصدر السابق: 231.
([33]) ناصر مكارم الشيرازي وآخرين، پيام قرآن: 19.
([34]) عبد الله جواد آملي، المصدر السابق 1: 129.
([35]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 314.
([36]) السيد إبراهيم سجادي، «شكوفايي تفسير موضوعي…»، پژوهش هاي قرآني، العدد 7 ـ 8 (خريف وشتاء سنة 1375): 142.