ومن الطبيعي أن يسعى العدو لإضعاف الأُمّة، وإشغالها عن البناء والتقدم، وعن مواجهته بالصراعات الداخلية، ليسهل له إخضاعها ونيل مطامعه منها.
لكنه لا يصح أبداً تعليق مسؤولية خلافاتنا على مشجب العدو الخارجي، وتجاهل الأسباب والعوامل الداخلية. ذلك أنّ محاولات العدو إنما تحصل وتنجح من خلال المنافذ الموجودة في واقعنا وأوضاعنا، وهي بمثابة الأرضية الخصبة الحاضنة لبذور الفتنة التي يسقيها وينميها العدو.
إنّه لا يمكن إنكار دور الأعداء في تمزيق الأُمّة، كما لا يجدي شجب ذلك الدور وإدانته، وإنما المطلوب تعطيل دور القابلية للاستجابة لتلك المحاولات الخارجية داخل ساحة الأُمّة، بمعالجة الأسباب وسد المنافذ والثغرات؛ لأنّ بقاءها مشـرعة ستغري كل عدو بالتسلل من خلالها أي وقت شاء.
بالطبع فإنّ تشخيص مواقع تلك المنافذ وأحجامها وسبل وصدها فيه مجال للبحث والنقاش، وهو ما يجب أن يتجه إليه المهتمون بأمر وحدة الأُمّة وتقارب فئاتها.
يتحكم القرار السياسي في تفاصيل أوضاع مجتمعاتنا، لكن الدخول إلى دائرة صنع القرار، أو الاقتراب من مستوى التأثير فيه، يعتبر منطقة محرمة محظورة إلاّ على فئة قليلة محدودة تحتكر السلطة في معظم العالم العربي.
ومع ارتباط مختلف أوضاع الناس بالقرار السياسي، ووجود المشكلات الكثيرة في مختلف المجالات، فمن الطبيعي أن يكون هناك طموح وتطلع عند نخبة من شرائح المجتمع للمشاركة والنفوذ السياسي، وحين توصد أبواب المشاركة، وتنعدم أدوات العمل والحراك السياسي المشروع يلجأ البعض لاستخدام مختلف الأساليب والأدوات، وتصبح الانتماءات العرقية والمذهبية والقبلية أوراقاً وعملة رائجة. وهنا، تأتي فرصة الأعداء للنفخ فيها وتشجيع استثمارها وتداولها.
إنّ فتح آفاق المشاركة السياسية واعتماد نهج التداول السلمي للسلطة، هو الذي ينضّج وعي المجتمعات، ويرشّد تنافسها، ويدفعها نحو الحراك الإيجابي، ويمنع استغلال عناوين الهويّات الفرعية على حساب المصلحة الوطنية العامة، كما نرى ذلك في المجتمعات المتقدمة.
إذا كانت سياسات الحكم منبثقة من تعاليم الإسلام، فذلك يعني اعتمادها لمبدأ المساواة والعدل بين الناس، فلا يكون هناك تمييز ولا حيف من فئة على أُخرى؛ لأنّ العدل مقصد أساس لجميع الأنبياء والشرائع الإلهية، يقول تعالى: >لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنـزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ< (سورة الحديد:25) والقسط هو العدل. ويقول تعالى: >إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ< (سورة النساء:58).
وفي ظل الإسلام لا يجوز أن يُبخس أحد شيئا من حقوقه المادية أو المعنوية مهما كان دينه أو مذهبه، يقول تعالى: >وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ< (سورة الأعراف:85) وقد ورد عن رسول الله’ قوله: >الناس سواء كأسنان المشط<([1]).
لقد جلس خليفة المسلمين إلى جانب خصمه النصراني أمام القاضي وصدر الحكم لصالح النصراني ضد أمير المؤمنين، كما جاء في تاريخ ابن الأثير أنّه: >وجد عليّ درعاً له عند نصراني، فأقبل به إلى شريح وجلس إلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي! فقال النصراني: ما هي إلاّ درعي، ولم يكذب أمير المؤمنين. فقال شريح لعليّ: ألك بينة؟ قال: لا، وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أنّ هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين قدّمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه. ثم أسلم واعترف أنّ الدرع سقطت من عليّ عند مسيره إلى صفّين، ففرح عليّ بإسلامه ووهب له الدرع وفرساً، وشهد معه قتال الخوارج<([2]).
وإذا كانت الدولة دولة قومية تعتمد المواطنة أساساً في نظام الحكم وسياساته، فإنّها أيضاً لن تفرّق بين مواطن وآخر.
لكن مشكلة بعض الأنظمة في عالمنا الإسلامي خرقها لهذا المبدأ العظيم، وممارستها للتمييز بين مواطنيها على أساس قومي أو مذهبي، فتكون هناك فئة مميزة وأُخرى مهمّشة، مما يكرّس الشعور بالتفوق والتعالي عند فئة، والإحساس بالغبن والحرمان عند الفئة الأُخرى.
والشعور بالتمييز والتعالي يدفع إلى الاستئثار، والتجاوز على الحقوق، والنظر إلى الآخر بدونية واحتقار، كما أنّ الإحساس بالحرمان والغبن يدفع إلى الحقد والتفكير في الانتقام.
وهنا تجد الجهات الخارجية فرصتها للتدخل، فتثير قلق الفئة الأُولى من إمكانية انتفاضة الفئة الأُخرى، كما تغذي مشاعر الانتقام عند هذه الفئة المضطهدة، وتستثيرها للمطالبة بحقوقها، وتغريها بالدعم والحماية، تحت شعار: حماية الأقليات، والدفاع عن حقوق الإنسان، وهكذا يستعر أوار الفتنة.
إنّ هذا ليس مجرد تحليل أو تخمين، بل تؤكده حالة حاضرة نعيش ألمها ونصطلي بنار مضاعفاتها، وهي حالة الساحة العراقية أُنموذجاً، حيث استثمر الأمريكيون معاناة الأكراد والشيعة من سياسات نظام صدام، وممارسته التمييز القومي والطائفي الشنيع ضدهم، وليسوّقوا تدخلهم العسكري واحتلالهم للعراق، تحت شعار: الحرية والتحرير.
وهم الآن يُغذّون العنف المتبادل بين فئات الشعب العراقي، ويلعبون على الوتر المذهبي بين السنة والشيعة، ليبرروا استمرار بقائهم، وتواجد قواتهم في العراق، باعتبارهم يوفرون الحماية لكل طرف من الآخر.
إنّ سياسات التمييز الطائفي هي من أهم منافذ المحاولات الخارجية لإثارة الفتن المذهبية في أوطان المسلمين، فلا بدّ من إغلاق هذا المنفذ الخطير، بتحقيق مفهوم المواطنة، وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات.
ويجب أن يبادر الإسلاميون من السنة والشيعة لإعلان رفضهم وكفاحهم ضد سياسات التمييز الطائفي، والتبشير بمبدأ المساواة بين المواطنين، ومواجهة أي تمييز طائفي تتعرض له فئة من السنة في وسط شيعي، أو فئة من الشيعة في وسط سني.
وقد نصت توصيات الندوة العالمية الأُولى التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ في الرباط في الفترة من (7 ـ 9 ربيع الأول 1412هـ) المصادف (16 ـ 18سبتمبر 1991م)، على: >تأكيد وجوب مراعاة حقوق الأقليات المذهبية حيثما كانت، وينطبق ذلك على الشيعة الذين يوجدون في مناطق السنة، وعلى السنيين الذين يوجدون في مناطق الشيعة<([3]).
الخلل في العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية أنتج ثقافة من التعبئة المتبادلة، حيث انشغلت الأُمّة كثيراً بخلافاتها المذهبية، وأصبح لها تراث ضخم من الجدل المذهبي، يفوق تراثها في الجدل مع الأديان الأُخرى، فإنّ الكتب التي ألفها علماء السنة في الردّ على الشيعة، والكتب التي ألفها علماء الشيعة في الردّ على السنة، تفوق أضعافاً مضاعفة ما كتبه علماء الطرفين في الردّ على الأديان الأُخرى.
إنّ كل طائفة لا تـزال تشعر بالحاجة إلى الحديث عن إثبات أحقية مذهبها، في مواجهة إشكالات وطعون أتباع المذهب الآخر، وإنّها معنية بتحصين أبنائها حتى لا يتأثروا بالاتهامات التي تستهدف مذهبهم.
أولاً: التركيز على مواقع الخلاف المذهبي مع محدوديتها، وتجاهل مناطق الاشتراك الواسعة، ويتم في أحيان كثيرة إفتعال قضايا الخلاف في مسائل جزئية جانبية، وإذا كان في المذهب رأيان أحدهما يخالف المذهب الآخر، والآخر يوافقه فإنّ الترجيح يكون للرأي المخالف.
ثانياً: تلمّس نقاط الضعف في تراث المذهب الآخر والتشهير بها، حتى لو كانت رأياً شاذاً أو موقفاً لفرد أو فئة من المذهب، فإنه يجري تعميمها ومحاكمة المذهب وكل أتباعه على أساسها.
ثالثاً: نبش حوادث التاريخ للتذكير بمعارك النـزاع والصراع السابقة، مما يغذي الأحقاد والضغائن ويورثها للأجيال.
رابعاً: تجريم النقد الذاتي وحرية التعبير عن الرأي داخل كل مذهب فيما يمسّ قضايا الخلاف المذهبي، واعتباره نوعاً من التنازل للطرف الآخر، والمساومة على العقيدة والمبدأ.
خامساً: تعميق النظرة الدونية على المستوى الديني لأتباع المذاهب الأُخرى، باعتبار أنّ أتباع المذهب هم وحدهم الفرقة الناجية، أمّا الفرق الأُخرى فكلها هالكة وفي النار.
وعلى خلفية هذا الطرح تصدر أحكام التكفير والتفسيق والتبديع والاتهام بالشرك والضلال لمذاهب وجماعات كبيرة من المسلمين.
إنّ هذه الثقافة التعبوية تمثل تحريضاً على الكراهية، وتأجيجاً لمشاعر العداء والبغض والجفاء، وتهيئ الأجواء القابلة للاشتعال بنار الفتنة.
ويجب على الواعين المخلصين داخل كل مذهب وضع حدًٍّ لهذه التعبئة المذهبية، وتوجيه أنظار أبناء الأُمّة لهموم الحاضر وتحدياته، وليتحرك الناس للبناء والتنمية الشاملة في أوطانهم، ولمواجهة الأخطار المحدقة بهم.
إنّ الحاجة ماسة لنشر ثقافة التسامح، وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر، وحسن الظن في الآخرين، فلا أحد يختار مذهباً أو معتقداً يعلم بخطئه وبطلانه،
لكنها البيئة العائلية والاجتماعية التي ينشأ كل واحد منا ضمن المذهب السائد في أجوائها.
إنّ التباعد والقطيعة بين أتباع المذاهب، تقلل فرص التعارف المباشر، وتمنح الفرصة لانتشار الانطباعات الخاطئة والصور السلبية في أوساط كل طرف تجاه الآخر، اعتماداً على النقولات المتوارثة، والشائعات المتداولة، ويُدهشك حين تسمع كلام فئة عن أُخرى تعيش معها في منطقة واحدة من وطن واحد، وكأنّه حديث عن قوم يعيشون في كوكب آخر.
كما أنتجت القطيعة جفاف مشاعر الودّ المتبادل، فأصبحت كل طائفة كياناً اجتماعياً مستقلاً لا ارتباط له بكيان الطائفة الأُخرى.
فلكل طائفة مساجدها ومرجعياتها ومؤسساتها الاجتماعية والثقافية الخاصة بها دون وجود جسور من التعارف والتعاون والتنسيق.
أما التـزاوج بين أبناء الطوائف وخاصة بين السنة والشيعة فتحول دونه موانع دينية عند البعض، وعوائق اجتماعية عند البعض الآخر، إلا في حالات نادرة تتم بعد كفاح مرير.
وامتدت حالة القطيعة والانفصال الاجتماعي إلى ميدان الحركة السياسية، فلكل طائفة رموزها وتنظيماتها وبرامجها ومرشحوها في الانتخابات.
هذه القطيعة تشكل مخالفة صريحة لمبدأ قرآني عظيم هو مبدأ الأُخّوة الإيمانية، حيث يقول تعالى: >إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ< (سورة الحجرات:10)، وتشكل انحرافاً صارخاً عن نهج نبوي قويم أكد فيه رسول الله’ على روح المودة والتعاطف بين أبناء هذه الأمة، حيث يقول’:>مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى<([4]).
وتكرس هذه العقيدة حالة من الانفصال النفسي والعاطفي، وتخلق قابلية لنمو مشاعر العداء والكراهية، التي يمكن أن يفجرها أبسط حوادث الاختلاف بين فرد من هنا وآخر من هناك.
وحين يشاء العدو إثارة النـزاع بين هذه الكيانات الاجتماعية المنفصلة فليس بحاجة إلى جهد كبير.
إنّه لا بدّ من مبادرات جريئة، وثقافة واعية لتجاوز هذه الحواجز المصطنعة، ولتطبيع العلاقة بين أبناء مجتمعاتنا على اختلاف مذاهبهم، ضمن التواصل الاجتماعي، والتداخل الأُسري، والاندماج المؤسساتي، والتعاون في المجال الديني، والانفتاح على المستوى الثقافي وصولاً إلى المشاركة السياسية.
تلك هي أهم منافذ المحاولات الخارجية لإثارة الفتن الطائفية، فإذا كنا حريصين على وحدة الأُمّة، وجادّين في مواجهة مؤامرات الأعداء، فعلينا التوجه لسدّ هذه الثغرات، وإغلاق هذه المنافذ، عسى الله أن يوحد كلمة المسلمين، ويجمع شملهم على الهدى والصلاح إنّه على كلّ شيء قدير.
* * *
________________________________________
([1]) المتقي الهندي، كنز العمال:حديث رقم 24822، الطبعة الخامسة مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
([2]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 2: 443, الطبعة الأُولى, مؤسسة التاريخ العربي ـ بيروت1985.
([3]) التقريب بين المذاهب الإسلامية: (بحوث الندوة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ ايسيسكو ـ بالرباط)2: 297، الطبعة الأُولى 2003م.
([4]) مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم 4 : 1999,حديث رقم 2586 ,طبعة دار الفكرـ بيروت.