د. أبو القاسم فنائي(*)
مدخلٌ ــــــ
«عامِلْ الناس كما تحبّ أن يعاملوك».
إن الوقوع في الخطأ أثناء إصدار الأحكام الأخلاقية، والاختلاف بين الناس في تشخيص الحكم الأخلاقي للموضوعات، حقيقتان ثابتتان، لا يمكن إنكارهما في الحياة. وقد اقتضت هاتان الحقيقتان الواضحتان من البشر أن يعمدوا إلى تأسيس وتطوير علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق.
إن علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق إنما يبينان في واقع الأمر منطق السلوك، كما أن علم المنطق يبيّن أخلاق التفكير. وكلما كانت هواجس الإنسان في ما يتعلَّق بالسلوك الأخلاقي في الحياة والثبات على هذا السلوك أكثر كانت هواجسه تجاه تصحيح الأحكام الأخلاقية الصادرة عنه وعن الآخرين أكبر.
يسعى فلاسفة الأخلاق على الدوام إلى اكتشاف الأسس والضوابط التي يمكن من خلالها تجنُّب الأخطاء في الأحكام الأخلاقية، أو خفضها إلى الحدّ الأدنى، حتّى يمكن اعتبار الحدّ من الوقوع في الخطأ في إصدار الأحكام الأخلاقية أو تقليلها بوصفه الشأن والمهمّة الرئيسة للتنظير الأخلاقي.
لو أن الفرد أقرَّ بإمكان الخطأ في الأحكام الأخلاقية، والقدرة على الحياة دون الوقوع في هذا الخطأ، أو الحدّ منه على أقلّ تقدير، يكون في الحقيقة معترفاً بوجود صلةٍ بين الأخلاق والعقل والعقلانية؛ لأن إمكان الوقوع في الخطأ في الأحكام الأخلاقية يعني:
1ـ إن هذه الأحكام تنقسم إلى قسمين: «صحيحة»؛ و«خاطئة»، و«حسنة»؛ و«قبيحة»، و«مبرّرة»؛ و«غير مبرّرة»، و«معتبرة»؛ و«غير معتبرة»، أو «صادقة»؛ و«كاذبة».
2ـ يمكن إخضاعها بنظرةٍ ثانوية إلى النقد والتقييم العقلاني.
3ـ هناك ملاكات ومعايير عقلانية يمكن من خلالها الفصل والتمييز بين الأحكام الصائبة والحسنة والمبرَّرة والمعتبرة أو الصادقة، وبين الأحكام القبيحة والخاطئة وغير المبرّرة وغير المعتبرة أو الكاذبة.
إن المدَّعى الرئيس هنا هو أن الشروط المختلفة التي يجب أن تجتمع في حكمٍ معيّن لتجعل منه حكماً أخلاقياً، أو يمكن من خلالها تسميته حكماً أخلاقياً مبرّراً، تندرج ضمن مقولتي: «الشاهد المثالي»؛ و«المشهد الأخلاقي»؛ لأن الخطأ في الحكم الأخلاقي إما أن يكون ناشئاً عن الشاهد؛ وإما أن يكون ناشئاً عن المشهد، بمعنى أن الحكم إذا لم يكن حكماً أخلاقياً فذلك إما لأنه حكم أخلاقي غير مبرّر؛ أو لأن الذي أصدره لم يتَّصف بالشروط والأوصاف التي يجب توفّرها فيه؛ أو لأن ذلك الحكم لم يصدر عن مشهدٍ أخلاقي.
وعليه سوف نتناول خصائص الشاهد المثالي والمشهد الأخلاقي ضمن قسمين متتاليين. إلاّ أننا قبل الخوض في تفاصيل البحث نرى ضرورة للمزيد من البيان حول السرّ في حاجة البشر إلى الشاهد المثالي والمشهد الأخلاقي.
الحاجة إلى الشاهد المثالي والمشهد الأخلاقي ــــــ
إن «النقد»([1]) و«التقييم»([2]) و«قيمة الحكم»([3]) تعتبر من الأنشطة الاعتيادية والروتينية واليومية العامة بين جميع الناس. وفي هذه الأنشطة نعتبر حجّية واعتبار معايير وقيم وملاكات خاصّة بوصفها نقطة انطلاق مرحلية ومؤقَّتة، وعلى أساسها نحكم بشأن الموضوع مورد البحث([4]).
إن القِيَم والمعايير (والأسس المبيّنة أو المبرّرة لتلك المعايير والقِيَم) إنما تبيِّن في الحقيقة خصائص «العالم المثالي»، و«النموذج المثالي»، و«الفرد المثالي»، و«المجتمع المثالي»، و«الصحفي المثالي»، و«النائب المثالي»، و«السياسي المثالي»، و«المواطن المثالي»، و«الطبيب المثالي»، و«المعلم المثالي»، و«الطالب المثالي»، و«الأب المثالي»، و«الزوجة المثالية»، و«الولد المثالي»، وما إلى ذلك؛ أو أنها تنتزع وتعتبر من خلال أخذ هذه الخصائص بنظر الاعتبار. وليست الغاية من نقد وتقييم وبيان قيمة الحكم إلا إظهار مطابقة أو عدم مطابقة الموضوع أو الشخص مورد البحث مع العالم والنموذج والفرد والمصداق المثالي، وبُعْده وقربه من ذلك المثال النموذجي المطلوب والمنشود.
ويجدر بنا توضيح هذا المدَّعى من خلال المثال التالي: لنفترض أنك تريد شراء سيارة. لكي يكون قرارك في شراء هذه السيارة عقلانياً لا بُدَّ قبل كلّ شيء من أن تكوّن في ذهنك صورةً واضحة عن السيارة الجيّدة. إن الصورة الذهنية التي تحملها عن السيارة الجيدة تحمل خصائص ومواصفات الفرد المثالي للسيارة، ويمكن لك أن تصف هذه الصورة في إطار عددٍ من الأصول والقواعد العامة([5]). فعلى سبيل المثال يمكنك القول: إن خصائص السيارة الجيّدة عبارةٌ عن كونها:
1ـ قليلة الاستهلاك للوقود.
2ـ فائقة السرعة (أو سريعة جدّاً).
3ـ متينة وقويّة.
4ـ واسعة (فارهة ومريحة).
5ـ ذات ماركة معروفة في سمعتها.
6ـ صديقة للبيئة، وأمينة، ومشمولة للضمان والتأمين الحكومي، وما إلى ذلك.
إن هذه المعايير تبيّن في الحقيقة بعض صفات «الفرد المثالي» للسيارة، وإن هذه القائمة مفتوحة، وليس لها حدّ تقف عنده، ولذلك يمكن إصلاحها وتعديلها ونقدها وتقييمها بشكلٍ مستمر. وكلّما كانت السيارات المنتجة متّصفة بأكثر هذه الصفات كانت أقرب إلى الفرد المثالي. فمن الممكن لسيارةٍ أن تكون جيدة من جهةٍ، وسيئة من جهةٍ أخرى.
إن المسألة الهامّة التي تثبت من خلال هذا المثال هي أن صفة «الحُسْن»، التي هي صفةٌ معيارية، لا تعرض على موضوعها بشكلٍ مباشر ومن دون واسطة، وإنما يكون عروضها على موضوعها من خلال الصفات المعيارية وغير المعيارية الأخرى([6]).
وإن هذه المسألة الهامّة تتضمن مسائل هامّة أخرى نشير في ما يلي إلى بعضها:
1ـ إن الأوصاف المعيارية تنبثق من صلب بعض الأوصاف «الموضوعية»([7]) و«الواقعية»([8]) للموضوع، وتحمل على تلك الأوصاف والخصائص. إن هذا الارتباط هو نوع من الارتباط «الأنطولوجي»([9]) و«الميتافيزيقي».
2ـ إن هذا الارتباط يُنتج بدوره نوعاً من العلاقة «المعرفية»([10]) بين العلم والقِيَم([11]). فإذا سألكَ أحدُهم: «كيف كانت هذه السيارة جيدة؟» ستقول له في الجواب: «لأنها تستهلك القليل من الوقود»، أو «لأنها قويّة»، وهكذا.
3ـ وعليه فإن الأحكام المعيارية الأمّ أو الأولى إنما تكتشف ويتمّ تبريرها من خلال التجربة أو المشاهدة، وليس من خلال الاستدلال القياسي بالمعنى المتعارف للكلمة. هذا أوّلاً.
وثانياً: إن الأحكام المعيارية «الاستنتاجية»([12]) و«الاشتقاقية»([13]) إنما تقبل التبرير من خلال التمسُّك بتركيب القضايا العلمية والفلسفية بحكم أو مجموعة من الأحكام المعيارية الأمّ([14]).
4ـ ليس هناك موضوعٌ يتوفّر على مجرّد الصفات المعيارية فقط؛ إذ لا يمكن الادّعاء بأن السيارة جيّدةٌ دون الأخذ بنظر الاعتبار الصفات والخصائص التي أوجبت جودتها.
5ـ إن الصفات الموضوعية غير المعيارية تنقسم إلى مجموعتين، وهما: «ذات صلة»([15])؛ و«غير ذات صلة»([16]). وفي ما يتعلق بالسيارة تعتبر «قلّة الاستهلاك للوقود» من الصفات ذات الصلة، إلاّ أن دين ومعتقد مَنْ قام بإنتاجها وتصنيعها، أو أيديولوجية ورؤية الشاري والبائع في حدّ ذاتها، لا تلعب دوراً في جودة السيارة أو عدم جودتها، ولذلك فإن هذه الأمور تعتبر صفات وخصائص «غير ذات صلةٍ».
6ـ لو كان هناك شيئان يتّصفان بصفات موضوعية غير اعتبارية واحدة كانت صفاتهما المعيارية واحدة أيضاً. فعلى سبيل المثال: لا يمكن الادّعاء بوجود سيارتين تتّصفان بذات الصفات ذات الصلة، ومع ذلك تتّصف إحداهما بالجودة والأخرى بغير الجودة([17]).
7ـ لو كان لشيئين صفات معيارية مختلفة كانا مختلفين حتماً في صفاتهما الموضوعية غير المعيارية أيضاً. فإذا كانت إحدى السيارتين جيّدة والأخرى غير جيدة كانت الأولى مثلاً قليلة الاستهلاك للوقود والأخرى كثيرة الاستهلاك، وهكذا.
إن هذه المسائل تصدق بشأن جميع أنواع النقد والقِيَم وقِيَم الأحكام، ومنها: النقد والتقيم وقيم الأحكام الأخلاقية. أما المسألة المرتبطة ببحثنا الراهن مباشرة فهي أن إدراك وإصدار الحكم الاعتباري، وبيان خصائص الفرد المثالي لنوعٍ أو طبقة، وكذلك تطبيق تلك الخصائص على الفرد المشكوك ومورد النزاع، يتوقَّف على أن ينظر «الشاهد المثالي» إلى الموضوع مورد البحث من زاوية «المشهد الخاصّ». وعليه يمكن تعريف الحكم المعياري أو الحكم المعياري «المعتبر» و«المبرَّر» على النحو التالي: «إن الحكم المعياري أو الحكم المعياري «المعتبر» و«المبرّر» عبارةٌ عن: حكم الشاهد المثالي الذي ينظر إلى الموضوع من زاوية المشهد ذي الصلة به».
يمكن للمشهد الخاص ذي الصلة أن يكون مشهداً «أخلاقياً» أو «فقهياً» أو «دينياً» أو «عرفياً» أو «اقتصادياً» أو «سياسياً» أو «حقوقياً» وما إلى ذلك. وعليه فإن هذا المشهد يختلف من حقلٍ إلى آخر([18]).
وعلى هذا الأساس فإن معرفة أو تبرير الحكم أو المعتقد الأخلاقي يقوم على ركنين رئيسين، وهما:
1ـ الشاهد المثالي.
2ـ المشهد الأخلاقي.
بمعنى أن الحكم والمعتقد الأخلاقي أو الحكم والمعتقد الأخلاقي المبرّر ـ بحسب التعريف ـ عبارةٌ عن: حكم ومعتقد الشاهد المثالي الذي ينظر إلى الموضوع مورد البحث من زاوية المشهد الأخلاقي. ونحن لكي نعرف الحكم الأخلاقي، أو لكي نعرف ما هو الحكم الأخلاقي المبرَّر على المستوى الأخلاقي، لا مندوحة لنا من الرجوع إلى الشاهد المثالي الذي ينظر إلى الموضوع من زاوية المشهد الأخلاقي([19]).
وإذا تجاوزنا بعض الآراء الشاذّة والنادرة في فلسفة الأخلاق نجد إجماعاً من قبل فلاسفة الأخلاق على أن الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرَّر ليس حكماً يصدره الفرد في لحظته الفعلية والراهنة، ويكون في إصداره لذلك الحكم ملتفتاً إلى الأوضاع والأحوال المحيطة به أو التي ستحيط به في المستقبل؛ إذ من الممكن للفرد في «الوضع الراهن» أن يكون:
1ـ غير مطَّلع بالمقدار الكافي على الأمور الواقعية غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية.
2ـ أن يأخذ الأمور غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية بنظر الاعتبار، ويدخلها في حكمه.
3ـ أن يتأثَّر بمشاعره غير الأخلاقية أو ميوله ومصالحه الشخصية. ومن الطبيعي أن أحكام الفرد الذي يعيش هذه الأوضاع إما أن لا تكون مبرّرة؛ أو غير أخلاقية أساساً، وإلا لم تكن هناك حاجةٌ إلى علم الأخلاق أو فلسفة الأخلاق.
ولرفع هذه المشكلة، والحيلولة دون الوقوع في الأخطاء، أو الحدّ منها، في مقام إصدار الحكم الأخلاقي، قدَّم فلاسفة الأخلاق طرق حلٍّ مختلفة. إلا أنني أذهب إلى الاعتقاد بأن الحلّ المشتمل على جميع هذه الحلول يعود إلى شرطين، وهما:
1ـ أن يكون الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرّر هو حكم «الشاهد المثالي».
2ـ أن يكون الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرّّر صادراً عن «المشهد الأخلاقي».
بمعنى أنه لكي يكون الحكم أخلاقياً، أو لكي يكون الحكم الأخلاقي مبرّراً، لا بُدَّ لكلٍّ من الشاهد والمشهد أن يتّصف ببعض الصفات والخصائص. إن الشاهد المثالي في حقل الأخلاق هو غير الشاهد المثالي من الحقول الأخرى، كما أن المشهد الأخلاقي يختلف عن المشاهد الأخرى. وهذا ما سوف نتناوله بالبحث من خلال العنوانين التاليين([20]).
خصائص الشاهد المثالي ــــــ
إن إصدار أو إدراك الحكم الأخلاقي رهنٌ بالخصائص والصفات التي يجب أن تتوفر في «حَكَم الأخلاق».
فمن جهةٍ يمكن القول: إننا نحن البشر لا نمتلك الصلاحية اللازمة لإدراك أو إصدار الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرّر، ولذلك فإن أحكامنا الأخلاقية دائماً ما تكون عرضة للنقد.
ومن جهةٍ أخرى يمكن القول: إننا نمتلك صلاحية نقد الأحكام الأخلاقية الصادرة عنا أو عن غيرنا ـ كما أننا نمارس هذا النقد على المستوى العملي أيضاً ـ، وهذا يُثبت بنحوٍ من الأنحاء أننا نمتلك صلاحية إدراك أوتشخيص أو إصدار الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرّر.
إن المقارنة بين هاتين الحالتين تدفعنا إلى الكشف عن الصلاحيات الضرورية في صحّة الحكم الأخلاقي. ويمكن توضيح الاختلاف بين هاتين الحالتين في إطار هذين المصطلحين: «الوضعية الراهنة»([21])؛ و«الوضعية الأصلية»([22]) أو «الوضعية المثالية»([23])، حيث تظهر القائمتان التاليتان بعض الاختلافات الهامّة بين هاتين الوضعيتين.
قائمة الوضعية الراهنة ــــــ
1ـ إدراك الأمور والوقائع غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية، وإدخالها في الحكم الأخلاقي.
2ـ الجهل بالأمور والوقائع ذات الصلة من الناحية الأخلاقية.
3ـ الانحياز وعدم الإنصاف.
4ـ الافتقار إلى التجربة والبصيرة الأخلاقية.
5ـ النظر من زاوية المشهد غير الأخلاقي.
6ـ التمسُّك بالأصول الأخلاقية غير المبرّرة.
7ـ التمسُّك الاعتباطي بالأصول الأخلاقية المبرّرة.
8ـ عدم التناغم في إصدار الأحكام.
9ـ عدم الرحمة، وعدم إضمار الخير للآخرين.
10ـ الاحتيال والافتقار إلى المصداقية.
11ـ عدم الجدّية في تشخيص الحكم الأخلاقي أو الوقائع والأصول ذات الصلة.
12ـ العجز عن حلّ التعارض الحاصل بين الأصول الأخلاقية.
13ـ الجزمية، وتجاهل الأحكام الأخلاقية الصادرة عن الآخرين.
14ـ الإيمان بالتقاليد الأخلاقية، دون تمحيصها ونقدها.
قائمة الوضعية الأصليّة أو المثالية ــــــ
1ـ الجهل بالأمور والوقائع غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية، أو عدم إدخالها في الأحكام الأخلاقية.
2ـ الإدراك الكافي للأمور والوقائع ذات الصلة من الناحية الأخلاقية.
3ـ الحياد والإنصاف.
4ـ امتلاك التجربة والبصيرة الأخلاقية.
5ـ النظر إلى الأمور من زاوية المشهد الأخلاقي.
6ـ التمسُّك بالأصول الأخلاقية المبرّرة.
7ـ التمسُّك المنطقي بالأصول الأخلاقية المبرّرة.
8ـ التناغم في إصدار الأحكام.
9ـ الاتّصاف بالرحمة، وإضمار الخير للآخرين.
10ـ المصداقية والأمانة.
11ـ الجدّية في تشخيص الحكم الأخلاقي والوقائع ذات الصلة.
12ـ القدرة على حلّ التعارض بين الأصول الأخلاقية (الحكمة).
13ـ التواضع العقلاني، والاهتمام بالأحكام الأخلاقية الصادرة من قبل الآخرين.
14ـ نقد الأخلاق التقليدية.
ويمكن لكلٍّ من هاتين القائمتين أن تخضع للتقييم والإصلاح والتكميل. وفي الوقت نفسه ـ كما هو واضحٌ ـ فإنّ بعض هذه الخصائص تتعلَّق بشخص الحَكَم. ونحن نسمّي الشخص الذي يتّصف بهذه الخصائص بـ «الشاهد المثالي»، وعليه فإن الشاهد المثالي في حقل الأخلاق هو:
1ـ المطّّلع بالمقدار الكافي([24])، بمعنى أنه مدركٌ للوقائع ذات الصلة التي تتدخّل بنحوٍ من الأنحاء في الحكم الأخلاقي.
2ـ الذي يتمتّع بالتجربة والبصيرة الأخلاقية والحكمة العملية.
3ـ الذي يتّصف بالحياد والإنصاف، ولا يكون لمصالحه الشخصية تأثيرٌ في حكمه.
4ـ الرحيم الذي يُضْمر الخير للآخرين.
5ـ الذي يتّصف بالصدق والأمانة، والذي يكون بريئاً من الاحتيال والكذب.
6ـ الذي ينظر إلى الموضوع من زاوية المشهد الأخلاقي (ليس مستبدّاً، ولا مصلحياً، ويرى أن التقدُّم يكون للحقّ عند التعارض بينه وبين المصلحة).
7ـ الذي تكون الأصول الأخلاقية التي يستند إليها مبرَّرة.
8ـ الذي يكون تمسُّكه بالأصول الأخلاقية المبرَّرة منطقياً.
9ـ الذي تكون أحكامه متناغمة.
10ـ الذي يسعى بجدّية وصدق في تشخيص الحكم الأخلاقي والوقائع ذات الصلة والأصول الأخلاقية ذات الصلة.
11ـ الذي لديه القدرة على حلّ التعارض الأخلاقي، من طريق تشخيص الأصل الأخلاقي الأهمّ (أي إنه حكيمٌ).
12ـ الذي يتمتّع بالتواضع العقلاني، ولا يكون من القائلين بالحَتْمية والجَزْم، ويهتمّ بالأحكام الأخلاقية الصادرة عن الآخرين.
13ـ الذي يتعامل مع الأخلاق التقليدية بأسلوبٍ نقدي([25]).
خصائص المشهد الأخلاقي ــــــ
يُعَدّ المشهد الأخلاقي من ذاتيات ومقوّمات الأخلاق، ومعياراً للفصل والتفكيك بين الحكم الأخلاقي والحكم غير الأخلاقي. إلاّ أن فلاسفة الأخلاق يختلفون في تفسير المشهد الأخلاقي، حيث يبرِّرون آراءهم بشأن هذا المشهد من خلال التمسُّك بالمشاهدات التي يمتلكها الناس حول خصائص هذا المشهد، واختلافه عن سائر المشاهد المعيارية الأخرى.
وفي الحقيقة يمكن القول: إن الآراء المختلفة الموجودة في تفسير المشهد الأخلاقي هي جهود من أجل «التنسيق» و«الإصلاح» العقلاني لهذه المشاهدات. ولذلك فإن نقد وإبطال هذه الآراء إنما يتمّ عبر تقييمها ووضعها في ميزان التجربة والمشاهدة الأخلاقية. وبعبارةٍ أخرى: إن المشهد الأخلاقي هو «النظرية الأخلاقية»، أو إنه يشكِّل الهيكل والعمود الذي تقوم عليه النظرية الأخلاقية.
إن المشهد الأخلاقي يتمّ بيانه في إطار حكمٍ أو عدد من الأحكام الأخلاقية الأساسية، والتي يمكن من خلالها الحكم بشأن سائر الأحكام الأخلاقية الأخرى، وتشخيص ما هو الأخلاقي أو غير الأخلاقي، وما هو المبرّر وغير المبرّر منها.
إن «المشهد الأخلاقي» يختلف عن «المشهد الشخصي» و«المشهد الفئوي» و«المشهد النقابي» و«المشهد المصلحي» و«المشهد الحقوقي» و«المشهد الفقهي» و«المشهد السياسي» و«المشهد الديني». إن هذا المشهد هو نوع من المشهد «اللامكاني». وإن الرؤية من زاوية هذا المشهد إلى موضوعٍ ما إنما هي في الحقيقة «رؤية من اللامكان إلى كلّ مكان»([26])، أو «الرؤية بعين الله» إلى ذلك الموضوع.
كما أن المشهد الأخلاقي يختلف أيضاً عن «مشهد الحكام» و«مشهد المحكومين»؛ لأن هذا المشهد من مقتضيات الهويّة الإنسانية والعقلانية للإنسان، والتي تعتبر من ذاتيّاتها التي تتقدَّم على هويّاته العرضية، من قبيل: الهوية الدينية والنقابية والوطنية والقومية والجنسية.
إن الخصائص التي يجب توفُّرها في الحكم المعياري؛ لكي يمكن اعتباره معياراً أخلاقياً، تنقسم إلى قسمين، وهما: الخصائص الصورية؛ والخصائص المضمونية. وفي الحقيقة يمكن القول: إن هذه الخصائص تبيِّن مقتضيات العقلانية في حقل الأخلاق. وكما تقدَّم أن ذكرنا هناك الكثير من النظريات في ما يتعلَّق بخصائص المشهد الأخلاقي، وسوف نسعى هنا إلى المرور على بعض هذه النظريات باختصارٍ.
أـ الأخلاق الواقعية ــــــ
إن «الأخلاق الواقعية» اسمٌ لنظرية في باب المشهد الأخلاقي. إن هذه النظرية تصف الدرجة الممكنة الأدنى من العقلانية في ما يتعلَّق بالأخلاق؛ حيث إن الشرط الوحيد الذي تشترطه هذه النظرية ليكون الحكم أخلاقياً هو أن يكون هذا الحكم «واقعياً»، أو أن لا يكون «لغواً».
ويمكن تبويب هذه النظرية على النحو التالي: «إن الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرَّر هو الحكم الذي لا يكون لغواً».
تقول هذه النظرية: لو لم يكن الحكم المعياري لغواً، وكان واقعياً، أمكن اعتباره حكماً أخلاقياً مبرّراً، بمعنى أن الحكم المعياري؛ لكي يكون حكماً أخلاقياً أو مبرّراً، لا يحتاج إلى شيءٍ أكثر من ذلك.
ولبيان تطبيقات هذا الأصل العامّ يمكن لنا أن نشير إلى موردين: الأوّل: حيث لا يمكن تنفيذ الحكم المعياري مورد البحث؛ بسبب عجز الشخص عن تنفيذه، من قبيل: الأمر بالمحال، أو التكليف بما لا يطاق؛ والآخر: عندما يتمّ الجمع بين الحكم مورد البحث وضدّه في موضعٍ واحد، كالأمر بشيءٍ والنهي عنه في وقتٍ واحد (والمورد الثاني هو في الحقيقة مصداقٌ للمورد الأول).
ولكنْ هناك الكثير ممّا يمكن طرحه بشأن هذه النظرية.
وفي ما يلي نشير إلى بعض الأمور التي يمكن طرحها بهذا الشأن:
الأمر الأوّل: إن الشرط المذكور في هذه النظرية لا يختصّ بحقل الأخلاق، بل يشمل حتّى القِيَم والمعايير الحقوقية والفقهية وغيرهما أيضاً، بمعنى أن القيم والمعايير الحقوقية والفقهية إذا افتقرت إلى هذا الشرط سيتمّ إبطالها([27]). وعليه فإن هذه النظرية لا تبيّن المشهد الأخلاقي وإنما تضع الإصبع على صفةٍ عامة يجب أن تتوفَّر في جميع الأحكام المعيارية، سواء أكانت من الأحكام الأخلاقية أو المصلحية أو الحقوقية أو الفقهية وما إلى ذلك. ولذلك لا يمكن من خلال الأصل الواقعي فصل الحكم الأخلاقي عن الأحكام الصادرة عن المشاهد الموازية والمشابهة.
وبعبارةٍ أخرى: إن هذه النظرية تبيِّن الأصل أو القاعدة المعيارية التالية: «قبح التكليف بما لا يُطاق» أو «استحالة التكليف بما لا يمكن القيام به». وإن هذه القاعدة المعيارية تعدّ واحدةً من أصول أخلاق التشريع (التقنين) بشكلٍ عامّ، ولا تختصّ بالتقنين أو الاعتبار الأخلاقي.
إلاّ أن الأمر الهامّ في البين هو: أوّلاً: إن أخلاق التقنين لا تختزل في هذا الأصل، وهناك معايير أخرى أيضاً، ناظرة إلى طريقة التشريع والتقنين المثالي والمنشود.
وثانياً: إذا قبلنا بأن معايير أخلاق السلوك اعتبارية لا يمكن لنا أن ندَّعي أنّ معايير أخلاق التشريع اعتبارية بهذا المعنى أيضاً؛ إذ لا محصّل لتبرير أو إبطال الحكم الاعتباري من خلال التمسُّك بحكم اعتباري من سنخه ورتبته.
أجل، يمكن القول: إن معايير أخلاق التشريع والتقنين هي من اعتبار «العقل العملي»، وإن هذه المعايير تعمل على توجيه العقلاء في مقام التشريع والتقنين. ولكنْ لا يمكن القول: إن معايير أخلاق التشريع من اعتبارات العقلاء أيضاً؛ لأن العقلاء بما هم عقلاء بحاجةٍ إلى تبرير عقلاني لاعتبار حكمٍ ما، بمعنى أن الاعتبارات العقلائية عبارةٌ عن الاعتبارات المنسجمة مع الضوابط والمعايير العقلانية الحاكمة على الاعتبار، وإلاّ لن يكون هناك فرقٌ بين الاعتبارات العقلائية والاعتبارات الأخرى.
ولكنْ في مثل هذه الحالة يمكن القول: إنّه بالإمكان الكشف عن معايير العقل العملي والتعرُّف عليها من طريق العقل النظري، بمعنى أن العقل النظري يمكنه أن يُثبت ما إذا كان للعقل العملي مثل هذا الحكم أم لا. ومن خلال التعرُّف على هذه المعايير يمكن الكشف عن اعتبارات العقلاء، التي هي نتيجة تطبيق تلك المعايير عن الموارد الخاصة والتعرُّف عليها. وبعبارةٍ أخرى: إن أحكام وأوامر العقل العملي هي نوعٌ من الواقعية التي يتمّ إدراكها من خلال التجربة والمشاهدة.
فلو قلتُ: «إن التكليف بما لا يُطاق ليس قبيحاً من الناحية العقلية»، وكان العقل يحكم بقبح التكليف بما لا يُطاق، سأكون كاذباً، بمعنى أن سنخيَّتي لا تطابق الواقعية الناظرة إلى ذلك الحكم والمعبّرة عنه؛ لأن العقل يحكم بذلك، بينما ذكرتُ أن العقل لا يحكم بذلك.
إن العبارات التي تستعمل في إصدار الأمر والإنشاء، أو اعتبار الضرورة والحظر، هي عباراتٌ غير خَبَرية، وغير معرفية، ولا تقبل الاتّصاف بالصدق والكذب. وأما العبارات التي يخبر بها الفرد عن صدور أمرٍ، أو إنشاء واعتبار للضرورة والحظر، فهي عباراتٌ خَبَرية، ومعرفية، وقابلة للاتّصاف بالصدق والكذب. وعليه فإنّ العبارات التي تخبر عن الأمر والنهي والإنشاء والاعتبار تحكي عن قضايا «حقيقية»، لا عن قضايا «اعتبارية». وإن التفكيك بين الإدراكات الاعتبارية والإدراكات الحقيقية، وتَبَعاً لذلك التفكيك بين العلوم الحقيقية والعلوم الاعتبارية، ورسم الحدّ الفاصل بينهما، يقوم على التسامح.
ومن الجدير بالذكر أن «قبح التكليف بما لا يطاق» معيارٌ اشتقاقي نحصل عليه من خلال تطبيق أصلٍ عامّ على مورد التشريع والتقنين. إن هذا الأصل العامّ يقول: «إن الأمر العَبَثي، والذي يُعَدّ لغواً، قبيح»، أو «يجب عدم ارتكاب اللغو والعبث». وإن هذا الأصل يبيِّن بديهيةً من بديهيات «العقل العملي»، أو يبيِّن بديهيةً من بديهيات «العقل النظري»، بمعنى أنه ليس مهمّاً أن نقول بوجود «القبيح»، أو ارتباط «الوجوب» بالعالم الخارجي من الناحية الوجودية والميتافيزيقية، وأنّ بالإمكان معرفته من طريق العقل، وأنْ لا دور للعقل في تحقُّق هذه الصفة؛ أو أن نقول بعدم وجود مثل هذه الصفة والارتباط في عالم الخارج، وأنها تعتبر من قبل العقل، وأنها إنما توجد في عالم الاعتبار بالوجود الاعتباري؛ إذ إن هذا الوصف والارتباط في كلتا الحالتين سوف يكون موجوداً في ما وراء «العقل النظري»، ويمكن للعقل النظري أن يتصوَّر أو يُصدِّق بوجوده وعدمه، بمعنى أن هذا الحكم في كلتا الحالتين يُعَدّ من بديهيات العقل النظري. وإذا كان هناك من اختلافٍ فهو يكمن في أن هذا الحكم، مضافاً إلى ذلك، هل هو من بديهيات العقل العملي أيضاً أم لا؟ (يمكن التعرّف على اعتبارات العقل العملي من خلال العقل النظري، ويمكن للعقل النظري أن يخبرنا عما إذا كان لدى العقل العملي مثل هذا الاعتبار أو لا). والمهمّ هو أن هذا الحكم يصدر بنحوٍ من الأنحاء عن العقل (والعقلانية)، ويمكن تصوُّره وتصديقه من خلال الرجوع إلى العقل. وإن المعتقد أو القضية التي تعبِّر عن هذا الأصل يمكن تأييدها وإبطالها وتبريرها من الزاوية المعرفية.
وفي الوقت نفسه يمكن القول:
1ـ إن بديهيات العقل المعياري لا تختزل في هذا الأصل.
2ـ ومن خلال المزج بين «الضرورات» البديهية (البديهيات المعيارية) وبين «الموجود» يمكن استنتاج وتبرير المعايير و«الضرورات» الفرعية والاشتقاقية.
وأما سبب عدم حصر البديهيات العقلية المعيارية في هذا الأصل فلأن هذا الأصل البديهي يتمّ إدراكه وتصديقه من طريق المشاهدة العقلانية. وإن ذات هذه المشاهدة التي نحصل من خلالها على مثل هذا التصوُّر والتصديق تقول لنا بأن المعتقدات المعيارية والبديهية متكثِّرة في ذاتها، ولا تختزل بهذا الأصل، ولا يمكن تحويلها وخفضها إلى أصلٍ واحد.
وعلى أيّ حال فإن من الواضح لنا أن معيار نقد الأفكار الاعتبارية لا يُختزل في «الواقعية» و«عدم اللغو».
يقول العلامة الطباطبائي والشيخ مطهّري، بعد تأكيدهما على وجود الحائل المنطقي بين الحقائق والاعتبارات، ونفي الارتباط الاستنتاجي بين الأفكار الحقيقية والأفكار الاعتبارية: إن «اللغو» هو المعيار الوحيد الذي يمكن من خلاله نقد وتقييم الأفكار الاعتبارية، بمعنى أن الاعتبار إنما يكون غير مبرَّر وغير معقول إذا كان لغواً، ولم يكن بإمكان الشخص الذي أصبح نافذاً في حقِّه أن يتّبعه. وبعبارةٍ أوضح: «يقبح التكليف بما لا يُطاق»([28]).
وقد عمد الدكتور سروش بدوره إلى الدفاع عن رؤيةٍ شبيهة بهذه الرؤية في فصلٍ تحت عنوان «الأخلاق الواقعية» من كتابه (دانش وأرزش)، حيث ذهب إلى الاعتقاد بأن الأفكار الاعتبارية يمكن إبطالها من خلال التمسّك بالحقائق، إلاّ أن هذه الأفكار لا يمكن إثباتها أو تأييدها من هذا الطريق([29]).
إلاّ أن الذي نراه هو عدم وجود فرقٍ بين الإثبات والإبطال من الناحية المنطقية، ولا ينبغي فهم الارتباط الاستنتاجي بين الحقائق والاعتبارات مساوياً للإثبات والتأييد. وإذا عُدّ إثبات أو تأييد قضية اعتبارية بمساعدة قضية حقيقية محضة مغالطةً كان إبطالها من هذا الطريق مغالطةً أيضاً. وإذا توقَّف إمكان إبطال قضية اعتبارية على التلفيق بين القضايا الحقيقية والاعتبارية كان إثباتها ممكناً من هذا الطريق فقط. فلو أن الفرد آمن بشكلٍ مسبق بـ «قبح اللغو» لا يمكنه أن يقول: «إن اعتبار اللغو قبيحٌ وباطل»، بمعنى أن قبح اعتبار اللغو مصداقٌ لكبرى كلّية. ولو أن شخصاً لم يؤمن مسبقاً بـ «قبح التكليف بما لا يُطاق» لا يمكنه أن يستنتج عدم معقولية تكليف خاصّ، أو عدم كونه مبرراً؛ لكونه يفوق الطاقة (كان الأشاعرة يذهبون إلى القول بعدم قبح التكليف بما لا يُطاق، ولذلك كان «الجبر» ـ من وجهة نظرهم ـ ينسجم مع «المسؤولية» و«التكليف»).
وعليه فإن صحّة واعتبار هذا النوع من الاستدلال والاستنتاج في دائرة الاعتبارات يتوقّف من الناحية المنطقية على وجود قضية اعتبارية بديهية في الحدّ الأدنى، بحيث إن هذه القضية نفسها لا يمكن تبريرها من خلال هذا النوع من الاستدلال والاستنتاج، ولا بُدَّ من الحصول على تبريرها اللااستنتاجي من طريقٍ آخر.
ولكنْ لو قبلنا بمثل هذا التحليل أمكن لنا القول بعدم وجود أيّ دليلٍ يثبت أن القضية الاعتبارية التي نحتاج إليها لإثبات الصحّة والاعتبار المنطقي لهذا النوع من الاستدلال والاستنتاج هي مجرَّد قضية واحدة. فإلى جانب «قبح اللغو» و«قبح التكليف بما لا يُطاق» هناك اعتباريات وقضايا كبريات أخرى أيضاً، وهي تحمل ذات الخصائص، ويمكن لها أن تلعب ذات الدَّوْر في تبرير القضايا الاعتبارية. كما أنها تبرّر من ذات الطريق الذي برّر هذه القضية. ومن خلال المزج بين بعض هذه القضايا الاعتبارية والقضايا الحقيقية يمكن تأييد وتبرير القضايا الاعتبارية الفرعية والاشتقاقية، دون أن يكون هناك خصوصيةٌ للنفي والإبطال.
وبعبارةٍ أخرى: لا خصوصية لاستنتاج الاعتباريات من الحقائق. كما لا يمكن استنتاج أيّ حقيقة من أيّ حقيقةٍ أخرى. وكما لا يمكن الاستدلال بكلّ شيء على كلّ شيء لا يمكن استنباط أيّ اعتبار من صُلْب كلّ حقيقة. فلا خصوصية لكون الشيء حقيقياً، ولا خصوصية لكونه اعتبارياً، ولا خصوصية للإثبات والإبطال. والقاعدة العامّة تقول: إن صحّة واعتبار الاستنتاج والاستدلال على المستوى المنطقي رهنٌ بتناسب وسنخية نتيجة ومقدّمات الاستدلال. وإنّ هذا التناسب وهذه السنخية تحصل من خلال حضور نتيجة الاستدلال ضمن المقدّمات بنحوٍ من الانحاء، بمعنى أنه ليس هناك أيّ مفهوم في نتيجة الاستدلال لا يكون في مقدّماتها. فلو كانت نتيجة الاستدلال قضية اعتبارية كانت إحدى مقدّمات الاستدلال قضية اعتبارية من ذلك السنخ حَتْماً، وإن المفاهيم الموجودة في النتيجة يجب أن يكون لها حضورٌ في ضمن المقدّمات أيضاً.
إلاّ أن سلسلة هذه الأدلّة يجب أن تنتهي إلى قضيةٍ أو قضايا بديهية وغير استنتاجية، قابلة للتبرير من طريق آخر غير الاستدلال.
وعليه فإن الاعتبار المنطقي للاستدلال في دائرة المعايير والاعتبارات يتوقَّف على وجود قضيةٍ أو عدد من القضايا الاعتبارية البديهية.
يرى أغلب الفلاسفة أن هذه القضايا قابلة للتبرير من طريق المشاهدات العقلانية. إلاّ أن الأمر الهام هو أن هذه القضايا متعدِّدة ومتكثّرة، وإن المشاهدة التي تقول: «إن اللغو والتكليف بما لا يُطاق قبيحٌ» تقول أيضاً: إن هناك شروطاً وضوابط ومعايير أخرى يكون تبرير الاعتبار العقلائي رَهْناً بها أيضاً. وهناك قضايا اعتبارية أخرى يمكن من خلال مزجها وتركيبها مع قضايا حقيقية تأييد وتبرير أو إبطال قضايا اعتبارية فرعية واشتقاقية أيضاً.
وعليه فإن فصل الحقائق عن الاعتباريات لا يشتمل على النتيجة التي ينشدها القائلون بهذا الفصل، وإن النتيجة القائلة: «لا يمكن إثبات قضية معيارية واعتبارية من الناحية المنطقية والاستدلالية من خلال القضايا الحقيقية المحضة والبحتة، وبالعكس» لا يترتّب على القول بهذا الفصل والتفكيك؛ لأن الامتناع المنطقي لمثل هذا الاستنتاج لا يختص بالحقائق والاعتباريات، وإن مثل هذا الحائل المنطقيّ قائمٌ حتى بين الحقائق الفلسفية والحقائق العلمية وبين الحقائق الفيزيائية والكيميائية أيضاً.
وعليه لا خصوصية ولا موضوعية لكون الشيء حقيقياً، أو لكونه اعتبارياً. وعليه لا يمكن أن نستنتج من هذا الفصل والتفكيك أن دور القضايا الحقيقية في الاستدلال في مجال المعايير والاعتباريات يُختزل بالإبطال، ولا يمكن أن نستنتج أن القضايا المعيارية والاعتبارية مجرَّد قابلة للإبطال، وأن إثباتها أو تأييدها مغالطةٌ، ولا يمكن أن نستنتج أن المعايير والاعتباريات تنشأ عن أذواق وأمزجة الأفراد الراهنة والفعلية، ولذلك فهي خارجةٌ عن مقسم العقلانية، ولا تقبل النقد والتقييم العقلاني، ولا يمكن الاحتجاج لها، أو يمكن مجرَّد الاحتجاج بلسانها فقط. فلا شيء من هذه النتائج يترتَّب على ذلك التفكيك.
ومضافاً إلى ذلك، إن تفكيك الحقائق عن الاعتباريات ليس فيه أيّ دلالة على وجود «حائل معرفي» بين العلوم الحقيقية والعلوم المعيارية والاعتبارية. إن بعض الأوصاف والروابط المعيارية والاعتبارية تقوم على الحقائق. ويمكن اكتشاف أيّ وصف أو رابطة معيارية واعتبارية قائمة على أيّ وصف أو أيّ ارتباط حقيقي من خلال المشاهدات العقلانية. وإن الاعتبار المعرفي لهذه المشاهدات لا يقلّ أبداً عن اعتبار المشاهدة الحسيّة التي تدعم القضايا الحسيّة والقضايا العلمية أبداً.
كما أنّ الكثير من الأعمال اللاأخلاقية تنسجم مع معيار عدم اللغو، بمعنى أن ضابط عدم اللغو والرؤية الواقعية لا يختلف كثيراً عن فقدان الضابط في حقل الاعتباريات؛ لأن هذا المعيار من السعة بحيث يمكن للكثير من الأفعال القبيحة والسيئة على المستوى الأخلاقي أن تدخل في إطاره. فعلى أساس هذا المعيار يمكن القول مثلاً: حيث إن الإبادة الجماعية لسكان مدينةٍ كبرى في لحظات لا يتأتَّى من الأفراد العاديين لا يمكن تحميلهم تبعات هذه الجريمة، ويكون اعتبار مثل هذه المسؤولية لغواً ومخالفاً للواقعية. إلا أن اعتبار مثل هذه المسؤولية في حقّ شخصٍ مثل: صدام أو نيرون مبرَّر وطبيعي؛ لأن مثل هذا الاعتبار في حقّ أمثال هذين الشخصين ليس لغواً، وإنما هو واقعي؛ لكونهما مؤهَّلين لتحمّل مثل هذه المسؤولية.
وبعبارةٍ أخرى: إن معيار عدم اللغو ليس معياراً مجدياً، ولا يمكن له أن يُلبّي حاجتنا في تشخيص وتفكيك الاعتبار المبرّر عن الاعتبار غير المبرّر بشكلٍ كامل؛ فإن هذا المعيار إنما هو في «الحدّ الأدنى»، ولا ينفعنا إلاّ في مجرّد الكشف عن عدد ضئيل من المعايير والاعتبارات غير المبرّرة، بمعنى أن الكثير من المعايير والاعتبارات التي تعتبر على أساس هذا المعيار مبرّرة هي في الواقع غير مبرّرة، وأن بالإمكان اكتشاف أنها غير مبرّرة من خلال المشاهدات. ولذا فإن مشاهدتنا الأخلاقية تقول: إننا لا نستطيع الاكتفاء بهذا المعيار، بمعنى أن هذا المعيار إنما يبيِّن واحدة من المشاهدات التي نمتلكها عن هذا المورد، ولا يشمل سائر مشاهداتنا. إن هذا المعيار يأمرنا بعدم الجمع بين اعتبارين متناقضين، من قبيل: «الصدق حَسَنٌ»، و«الصدق قبيحٌ»، ولكنّه لا يقول لنا أيّ واحد من هذين الاعتبارين أخلاقي، وأيّهما غير أخلاقي أو منافٍ للأخلاق، أو أيّهما مبرّر، وأيّهما غير مبرّر. وطبقاً لهذا المعيار يكون اعتبار قبح الصدق أخلاقياً ومبرّراً بمقدار اعتبار حُسْنه.
وأيضاً لو أن العقلاء امتنعوا عن اعتبار اللغو، وكانت نصائحهم واقعية، فذلك لأنهم يرَوْن قبح وعدم صوابية اعتبار اللغو والنصائح غير الواقعية. وإنّ هذه الخصوصية تدفعهم إلى الامتناع عن اعتبار حكم اللغو والأمور غير الواقعية بحكم عقلهم. إلاّ أن المسألة هي أن العقلاء يمتنعون بحكم عقلهم عن الكثير من الأمور الأخرى أيضاً، كما يتبعون في مقام الاعتبار وإصدار الأمر والنهي الكثير من المعايير الأخرى أيضاً، ولا يكتفون بمجرَّد الرؤية الواقعية وعدم اللغوية.
وفي حوارٍ مع مجلة (زنان) توجَّه المحاور إلى الدكتور سروش بالسؤال، قائلاً: «لقد شرحت في كتابك (دانش وأرزش) فكرة أنّ هناك بين العلوم والقِيَم علاقة استنتاجية منطقية. فبالالتفات إلى هذه المسألة كيف يمكن للاعتقاد بوجود الاختلافات البيولوجية والسيكولوجية بين الرجل والمرأة (والذي يمثِّل الاعتقاد العلمي) أن يكون مؤثِّراً في حقل الأخلاق والحقوق؟».
فقال الدكتور سروش في الجواب: «سؤالٌ جيّد. لقد ذكرتُ في كتاب (دانش وأرزش) أن الواقعية الطبيعية والتاريخية لا تعرَّف بأيّ قيمة؛ إذ في هذه الحالة سيخرج «الوجوب» من صُلْب «الكينونة»، وهذا محالٌ من الناحية المنطقية. وعلى حدِّ تعبير أحد أصدقائي المغمورين: إن العلم حتّى لو مارس عشرات الحيل لن يخرج «الوجوب» من صُلْب «الكينونة». بَيْدَ أني قلتُ في موضعٍ آخر من ذلك الكتاب: إن الأخلاق في الوقت نفسه يجب أن تكون واقعية، بمعنى أن «الواجبات» لا تنبثق عن «الكينونات»، ولكنْ يجب ـ في الوقت نفسه ـ أن لا تعترك مع «الكينونات». إن الواجبات غير العملية ليست أخلاقية. وبهذا المعنى يتعيَّن على «الواجبات» (أي الحقوق والقيم الأخلاقية) أن تكون منسجمة مع الواقعية، لا متّخذة أو منبثقة عنها. وبعبارةٍ أخرى: إن بعض «المحظورات» تستنبط من صُلْب الواقعية، أما «الواجبات» فلا. إلاّ أن تلك «المحظورات» إنما تستنبط بشكلٍ منطقي بحيث لا يرتكب أمرٌ يتمّ بسببه الإعلان عن استحالة ذلك العمل.
وفي ما يتعلق بالرجال والنساء يجب عدم وضع حقوق وتكاليف تجعل الوجود التاريخي أو السيكولوجي لهم مستحيلاً، وغير مطلوب، وغير ملائم. ولو أضحى مثل هذا الحكم إجبارياً زال ذلك التكليف من تلقاء نفسه. إن الحقوق والأخلاق بحسب مصطلح الحكماء جزءٌ من الاعتباريات، وإن القضايا الاعتبارية لا تحتمل «الصدق» و«الكذب»، وإنما هي مجرّد ملائمة وغير ملائمة، ومطلوبة وغير مطلوبة، أو ممكنة ومستحيلة([30]).
ومن وجهة نظرنا فإن «الواجبات» تنبثق عن «الكينونات» (وهذا الانبثاق ـ بطبيعة الحال ـ ليس انبثاقاً منطقياً، ولا استنتاجياً، وإنما هو انبثاق وجودي وميتافيزيقي، ويكون تَبَعاً لذلك معرفياً)، إلاّ أن «الكينونات» تنقسم من الناحية الأخلاقية إلى: «كينونات» ذات صلة؛ و«كينونات» غير ذات صلة. وإن الصلة وعدمها مسألةٌ نظرية لا يمكن اكتشافها إلاّ من خلال المشاهدة والتنظير. إن النظريات الأخلاقية تقول لنا أيّ «كينونة» ترتبط من الناحية الأخلاقية بأيّ «واجب»، أو أيّ «واجب» يُحْمَل من الناحية الأخلاقية على أيّ «كينونة»، أو أيّ «واجب» أخلاقي يتلاءم مع أيّ «كينونة». وإن النظريات المنطقية تقول لنا أيّ «كينونة» ترتبط بأيّ «واجب» من الناحية المنطقية، أو أيّ «واجب» منطقي ينبثق من صُلْب أيّ «كينونة»([31]). إن الحائل بين «الكينونات» و«الواجبات» حائلٌ «منطقي»، وليس حائلاً «وجودياً» أو «معرفياً».
وبعبارةٍ أخرى: علينا أن نفكِّك بين ثلاثة أنواع من الحوائل والشروخ، وهي:
1ـ الحائل أو الشرخ الوجودي والميتافيزيقي.
2ـ الحائل أو الشرخ المعرفي.
3ـ الحائل أو الشرخ المنطقي.
والحائل من النوع الأول عبارةٌ عن الأمر الذي يحول من الناحية الوجودية والميتافيزيقية دون الارتباط بين شيئين. إن وجود مثل هذا الحائل بين (أ) و(ب) يعني عدم وجود أيّ ارتباط من الناحية الوجودية بينهما، وإن وجود (أ) ينسجم مع عدم وجود (ب)، كما أن وجود (ب) ينسجم مع وجود (أ). وإن وجود (أ) ليس لديه أيّ اقتضاء بالنسبة إلى وجود (ب)، أو عدم وجوده. ولذلك يمكن له أن يجتمع مع كلتا الحالتين. فلو كان مثل هذا الحائل قائماً بين الحقائق والاعتباريات فهذا يعني أن كلّ حقيقة يمكن أن تجتمع مع أيّ اعتبار، وأن الحقائق لا تقضي أيّ شيء خاصّ تجاه الاعتباريات.
وبالتالي يمكن لنا أن نفترض بشكلٍ معقول أنّ زيداً وعَمْراً لهما أفكار حقيقية واحدة، وفي الوقت نفسه يحملان أفكاراً اعتبارية مختلفة ومتناقضة تماماً، وأن أفكارهما الاعتبارية تنطلق من منظومتين معياريتين مختلفتين. كما يمكن لنا أن نفترض بشكلٍ معقول أن زيداً وعَمْراً يمتلكان أفكاراً حقيقية متعارضة ومتضادّة، وفي الوقت نفسه يمتلكان أفكاراً اعتبارية واحدة، ويتبعان منظومة معيارية واحدة.
ومضافاً إلى ذلك لو قال شخص بوجود الحائل الميتافيزيقي بين الحقائق والاعتباريات لن تكون له مندوحةٌ من الاعتراف بأن الاعتباريات خارجةٌ عن مقسم «العقلانية»، وليس هناك أيّ معيار وضابطة عقلانية لنقدها وتقييمها. وفي هذه الحالة سيفقد حتّى معيار عدم اللغو اعتباره وحجّيته أيضاً؛ إذ عندما يقال: «إن اعتبار اللغو قبيحٌ» فإن المدلول الذي تدلّ عليه هذه الجملة هو أن اعتبار اللغو قبيحٌ حقيقة، وأنه في صُلْب الواقع، ومع غضّ النظر عن أفكارنا ورغباتنا، هناك علاقة وجودية وميتافيزيقية بين «اعتبار اللغو» من جهةٍ وبين الـ «قبح» من جهةٍ أخرى، ونحن بهذه الجملة نخبر عن تلك العلاقة. وإن هذه الجملة تبيّن القضيّة الصادقة والمطابقة للواقع.
وهكذا عندما يُقال: «يجب عدم إصدار الأمر غير الواقعي، والذي لا يمكن تلبيته» يكون مدلول هذه الجملة هو أن هذا الشيء على خلاف العقل والعقلانية حقيقة، وإنّ هذه الجملة غير مقبولة وغير مبرّرة من الناحية العقلية، بمعنى أن بين «الأمر غير الواقعي» و«الحرمة» تناسباً لا يوجد بين «الأمر غير الواقعي» و«الوجوب».
وعليه فإن نسبة «الأمر غير الواقعي»، الذي يُعدّ من الأمور الحقيقية، إلى «الحُسْن» و«القبح» و«الوجوب» و«الحرمة» ليست متساوية، وإنّ لها بالنسبة إلى «القبح» و«الحرمة» اقتضاءً لا يوجد بالنسبة إلى «الحُسْن» و«الوجوب». وعليه فإن الذي يؤمن بعدم اللغو أو الرؤية الواقعية بوصفها معياراً لنقد وتقييم الأفكار الاعتبارية ينفي بشكلٍ مسبق الحائل والشرخ الوجودي والميتافيزيقي بين الحقائق والاعتباريات. وعليه يَرِدُ هنا السؤال القائل: إذا كان للحقائق مثل هذا الاقتضاء تجاه الاعتباريات، وبذلك تحدّ من دائرة الاعتباريات المبرّرة، فلماذا لا تحتوي على اقتضاءات أخرى تحدّ من دائرة الاعتباريات المبرّرة أيضاً؟
إلاّ أن الحائل أو الشرخ المعرفي يعني الشيء الذي يمنع على المستوى المعرفي من الارتباط بين عقيدتين أو قضيتين أو مجموعتين من المعتقدات أو مجموعتين من القضايا، ولا يسمح لنا بأن نتّخذ من معرفة أحدهما جسراً إلى معرفة الآخر، أو أن نستفيد من أحدهما لتبرير الآخر.
فلو كان مثل هذا الحائل بين المعتقدات والقضايا الحقيقية (الحقائق) والمعتقدات والقضايا الاعتبارية (الاعتباريات) موجوداً فإن ذلك سيؤدّي إلى عجزنا عن معرفة الاعتباريات من خلال معرفة الحقائق، أو أن نبرّر المعتقدات والقضايا المعبّرة عن الأفكار الاعتبارية بمساعدة المعتقدات والقضايا المعبّرة عن الحقائق.
والعكس صحيحٌ أيضاً.
وأما الذي ينفي الحائل والشرخ الوجودي والميتافيزيقي بين الأفكار الحقيقية والأفكار الاعتبارية فليس أمامه إلاّ إنكار وجود الحائل المعرفي بينهما؛ إذ إنما يمكن لنا أن ندّعي أن بين (أ) و(ب) ارتباطاً وجودياً وميتافيزيقياً إذا أمكن التعرّف على وجود هذا الارتباط بنحوٍ من الأنحاء، والعمل على تبرير المعتقد أو القضية المعبِّرة عن تلك العلاقة الوجودية والميتافيزيقية تبريراً معرفياً بنحوٍ من الأنحاء. وعلى هذا الأساس لو آمن شخصٌ بالارتباط الوجودي والميتافيزيقي بين الحقائق والاعتباريات يضطرّ إلى القول بالارتباط المعرفي بينهما أيضاً. إلاّ أن المسألة الهامّة هي أن هذا الارتباط إنما يوجد بين بعض الحقائق وبعض الاعتباريات، لا بين جميع الحقائق وجميع الاعتباريات.
أما الحائل والشرخ المنطقي فهو عبارةٌ عن الادّعاء القائل بالمنع المنطقي لنوعٍ خاصّ من «الاستدلال» و«الاستنتاج» بين المعتقدات والقضايا التي يقوم الحائل والشرخ بين طرفَيْها، وعدّ هذا النوع مغالطةً منطقية.
فعلى سبيل المثال: لو كان مثل هذا الحائل موجوداً بين القضايا الحقيقية والقضايا الاعتبارية فهذا يعني أنه لا يحقّ لنا ولا يجوز لنا من الناحية المنطقية أن نستنتج نتيجةً اعتبارية من المقدّمات الحقيقية الخالصة. والعكس صحيح أيضاً.
وإن مثل هذا الاستنتاج يعتبر مغالطةً. إن الحائل المنطقي يُعدّ نوعاً من الحوائل المعرفية؛ لأن الربط المنطقي هو نوعٌ خاصّ من الربط المعرفي. وبعبارةٍ أخرى: إن المعرفة والتبرير ينقسمان إلى نوعين: «استنتاجي» (استدلالي)؛ و«غير استنتاجي» (غير استدلالي). وإن موضوع المنطق هو خصوص المعايير الناظرة إلى المعرفة والتبرير الاستنتاجي والاستدلالي، في حين أن الموضوع المعرفي أعمّ من ذلك.
إن هذه التوضيحات تثبت أن الحائل المنطقي إنما يقع مقابل الربط المنطقي فقط، لا مقابل الربط الوجودي والمعرفي. ولذلك فإن القول بوجود الحائل المنطقي بين الحقائق والاعتباريات إنما يعني مجرّد نفي الارتباط المنطقي بين هذين الأمرين، بمعنى أن الحائل المنطقي بين (أ) و(ب) لا ينفي الربط الوجودي والمعرفي بين (أ) و(ب)، وأن بالإمكان الجمع بينهما، حتّى مع وجود هذا الربط أيضاً. وعليه فإن الحائل المنطقي بين الحقائق والاعتباريات لا ينفي الربط الوجودي والمعرفي بين الحقائق والاعتباريات، ومع وجود مثل هذا الربط يمكن الجمع بينهما.
وعليه فإن المحال بشكلٍ مطلق ليس هو انبثاق «الواجبات» من «الكينونات»، وإنما هو الاستنتاج القياسي لـ «الوجوب» من «الكينونة» الخالصة والمحضة.
إن المنطق ينفي العلاقة الاستنتاجية ـ المنطقية بين القضايا المشتملة على «الوجوب» والقضايا المشتملة على «الكينونة»، وليس العلاقة الوجودية والميتافيزيقية بين «الكينونة» و«الوجوب»، وليس العلاقة المعرفية بين القضايا المشتملة على «الوجوب» والقضايا المشتملة على «الكينونة».
إن الحائل المنطقي بين «الكينونة» و«الوجوب» بمعنى أن العلاقة الوجودية بين هذين الأمرين إنما يمكن اكتشافها من خلال التجربة والمشاهدة (غير الاستدلال). إنما الذي يقوله المنطق هو عدم وجود علاقة استنتاجية واستدلالية بين هذين الأمرين.
إن المشاهدات الأخلاقية في حقل الأخلاق تقول لنا أيّ «وجوب» أخلاقي ينبثق عن أيّ «كينونة»، أو يُحمل عليها. وفي حقل المنطق تقول لنا الشواهد المنطقية أيّ «وجوب» منطقي ينبثق عن أيّ «كينونة»، أو يُحمل عليها. وفي حقل المعرفة تقول لنا المشاهدات المعرفية أيّ «وجوب» معرفي ينبثق عن أيّ «كينونة»، أو يُحمل عليها.
ومن الجدير أن نتساءل: ما هو نوع «الوجوب» الذي يرمي إليه الدكتور سروش في عبارته التي يقول فيها: «إن الحكم الأخلاقي يجب أن يكون واقعياً»؟ وما هو مصدره؟ ولماذا يتعيَّن على «الواجبات» أن لا تعترك مع «الكينونات»؟ ولماذا لا تكون «الواجبات» غير العملية أخلاقية؟ ولماذا يجب عدم الأمر بشيءٍ حكمت الطبيعة باستحالة القيام به؟ وما هو الفرق بين «الواجبات» و«المحظورات» حتّى لا يستحيل استخراج بعض «المحظورات» من صُلْب الواقعية؟ ولماذا كان الشرخ المدَّعى قائماً بين «الكينونة» و«الوجوب» فقط، ولا وجود لمثل هذا الشرخ بين «الكينونة» و«عدم الوجوب»؟
والذي يبدو لنا هو أن الجواب الصحيح عن هذه الأسئلة هو أن هناك أخلاقاً باسم «أخلاق الاعتبار»، وهي متقدّمة على «أخلاق السلوك».
إن هذه الأخلاق التي تصدر عن العقل والعقلانية تعمل على هداية الإنسان في مقام اعتبار الأمر والنهي الأخلاقي، أو الكشف عن هذه الأوامر والنواهي، وتقول له متى وأين يحقّ له ويجوز له أن يأمر بشيء أو لا يأمر به.
وإنّ «واجبات» و«محظورات» أخلاق الاعتبار لا تختزل في «قبح التكليف بما لا يُطاق»، أو «ضرورة اجتناب اللغو»، أو «وجوب الرؤية الواقعية».
إن معايير وقِيَم أخلاق الاعتبار، التي تمثِّل أساس ومعيار سلوك العقلاء في مقام اعتبار وإصدار الأمر والنهي، لا يمكن أن تنشأ من اعتبار العقلاء. ولذلك فإن ذات العقل الذي يقول: إن «الحكم غير الواقعي وغير الممكن» ليس حكماً أخلاقياً يقول لنا أيضاً: إن الحكم «الذي لا يقبل التعميم» ليس حكماً أخلاقياً. وإن التفريق بين الموارد المتشابهة من الناحية الأخلاقية عملٌ لا يمكن أن يكون صحيحاً على المستوى الأخلاقي، وهكذا.
وعليه فإن الجواب الصحيح عن سؤال مجلّة «زنان» هو القول بأن الحقوق والمسؤوليات الأخلاقية تنبثق عن الهوية العملية للإنسان. وإن الرجل والمرأة، على الرغم من اختلافهما من الناحية الأحيائية والنفسية، إلاّ أنهما يشتركان في الإنسانية، ويتمتَّعان بمنزلةٍ أخلاقية واحدة. إن الوقائع الطبيعية والبيولوجية والنفسية والتاريخية تنقسم إلى مجموعتين، وهما: الأمور ذات الصلة من الناحية الأخلاقية؛ والأمور غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية. وعليه فإن مجرّد وجود الاختلافات الطبيعية والتاريخية بين الرجل والمرأة ـ ما دمنا لا نستطيع إثبات أن هذه الاختلافات من الأمور ذات الصلة من الناحية الأخلاقية ـ لا يمكنها ولا يجب أن تكون مؤثِّرة في تقسيم الحقوق والتكاليف بينهما. وإن التفريق بين المرأة والرجل على أساس الاختلاف في الأمور غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية يعتبر من الأمور الخاطئة، والتي لا يمكن تبريرها على المستوى الأخلاقي؛ فإن بعض الوظائف الأخلاقية للأمّ ـ على سبيل المثال ـ تختلف عن الوظائف الأخلاقية للأب، إلاّ أن هذا الاختلاف في الوظائف يمكن تبريره من الناحية الأخلاقية؛ لأن الاختلاف بين الرجل والمرأة في الأبوّة والأمومة يُعتبر من الخصائص الأخلاقية ذات الصلة، حيث ترتبط بهذه الوظائف.
يمكن القول: إن الهوية الرجالية والهوية النسائية لها ـ كسائر الهويات ـ مقتضيات ومعايير ووظائف خاصّة بتلك الهوية، من قبيل: الوظائف الخاصّة بالأمّ، والوظائف الخاصّة بالأب. وأما مقتضيات الهويات الخاصّة التي لا تتوفّر إلاّ بالنسبة إلى مجموعةٍ خاصّة من الناس فإنما يمكن اتّباعها إذا لم تنقض مقتضيات الهوية الإنسانية، التي هي ذات المعايير والقِيَم الأخلاقية.
إن الفوارق الأحيائية والنفسية القائمة بين الرجل والمرأة إنما هو في الحقيقة مقوِّم للهوية النسائية أو الرجالية، ولا ربط لها بالهويّة الإنسانية التي يشترك فيها كلٌّ من الرجل والمرأة على السواء. إن لهذه الفوارق مقتضيات أو يمكن أن يكون لها مقتضيات، وإن هذه المقتضيات وإنْ لم تكن أخلاقية، ولكنها ليست مخالفة للأخلاق بالضرورة، بمعنى أنّه بالإمكان أن تكون منسجمة ومتناغمة مع مقتضيات الهوية الإنسانية.
وعلى هذا الأساس إنما يمكن تبرير بعض الفوارق الحقوقية بين المرأة والرجل؛ لأن هذه الفوارق إنما تكون مبرّرة إذا كانت منسجمة مع الحقوق والتكاليف الأخلاقية ومقتضيات الهوية الإنسانية.
إن القاعدة الذهبية في الأخلاق الاجتماعية عبارةٌ عن «السلوك والتعاطي المشابه والمتماثل مع الموارد المشابهة والمتماثلة».
وعليه فإن المحاباة بين الرجل والمرأة إنما تكون مبرّرة من الناحية الأخلاقية إذا لم يتمّ تجاهلها عند التعاطي والتعامل معها من زاويةٍ الهوية الإنسانية.
فعلى سبيل المثال: لو أن الحكومة قامت بتدارك الحرمان والظلم التاريخي الذي لحق بالمرأة، فعمدت إلى سنّ قوانين تجعل الأولوية لصالح النساء، لا يمكن رفض هذه الأولويّات وأنواع المحاباة؛ بذريعة المساواة بين الرجل والمرأة في الإنسانية، أو عدم انسجام المحاباة بين الرجل والمرأة مع القِيَم الأخلاقية.
إن الاعتبارات العقلية أو العقلانية، حتّى إذا كانت تابعةً للأذواق والمشارب والعواطف والمشاعر، ليست تابعةً للأذواق والمشارب والعواطف والمشاعر الراهنة والفعلية، وإنما هي تابعةٌ للأذواق والمشارب والعواطف والمشاعر الصادرة عن الشاهد المثالي الذي يرصد الموضوع من المشهد الأخلاقي. وإن هذه الخصيصة أو الخصائص الواقعية للعدل والظلم هي التي تحفِّز الشاهد المثالي إلى اعتبار الحُسْن في العدل والقُبْح في الظلم. وإن هذه الخصيصة أو الخصائص هي التي تصحِّح اعتبار الحُسْن والقُبْح، وهي التي تبرّر هذا الاعتبار من الناحية العقلانية، بمعنى أنها تزوّد المعتبر بـ «الدليل العقلي» على هذا الاعتبار. ومن خلال هذه الخصائص نستطيع اكتشاف اعتبارات الشاهد المثالي التي تمثِّل الحقائق الكامنة وراء العقل النظري، وأن نفصل هذه الاعتبارات عن اعتبارات سائر الأفراد.
ليس العلم الحصولي غير الاعتبار العقلاني؛ لأن المفهوم إنما هو صنيعة الذهن، ونتاج نشاط قوّة الخيال، وليس هناك للمفهوم وجودٌ في خارج الذهن. وإن إطلاق المفهوم على مصاديقه الواقعية هو عين الاعتبار العقلي. وعندما ننتزع المفهوم عن المصداق إنما نقوم في واقع الأمر باعتبار ذلك المفهوم لذلك المصداق. إن العلاقة القائمة بين المفهوم والمصداق هي علاقة المعلول والعلّة، أو اللازم والملزوم، أو الظاهر والمظهر، وليست علاقة عينية. وإن مطابقة القضية مع الخارج لا تستلزم مطابقة موضوع ومحمول تلك القضية مع الخارج، وبعبارةٍ أخرى: إن مطابقة الموضوع والمحمول مع الواقعية التي تعبّر عنها تلك القضية إنما هي من اعتبار العقل.
إن «المفهوم» يعني «ما يُفهم من الشيء»، أو فهمنا للمصداق. وإن هذا الفهم بمقدار تَبَعيته للمعلوم هو تابعٌ للعالِم أيضاً.
إن المفهوم يعني الصورة التي نسقطها على المصداق الفاقد في ذاته لتلك الصورة. وإن هذا التصوير وإنْ كان اعتباراً عقلياً يقوم به عقلنا في مقام تحصيل العلم وكشف الواقع، إلاّ أنه ليس اعتباطياً وذوقياً، بل هو تابعٌ للمعايير العقلانية.
وإن هذا التصوير لا يحصل في مورد «الأمر الفاقد للصورة» فقط، بل إننا حتّى في مقام إدراك الأشياء التي لها صورةٌ عينية، ومن التجلِّيات العينية للأمر الفاقد للصورة، نضطر إلى أن نلقي عليها صورةً ذهنية، وإضفاء الاعتبارات على تلك الصورة. وإن الصور الذهنية إنما هي في الحقيقة تجلِّيات ذهنية للأمر الفاقد للصورة، أو هي تجلِّيات ذهنية للتجلِّيات العينية لذلك الأمر الفاقد للصورة.
من هنا يمكن القول: إن جميع المفاهيم القائمة في الذهن هي مفاهيم اعتبارية بمعنىً من المعاني. ومن هذه الناحية لا فرق بين المفاهيم العلمية والفلسفية والأخلاقية والاعتبارية. وإن المفاهيم الاعتبارية بالمعنى الأخصّ للكلمة هي «اعتبارٌ في اعتبار» أو هي «نوع مجازٍ في مجاز». وبعبارةٍ أخرى: إن الصور الموجودة في الذهن إما هي «تجلّيات» ذهنية للأمر الفاقد للصورة؛ أو هي «تجلّيات» للذهن المعبّر عن «التجلّيات» العينيّة لذلك الأمر الفاقد للصورة. وفي الحالة الأولى تكون العلاقة بين الذهن والعين علاقة «الظهور» و«الكينونة»؛ وفي الحالة الثانية هي علاقة «ظهور الظهور» و«ظهور الكينونة».
ومن ناحيةٍ أخرى فإن حقيقيّة وعينيّة مفهومٍ لا تستلزم أن يكون لذلك المفهوم ما بإزاءٍ عيني في عالمنا العيني، وأن يكون مصداقه موجوداً في خارج الذهن.
إن «عالم الواقع» أوسع من «عالم الوجود»، وإن الواقعية لا تستلزم الوجود. إن «الموجود» و«الواقعي» لا يتساويان ولا يتساوقان مفهوماً ومصداقاً، بل إن لـ «الواقعية» مصاديق هي في عين واقعيتها لا «وجود» لها، رغم أن جميع الأشياء الموجودة هي واقعية أيضاً.
فعلى سبيل المثال: إن أصل التناقض القائل بـ «استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما» يحكي عن واقعية متعلّقة بالعالم الخارج عن الذهن. فالوجود والعدم في العالم الخارج عن الذهن لا يجتمعان ولا يرتفعان. إن هذا الأصل يُعبِّر عن عالم خارج عن الذهن، وهو عالم معرفي يقبل الاتّصاف بالصدق والكذب. وعليه فإن مفاد هذا الأصل، أو بحَسَب التعبير المنطقي: إن «موضوع» هذا الأصل له واقعية، في حين يستحيل وجوده في خارج الذهن. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأعداد والعلاقات الرياضية، فإنّه لا وجود لها في عالم الخارج، إذ لا وجود في هذا العالم لغير «المعدود»، وأما الأعداد والمعادلات الرياضية فلها واقعيةٌ، ولذلك كانت القضايا والموضوعات الرياضية معرفيّة، وتقبل الاتّصاف بالصدق والكذب.
ويمكن لنا أن نذكر مثالاً آخر لهذه القاعدة، وهو الأصول والقواعد الفلسفية، التي يشكِّل موضوعها أو محمولها المعقولات الفلسفية الثانية. إن مفهوم «الإمكان الماهوي» مثلاً، بمعنى أن تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم، مفهوم حقيقي وعيني، ولذلك يكون واقعياً، في حين لا يمكن أن يكون موجوداً؛ لأن وصف «الممكن» يصدق حتّى قبل وجود الممكنات أيضاً. وإن صدق القضية القائلة: «إن الشيء (أ) ممكن» لا يتوقَّف على وجود (أ) في خارج الذهن.
لو قلنا بهذه القاعدة العامة، وهي أن «العالم الواقعي أوسع من عالم الوجود»، وأن كون المفهوم حقيقياً وعينياً لا يتوقَّف على وجود مصداقه في الخارج، عندها يمكن القول: إن المفاهيم الاعتبارية كذلك أيضاً، بمعنى أن المفاهيم حقيقية وعينية، وأن الأوصاف والعلاقات الاعتبارية لها واقعية، ولكنْ ليس لها وجودٌ.
فعلى سبيل المثال: يمكن القول: إن «الحُسْن» و«القُبْح» لهما واقعية، وإنْ لم يكن لهما وجود، وإن اعتباريّتهما بمعنى اعتبار الوجود لهما، لا باعتبار الواقعية الواقعية لهما. ففي الاعتبار العقلي لا يمكن للشيء الفاقد للواقعية أن يكتسب الواقعية. بل إن الشيء الذي ليس له وجودٌ يوجد في عالم الاعتبار، إلاّ أن «الوجود» لا يساوق «الواقعية»، وإنّما هو أخصّ منها.
وعليه فإن اعتبارية مفهومٍ ما لا تستلزم أن لا يكون ذلك المفهوم واقعياً وعينياً، أو أن يكون ذهنياً وتابعاً للأذواق والأمزجة والميول الشخصية والخاصّة والراهنة للمعتبر. وكما قلنا فإنّ جميع المفاهيم انتزاعية، وإن المفاهيم الانتزاعية اعتبارية بأجمعها. وأساساً إن الانتزاع يعني وجود خصوصية في الموضوع تلزمنا باعتبار الوصف أو المفهوم الانتزاعي مورد البحث، وأن نسقطه ونطلقه على ذلك الموضوع. في الاعتبارات الاعتباطية والجزافية يمكن انتزاع أيّ وصفٍ أو أيّ مفهوم من كلّ موصوف وموضوع، وحمله عليه. ويمكن تسمية غير الممكن بحَسَب الواقع ممكناً، أو أن نسمّي القبيح جميلاً، والسيّئ حَسَناً. إن هذه الاعتبارات تنبثق عن ذوق ومزاج وعاطفة المعتبر الفعلية والجزافية، إلاّ أن الاعتبارات العقلية ليست كذلك، وإنّما هي تابعةٌ للواقعية، وهي بمعنىً من المعاني انعكاسٌ وإعادة ظهورٍ وتجلٍّ للواقعية في مرآة الذِّهْن.
إذا قسمنا الاعتبار إلى نوعين: عقلي؛ وغير عقلي، لا بُدَّ وأن نقسِّم الاعتباريات بدورها إلى: عقلانية؛ وغير عقلانية أيضاً. وفي هذه الحالة إنّما سيبقى مجرّد النوع الثاني من الاعتباريات خارج مقسم العقلانية، ولن يكون قابلاً للنقد والتقييم العقلاني. إلاّ أن النوع الأول من الاعتباريات تُحمل على كاهل الواقعيات، وتنبثق من صلبها، وتغدو ذات واقعية تَبَعاً لذلك. من هنا فإن الاختلاف حول هذا النوع من الاعتباريات هو اختلافٌ حول الأمور الواقعية، وليس اختلافاً بشأن الأمور الذوقية والمزاجية، ولذلك يمكن توجيه النقد العقلاني لهذا النوع من الاعتباريات. وإنّ معيار هذا النقد لا يُختزل بالرؤية الواقعية.
وبعبارةٍ أخرى: إن «الاعتبار» من الأفعال الإرادية والاختيارية. وهو، كسائر الأفعال الإرادية والاختيارية، عرضةٌ للنقد والتقييم العقلاني. ولذلك لو أن المعتبر في اعتباره:
1ـ لم يأخذ الواقعيات «المرتبطة» بنظر الاعتبار.
2ـ أو أخذ الواقعيات «غير المرتبطة» بنظر الاعتبار.
3ـ أو أعطى الواقعيّات المرتبطة وزناً وقيمة وأهمّية أكبر أو أقلّ من الحدّ المعقول.
4ـ أو أن لا يكون اعتباره «قابلاً للتعميم».
5ـ أو أن يُدخل عواطفه ومشاعره الراهنة والفعلية في اعتباره.
6ـ أو أن يكون اعتباره أو سائر اعتباراته متضادّة ومتعارضة.
لن يكون اعتباره ـ من وجهة نظر العقل والعقلاء ـ مبرَّراً ومعقولاً ومقبولاً، ولن يعتبر العقلاء حكمه حكماً أخلاقياً، أو حكماً أخلاقياً مبرَّراً.
وعلى أيّ حال فإنّ الرؤية الواقعية بالمعنى المذكور، وقبح التكليف بما يفوق الطاقة، مقبولٌ من قِبَل جميع النظريات الأخرى الموجودة في باب المشهد الأخلاقي. وإن هذه النظريات لا تنكر مثل هذا الشرط، وإنَّما تضيف إلى هذا الشرط شروطاً أخرى.
ب ـ الأخلاق الدائرة مدار الفضيلة ــــــ
إن للأخلاق المتمحورة حول الفضيلة جذوراً ضاربة في عمق التاريخ. ويمكن العثور على الصيغة الفلسفية الأولى لهذه النظرية الأخلاقية في مؤلفات أرسطوطاليس([32]). وبعد ظهور الحداثة ودخول الإنسان إلى العالم الحديث ظهرت الكثير من النظريات المنافسة الأخرى، حتّى حجبت هذه النظرية إلى حدودٍ بعيدة، بَيْدَ أنا شهدنا في العقود الأخيرة جهوداً جديدة في إطارة إعادة صياغة هذه النظرية، أدَّت في نهاية المطاف إلى بثّ الحياة فيها من جديد([33]). إن أخلاق الفضيلة ـ كما يلوح من اسمها ـ تتمحور حول الفضيلة، وإن هذه المحورية تعني تقدُّم الفضائل والرذائل النفسية في مقام التقييم الأخلاقي، كما تعني التأكيد على دور الفضائل الأخلاقية في مقام إدراك ومعرفة الأحكام الأخلاقية.
والأمر الأول يعني تقدُّم السؤال عن الإنسان الصالح من الناحية الأخلاقية على السؤال عن السلوك الحسن والصحيح من الناحية الأخلاقية. تعمل الأخلاق التي تتمحور حول الفضيلة على تعريف الحَسَن والصحيح بحسب الفضائل النفسية للفاعل. وطبقاً لهذه النظرية يكون السلوك العادل هو السلوك الصادر عن الشخص الذي عمل على تنمية فضيلة العدالة في نفسه وكيانه. تقول هذه النظرية: لكي نرى ما هو الفعل الحَسَن والصحيح على المستوى الأخلاقي علينا أن ننظر إلى فاعله، بمعنى أن حُسْن وقُبْح وصواب وخطأ الأفعال تابعٌ للفضائل والرذائل النفسية للفاعل. ولو أن فاعلاً قد اتّصف بالفضائل الأخلاقية أمكن القول: «إن كلّ ما يصدر عن هذا الجميل جميل».
إلاّ أن الدور الأهمّ الذي يُمنح للفضائل الأخلاقية في هذه النظرية هو الدور الذي تلعبه هذه الفضائل في معرفة الأخلاق، أي الدور الذي تلعبه في معرفة وتبرير الأحكام الأخلاقية. وطبقاً لهذه النظرية فإن العادل هو الذي يمكنه أوّلاً تحديد مقتضى العدالة في الموارد الخاصّة، ويمكنه ثانياً أن يخلق في نفسه الدافع اللازم إلى العمل على طبق ذلك المقتضى.
وعلى أيّ حال فإن النظرية التي يمكن استنباطها من كلمات أرسطوطاليس في ما يتعلق بخصوصية المشهد الأخلاقي هي نظرية «الحدّ الوسط». فقد عرّف أرسطوطاليس العدالة بالحدّ الوسط، وعمد إلى توظيفها بوصفها معياراً للفصل بين الفضائل والرذائل الأخلاقية. فهو يرى أننا إذا أردنا معرفة ما إذا كانت الخصلة النفسية فضيلة أو رذيلة تعيَّن علينا أن نقيِّمها من خلال هذا المعيار. إن القاعدة التي يفترضها أرسطوطاليس هي أن كلّ فضيلة تقع في الحدّ الفاصل بين رذيلتين؛ إذ تتوسَّط الإفراط والتفريط. فإذا أخذنا مفهوم «الشجاعة» بوصفه فضيلة أخلاقية مثلاً سنجده واقعاً بين «الجبن» و«التهوُّر». فلو كانت شجاعة الفرد أدنى من الحدّ المتعارف كان جباناً، وإنْ كانت فوق الحدّ المتعارف كان متهوّراً، وكلٌّ من الجبن والتهوّر خروجٌ عن حدّ الاعتدال، ولذلك فإن أرسطوطاليس يعتبر كلاًّ من الجبن والتهوّر رذيلةً.
إن نقدنا لنظرية أرسطوطاليس يستدعي مجالاً أوسع. بَيْدَ أننا نكتفي هنا بذكر هذه المسألة، وهي أننا طبقاً لهذه النظرية في مقام كشف وتبرير الأحكام الأخلاقية لا نحتاج إلى «المشهد الأخلاقي»؛ إذ إن «الشاهد الأخلاقي» يُلبّي حاجتنا إلى المشهد الأخلاقي، بمعنى أننا مع وجود الشاهد المثالي لن نكون بحاجةٍ إلى المشهد الأخلاقي. ولكي يكون الحكم أخلاقياً، أو لكي يكون الحكم الأخلاقي مبرّراً، يكفي صدوره عن الشاهد المثالي؛ لأن الشاهد المثالي في الأخلاق كائنٌ مستجمع للفضائل الأخلاقية، وإذا كان الفرد مستجمعاً للفضائل الأخلاقية فإن كلّ قرار يتخذه، وكل حكم يصدره (وتبعاً لذلك كلّ سلوك يسلكه)، سيكون أخلاقياً ومبرّراً، بمعنى أن الفرد الذي يعمل على تنمية الفضائل الأخلاقية في وجوده، ويطهّر ذاته من الرذائل الأخلاقية، يمكن القول بشأن «أحكامه الأخلاقية»: «إن كلّ ما يفعله هذا الشخص لا يعدو أن يكون أخلاقياً»، وإنّ اعتبار أحكام الشاهد المثالي لا يتوقّف على أن ينظر إلى الموضوع من خلال «المشهد الأخلاقي».
إلاّ أن هذا الادّعاء لا ينسجم مع المشاهدات ما وراء الأخلاقية في هذا المورد؛ لأن هذه المشاهدات تقول لنا: إن الفضائل الأخلاقية لـ «الشاهد المثالي» إنما تمكِّنه من تشخيص الحكم الأخلاقي إذا كان ناظراً إلى الموضوع من زاوية «المشهد الأخلاقي»، أي إنه لكي يكون في موقف الشاهد المثالي لا يكفي مجرّد اكتسابه للفضائل الأخلاقية، وابتعاده عن الرذائل الأخلاقية، وإن حُسْن وقُبْح وصوابية وخطأ الأفعال ليست تابعةً لفضائل الفاعل ورذائله مئة بالمئة، ولذلك لا يمكن القول: إن الحكم الأخلاقي نوع من الأفعال الاختيارية، وإن حُسْنه وقُبْحه وصوابيته وخطأه تابع للصفات النفسية التي يتحلّى بها مَنْ يصدر الحكم بشكلٍ كامل.
ومضافاً إلى ذلك فإن تشخيص الفضائل والرذائل الأخلاقية، والحكم بشأن ما هي الفضيلة الأخلاقية؟ وما هي الرذيلة الأخلاقية؟ يُعَدّ تشخيصاً وحكماً أخلاقياً أيضاً. لنفترض أنّنا سلمنا برؤية أرسطوطاليس في ما يتعلق بأخلاق السلوك وتشخيص الصواب والخطأ، ولكنْ لا شَكَّ في أنه لا يمكن تعميم هذه الرؤية على ذات الفضائل والرذائل، وإدراك ما هي المَلَكات التي تعدّ فضيلة؟ وما هي المَلَكات التي تعدّ رذيلة؟ إن هذا الكلام يعني أن هناك في دائرة الأخلاق حكماً أو مجموعة من الأحكام الأخلاقية البديهية التي تعبِّر عن خصيصة أو خصائص المشهد الأخلاقي، وأن الأحكام الأخلاقية للشخص وإنْ كانت تتأثَّر بخصائصه النفسانية، إلاّ أنها لا تدور مدارها بشكلٍ كامل.
ج ـ الأخلاق القائمة على «قابلية التعميم» ــــــ
إن النظرية الثالثة التي يمكن بيانها في ما يتعلّق بخصيصة أو خصائص المشهد الأخلاقي هي نظرية (كانْت).
إن هذه النظرية أوسع من أن يمكن تلخيصها ونقدها والبحث بشأنها في هذا الكتاب([34]).
ولكنْ في ما يتعلّق بحدود بحثنا يمكن القول: إن (كانْت) يذهب إلى الاعتقاد بأن للأوامر الأخلاقية خصيصة صورية بارزة، وهي عبارة عن «الإطلاق». وإن اختلاف الأمر الأخلاقي عن الأمر غير الأخلاقي يكمن في أن الأوّل مطلق، والثاني مشروط. فمن وجهة نظره يمكن استنتاج الأوامر الأخلاقية من شيءٍ باسم «الأمر المطلق»([35]). وإنْ كان يتوصّل من الأمر المطلق إلى ثلاثة تقريرات مختلفة، وإنّ أحد هذه التقريرات الثلاثة عبارةٌ عن «القابلية على التعميم»([36]). وطبقاً لهذا التقرير يكون «الحكم الأخلاقي هو الحكم القابل للتعميم»، بمعنى أن الحكم إذا لم يكن قابلاً للتعميم فإن مجرّد هذا الأمر يثبت أن هذا الحكم ليس أخلاقياً، وأنه صادر عن مشهد المصلحة الشخصية، أو المشاهد الأخرى المغايرة للمشهد الأخلاقي.
نرى أنه على الرغم من أن معيار القابلية على التعميم يساعدنا في الكثير من الموارد على تشخيص وإبطال الأحكام غير الأخلاقية، إلاّ أن هذا المعيار ليس كافياً، بمعنى أن هناك الكثير من الأصول والقواعد القابلة للتعميم، في حين أن مشاهداتنا ما وراء الأخلاقية تقول: إن هذه الأصول والقواعد ليست أخلاقية.
فعلى سبيل المثال: إن القاعدة القائلة: «عند شدّ رباط الحذاء ابدأ بالحذاء الأيمن»، أو القاعدة القائلة: «إذا كنت تخشى من الظلام أطلق صفيراً عالياً»، كلاهما قابلٌ للتعميم، ولكنْ لا ربط لهما بالأخلاق([37]). وبحسب تصوُّرنا فإن التقرير الآخر الذي يقدِّمه (كانْت) عن الأمر المطلق، أي التقرير القائم على «الكرامة الإنسانية» يغطّي مساحة أكبر من المشاهدات ما فوق الأخلاقية، إن هذا التقرير يُعبِّر في الحقيقة عن الأصل الأخلاقي الذهبيّ الوارد في تعاليم الأديان أيضاً. إن الكرامة الإنسانية إنما تختلف عن القابلية للتعميم من حيث إن الأمر الأول سلبيّ صرف، وناظر إلى الصورة، وإنما يساعدنا في تشخيص بعض الأحكام غير الأخلاقية أو المنافية للأخلاق، في حين أن الأمر الثاني إيجابيّ، وناظر إلى المحتوى، ولذلك فإنه يساعدنا في تحديد عدد أكبر من الأحكام غير الأخلاقية أو المنافية للأخلاق، كما يبيِّن لنا ما هو الحكم الأخلاقي؟ وما هو الحكم الأخلاقي المبرّر؟
د ـ الأخلاف النفعية ــــــ
تقوم الأخلاق النفعية على القول بأن المشهد الأخلاقي ليست له إلاّ خصوصية واحدة، وهي عبارةٌ عن تحصيل السعادة أو المنفعة الأكبر لأكثر الأفراد([38])؛ حيث يُدَّعى هنا أن جميع التكاليف الأخلاقية، أو جميع القواعد المبيّنة للتكاليف الأخلاقية، يتمّ استنتاجها من «الأصل النفعي». وإنّ هذا الأصل يعمل في الحقيقة على فصل «المشهد الأخلاقي» عن «المشهد الأنوي» القائم على السعادة أو المنفعة الشخصية.
وفي تقرير بسيط يقول الأصل النفعي: «إن التكليف الأخلاقي عبارةٌ عن العمل الذي يضمن ـ بالقياس إلى جميع الشقوق والبدائل الأخرى ـ أكبر قدر من السعادة لأكثر الأفراد».
وعلى هذا الأساس لكي نتمكَّن من التعرُّف على أخلاقية أو كون الحكم الأخلاقي مبرّراً طبقاً للمذهب النفعي علينا أن نعرضه على أصل المنفعة؛ فإنْ كان الحكم مورد البحث قابلاً للاستنتاج، كان أخلاقياً أو مبرّراً؛ وإلاّ فلا.
يبدو من وجهة نظر القائلين بالمذهب النفعي أن منشأ الخطأ الوحيد في ما يتعلق بالأحكام الأخلاقية يكمن في «المنفعة الشخصية». وإذا كان الأمر كذلك يمكن القول بأن من الأساليب والمعايير المؤثِّرة لتحديد ما إذا كان الحكم الخاصّ صادراً عن الشخص بتأثير المنفعة الشخصية أم لا هو أن نعرض ذلك الحكم على أصل المنفعة، وفي الوقت نفسه إنّ هذا المعيار ليس هو المعيار الوحيد الذي ينفعنا في هذا المورد؛ إذ يمكن لأصل (كانْت)، المتمثِّل بالقابلية على التعميم، أن ينفعنا ويساعدنا في هذا السياق أيضاً.
يضاف إلى ذلك أن الشهادات الأخلاقية تقول لنا: إننا في ما يتعلّق بتشخيص تكليفنا الأخلاقي لا ننظر دائماً إلى نتيجة العمل؛ فإن نتائج العمل إنما هي واحد من العناصر الأخلاقية ذات الصلة. كما أن منشأ الخطأ في الحكم الأخلاقي لا يُختصر في المنفعة الشخصية. وإن بعض التكاليف الأخلاقية تتقدَّم على المصلحة والمنفعة الجماعية، بمعنى أن بعض الأخطاء الموجودة في الأحكام الأخلاقية يعود سببها إلى تقديم المصلحة والمنفعة الجماعية على حقوق الأفراد الأخلاقية([39]).
هـ ـ الأخلاق القائمة على تجنُّب الخطأ ــــــ
إن نقطة ارتكاز الكثير من النظريات الأخلاقية عبارةٌ عن القول بأن أحكامنا أو معتقداتنا الأخلاقية في معرض الخطأ، ولذلك فإننا نستطيع ـ أو يجب علينا ـ من طريق تشخيص أنواع الأخطاء التي يمكن أن تحدث في الحكم الأخلاقي أن نكتشف الظروف والشرائط التي يقوم عليها تبرير الأحكام الأخلاقية، وبذلك نصل إلى نظرية يحول اتّباعها دون ارتكابنا للأخطاء في أحكامنا الأخلاقية([40]).
وإن أحد أبسط هذه النظريات هو الرأي القائل: إن الخطأ في الحكم الأخلاقي ينبثق عن ثلاثة مناشئ مختلفة، وهي:
1ـ غموض المفاهيم.
2ـ الخطأ في معرفة الحقائق ذات الصلة.
3ـ الدافع غير المناسب.
وعلى هذا الأساس يمكن للبحث والتفكير الأخلاقي أن يخفق من ثلاث جهات، وهي:
1ـ الاستناد إلى المفاهيم الغامضة.
2ـ التعويل على المعلومات الخاطئة أو الناقصة بشأن الحقائق ذات الصلة.
3ـ التأثُّر بالميول والدوافع غير المناسبة.
من هنا فإن الأسلوب المناسب في التفكير والبحث الأخلاقي هو الأسلوب الذي يقدِّم طريقة للحيلولة دون هذه المناشئ الثلاثة للخطأ. وإن الأحكام الأخلاقية التي نحصل عليها من خلال توظيف هذا الأسلوب يجب أن تقوم على المقدّمات التالية:
1ـ التعريف الواضح للمفاهيم ذات الصلة.
2ـ المعتقدات المبرَّرة بشأن الحقائق ذات الصلة.
3ـ الميول والدوافع المناسبة([41]).
إلاّ أن المفاهيم والحقائق ذات الصلة، وكذلك الميول والدوافع المناسبة، يتمّ تعيينها من خلال النظريات ما فوق الأخلاقية التي تمثل القاعدة والأصل.
وفي نقد هذه النظرية يمكن القول: إن الأخطاء المذكورة إنما تمثِّل جزءاً من الأخطاء التي تحصل في الأحكام الأخلاقية، ولذلك فإن مجرّد أن يكون الحكم الأخلاقي قائماً على المفاهيم الواضحة والمعتقدات المبرّرة بالنسبة إلى الحقائق ذات الصلة، والميول والدوافع المناسبة، لا يُبرِّر ذلك الحكم في حدّ ذاته، أو أنه يُبرِّره بمقدار لا يُعدّ كافياً.
أما النظرية الأخرى المطروحة في هذا الشأن فتسعى إلى أن تقدِّم إجابة واضحة وجامعة عن السؤال القائل: «لماذا نحتاج في الأساس إلى النظرية الأخلاقية؟»؛ حيث تجيب هذه النظرية عن هذا السؤال قائلة: إن شأن النظرية الأخلاقية هو صيانة أحكامنا الأخلاقية من «الخطأ»، و«التعارض»، و«الاختلاف».
من هنا فإن (هيو لافولت) يذهب إلى الاعتقاد بأن الخطأ والتعارض والاختلاف في الحكم أو الاعتقاد الأخلاقي ينبثق عن ثمانية مناشئ مختلفة، وهي:
1ـ الملاحظات المستندة إلى التصوُّرات الناقصة أو الخاطئة.
2ـ الملاحظات المستندة إلى المعلومات الناقصة أو الخاطئة.
3ـ إدخال الملاحظات الأخلاقية غير ذات الصلة.
4ـ إدخال المنافع الشخصية غير ذات الصلة.
5ـ تبنّي الآراء والأحكام الأخلاقية الصادرة عن الآخرين، دون نقدها وتمحيصها.
6ـ تطبيق القواعد الأخلاقية بشكلٍ غير مناسب.
7ـ توظيف المعايير الأخلاقية غير المناسبة.
8ـ تطبيق المعايير الأخلاقية بشكلٍ غير مناسب([42]).
يرى (هيو لافولت) أن اجتناب الخطأ والتعارض والاختلاف في الأحكام الأخلاقية يستدعي منا العمل على نقد أحكامنا الأخلاقية. وإنّ أحد أساليب نقد هذه الأحكام هو العمل على «التنظير» في حقل الأخلاق.
في تصوُّرنا إن الخطأ في تشخيص ـ أو إصدار ـ الحكم الأخلاقي يعود إمّا إلى عدم كون مشهد الشخص «مشهداً أخلاقياً»؛ وإما إلى افتقار الشخص إلى خصائص وصفات «الشاهد المثالي». وعليه فإن هذه الأخطاء تندرج تحت المقولتين التاليتين:
1ـ الأخطاء الناشئة عن المشهد.
2ـ الأخطاء الناشئة عن الشاهد.
وإن الحيلولة دون هذه الأخطاء ـ وبتعبيرٍ أفضل: الحدّ منها ـ يتوقَّف على:
1ـ النظر إلى الموضوع من زاوية «المشهد الأخلاقي».
2ـ السعي إلى الاقتراب من «الشاهد المثالي».
وإن الحكم أو المعتقد الأخلاقي المبرّر عبارةٌ عن الحكم والمعتقد الحاصل من خلال الالتفات والاهتمام الكافي بالأمور التالية، أو من خلال تحصيل الشرائط التالية:
1ـ التجربة الأخلاقية.
2ـ المشاهدات ما فوق الأخلاقية.
3ـ المشاهدات الأخلاقية.
4ـ الفضائل الأخلاقية والعقلانية.
5ـ الحقائق ذات الصلة، أو النظريات المبنائية في دائرة الحقائق ذات الصلة.
6ـ العلوم التجريبية ذات الصلة.
7ـ الدافع المناسب نحو البحث الأخلاقي.
8ـ تاريخ الأخلاق، أو أخلاق سائر التقاليد والسنن.
9ـ الأخلاق التطبيقية.
إن جميع هذه الموارد تلعب ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ دوراً في الحيلولة دون ارتكاب الخطأ في الأحكام الأخلاقية، وتصحيح المشهد الأخلاقي، ورفع درجة ومستوى تبرير الحكم الأخلاقي([43]). من هنا فإن الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرّر هو الحكم الذي يتمّ إصداره بعد تحصيل أو استشارة هذه المصادر، أو التنسيق معها.
وإن كلّ واحدةٍ من النظريات الأخلاقية التي يتمّ تقديمها؛ بدافع التنسيق وبيان خصائص المشهد الأخلاقي، إنما تبيّن جانباً من الحقيقة، وإنما تغطّي جزءاً من مشاهداتنا ما فوق الأخلاقية، ويمكن لكلّ واحدة منها أن تساعدنا في الحيلولة دون ارتكاب الخطأ في تشخيص الحكم الأخلاقي في دائرةٍ خاصة([44]).
كلمةٌ أخيرة ــــــ
سعَيْنا في ما تقدَّم إلى دراسة مقتضيات العقلانية في حقل الأحكام الأخلاقية.
وقلنا: إن الأخطاء المحتملة في الأحكام الأخلاقية تنقسم بشكلٍ عام إلى قسمين؛ لأن هذه الأخطاء إما أن تكون ناشئة عن المشهد؛ أو أن تكون ناشئة عن الشاهد.
وقد أثبتنا أن كلاًّ من «الشاهد المثالي» و«المشهد الأخلاقي» من مقتضيات العقلانية في حقل الأخلاق، وإن الذي يرى للعقل والعقلانية حظّاً ومنزلة في دائرة الأخلاق، ويعمل على تقسيم الأحكام الأخلاقية إلى: صادقة؛ وكاذبة، أو إلى: حسنة؛ وقبيحة، وصائبة؛ وخاطئة، ومبرّرة؛ وغير مبرّرة، ومعقولة؛ وغير معقولة، ويضعها على طاولة النقد والتقييم العقلاني، لا مناص له من الفصل بين «الأخلاق المعيارية» و«الأخلاق الوصفية»، وبين «المشهد الأخلاقي» و«المشهد الشخصي»، و«المشهد الفقهي» والأحكام الأخلاقية أو الأحكام الصادقة أو المعقولة والمبرّرة على المستوى الأخلاقي عن الأحكام الكاذبة أو غير الأخلاقية والاعتباطية، وأن يتمّ اعتبار الشاهد المثالي بوصفه الكائن الوحيد الذي يمتلك صلاحية إدراك وتشخيص أو إصدار الحكم الأخلاقي.
الهوامش
(*) أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([4]) يمكن لهذه القيم والمعايير أن تتعرّض في سياق التقييم لإعادة النظر والتغيير، أو أن تستبدل بمعايير أخرى، أو أن تتّخذ تفسيراً جديداً.
([5]) في مقام بيان هذه الأصول والقواعد يتمّ استعمال لغة خاصة باسم اللغة المعيارية، إلاّ أن الجمل المعيارية يمكن أن تكون توصيفية أو خبرية أو معرفية أو إنشائية أو غير معرفية، أي إنه بالإمكان بيان غايةٍ واحدة في إطار مختلف التعابير، أو بالاستفادة من الأدوات اللغوية المتنوّعة، أو من خلال القيام بمختلف الأفعال القولية.
([6]) إن الواسطة في العروض لوصف معياري على موصوفه يمكن أن يكون وصفاً معيارياً آخر، إلاّ أن سلسلة الأوصاف المعيارية لموضوعٍ ما لا بُدَّ أن تنتهي إلى صفةٍ أو صفات غير معيارية. ولكنّنا؛ تجنُّباً للتعقيد، نؤثر الإحجام عن الدخول في تفاصيل هذه المسألة.
([11]) إن الارتباط «المعرفي» أعمّ من الارتباط «المنطقي»، بمعنى أن الارتباط المنطقي ـ الاستنتاجي هو نوعٌ خاص من الارتباط المعرفي، وعليه فإن نفي الارتباط المنطقي ـ الاستنتاجي بين العلم والقِيَم لا يستلزم نفي الارتباط المعرفي بينهما. وسوف يأتي توضيح هذه المسألة الهامة للغاية في البحوث القادمة بالتفصيل.
([14]) إن الأحكام المعيارية الأمّ أو الأساسية (basic) لا يمكن تبريرها من هذا الطريق، ولكنْ يمكن تبريرها من طرق أخرى، من قبيل: المشاهدة، والتدقيق، والأنواع الأخرى من الاستنتاج. وقد فصّلتُ القول حول أساليب تبرير الأحكام الأخلاقية في كتاب (أخلاق تفكُّر أخلاقي). ففي المثال المتقدّم لو سألك شخصٌ: «ما الذي يجعل السيارة قليلة الاستهلاك للوقود جيّدة؟» قد تقول في جوابه: «إن قلة استهلاك السيارة للوقود تعدّ مزيّة وقيمة ذاتية من الناحية الاقتصادية». إن هذا الادّعاء يعني أن الشاهد المثالي إذا نظر إلى السيارة من الناحية الاقتصادية فإنه سينظر إلى اعتبار قلّة استهلاكها للوقود قيمة ومزيّة إيجابية. فلو اقتنع السائل بهذه الإجابة، واتّفق معك في اعتبار هذه الصفة قيمة ومزية رئيسة وجوهرية، لن يستمرّ في طرح المزيد من الأسئلة، ولن يكون هناك المزيد من الأجوبة بطبيعة الحال؛ وأما لو اختلفتما في هذا الشأن فإن الحوار بينكما سوف يستمرّ، حيث سيسعى من خلال ذكر بعض نواقض هذه الصفة إلى إثبات أن قلّة استهلاك السيارة للوقود ليس مزية إيجابية على الدوام، أو أنها مزيّة هامشية، بينما سوف تسعى أنت في المقابل إلى إثبات أن هذه الموارد النقضية لا تنقض ما ذهبت إليه من الادّعاء بشكلٍ كامل، وأن ما قاله يمكن له أن ينسجم مع ما تقوله، أو أن تلك القيمة هي من القِيَم الأوّلية التي تبدو للناظر من الوهلة الأولى، والتي لم تواجه حتّى الآن معارضاً أقوى منها، وعلى أيّ حال فإن هذا الحوار سوف يستمرّ ويتواصل حتّى يتمّ التوافق بينكما على اعتبار ما يقتضيه المشهد الخاصّ ـ والذي هو المشهد الاقتصادي في هذا المثال ـ من زاوية الشاهد المثالي.
([17]) إن الاختلاف في الحكم بشأن أمرين إنما يكون مقبولاً إذا أمكن للشخص أن يثبت أنهما يختلفان عن بعضهما في صفةٍ غير اعتبارية أخرى، على أن تكون من الناحية الأخلاقية ذات صلة.
وهذه مسألةٌ هامّة يتمّ تجاهلها في الدفاع عن عدم المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق، بمعنى أن المدافعين عن عدم المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة يتمسّكون لتبرير القول بعدم المساواة عادة بصفات وخصائص غير ذات صلة من الناحية الأخلاقية؛ فإن الرجل والمرأة مهما اختلفا يظلّ الاشتراك بينهما في الإنسانية متساوياً، وإن مقتضى الهوية الإنسانية بينهما هو التساوي والتكافؤ. إن السؤال الذي يتعيّن على القائلين بعدم المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الإجابة عنه هو: «هل الاختلاف بين الرجل والمرأة من النواحي الأخرى يعتبر من الناحية العقلانية والأخلاقية من الصفات ذات الصلة أم من الصفات غير ذات الصلة؟». إن مجرّد الاختلاف بين الرجل والمرأة من الناحية الجسدية والجنسية والعاطفية والنفسية والجينية والقابلية لا يبرِّر القول باختلافهما في «المنـزلة» و«المسؤولية»، أو «الحقوق» الأخلاقية؛ لأن هذه الأنواع من الاختلاف من الناحية الأخلاقية غير ذات صلة، وعلى أيّ حال لا بُدَّ من إثبات أنها ذات صلة أو غير ذات صلة.
([18]) في تعريف المشهد يمكن القول: «إن المشهد عبارةٌ عن مجموعة من القِيَم الجوهرية التي يعتبر الاتّصاف بها شرطاً ضرورياً لاعتبار الأحكام المرتبطة بحقلٍ خاصّ».
فعلى سبيل المثال: يعتبر (كانْت) أن الشرط في أخلاقية الحكم، أو الشرط لكون الحكم الأخلاقي مبرّراً، هو أن يكون ذلك الحكم «قابلاً للتعميم»، وعليه فإن «القابلية على التعميم» تعتبر من وجهة نظر (كانْت) من ذاتيات ومقوِّمات المشهد الأخلاقي.
([19]) إن هذه النقطة نافعةٌ جدّاً في النقد الأخلاقي للسلطة. يقول الدكتور عبد الكريم سروش في النقد الأخلاقي للسلطة: «إن الحكم الأخلاقي تابعٌ للمقام. ولذلك فإن الحكام يرَوْن أنفسهم مُحقّين من الناحية الأخلاقية ليعاملوا الذين يخالفونهم بالطريقة التي يرَوْنها صالحة. وإن اختلاف الحكّام والمحكومين في الصحة والخطأ، أو الحسن والقبح الأخلاقي لطريقة الحكم، ناشئٌ عن الاختلاف في المشهد والمقام، ولا يمكن إصدار حكم أخلاقي في مورد هذا النـزاع، وإنّ لكل واحد من الطرفين حقٌّ بمعنى من المعاني». (انظر في هذا الشأن: عبد الكريم سروش، «نقد أخلاقي قدرت»: 23، 76 ـ 81، آفتاب).
إن النقد التفصيلي لهذا المدَّعى خارج عن نطاق هذا البحث. والذي يمكن قوله هنا ـ على نحو الإجمال ـ هو أن الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرّر ليس هو الحكم الذي يتوصّل إليه أو يصدره شخص الحاكم أو المحكوم من الموقع أو الوضعية الراهنة والفعلية التي يكون فيها. يمكن اعتبار هذه الأحكام بوصفها جزءاً من «الأخلاق الوصفية» أو «الواقعية السياسية» للأشخاص والجماعات، إلاّ أن «الأخلاق الوصفية» هي غير «الأخلاق المعيارية»، كما أن السياسة المثالية هي غير السياسة القائمة. إن الأحكام الأخلاقية المعيارية تنشأ عن المشهد الأخلاقي، ويتمّ إدراكها وإصدارها من قبل الشاهد المثالي، وليس من زاوية الحكّام أو المحكومين. وإن النقد الأخلاقي للسلطة ليس نقداً للسلطة من زاوية المحكومين، وإنما هو نقدها من زاوية المشهد الأخلاقي.
([20]) إن هذه الخصوصيات إنما يمكن الكشف عنها وتبريرها ونقدها من طريق الرجوع إلى المشاهدات العقلانية، وما وراء الأخلاقية.
([24]) إن قيد «الكافي» هنا في مقابل «الكامل»، حيث سيأتي عدم اشتراط الاطّلاع الكامل في هذا المورد.
([25]) للمزيد من البحث بشأن الشاهد المثالي، ودوره في مجال الأخلاق، من المفيد الرجوع إلى المصادر التالية:
– Kawall, J. (2002) »Virtue Theory and Ideal Observers» Philosophical Studies, 109 (3), p. 197 – 222.
– Firth, R. (1952) »Ethical Absolutism and the Ideal Observer» Philosophy and Phenomenological Research, 12 (3), 317 – 345.
– Brandt, R. (1955) »The Definition of an ‘Ideal Observer’ Theory in Ethics» Philosophy and Phenomenological Research, 25 (3), 407 – 413.
– Harrison, J. (1956) »Some Comments on Professor Frith’s Ideal Observer Theory» Philosophy and Phenomenological Research, 17 (2), 256 – 262.
– Bailiff, J. (1964) »Some Comments on the ‘Ideal Observer’» Philosophy and Phenomenological Research, 24 (3), 423 – 428.
– Garner, R. (1967) »Beardley, Firth and the Ideal Observer Theory» Philosophy and Phenomenological Research, 27 (4), 618 – 623.
– Allen, G. (1970) »From the ‘Naturalistic Fallacy’ to the Ideal Observer Theory» Philosophy and Phenomenological Research, 30 (40), 533 – 549.
– Postow, B. (1978) »Ethical Relativism and the Ideal Observer» Philosophy and Phenomenological Research, 39 (1), 120 – 121.
– Taliaferro, C. (1988) »Relativising the Ideal Observer Theory» Philosophy and Phenomenological Research, 49 (1), 123 – 138.
– Frankena, W. K. (1976), Perspectives on Morality, K. E. Goodpaster (ed.) (Notre Dame: Notre Dame University Press).
([26]) إن عبارة الـ «رؤية من اللامكان إلى كلّ مكان» تمثِّل الترجمة المقترحة من قبل الأستاذ مصطفى مَلَكْيان للعبارة الإنجليزية: (A View from Nowhere)، والتي تمثِّل عنواناً لكتاب يستحق القراءة، لمؤلفه تومز نايجل.
([27]) ولهذا السبب يذهب الكثير من الفلاسفة إلى الإيمان بأصلين، وهما: أن «الوجوب» يستلزم «القدرة والاستطاعة»؛ وأن المسؤولية الأخلاقية تستلزم إمكانية العمل بشكل آخر. والمقال التالي يبحث في العلاقة بين هذين الأصلين:
– Yaffe, G. (2005) »More on ‘Ought’ Implies ‘can’ and the Principle of Alternate Possibilities» Midwest Studies in Philosophy, 29, 1, 307 – 312.
وانظر أيضاً:
– Stern, R. (2004) »Does ‘Ought’ Imply ‘Can’? and Did Kant Think It Does?» Utilitas, 16, 1, 42 – 61.
([28]) العلامة الطباطبائي، أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، المقالة السادسة.
([29]) سروش، دانش وأرزش، پژوهشي در باب ارتباط علم وأخلاق، الفصل الرابع، انتشارات آسمان، طهران.
([30]) سروش، آيين شهرياري ودينداري: 305 ـ 306، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران.
([31]) نرى أن نفي الارتباط الميتافيزيقي والمعرفي للاعتباريات عن الحقائق يؤدّي بالدكتور سروش في مقام النقد الأخلاقي للسلطة إلى مواجهة الإبهام والغموض؛ إذ إنه يقول في النقد الأخلاقي للسلطة: «إن نقد سلوك الحكام يأتي من زاوية المحكومين، ولو وقف العقلاء في موقف الحكام لاختلف حكمهم». فإن هذه المسألة ـ من وجهة نظره ـ مصداقٌ لتبعية القيم الأخلاقية من المقام، وتحوُّلها بحسب تحوُّل المقام. (انظر في هذا الشأن: سروش، «نقد أخلاقي قدرت»: 230، آفتاب).
([32]) إن أشهر كتاب أخلاقي لأرسطوطاليس هو كتابه: «الأخلاق إلى نيقوماخوس». ولهذا الكتاب العديد من الترجمات باللغة الإنجليزية، وقد ترجم إلى اللغة الفارسية [والعربية] أيضاً. وللنظر في أحدث ترجمات هذا الكتاب انظر:
– Aristotle, (2002) Nicomachean Ethics, trans. By Christopher Rowe (Oxford: Oxford University Press.
([33]) إن من أبرز مَنْ قام بإعادة الحياة للأخلاق المتمحورة حول الفضيلة في العالم المعاصر يمكن أن نسمي كلاًّ من: (آنسكومب)، و(مك إنتاير)، وقد تقدّم أن أشرنا إلى أعمالهما في محلّه. إلاّ أنهما قبل أن يعملا على تقديم صيغة جديدة لهذه المدرسة أو النظرية الأخلاقية عملا على إثبات ضرورتها. ومن الذين قدّموا تقريرات جديدة لهذه المدرسة أو النظرية الأخلاقية نجد مؤلَّفات (مايكل سلات) جديرةً بالقراءة، فانظر إلى الكتابين التاليين:
– Slote, M (1992) From Morality to Virtue, (Oxford: Oxford University Press).
– Slote, M (2001) Morals from Motives, (Oxford: Oxford University Press).
([34]) أشهر مؤلَّفين في الأعمال الأخلاقية لـ (كانْت) هما:
– Kant, I. (1997) Critique of Practical Reason trans. By Mary Gregor (Cambridge: Cambridge University Press(.
– Kant, I. (1998) Groundwork of the Metaphysics of Morals trans. By Mary Gregor (Cambridge: Cambridge University Press(.
([35]) The Categorical Imperative.
([37]) لقد أخذنا هذا النقد والمثالين من وليام فرانكينا، انظر:
– Frankena, W. K. (1973), Ethics, 2nd edition, (London: Prentice-Hall). First printed in 1963.
([38]) يعتبر جيرمي بينثام وجان إستيوارت من المؤسِّسين لمذهب النفعية الأخلاقية، انظر في هذا الشأن:
– Bentham, J. (1996) An Introduction to the Principles of Morals and Legislation (eds.) by J. H. Burns and H. L. A. Hart (Oxford: Oxford University Press(.
– Mill, J. S. (2001) Utilitarianism, (ed.) by George Sher (Indianapolis: Hackett Publishing Company).
([39]) من أجل دراسة مقارنة بين المذاهب أو النظريات الأخلاقية الثلاث: «المذهب الوظيفي»، و«المذهب النفعي»، و«الأخلاق المتمحورة حول الفضيلة»، يمكن الرجوع إلى المصدر التالي:
– Baron, M. Pettit, P. & Slote, M. (1997) Three Methods of Ethics: A Debate, (Oxford: Blackwell(.
([40]) ربما أمكن إدراج «الأخلاق الواقعية»، و«أخلاق الفضيلة»، و«أخلاق كانْت»، و«المذهب النفعي الأخلاقي»، ضمن نظريات الخطأ في الأخلاق؛ لأن هذه النظريات تقول: إن منشأ الخطأ الوحيد في الأحكام الأخلاقية عبارةٌ عن «عدم الرؤية الواقعية»، و«عدم مراعاة الحدّ الوسط»، و«القابلية على التعميم»، و«المنفعة الشخصية». وإن هذا في الأصل هو الذي يمثل سرّ حاجتنا إلى النظرية الأخلاقية وفلسفة الأخلاق.
([41]) إن هذه النظرية تستنتج من كلمات ريتشارد برانديت. وقد تقدَّم البحث التفصيلي بشأن هذه النظرية في الفصل السادس من كتابنا (أخلاق التفكير الأخلاقي). انظر:
– Brandt, R. (1959) Ethical Theory: The Problems of Normative and Critical Ethics (Englewood Cliffs, N. J. Prentice-Hall, Inc(.
([42]) LaFollette, H. (1997) »Theorizing about Morality» in his (ed.) Ethics in Practice: An Anthology, (Oxford: Blackwell Publishers), pp. 4 – 5.
([43]) تعرّضنا إلى شرح وتفصيل كيفية تأثير هذه الأمور في تبرير الأحكام والمعتقدات الأخلاقية في الفصل الثامن من كتابنا (أخلاق المتبنيات الأخلاقية).
([44]) في ما يتعلق بالمشهد الأخلاقي انظر:
– Baier, K. (1958) The Moral Point of View: A Rational Basis of Ethics (Ithaca: Cornell University Press), esp. chap. 8.
– Frankena, W. K. (1983) »Moral Point of View Theories» in Norman Bowie (ed.) Ethical Theory, (Indianapolis: Hackett), 39 – 79.