بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية
مدخلٌ في توضيح المفهوم
من الواضح أنّ النبيّ أو الإمام تصدر منهما أقوالٌ وأفعال ومسلكيّات. وأوّل شيءٍ يواجهنا في ما يصدر منهم هو مدى علاقة ما يصدر منهم بالدين نفسه. فهل كلّ ما يصدر منهم نابعٌ أو حاكٍ عن الدين أو أنّ القضية تتَّخذ شكلاً آخر؟
يرى العلماء المسلمون أنّ هناك بعض الأمور التي قد تصدر عن النبيّ ـ مثلاً ـ ولا تكون نابعةً من الدين، أو حاكيةً عنه بالضرورة، فلو قال النبيّ: أنا عطشان فإنّ عطشه ليس أمراً دينيّاً، وإنّما هو إخبارٌ شخصيّ عن حالةٍ ماديّة وشعوريّة تعرض جسده ونفسه. ولا يظهر اختلافٌ كبير إزاء وجود كلماتٍ أو أفعال من النبيّ لا تتّصل بالدين ومضمونه الأصليّ، ولا تمثِّل بالنسبة إلينا أمراً دينيّاً جاءت به السماء، وإنْ كان حقّاً وصائباً.
إلاّ أنّ الموضوع الإشكاليّ يكمن في الجانب المرجعيّ من شخصيّة المعصوم، وأعني بذلك أنّه ما هو الأصل في الذي يصدر عنه؟ هل هو البُعْد التبليغيّ للدين، بحيث نستطيع الأخذ به ونسبته إلى الدين، أو هو البُعْد غير التبليغيّ، بحيث ننسبه إلى النبيّ دون أن تحكي هذه النسبة عن أمرٍ دينيّ؟
وجوهر الموضوع يكمن في أنّه هل كلّ كلامٍ يصدر عن النبيّ هو دينٌ إلهيّ أرسلته السماء، أو أنّه قد يصدر عنه ما هو وإنْ كان حقّاً، لكنّه لا ينبع من السمة الرسوليّة التي تجعل ما يقول منتسباً إلى جوهر الرسالة التي أتى بها؟ ومن ثمّ فهل كلُّ قولٍ نبويّ أضع يدي عليه يمكنني أن أنسبه إلى المنظومة الدينيّة الأصليّة الثابتة، أو أنّه مع احتمال صدور هذا القول من شخص النبيّ بما هو إنسانٌ أو حاكم أو مجاهد أو غير ذلك ـ لا بما هو حاكٍ عن الله ومخبرٌ عن الدين السماوي ـ فلا يمكنني التسرُّع في نسبته إلى الدين نفسه بوصفه المكلَّف به في حياتي؟
ولكي أعيد صياغة القضيّة بشكلٍ آخر نفترض في النبيّ شخصيّتين:
الشخصية الأولى: ونسمّيها الشخصية الرسولية أو المرآتية. وهي الشخصيّة التي لا تمثِّل سوى الحاكي والناقل لما أرسل النبيّ لإخباره، وهو الدين نفسه والرسالة نفسها. وفي هذه الشخصية يكون كلّ ما يصدر عن النبيّ طريقاً لمعرفة ما هو الدين، وما تتضمّّنه الرسالة التي جاء بها.
الشخصية الثانية: ونسمّيها الشخصيّة الذاتية أو المحمَّدية. وهي الشخصيّة التي تمثِّل النبيّ بوصفه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، لا بوصفه ناقلاً للرسالة. فما يصدر منه ولو كان حقّاً، لكنّه ليس إخباراً عن الرسالة، ولو كان خادماً لها ومنسجماً مع قضاياها.
وهذا الفرق يمكن تمثيله بشخصٍ أُرسل إلى آخر ليوصل إليه رسالةً شفويّة مثلاً. إنّ الرسول وهو يقوم بنقل نصّ الرسالة يعبِّر عن الشخصيّة المرآتية التي يمرّ بها المستمع، وصولاً إلى جوهر الموضوع الذي بعثه المُرْسِل صاحب الرسالة ومكوِّنها وصانعها. أمّا عندما ينتهي من نقل الرسالة، ويجلس للمسامرة مع المُرْسَل إليه، ويتحدّثان بأخبار البلاد والعباد، فإنّ ما يقوله هذا الرسول لا يكون من ضمن رسالته التي بُعِث بها، حتّى لو كان المُرْسِل راضياً بما قاله الرسول خارج نقل الرسالة.
والسؤال الجوهريّ هنا: هل نعتبر أنّ كلّ ما يقوله الرسول هو رسالة من المُرْسِل إلى أن يثبت العكس؛ أو نعتبر أنّ كلّ ما يقوله يمثِّل فيه نفسه ـ ولو كان صحيحاً ومَرْضيّاً من المُرْسِل ـ، لكنّه ليس مسطوراً في النصوص الأصليّة للرسالة؛ أو لا هذا ولا ذاك؟
هذا التساؤل قد نجده في الأدبيّات الدينيّة بصيغةٍ أخرى، وهي: هل الأصل في المعصوم أنّه مبلِّغٌ للدين الإلهي؛ أو أن الأصل فيه عدم ذلك؛ أو أنّه لا يوجد أصلٌ مرجعيّ في المقام أبداً؟
وسؤالنا الجوهريّ هنا أو الإشكاليّة العُمْدة لا معنى لهما إلاّ بعد الاعتراف بوجود هذين الجانبين في المعصوم، كما هو محلّ قبول الكثيرين. أمّا لو أصرّ شخصٌ على نفي وجود إحدى الشخصيّتين مطلقاً فمن الطبيعيّ أنّه لا معنى عنده لهذا التساؤل الذي نشتغل عليه هنا. ولهذا، سوف نعتبر أصل معقوليّة الشخصيّتين في النبيّ أو الإمام مصادرةً مفروضة مسبقاً، ونعمل في الجواب عن التساؤل الرئيس، منطلقين من مفروغيّة معقوليّة وإمكان هذه المصادرة.
أطروحة أصالة التبليغ في الشخصيّة النبويّة
والذي يبدو ـ في مجال الجواب عن هذا التساؤل ـ أنّ التيار السائد في الفكر الإسلامي ـ وعند الإماميّة بشكلٍ أكبر ـ أنّ الأصل في ما يصدر عن النبيّ والإمام هو التبليغ حتّى يثبت العكس. فلو أمر النبيُّ الجيشَ الإسلاميّ بعدم قطع الأشجار، أو أمرهم باسترقاق النساء، فإنّ الأصل أنّ هذا الحكم قد تلقّاه من الله بوصفه جزءاً من الرسالة الإسلاميّة؛ الأمر الذي يعني أنّ بإمكان الفقيه المسلم أن يفتي بحرمة قطع الشجر في الحرب، ناسباً ذلك إلى جوهر الشريعة بوصفه حكماً إلهيّاً.
وهذا الأصل يناقض أصالة عدم التبليغ؛ إذ لو قبلناها سيعني ذلك أنّ الأصل في هذه الأوامر النبويّة الموجّهة للجيش الإسلاميّ أنّها تدبيراتٌ صدرت من النبيّ لإدارة وضع الجماعة المسلمة، وأنّ هذه التدبيرات كانت صائبةً ومسدَّدة ومؤيّدة من الله، لكنْ لا بوصفها جزءاً من الدين الذي أرسل به النبيّ، بل جزءٌ من الأداء النبويّ الحقّ في خدمة الدين الذي أرسل به. فالنهج النبويّ يمثِّل درساً لنا، لا الناتج الزمني عن هذا النهج في الفترة الزمنيّة التي مورس فيها سابقاً.
لا شَكَّ في أنّه لو قال النبيّ: إنّ الله يأمركم بكذا وكذا، أو جاء نصٌّ يقول: إنّ الله يأمر بأداء الأمانة، أو يقول: شرَّع الله كذا وكذا… فهنا من الواضح أنّ الشخصيّة المرآتية هي الحاكمة، وعنصر الإخبار والتبليغ هو المهيمن.
وكذا لو قال النبيّ: بدا لي ـ وأنا أفكِّر بالأمس ـ أن نفعل كذا وكذا، فما رأيكم؟ فإنّه من الواضح أنّه ليس ناقلاً لرسالةٍ، وإنّما هو إنشاءٌ نبويّ. وهذا الإنشاء إذا لم يتعقّبه إمضاءٌ إلهيّ ينسب مضمونه إلى الله، بوصف ذلك جزءاً من الدين، فلن نتمكَّن من نسبته إلى الدين، وإلاّ أمكن ذلك. نعم، قد يجب على المعاصرين للنبيّ طاعته في ما أنشأ بنفسه، لكنْ هي طاعةٌ له بوصفه حاكماً، لا بوصفه مبلِّغاً، والمفروض أنّنا قبلنا بالمصادرة التي تميِّز بين الشخصيّة الرسوليّة التبليغيّة وغيرها.
أمّا لو لم يقُمْ شاهدٌ على أحد الطرفين، فما هو الأصل؟ وما الذي يجب علينا اتّباعه هنا اجتهاديّاً؟
هنا طرح المشهورُ أصالة التبليغ، أو فلنقُلْ: مارسوها في وعيهم المستكنّ داخل العمليّات الاجتهاديّة؛ إذ من النادر أن نجد حولها بحثاً مركَّزاً بعنوانها في أصول الفقه.
التمييز بين أصالة التبليغ وأصالة التأبيد
وقبل طرح أو مناقشة قضيّة أصالة التبليغ وأدلّتها لا بُدَّ أن نميّز بين مفهوم التبليغ ومفهوم التأبيد؛ وذلك:
1ـ قد يكون الحكم تبليغيّاً، إذن فهو منسوبٌ إلى الله تعالى. ولكنّ ذلك يحتاج إلى بحثٍ في أنّه هل كلّ ما يشرِّعه الله في الإسلام أبديّ أو أنّه قد يشرِّع حكماً أبديّاً وقد يشرِّع حكماً مرحليّاً خاصّاً بظروف عصر النصّ؟
هذه هي أصالة التأبيد في التشريع الإلهي. فإذا قلنا بأنّ الأصل في كلّ ما يشرّعه الله أنّه أبديٌّ إلاّ ما خرج بالدليل، كالأحكام المنسوخة، فإنّ أيّ حكم يبلِّغناه النبيّ ينبغي التعامل معه فوراً بوصفه أبديّاً. وإذا رفض شخصٌ هذا الأصل أمكنه القول بأنّ ما جاء في القرآن، أو نقله النبيُّ صراحةً عن الله، ليس من الضروري أن يكون أبديّاً، ومن ثمّ فإثبات الطبيعة الأبديّة له يحتاج إلى دليلٍ.
وعليه، فنحن نبحث هنا في أصالة التبليغ وعدمها في الشخصيّة النبويّة. أمّا أصالة التأبيد في الأحكام الإلهيّة فهي بحثٌ آخر، الأمر الذي يلزم بحثه في محلّه مجدّداً. ومن ثمّ فإثبات أصالة التبليغيّة في الأحكام النبويّة لا يساوق ـ منطقيّاً ـ إثبات أصالة التأبيد، تَبَعاً لذلك، إلاّ بفرض البرهنة على الأصالة الثانية بعد الأولى.
2ـ قد يكون الحكم نبويّاً غير تبليغيّ، بعد فرض عدم لحوق الإمضاء بعد تشريعه، إمضاءً يُلحقه بواقع الدين، ولكنّ نبويّة الحكم بذاتها لا تعني زمنيّته بالبداهة؛ وذلك أنّ هنا بحثاً في أنّ الأحكامَ السلطانيّة والولائيّة للنبيّ أو الإمام هل هي ـ بحسب طبيعتها ـ أبديّةٌ بافتراض ولايته على الأمّة إلى يوم القيامة، فيلزم طاعتُها، سواء صنَّفناها من أصل الدين أم لا، أو أنّها غير أبدية؟ وهذا يعني ضرورة استئناف بحثٍ آخر في موضوع أبديّة أو زمنيّة الأحكام الولائيّة التدبيريّة؛ إذ قد انتصر بعضُهم لأبديّتها. وقد تعرّضنا لهذا الموضوع في مناسبةٍ أخرى، وأثبتنا أصالة الزمنيّة والتأقيت في الأحكام التدبيريّة (انظر: الأحكام التدبيريّة في السنّة الشريفة بين الزمنيّة والتأبيد، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العددان 38 ـ 39: 5 ـ 10).
وهذا كلّه يعني أنّ من الضروري تحديد مركز الكلام في الشخصيّة المرجعيّة للنبيّ أو الإمام؛ حتّى لا تتداخل الموضوعات وتلتبس الأمور.
مستنداتٌ سبعة لتشييد بنيان أصالة التبليغ، وقفاتٌ وتأمُّلات
يمكن هنا طرح مجموعة من الأدلّة التي تُثبت أنّ الأصل هو التبليغ. ونسوقها على الشكل التالي:
1ـ المرجعيّة الاستقرائيّة في النصوص، قراءةٌ نقديّة
إنّ أغلب الأحكام الشرعيّة صدر على نحو التبليغ. فلو استقرأنا أغلب التشريعات التي وردت في النصوص لرأينا أنّها تبليغيةٌ. وهذا يعني أنّنا لو وضعنا يدنا على حكمٍ مشكوك، واحتملنا فيه التبليغيّة وعدمها، فإنّ احتمال عدم تبليغيّته، حيث لا قرينة على ذلك، هو احتمالٌ ضئيلٌ جدّاً، يساوي عدد الأحكام غير التبليغيّة قياساً إلى مجموع الأحكام الشرعيّة.
وبهذه الطريقة نُثبت أصالة التبليغيّة، التي ترجع في روحها ـ وفقاً لهذا الدليل ـ إلى حصول الظنّ الغالب أو الظنّ الاطمئنانيّ بكون الحكم تبليغيّاً. والاطمئنان حجّةٌ.
إلاّ أنّ هذا الدليل غير واضحٍ، بل فيه مصادرةٌ؛ فنحن الآن نفترض أنفسنا في بداية الطريق الاجتهاديّ النظريّ في النصوص الدينيّة، ونريد أن نعرف كم هي نسبة التبليغيّ إلى مجموع الأحكام الصادرة؟ أو كم هي نسبة غير التبليغي إلى المجموع؟ وفي هذه المرحلة بالذات لا نعرف لمَنْ تكون الغلبة.
وهذا يعني أنّ هذا الادّعاء ـ أعني ادّعاء الغلبة ـ هو بنفسه يحتاج إلى دليلٍ؛ فكيف عرفنا أنّ أغلب النصوص تبليغيّ؟ وكيف تأكَّدنا من ذلك؟ فلا بُدَّ من معطىً قبليّ يُثبت لنا هذه الغلبة؛ إذ قد نحتمل أيضاً أنّ أغلب النصوص كانت غير تبليغيّة، أو أنّ نسبة غير التبليغيّ إلى المجموع هي 40% مثلاً، وهذا يعني فقدان حال الاطمئنان عند الشكّ في كلّ حكمٍ أنّه تبليغيٌّ أو غيره، بل حتّى لو كانت النسبة هي 20% أو 30% فإنّ هذا يعني أنّ احتمال تبليغيّة الحكم مشكوك التبليغية هو 60% أو 70% أو 80%، وهذا لا يعدو أن يكون ظنّاً لا يغني من الحقّ شيئاً.
وخلاصة القول: إنّ دعوى الغلبة إلى هذا الحدّ في النصوص النبويّة هي بعينها تحتاج إلى دليلٍ. ولم يقدَّم هنا دليلٌ عليها حتّى الآن.
2ـ الإطلاقات الزمكانيّة والمرجعيّة الهرمنوطيقيّة، نقدٌ بنيوي
قد يبني الإنسان هنا على الاستناد إلى إطلاقات وعمومات النصوص النبويّة و… من حيث الزمان والمكان؛ فإنّ الإطلاق الزمكاني شاهدٌ أنّ الحُكْمَ تبليغيٌّ، وإلاّ كان زمنيّاً نبويّاً. وهذه مرجعيّة دلاليّة تأويليّة هرمنوطيقيّة، تستعين بالنصوص نفسها لإسعافنا هنا.
لكنْ يمكن أن نناقش هذه المحاولة:
أوّلاً: إنّ في هذا الكلام خلطاً ـ أشرنا إليه ـ بين التبليغيّة والتأبيديّة؛ حيث ظُنَّ هنا أنّ الحُكْمَ ما دام مطلقاً زمكانياً فهذا يعني أنّه تبليغيٌّ، مع أنّه لا تلازم قَهْريّاً ـ على بعض المباني والنظريّات ـ بين الأمرين.
ثانياً: بغضّ النظر عن الملاحظة الأولى، ومع قبول مبدأ زمانيّة الحكم النبوي، كما نرجِّحه نحن، لكنْ لا معنى للتمسُّك بالإطلاق هنا، بل هو قلبٌ لمنهج البحث؛ وذلك أنّ الإطلاق متفرّعٌ على إمكانه، وكون المتكلِّم في مقام البيان من حيث الزمان. فإذا احتملنا أنّ هذا الحُكْمَ نبويٌّ غير تبليغيّ، أي صدر من الشخصيّة الذاتيّة للنبيّ أو الإمام، لا الشخصيّة الرسوليّة أو التبليغيّة، فهذا يعني أنّنا نحتمل كونه في غير مقام البيان من حيث ما بعد زمانه.
وسبب ذلك أنّ الأحكام الولائيّة والتدبيريّة ونحوها لو فرضناها غير تأبيديّة بطبعها، وأنّ هذا هو مقتضى الأصل فيها، كما رجَّحناه في محلِّه، فهذا يعني أنّ احتمال الولائيّة والتدبيريّة يساوق احتمال كونه في مقام البيان لأهل عصره وزمنه خاصّة، فلا نُحرز أنّه في مقام البيان للأزمنة اللاحقة، ومع الشكّ في أنّه في مقام البيان لتلك الأزمنة لا يمكن التمسُّك بالإطلاق الزماني؛ لعدم توفّر (مقدّمات الحكمة) فيه، كما هو واضحٌ. فالإطلاق الزماني متوقِّفٌ على إحراز أنّه في مقام البيان لسائر الأزمنة، وهو متوقِّفٌ على إثبات أنّه تبليغيٌّ، فكيف نُثبت التبليغيّة بالإطلاق الزماني؟!
وربما تقول: إنّ لدينا أصلاً عقلائياً يُثبت أنّه في مقام البيان؛ وذلك أنّ الأصل في كلّ متكلِّم أنّه في مقام البيان. وبهذا الأصل نُثبت الإطلاق الزماني.
والجواب: إنّه قد حصل خَلْطٌ والتباسٌ هنا بين أمرين، هما:
أـ أصالة البيان في المتكلِّم، مقابل كونه لا يريد بيان مراده جِدّاً. وهذه الأصالة العقلائيّة تنفي احتمال كونه هازلاً أو غافلاً أو مازحاً أو قاصداً الإجمال. فأيّ متكلّم يصدر منه كلام فإنّ العقلاء يتعاملون معه على أنّه مريدٌ جادّ لبيان مراده الجدّي من كلامه، وليس هادفاً لمحض المزاح أو مُطْلِقاً كلاماً مجملاً لا بيان فيه، ما لم ينصب قرينةً على مزاحه أو نحو ذلك.
وهذا الأصل صحيحٌ. ووفقاً لهذا الأصل نحن نتعامل بجدّية مع النصوص الدينيّة. ومرجع هذا الأصل إلى أنّ البشر يحصل لهم اطمئنانٌ بكون المتكلِّم جادّاً مبيّناً مراده من كلامه؛ إذ عندما لا ينصب قرينةً ولا شاهداً ولا يُعْرَف بهذا الأمر ـ أي بكونه مازحاً في بياناته ـ فإنّ احتمال عدم جدّيته في بيان مراده الحقيقيّ هو احتمالٌ ضعيفٌ جدّاً لا ينتبه إليه العقلاء. فأصالة البيان، مقابل الإهمال أو الإجمال المطلَقَين، أصالةٌ عقلائية تقوم على نظام الاطمئنان عند البشر.
ب ـ أصالة السعة في بيان المتكلِّم، بمعنى أنّ المتكلِّم بعد أن أثبتنا أنّه في مقام البيان من حيث المبدأ هل هناك أصلٌ على كونه في مقام البيان من جميع الجهات المتّصلة بكلامه أو لا؟
لا يوجد دليلٌ على وجود أصلٍ عقلائيّ في هذا الإطار. ويكفي الشكّ للنفي العملي؛ لأنّ السيرة العقلائيّة دليلٌ لبّي، يؤخَذ فيه بالقَدْر المتيقَّن. فلو أنّ شخصاً قال: إنّني أحترم زيداً النزيه، فهذا لا يعني أنّه في مقام البيان من تمام نواحي علاقته بزيد، بل نأخذ بالمقدار الذي يتكلَّم فيه، والجهة التي يشير إليها.
وعليه، لا يوجد أصلٌ عقلائي يفرض كون النبيّ في مقام البيان في كلّ ما يقول، ومن تمام الجهات، بما فيها الجهات الزمانيّة. نعم، هو في مقام البيان مقابل الإجمال المطلق أو الإهمال المطلق لا غير. فلا نستطيع التمسُّك بأصالة البيان لإثبات كونه يتحدَّث عن سائر الأزمنة، بل لا بُدَّ مسبقاً من إثبات كونه في مقام البيان من حيث ما بعد زمانه، حتّى نتمسّك بالإطلاق الزماني. والمفروض أنّ هذا متفرّعٌ على إثبات تبليغيّته، فكيف نُثبت التبليغيّة بالإطلاق، مع أنّ الإطلاق متوقّفٌ ومحتاج لإحراز التبليغيّة مسبقاً؟! وعليه، فالاستناد لما سُمِّي بالإطلاقات الزمكانيّة غير مقنع.
3ـ نصوص الوظائف النبويّة وتأصيل التبليغيّة، تفكيكٌ وتحليل نقديّين
ربما يُعْتَمد هنا الاستنادُ إلى النصوص القرآنيّة والحديثيّة الواضحة في بيان أنّ وظيفة النبيّ هي الإنذار والتبليغ وبيان الرسالة والتبشير وغير ذلك، بل إنّ جملةً وافرة منها واضحةٌ في حصر مهمّته بهذه الأمور، وأنّه ليس عليه إلاّ البلاغ لا غير. وهذا ما يؤسِّس أصلاً قرآنياً في شخصيّة النبيّ، هو: أصل الوظيفة التبليغيّة. فنرجع إلى هذا الأصل في كلّ موردٍ، ما لم نتأكَّد بدليلٍ ما يبرِّر الخروج منه، وكونه في مقام بيان حكمٍ حكوميّ تدبيريّ مثلاً.
ولكنّ هذا الدليل قابلٌ للمناقشة أيضاً؛ وذلك:
أوّلاً: إنّ نظر هذه النصوص إلى إثبات وظيفة النبيّ تجاه قومه، في مقابل إلزامهم بشيء أو فرض شيء عليهم قَهْراً من جهةٍ، وفي مقابل كونه قادراً على فعل شيءٍ تكويني في العالم غير بُعْده الرسوليّ من جهةٍ ثانية. وهذا ما نلاحظه في بعض هذه الآيات، مثل: قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 ـ 22)، فإنّ هذه الآية واضحةٌ في إرادة حصر دوره بالبلاغ، في مقابل كونه مسيطراً عليهم، قادراً على جعلهم مؤمنين قَهْراً، فهي متوازنة مع قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾ (القصص: 56)، وقوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق: 45).
وهكذا نرى أنّ وظيفة البلاغ جيء بها لتقول للنبيّ بأنّك لست مسؤولاً في إعلان الدعوة وإيصال الرسالة إلاّ عن تبليغهم، ولا يُلزمك الله بما هو أكثر من ذلك، إنّما المسؤوليّة على الناس. قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 20)، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54)، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (العنكبوت: 18)، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (النمل: 92).
فهذه النصوص واضحةٌ في أنّها تريد أن تقول بأنّ مسؤوليّة النبيّ هي إبلاغ الدين، وأنّه إذا كفر الناسُ ولم يقبلوا فأمرُهم إلى الله، لا إليه، ولا يتحمّل هو شيئاً، ولا هو بالمتولّي أمورهم. كما تحدّثت آياتٌ عديدة أخرى عن عدم جعل النبي وكيلاً أو حفيظاً أو محاسباً، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد: 40).
وعليه، فهذه النصوص لا تريد حصر مهمّة النبيّ في الإبلاغ، بمعنى أنّه لا يقول كلمةً إلاّ عن تبليغٍ ولو في أموره الشخصيّة، وإنّما تريد أن تقصر مهمّته تجاه قومه بمهمّة التبليغ، ولا تريد أن تحمِّله مسؤوليّةً أزيد؛ فلا هو بمسيطرٍ عليهم، له الحقّ في فرض دينه؛ ولا هو بالمتحمِّل لذنوبهم وحسابهم، بل أمرُهم إلى الله، وليس له من الأمر شيءٌ في هذا. هذا هو السياق العامّ الذي جاءت فيه هذه النصوص؛ فلا إطلاق فيها يخدمنا في موضوع بحثنا هنا.
ثانياً: إنّ القائلين بأصالة التبليغ يقرّون ـ عادةً ـ بأنّه قد صدر من النبيّ بعضُ الأحكام الولائيّة غير التبليغيّة. وهذا معناه أنّهم يعترفون بأنّ هذه النصوص تريد بيان الوظيفة الأساسيّة للنبيّ، لا الوظيفة الحصريّة. وعليه، يجب أن نأخذ مجموع نصوص النبيّ، لا خصوص نصوصه الفقهيّة؛ لنقارنها مع نصوص الفقه غير التبليغيّة. وهذا ما يفتح احتمال أنّ هناك ربع نصوص الفقه مثلاً غير تبليغيّ؛ لأنّ هذا الربع نسبته إلى مجموع النصوص الدينيّة هو العُشْر مثلاً. وعليه فلا يمكن أن يحصل ظنٌّ اطمئناني بالتبليغيّة لو وضعنا يدنا على نصٍّ نبويّ فقهيّ، وشكَكْنا في تبليغيّته.
ثالثاً: إنّ غايةَ ما يُثبته هذا الدليل التبليغيّةُ الحصريّة في النبيّ نفسه، ولا يشمل الإمام، ولا الصحابيّ، بينما مَنْ يدّعي التبليغيّة غالباً ما يطبّقها أيضاً على الإمام والصحابيّ. وعليه، فهذا الدليل غير تامٍّ لتأسيس أصلٍ مرجعي في مجال بحثنا.
4ـ اعتماد فلسفة الخطاب الديني في ظلّ مفهوم الخاتميّة، تعليقٌ وتقويم
الاستناد إلى فلسفة الخطاب الديني في الرسالة الخاتمة الخالدة، وهي فلسفة عقلائيّة، بأن نقول بأنّ النبيّ يخاطب الإنسانيّة إلى يوم القيامة، كما يخاطب أهل عصره. وهذا من مستلزمات افتراضه مُرْسَلاً إلى العالمين، وكون رسالته خاتمة وخالدة. وعليه يُفترض ـ عقلائيّاً ـ أن تكون نصوصُه التي أطلقها خطاباً للأجيال كلّها؛ لأنّه أُرسل للجميع. فاعتبار نصٍّ من نصوصه خاصّاً بفضائه الزمني، وحكماً غير تبليغيّ، هو على خلاف المسار العام لخطّته ورسالته ومشروعه. فلا بُدَّ من فرض ذلك حالةً استثنائية هي التي تحتاج إلى مبرِّر، فإذا لم يتوفَّر لدينا مبرّرٌ لها كان مقتضى الحال الطبيعيّة هو التبليغيّة لعموم الأجيال، ممّا يُنتج العموم الزمكاني.
إلاّ أنّ هذا الدليل ـ بغضّ النظر عن كونه يدمج بين مسألة التبليغيّة والتأبيديّة ـ لا يصلح مرجعاً قانونيّاً لنا هنا؛ وذلك أن الأفكار الأصليّة التي اتّسق منها هذا الدليل صحيحةٌ. لكنْ بعد فرض أنّ النبيّ كان ملزماً بخطاباتٍ مرحليّة لأهل زمانه؛ من حيث إنّ هذا الأمر تقتضيه أيضاً طبائع الأشياء، كيف نعرف أنّ نصّاً نبويّاً مشكوك التبليغيّة هو بالفعل تبليغيٌّ؟! فنحن أمام وظيفتين ومسؤوليّتين نبويّتين في الحقيقة، لا مسؤوليّة واحدة:
أـ مسؤولية مخاطبة الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة، بمقتضى عموميّة رسالته وخاتميّتها وخلودها.
ب ـ ومسؤولية مخاطبة أهل زمكانه، انطلاقاً من أنّه غير قادر ـ عقلانيّاً ومنطقيّاً ـ على تجاهل الظروف الزمكانيّة المحيطة به أيضاً. الأمر الذي يفرض عليه نصوصاً خاصّة بتلك المرحلة؛ لإدارة وضعٍ آنيّ معيّن أو وضعٍ محكوم لظروف ذلك الزمان.
فهاتان معاً مهمّتان مترقَّبتان للنبيّ، وتفرضهما القراءة العقلائية العقلانيّة لطبائع الأشياء. ومعه كيف نعرف أنّ هذا النصّ المشكوك صدر من قِبَل مهمّته الأولى أو الثانية؟
ولعلّ الاستدلال هنا ينطلق من تصوُّر أنّ عدم الذهاب خلف أصالة التبليغ يساوق بطلان الخلود الثابت للشريعة؛ لأنّ بعض الأحكام لن يمكن إثبات البُعْد التبليغي فيه. وهذا خطأٌ منهجي؛ لأنّ هناك مقداراً واضحاً في بُعْده الخالد في ما جاء به النصّ الديني الإسلامي عموماً، والسؤال: مهما كان هذا البُعْد قليلاً من حيث الكمّ هل هناك دليلٌ على أنّ الشريعة الخالدة هي في حقّ الأجيال اللاحقة أكثر من ذلك؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب هو مصادرةٌ؛ لأنّه يفرض أنّ واقع الفقه اليوم هو الشريعة الخالدة، ويريد تخريجه بمثل: أصالة التبليغ، مع أنّ البحث أسبق رتبةً بكثير من خلود هذه الأحكام الفقهية كلّها. فنحن نريد مرجعيةً قانونيّة تثبت خلودها، لا أنّنا نريد بخلودها المفترَض خَلْقَ مرجعيّة قانونية.
وعليه، فهذا الدليل أيضاً غير مقنع.
5ـ أدلّة حجّية السنّة ودورها في التوصيف الوظيفي، تأمّلاتٌ نقديّة
الاستناد إلى نصوص حجّية السنّة نفسها، ولا سيَّما ما كان من نوع قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾، ودليل التأسّي، ودليل لزوم طاعة النبيّ مطلقاً، وغير ذلك. فهذه النصوص تفيد بإطلاقها أنّ كلّ ما صدر من النبيّ هو واسطةُ بلوغِ الشريعة لنا والدين. وغيرُه يحتاج إلى دليلٍ.
والجواب: إنّ أدلّة حجّية السنّة التي تُسعفنا هنا ـ بعد حذف ما هو بالغ الضعف منها، كما توصّلنا إليه في كتابنا «حجّية السنّة» ـ تقع على ثلاثة أنواع:
النوع الأوّل: النصوص القرآنيّة وغيرها الدالّة على طاعة النبيّ مطلقاً، والائتمار لأمره، والانتهاء عمّا نهى عنه.
وهذا النوع قلنا في محلّه بأنّ بعض نصوصه دالٌّ على حجّية السنّة النبويّة في مجال الطاعة، وهو لا يفيد حجّية السنّة في كلّ ما يقوله النبيّ؛ لأنّ موضوعه الطاعة، وهي لا تكون إلاّ في مجال الأمر والنهي ونحوهما. ولهذا التزمنا هناك بأنّ إطلاقات الأمر بالطاعة تُثبت مبدأ حجّية السنّة في مجال الطاعة.
إلاّ أنّ هذا النوع من الأدلّة لا يُثبت تبليغيّة ما يصدر عن النبيّ؛ لأنّ النصّ أمرنا بطاعته، وطاعتُه لا تستبطن اعتبار ما يقوله تبليغاً عمّا أُوحي إليه. تماماً كأمرنا بطاعة وليّ الأمر، فإنّ الطاعة لا تعني أنّ كلّ ما يصدر عن وليّ الأمر فهو تبليغٌ لأمرٍ إلهيّ، بل قد يكون حكماً حكوميّاً أو ولائيّاً أو زمنيّاً صدر لمصلحةٍ شخَّصها النبيّ، لنقوم بفعلها، لا لكون ما أمر به مندرجاً ضمن ما أُوحي إليه بوصفه جزءاً من الدين. فلو أمر النبيُّ المسلمين بالخروج للحرب غرّة شهر ربيع الأوّل مثلاً فإنّ أدلّة الأمر بإطاعته مطلقةٌ تشمل هذه الحال، لكنّ هذا لا يعني أنّ مضمون أمره هذا هو جزءٌ من الدين الذي يقوم بتبليغه، وإنّما نكتشف أنّه جزءٌ من الدين من خلال ثبوت الإطلاق في أمره لجميع الأزمنة والأمكنة، ثم القول بعدم إمكان هذا الإطلاق في أوامره غير التبليغيّة مثلاً. وهذا رجوعٌ إلى دليل الإطلاق الذي تكلَّمنا عنه سابقاً.
والحاصل: إنّ الأمر بإطاعة شخصٍ لا يستبطن بالضرورة كون ما يأمر به جزءاً من الدين يقوم بتبليغه لنا، بل هو أعمّ. وعصمة النبيّ تثبت كون المأمور به حقّاً، وهذا أعمّ من كونه جزءاً من الدين. تماماً كحالة مطابقة أمر وليّ الأمر للواقع، فإنّه يكون حقّاً، لكنّ مضمون أمره لا ننسبه إلى الله تعالى بوصفه جزءاً من الدين، وإنْ وجبت طاعته.
النوع الثاني: النصوص القرآنيّة وغيرها التي تعتبر أنّ كلّ ما صدر من النبيّ هو وحيٌ من الله تعالى. فكلّ ما يقوله هو وحيُ الله له، فهو يبلِّغ للناس ما أُوحي إليه. وهذا يعني أنّ كلّ ما يصدر عن النبيّ بمقتضى هذه النصوص هو تبليغٌ.
وعُمْدة هذه النصوص ـ كما حقَّقناه في (حجّية السنّة) ـ هو آية: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾. وقد قلنا هناك «بأنّ سورة النجم قد وقعت في سياق مخاطبة المشركين الذين يكذِّبون النبي في دعواه النبوّة والقرآن، بقرينة «صاحبكم» و«ضلّ»، كما أنّ تكملة الآيات تشير إلى جبرئيل الذي ارتبط اسمه بنزول الوحي القرآني، لا مطلق ما حصل عليه النبيّ من معلوماتٍ من عند الله تعالى. وهاتان القرينتان تصلحان معاً مقيِّداً لإطلاق «هو» في الآية، ولا أقلّ من أنّهما تمنعاننا عن الأخذ بالإطلاق فيها. وقد ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى ذلك، آخذاً بعين الاعتبار القرينة الأولى. بل إنّ الآيات ـ نظراً لمكّيتها ـ تدور حول الإشكاليّة التي كانت قائمةً في تلك المرحلة، وهي ليست أفعال النبيّ وحجّيتها، بل صدقيّة النبوّة والقرآن…، وبعبارةٍ أخرى: إنّنا نشكّ في «هو»، هل هي راجعةٌ إلى المقدَّر في الآية السابقة عليها، أو أنّها راجعةٌ إلى القرآن؛ لهذه القرائن؟ ومعه نأخذ بالقَدْر المتيقَّن، وهو الثاني؛ انطلاقاً من وجود ما يمنع من التمسُّك بالإطلاق، وإنْ لم يصلح مقيّداً اصطلاحاً…» (حيدر حبّ الله، حجّية السنّة في الفكر الإسلامي: 74 ـ 75).
وعليه، فالنوع الثاني من الأدلّة لا يفيد أصالة التبليغ أيضاً، بل يلزم لو استندنا إلى هذا النوع من الأدلّة أن نلتزم بأنّ كلّ ما صدر عن النبيّ هو أحكامٌ تبليغيّة لا غير؛ بشهادة النصّ القرآني المتقدِّم. وكثيرون لا يلتزمون بهذا، بل هو مفروض العدم في بحثنا، كما قلنا مطلع الكلام.
النوع الثالث: ما دلّ من النصوص القرآنية وغيرها على لزوم التأسّي برسول الله، وأنّه قدوةٌ وأسوة. وهذا يعني أنّها تريد جعله طريقاً لمراد الله تعالى في كلّ ما يصدر عنه، فتكون شخصيّته الرسوليّة المرآتية هي الأصل.
ولكنْ يمكن أن يناقش بما حقَّقناه في مباحث حجّية السنّة، من أنّ جعل النبيّ قدوةً وأسوة لا يعني حجّية تمام ما يصدر منه، بل يعني اتّخاذ مساره العام في حياته قدوةً لنا؛ لأنّ كلمة (أسوة) لا إطلاق فيها، لا بمعنى أنّها تصدق بالتأسّي به في موردٍ واحد، كما ذكره مثل المحقّق الحلّي (انظر: نجم الدين الحلّي، معارج الأصول: 119)؛ حيث ناقشناه هناك، بل بمعنى صدق عنوان الأسوة، بجعل مسار حياته العام منهاجاً لنا، ولو لم نأخذ كلّ مورد من هذا النوع؛ فهذا هو الاستخدام العرفي المتيقَّن لكلمة أسوة، وغيره يحتاج إلى دليلٍ.
يُضاف إلى ذلك أنّ هذه الآية يتيقَّن منها حجّية الفعل النبويّ. أمّا حجّية القول النبويّ مطلقاً، وكذا التقرير، فيحتاجان إلى قرينةٍ، وعمدة بحثنا هنا في النصوص القوليّة. وبهذا يظهر أنّ دليل حجّية السنّة لا يؤسِّس أصالة التبليغ.
6ـ نفي الاجتهاد النبويّ وتأصيل الوَحْييّة، نقدٌ مبنائي
الاستناد إلى جميع الأدلّة التي تنفي اجتهاد النبيّ مطلقاً، وهذا معناه أنّ النبيّ في كلّ ما يقول ويعمل يصدُر عن وَحْيٍ إلهيّ، لا عن اجتهادٍ بشريّ. وقد استعرضنا في محلّه بالتفصيل أدلّة منع الاجتهاد النبويّ، وذكرنا أكثر من خمسة عشر دليلاً عقليّاً وقرآنياً و… على منع الاجتهاد النبويّ. وكلُّها تصبّ في صالح إثبات أنّه ما من شيءٍ يصدر عن النبيّ إلاّ وهو عبر وحيٍ أو اتصال مباشر بالله تعالى ورسله المقرَّبين. وهذا ما يُثبت أصالة الوحي والتبليغيّة.
والجواب: إنّ جميع الأدلّة التي سيقَتْ لمنع مطلق الاجتهاد النبويّ قد ناقشناها بالتفصيل في محلِّه، بل إنّنا قلنا بأنّ أدلّة تجويز الاجتهاد النبويّ وإنْ كان أغلبها ضعيفاً، لكنّ بعضها مفيدٌ ونافع. ولهذا خرجنا هناك بقاعدةٍ تقول: إنّ كلّ ما لم نفهم منه جانب الإخبار النبويّ عن الوحي الإلهي أو الدين فهو خاضعٌ لقانون الاجتهاد النبويّ، حتّى لو قلنا بعصمة هذا الاجتهاد؛ فإنّ العصمة شيءٌ وكون ما يقوله هو تبليغ عن الله تعالى لدينه حَصْراً شيءٌ آخر، على ما بيَّناه أيضاً (انظر: حيدر حبّ الله، حجّية السنّة في الفكر الإسلامي: 369 ـ 501). ومعنى ذلك أن نرجع في غير ما ثبت أنّه تبليغٌ إلى مقتضى طبيعة الأشياء من كون النبيّ بشراً يفكِّر ويجيل النظر، وأنّه في ما يقول ويفعل يمارس تطبيقه الزمني للدين. ومهما فرضناه معصوماً في ذلك، إلاّ أنّه في نهاية المطاف لا يحكي ـ بالضرورة ـ عن جزءٍ من أجزاء المنظومة الدينيّة الموحاة إليه.
7ـ مرجعيّة التلقّي الإسلاميّ الأوّل، تفكيك الظاهرة وتحليلها
السيرة المتشرِّعية والارتكاز الإسلاميّ العام؛ حيث يظهر من سيرة المسلمين منذ العصر النبويّ وإلى يومنا هذا أنّهم يتعاملون مع نصوص النبيّ على أنّ الأصل فيها أنّها تبليغٌ من الله، وينسبونها إلى شريعة الإسلام في كلّ ما يقوله أو يفعله|. وهذا خيرُ دليلٍ على أنّ التلقّي الإسلامي الأوّل كان على أصالة التبليغيّة. وعلى هذا سار الأئمّة والعلماء فيما بعد، كما يظهر منهم، ومن بينهم أئمّة أهل البيت النبويّ أنفسهم.
هذا الدليل قد يُعَدّ ـ عند بعضٍ ـ من أقوى الأدلّة في موضوعنا. وعلينا أن نتوقّف عنده قليلاً، لنتوجّه إليه ببعض الأسئلة الأوّلية في البداية:
1ـ ما هو الدليل على أنّ مسلمي القرن الهجري الأوّل كان لديهم هذا التلقّي؟ وما هي حدوده؟
2ـ هل يمكن أن ينشأ هذا التلقّي من طبعٍ إنسانيّ غالب، لا من أصلٍ ديني مقرّر؟
3ـ هل يُحْتَمل أنّهم لم يجدوا فرقاً بين زمنهم وزمن النبيّ، حتّى يؤثر ذلك في شعورهم بوقف تنفيذ الحكم النبويّ أو لا؟
4ـ هل أنّهم كانوا يُجْرون أصالة التبليغ، أو كانوا على يقينٍ بأنّ هذا الموقف أو ذلك هو جزءٌ من الدين، ومن ثمّ لم يقعوا في مرحلتهم الزمنيّة في شكٍّ؟
هذه هي الأسئلة الأربعة الأساسيّة التي يلزم أن نجيب عنها هنا بالتدريج:
أمّا السؤال الأوّل فالذي يبدو من بعض النصوص أنّهم كانوا يتعاملون مع النبي بتمييزٍ بين ما جاء به من الله وبين ما كان من عنده، كما في حادثة معركة الأحزاب. بل إنّ الحوادث والنصوص التي يصنِّفها الكثير من الشيعة طَعْناً في بعض الصحابة في تعاطيهم مع النبيّ قد يمكن فهم بعضها لا في سياق الطعن، وإنّما في سياق وجود تمييز عند الصحابة في شخصيّة النبيّ بين ما يأتيه من الله تعالى وما يكون من نفسه. فأصل هذه الفكرة توحي به بعض النصوص التاريخيّة التي أشَرْنا إلى قسمٍ منها في مباحث اجتهاد النبيّ أيضاً. وهذا هنا أشبهُ شيءٍ بحال المكلَّفين اليوم، من حيث إنّ ما يقوله المرجع في الشأن الفقهي يرَوْنه جزءاً من الدين، كما في مثل ما يأتي في رسالته العمليّة. بينما الذي يقوله في مجال التشخيص أو غيره لا يعتبرونه جزءاً من الدين، حتّى لو اتّبعوه فيه. فهذا الوعي لا يوجد ما ينفي كونه كان موجوداً في العصر النبويّ، بل الشواهد لصالحه.
لكنّ ظهور النبيّ، وتغييره عادات كبيرة، وخلقه نَمَطاً جديداً من العيش، دفع المسلمين إلى تمثُّل شخصيّته، والأخذ بكلّ ما يقول، باعتبار ذلك أصلاً ومرجعاً. ولهذا وجدناهم يحتجّون على بعضهم بعد وفاته بكلامه وأفعاله. وهذا يؤكِّد أنّهم كانوا يعتبرون ما يصدر عنه مرجعاً يحتجّون به. وعليه يمكننا الجزم بأنّ الأجيال الأولى تلقَّتْ التجربة النبويّة بوصفها مرجعاً من حيث المبدأ، لكن ليس مرجعاً تبليغيّاً بالضرورة.
وأمّا السؤال الثاني فإذا أثبتنا أنّ هذا التلقّي العام (المستدلّ به في أصل هذا الدليل) الذي كان محيطاً بالنبيّ وبُعَيْده قد كان تطبيقاً لتوجيهٍ إلهيّ في هذا الصدد ثبت المطلوب، وإلاّ فإنّ نفس سكوت القرآن والسنّة عن التنبيه على خطورة هذا التلقّي كاشفٌ عن صحّته، حتّى لو نبع هذا التلقّي من طبعٍ إنسانيّ غالب؛ فإنّ أمراً بهذا الحجم من الخطورة كان يُفْتَرض النهي عنه، مع أنّنا قد نجد مؤيِّدات له. ولمّا لم نَجِدْ نهياً دلّ ذلك على أنّ الدين يرضى بهذا التلقّي.
لكنْ قد يُقال بأنّ النصوص التي تحدَّثت عن الأنبياء تصبّ كلّها في صالح خلق القرآن لوعيٍ آخر مختلف حولهم، يفرض التمييز بين أدائهم الشخصي وتبليغهم، ولو كان تمييزاً من حيث المبدأ؛ فنصوص: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾، و﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، وغيرها، تركِّز في الوعي الإسلاميّ أنّ النبيّ يتصرَّف في غير ما يعلن ويوحي بأنّه تبليغٌ إلهيّ بوصفه إنساناً له طريقته في العمل، التي قد يلفت الله نظره إلى وجود طريقةٍ أفضل منها، وهو لم يكن ملتفتاً، وخاصّة في الموضوعات الخارجيّة والتشخيص الميداني، الذي قد ناقش بعض المسلمين في وجود دليلٍ حاسم على العصمة والعلم فيه.
وأمّا السؤال الثالث فلا يمكننا أن نستبعد فرضيّة أنّ المسلمين لم يشعروا بفرقٍ بين عصرهم وعصر النبيّ حتّى يوقفوا مضمون التوجيهات النبويّة بحجّة أنّها غير تبليغيّة، ولا سيَّما في تلك الفترة التي لم تشهد تحوُّلات كبرى في أنماط العيش. ومعنى ذلك أنّ مسلمي الصدر الأوّل والقرن الهجريّ الأوّل عندما تلقّوا النصوص النبويّة لم يكن يعنيهم كونها جزءاً من الدين أو لا، بقدر ما كان يعنيهم كونها ملزمةً لهم أو لا؟ (وخاصّة بالنسبة إلى الشيعة الذين يمكن أن يكونوا اعتمدوا في ذلك على حالةٍ من إقرار الأئمّة ببقاء تلك الأوامر النبويّة فاعلةً؛ لبقاء موضوعها وظروفها، مما يمنحها قابليّة الاستمرار، مع المحافظة على ولائيّتها وعدم تبليغيّتها؛ لأنّ الولائيّة في مرحلة الاستمرار جاءت من موقع حاكميّة الإمام نفسه).
والفرق بين الحالتين أنّه في الحالة الأولى هم يأخذون ما صدر عن النبيّ بوصفه جزءاً من الدين، ويقومون بتطبيقه أو تلقّيه على هذا الأساس في أزمنتهم اللاحقة. أمّا في الحالة الثانية فهم لا يهتمّون لكون الصادر عن النبيّ هو جزءٌ من الدين أو لا، بل يعتبرون أنّ الظروف واحدة، ومن ثم فتشخيص النبيّ وموقفه يظلّ هو المتعيِّن أو الأرجح بالنسبة إليهم، نظراً لما يتمتَّع به النبيّ من صفاتٍ، ولكون تشخيصه وما صدر عنه بشريّاً في هذه الظروف أو تلك لم يَرِدْ فيه ردعٌ إلهيّ، ومن الطبيعي في هذه الحال أن يكون الأداء النبويّ مرجعاً لهم يترجَّح على تشخيصهم المظنون بعد وحدة الظروف. ويشهد لذلك أنّنا رأيناهم ـ كما عند مدرسة أهل الرأي والمصلحة ـ يتَّجهون نحو تغيير بعض ما صدر عن النبيّ عندما يجدون الظروف قد تحوَّلت، ولا ينتقد عليهم أحدٌ ـ في تلك الفترة ـ بأنّ ذلك تغييرٌ لشرع الله تعالى، عدا في مواضع محدودةٍ جدّاً.
الفكرة التي أريد التركيز عليها تكمن في تحليل طبيعة تلقّيهم للتجربة النبويّة القريبة جدّاً من زمنهم، والمتّحدة غالباً مع ظروف حياتهم. إنهم هنا لا ينظرون بالضرورة إلى اعتبارها بكلّ أجزائها جزءاً من الدين، ولا يفكِّرون في هذا؛ لأنّهم غير مضطرّين إليه، بل يهمّهم اعتبار ما أفرزته هو الموقف السليم في التعامل مع الأمور في ظروفهم المشابهة للظرف النبويّ. وسلامة هذا الموقف عندهم لا تنبع بالضرورة من دينيّته ووحييّته، بل قد تنبع من رجحان التشخيص النبويّ وهيبته ونفوذه الروحي بعد النجاح الذي حقَّقه، ووحدة ظروفه الموضوعيّة مع ظروفهم.
وهذا أمرٌ يحصل في مختلف الحركات الدينيّة والتغييريّة الكبرى، فإنّ الأجيال اللاحقة للجيل المؤسِّس تشعر بصواب الاعتماد على تجربة جيل التأسيس، لا بوصفها جزءاً من النظريّة ـ الأصل (الثابت)، بل بوصفها تجربةً ناجحة، هي الأرجح ما لم تتغيَّر الظروف. فعندما تتغيَّر الظروف قد يغيِّرون، الأمر الذي يحتمل أنّ الصيغة السابقة له كانت جزءاً من المشروع، كما يحتمل أنها لم تكن جزءاً منه، وإنّما هي إفرازٌ طبيعيّ زمني له على مستوى التطبيق. نعم، بعد مرور جيلين أو ثلاثة تبدأ فكرة المرجعيّة بالتبلور.
وأمّا السؤال الرابع فلا نملك أيّ معطىً يتّصف بالقطعيّة والحسم يؤكِّد لنا أنّهم لو شكّوا في أنّ هذا النصّ أو ذلك جزءٌ من الدين أو لا فإنّهم يرجعون إلى أصالة التبليغيّة عندهم في ظرف الشكّ، إنْ لم نقُلْ بأنّ بعضهم كان أكثر ميلاً لعدم هذه الأصالة.
وعليه، فالسيرة الإسلاميّة لا تشكِّل معطىً حاسماً هنا، في غير كون سنّة النبي حجّةً ومرجعاً في الجملة، ومن حيث المبدأ. وأمّا أنّهم في العقود الأولى كانوا يرَوْن كلّ ما يقوله النبيّ تبليغاً لوحيٍ إلهيّ، فهذا غير ثابت، ولا سيَّما بعد نصوص القرآن الواضحة في الكشف عن مواقف نبويّة تدخَّل القرآن في توجيه حركتها نحو الأفضل؛ فإنّ من شأن هذا الرسم القرآنيّ لشخصيّة النبي وعامّة الأنبياء ـ أو على الأقلّ يحتمل فيه ـ أن يحفر في الوعي الإسلاميّ الأوّل صورةً أخرى غير ما نحن فيه.
نتيجة البحث
وحصيلة الكلام في أدلّة أصالة التبليغ أنّه لم يقُمْ دليلٌ قاطع على أصالة التبليغ في النصوص النبويّة، فضلاً عن نصوص الصحابة وأهل البيت النبويّ. وهذا يعني أنّ الاجتهاد الشرعي عندما يمارس فهمه للنصوص غير القرآنيّة فعليه أن يضع معايير تبليغيّة النصّ الصادر؛ فإذا أمكنه التأكّد، من قرائن اللفظ والمقام والسياقات ومناسبات الحكم والموضوع، ومن قرائن الداخل والخارج، أنّ النصّ أراد تبليغ حكمٍ إلهيّ صار بالإمكان نسبة هذا الحكم إلى الله تعالى بوصفه جزءاً من دينه الذي بلّغه النبيّ|؛ وإلاّ فاللازم التوقُّف في نسبته إلى الدين، حتّى لو كان واجبَ الطاعة بملاكٍ آخر.
وهذا هو المستند الرئيس لأطروحتنا في إعادة فهم التجربة النبويّة بأفعالها وأقوالها ومواقفها. وهو فهمٌ نزعم أنّه نتيجةٌ طبيعيّة لمنطق الأشياء. فالمسلمون ملزمون بالتعامل مع النبيّ، لكنْ ما يصدر من النبيّ تارةً يكون بياناً لما هو الدين الذي جاء به؛ وأخرى يكون وضعاً طبيعيّاً للأداء النبويّ خارج إطار الديانة المبلَّغة، لكنّه منسجمٌ مع روحها وأهدافها من حيث المبدأ. نعم، هذه التجربة التي تقع خارج الإطار يمكن أن نستلهم خطوطها العامّة ومساراتها ومؤشّراتها وآليّات العمل بها، بوصف ذلك كلّه مُلْهِمَات لنا يُقتدى بها بوصفها نهجاً، لا مفردات، انطلاقاً من الأمر الإلهيّ لنا بأخذ التجربة النبويّة أسوةً.
وبذلك نحصل في ما أتانا به النبيّ على أمرين:
1ـ الرسالة التي بُعث بها. وهذا هو الجانب التبليغيّ والرسوليّ.
2ـ أداؤه البشريّ وتجربته الإنسانيّة خارج إطار التبليغ، في ممارسة حياته، وفي إدارته لواقع الدين في الحياة.
أمّا الجانب الأوّل فنأخذه بحرفيّته، بعيداً عن قضيّة التاريخيّة.
وأمّا الجانب الثاني فنأخذه بوصفه قدوةً، لا بوصف ما أفرزه عبارةً عن أحكام شرعيّة؛ فالقدوة في النهج والمسار والكلّيات، لا في مصاديق هذا النهج.
هذا جانبٌ من فهمنا للشخصيّة التي يتحلّى بها المعصوم، وكيفيّة استنطاقها، نطرحه ـ باختصارٍ ـ للتداول. والعلم عند الله سبحانه.