1ـ مدخل إلى رصد سياقات مصائر الإصلاح
شكّل رحيل المرجع الدينيّ العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله مفترقاً جديداً في مسيرة الوعي والإصلاح الدينيّ التي انطلقت في القرن العشرين، وقادها رجالٌ كبار، من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، مروراً بحسن البنّا ورشيد رضا ومحسن الأمين، وصولاً إلى الخمينيّ ومحمد باقر الصدر وشريعتي وموسى الصدر ومطهّري و… شكّل غيابه صدمةً لبعض تيارات الإصلاح الديني، وكان هناك شعورٌ بحجم الفجوة التي حدثت.
مآلات تجربة العلامة فضل الله، دلالات حدث ما بعد الوفاة
ترك العلامة فضل الله إرثاً علمياً كبيراً، وكذلك قاعدةً جماهيريّة واسعة، ولاسيما في الأوساط النخبويّة، كونه مثّل لعقود منزلة الأب الروحيّ للكثير من هذه الجماعات. ولهذا يذهب فريقٌ إلى القول بأنّ مشروعه هذا سوف يستمرّ ويبدي نفسه في شخصيات جديدة عاجلاً أم آجلاً. لكنْ وبالرغم من الطابع المؤسّساتي الذي تحظى به مرجعية العلامة فضل الله، قياساً بالعديد من المرجعيات الدينية في العالم العربي، إلا أنّ هناك قلقاً كبيراً يلفّ الإرث الفكريّ والمنهجيّ الذي تركه؛ فهناك مَنْ يعتقد بأنّ هذا الخطّ من الوعي الدينيّ سوف يتلاشى تدريجياً بعد رحيله؛ إذ لم يتمكّن فضل الله ـ ولو بسبب حجم الحملة الواسعة عليه ـ من توفير الحدّ الأدنى لاستمراريّة مسيرة وعي كبيرة في جيل تلامذته والمقرّبين منه. قد يكون إرثه ذا تأثير محدود زمنيّاً، لكنّه سرعان ما سينصهر في خضمّ الحالة العامّة الدينيّة، والتي يتقاسمها تيار الوعي الثوري من جهة وتيار الفهم التقليديّ المدرسيّ من جهة ثانية.
وقد يتعزّز هذا الشعور من خلال عدم وجود مراكز دراسات كبيرة وهامّة متعدّدة لتكون إرثاً يستطيع حمل المسؤولية بعد رحيل العلاّمة الكبير، اللهمّ إلاّ بعض المراكز القليلة التي أخذت بدورها حظّاً من التهميش والحجر.
وقد تكون الأحداث التي رافقت وتلت رحيل العالم الكبير دالّةً على شيءٍ ما، فالتيارات التقليديّة ـ ممثَّلةً برموزها ـ فضّلت مواصلة طريق الإقصاء وتجاهل الإرث الشعبيّ الذي يملكه فضل الله، فلم تُصدر حتّى بيانات نعي وبرقيّات تعزية، في إشارة واضحة إلى أنّ المطلوب هو سياسة النفي من الوجود، وعدم إعطاء أيّة شرعية في أيّة لحظة زمنية لهذا الكيان المتمثِّل بالعلاّمة فضل الله، ولهذا شكّلت مظاهر التشييع والعزاء صدمةً لهذا الفريق الذي لم يكن متوقِّعاً أن يحصل ذلك بعد كلّ هذه السنين الطويلة من الجهود الإقصائيّة المضنية ضدّ الرجل.
بدت هذه الخطوة قاسيةً على القاعدة الجماهيريّة المدركة لتعقيدات الأمور، وهذا ما يفسّر بعض ردود الفعل العنيفة ضدّ رموز التيار التقليديّ هنا وهناك. فبالرغم من أنّ حركةً ملحوظة كانت تتَّجه لتتويج بعض المرجعيّات خَلَفاً للعلاّمة فضل الله، رغم عدم كونها جزءاً من مسيرة الفكر التصحيحيّ الذي ارتآه الراحل، ولو من وجهة نظر أنصاره، إلا أنّ رمزية ما حدث بُعَيْد وفاته صدّ قاعدةً جماهيريّة كبيرة عن التفكير في ذلك.
على خطّ آخر، كانت الخطوة المتقدّمة التي قام بها الأمين العام لحزب الله العلاّمة المجاهد السيد حسن نصر الله حفظه الله، مستبقةً الأحداث، ومدركةً بوعيٍ سياسيٍّ كبير أيضاً ـ إضافة إلى ممارسة أخلاقيّة ناضجة تقدِّر الآخرين على كلّ حال وتثمِّن تاريخهم حتى ولو اختلفت معهم في بعض الأمور ـ أنّه من الضروري فتح نافذة على الإرث الشعبيّ للعلاّمة فضل الله، وعدم معاداته أو خسارته، ولاسيما في وسط النخبة؛ لأنّ أيَّ تجاهل قاسٍ لهؤلاء الذين لا يقفون ـ بالمناسبة ـ عند الحدود اللبنانيّة من شأنه أن يولّد، في مناخ قضيّة حسّاسة كهذه، خلايا صغيرةً كثيرةً شديدة التطرّف، قد تظهر يوماً ما في نزعات تجديديّة متطرِّفة، كما حصل في أكثر من بلد إسلاميّ وعربيّ.
كان الإدراك اللبنانيّ (والبحريني) للحدث أكثر نضجاً من الإدراك الخارجيّ، وقد كان هذا الأمر متوقَّعاً، انطلاقاً من خروج لبنان عن دائرة الضغط التي قد يقع فيها الآخرون في بعض المواقع والمناطق.
مسيرة الإصلاح والتجديد، البحث عن المرجعية الخلف
على خطّ ثالث، بدت القاعدة الجماهيرية المشار إليها، ووفقاً لأصول التديّن الشيعي، تبحث عن خلف مرجعيّ يمكن اللجوء إليه. وقد تعدّدت الأسماء، وخرج بعضها عن دائرة التداول، فيما دخلت أسماء جديدة تحت تأثير ما حصل عقب الوفاة. والإشكالية الثقافية التي تواجه أنموذج العلامة فضل الله في الإصلاح الدينيّ هي وجود قلق من تشكيل المرجعيّة الجديدة عاملاً ارتكاسيّاً؛ بسبب نفوذها، على هذه القاعدة، فإذا عادت بها نحو الوراء فهذا ما يشكّل ضربةً قاصمة لمشروع العلاّمة فضل الله في استمراريّته الشعبيّة. كانت هذه التجربة قد وقعت عقب وفاة الإمام الخميني، ثم بعد وفاة الشيخ الأراكي. وكان الرأي آنذاك يتَّجه نحو تكريس مرجعيّة قادرة على إخراجنا من المأزق، لا مرجعيّة قد تضعنا أمام مآزق في المستقبل، انطلاقاً من عدم وعيها لأصول خطّ الإمام الخميني. إذاً فهناك تحدٍّ كبير يواجه استمراريّة الخطّ الذي تركه فضل الله.
هناك وجهة نظر تدعو إلى طرح مرجعيّة صغيرة في حضورها العلميّ والفكريّ والحوزويّ؛ ضماناً لاستمراريّة الخطّ، وهذا الأمر حتى لو ووجه بخروجه عن أعراف التنصيب المرجعيّ الموروثة، لكنّه لا يضرّ، فهي مشاكل آنيّة يمكن تجاوزها في المستقبل لتكريس أمرٍ واقع.
وفي مقابل هذا الرأي قد نجد مَنْ يقول بأنّ وجهة النظر هذه ترتكب خطأً واضحاً، من جهة أنّ تحطيم قواعد التنصيب المرجعيّ أمرٌ يمكن الإمساك بخيوط البداية فيه، لكنّ نهاياته غير واضحة، وقد يؤسّس لفوضى غير خلاّقة؛ ليس ذلك لأنّ قواعد التنصيب لا عيب فيها، بل حتى لو احتوت ثغرات هنا وهناك فإنّ كسر هذا العرف، وبهذه الطريقة بالذات، قد يولّد مشاكل، فليس المهم الخروج من المأزق الآني بأيّ حلّ.
وهناك وجهة نظر ثالثة تذهب ناحية التوجُّه إلى المرجعيّة الثورية أو بعض رموزها على الأقلّ؛ كونها الأقرب والأفضل والأنضج. وإذا لم تتطابق هذه المرجعيّة مع أفكار العلامة فضل الله تماماً، وهذا حقّها كما هو حقّه، لكنّها تظلّ الأقرب إليه، حتّى على المستوى الثقافيّ والفكريّ، فضلاً عن المستوى السياسيّ والاجتماعيّ.
ولعلّ هذا المقترح يواجه لدى بعض أنصار خطّ العلاّمة فضل الله من اللبنانيين وغيرهم بعض القلق الذي يستدعي من الطرف الآخر ملاحظته، والعمل على تجفيف منابعه، والتعامل معه بجديّة أكثر. قد يعيش بعضهم قلقاً من الموضوع من زاوية ثنائي: العربيّ؛ وغير العربي، الذي ظهرت بوادره في العقد الأخير بدرجة ساخنة جدّاً على السواء في الأوساط العربية وغيرها، وصار لدى هؤلاء صعوبة في بلورة مفهوم المرجعيّة العابرة للمناطق والبلدان، ويمثل أبويّة تتخطّى اللغات والقوميّات.
وقد ينطلق القلق مرّةً أخرى من زاوية الجانب التواصليّ، فقد امتاز العلاّمة فضل الله ـ وهذا يسجَّل له ـ بأنّه كان مرجعيّة تواصليّة، وكان على صلة وثيقة ودائمة بالجماهير والقاعدة الشعبيّة. إنّ غياب هذا النوع من التواصل بين القاعدة والمرجع نتيجة العوائق اللغويّة والجغرافيّة وغيرها قد يسبِّب مشكلةً لدى بعضهم، وينطلق ليتحدّث عن ضرورة هذا الجانب التواصليّ في المرجعيّة؛ ليكون مرجِّحاً عنده في تفضيل مرجعٍ هنا على آخر هناك.
إنّ هذه التساؤلات ـ وكلّها مشروعة تستحقّ الدرس ـ تستدعي التعامل معها بجدّيّة كبيرة، وعدم الاستهانة بالاستحقاق الجديد الذي فرضه غياب العلاّمة الراحل.
لا أريد أن أقف كثيراً عند هذا الموضوع، رغم أنّ الكلام فيه كثير جدّاً، ويمكن الحديث عنه بتفصيلات أكبر، ولاسيما من الزوايا المحايدة؛ لأعرّج على رصد موجز للمعالم الفكريّة لتجربة العلاّمة الراحل.
2ـ المعالم الفكرية العامّة لمدرسة العلامة فضل الله
يبدو من الواضح أنّ الأنموذج الفكريّ الذي قدّمه العلاّمة فضل الله يتمتَّع بسمات خاصّة لا يشترك معه في بعضها سوى عددٍ محدود من الفقهاء والمفكّرين النهضويين في الأمّة. ويمكن أن أقف هنا عند بعض الإشارات المتَّصلة بهذا الموضوع:
1ـ 2ـ الإشراف والجامعية
يبدو من مراجعة نتاج العلاّمة فضل الله أنّه كان رجلاً جامعاً إلى حدٍّ كبير. فقد اشتغل في المجال الأدبيّ والشعريّ، وكانت له مساهماته في هذا المجال، بل عرف تفسيره من وحي القرآن حضوراً جادّاً للجانب الأدبيّ والبلاغيّ في فهم النصّ القرآنيّ وعرض تفسيره.
ومن اللغة إلى التفسير، حيث ترك العلامة فضل الله تفسيراً قرآنيّاً تشرف طبعته الأخيرة المزمع نشرها على ثلاثين مجلّداً كما سمعنا، ويمكن القول بحقّ: إنه كان مفسِّراً جديراً لللكتاب الكريم.
ومن التفسير إلى الفقه والعلوم الشرعية، كانت للعلامة فضل الله اجتهاداته الخاصّة، حيث ترك ما يقرب أو يزيد عن خمسة وعشرين مجلَّداً ـ في الحدّ المطبوع حتّى الآن ـ في فقه الحجّ والقضاء والوصايا والمواريث والنكاح والرضاع والأطعمة والأشربة والجهاد والإجارة والنذر والعهد واليمين و… لتتَّصل دراساته هذه إلى جانب دراساته التفسيريّة بمجال علمَي الحديث والرجال والنقد السنديّ والمتنيّ والصدوريّ والتاريخيّ.
وفي سياق التاريخ، ورغم أنه لم يترك أثراً خالصاً في هذا المجال، إلا أنّ قراءاته ذات الطابع النقديّ والتحليليّ كانت باديةً وواضحة. وإذا أخذنا السيرة جزءاً من التاريخ فقد كانت له قراءاته المعروفة في تحليل سيرة المعصومين تحليلاً موسَّعاً، كما هو موجود في ثنايا مختلف كتبه ودراساته.
وبتخطّي الجانب العلميّ الخالص إلى الجانب الثقافيّ، يعرف الجميع أنّ هذا الرجل يشكِّل واحداً من ألمع الفقهاء المثقَّفين في تاريخنا المعاصر، إنّه رجل الانفتاح والوسطيّة والثقافة والحضور والحوار والعالميّة والسياسة والاجتماع، وهو الفقيه النادر ـ بحقّ ـ الذي عاش مع الناس، وسمعوه، وأنصتوا إليه، وتفاعل معهم، وكانت له مؤسَّساته الخيريّة التي لم نشهد فقيهاً أو مرجعاً قام بمثلها، إلا ما شذّ وندر، يعرف ذلك ـ في ما أظنّ ـ الموافق والمخالف.
هذه الجامعية ـ وإن اخترقت في بعض الاختصاصات كالفلسفة و… ـ من العلم إلى الدين إلى الثقافة إلى الاجتماع إلى السياسة إلى الإعلام إلى النشاط الدعوي والخيري إلى تربية أجيال من العاملين في الخطّ الإسلامي، سمةٌ تستحقّ الوقوف عندها لرفع سقف المطالبة بتحسين ظروف المرجعية في عصرنا، فقد كان هذا الرجل حجّةً على غيره في هذا المجال، وأثبت ـ كما أثبتت شخصيات أُخَر من قبل ـ كالسيد الخميني والسيد الصدر والسيد الشيرازي و.. ـ أنه يمكن فعل شيء، ويمكن تحقيق شيء، ويمكن نحت نماذج ممتازة.
هل يجوز يا تُرى في عصر المعلوماتية والاتصال، وبعد تجارب هؤلاء العلماء الكبار، أن يرضى الشباب المسلم بوصاية شخصيّات نجلّها ونحترمها، لكنّها ليست حاضرة في حياتهم، في الوقت الذي تطرح المقولات الدينيّة التي تجعل لهؤلاء الولاية على كلّ تفاصيل حياة هذا الشابّ المسلم أو ذاك؟! كيف يمكن أن نعرض وجهة نظرنا هذه بصدق وإخلاص ثمّ لا يراها إخواننا في الله تهجُّماً على المناصب الدينية؟! أليس من حقّ كلّ مسلم أن تكون مرجعيّته العليا في قضايا الدين ذات حضور وفاعليّة، وإطلالة وجاذبيّة، ونشاط وحيوية، وممارسة وعيش؛ ليفتخر بها أمام أتباع الأديان والمذاهب الأخرى؟! ألا يحقّ له أن يرى مرجعيّته ـ كما كان يراها في العلاّمة فضل الله، وما زال يراها في بعض الشخصيات القليلة اليوم، من أمثال: السيد الخامنئي والسيد المدرّسي ـ تحضر في أروقة الجامعات، ومحاريب المساجد، وفوق أعمدة المنابر، ومن على شاشات التلفزة و..، لتنطق بوضوح وجرأة، بدل أن يعيش ملايين المسلمين لم يسمعوا يوماً واحداً ـ إلاّ القليل منهم ـ صوتَ مرجعهم؟! هل هذه جرأة؟! هل هذه شطحة؟! هل هذا تطاول؟! أم مطالبة بأبسط الحقوق في مقابل تقديم الواجب بالانقياد لفكر هذا المرجع ونتائجه العلميّة، كما تستدعيه مقولة المرجعيّة والتقليد.
3ـ الحركيّة والواقعيّة
قد نجد عالماً أو مفكّراً يعيش الفكر في رحابته وخصائصه وعمقه ودقّته، لكنْ من الصعب أن نجد مثل هذا ونجد معه حركيّته وفاعليّته في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة… إنّ ممارسة العمل السياسيّ والاجتماعيّ، وتكوين مرجعيّة التواصل والحضور، لا مرجعيّة الغيبة والاختفاء، لهو امتيازٌ حقيقيٌّ يعطي العلم والفقه حضوره في الحياة حضوراً حقيقيّاً، كما يعطي الحياة ومتطلَّباتها حضورها في العلم نفسه، فتُحدِث الحياة وعياً حركيّاً للنصوص، ويتمّ اكتشاف العلاقة الجدليّة الحقيقيّة بين النصّ والواقع. إنّ الاجتهاد نفسه هذه المرّة يتَّخذ المزيد من عناصر السلامة، وإنْ كان هذا الطريق محفوفاً بمخاطر الإسقاط، عنيتُ الإسقاط على النصّ.
لقد طرح الفكر الشيعيّ منذ الستّينات فكرة إضافة شروط جديدة لمرجع التقليد أو إمام المسلمين، وحذف شروطٍ سابقة. كان شرطُ الشجاعة حاضراً بقوّة في أدبيّات الإسلام الثوريّ؛ لأنّهم ما عادوا يطيقون المرجع الساكت الصامت الخائف الوَجِل تحت اسم الاحتياط أو غيره، لا أريد أن أجزم بهذه الصفات؛ لأنّ لكلّ إنسان عذره ومبرِّراته ووجهة نظره، ولا يجوز اتّهام الناس، كما فعل بعضُهم مع الأسف، لكنْ ما أريد التركيز عليه أنّ شروط المرجع أو الإمام ليست محصورة بالحصر العقليّ، بل هي استقرائيّة، وكلّما ازدادت الرؤية الواقعيّة كلّما تكشَّفت الحاجة إلى شرطٍ جديد.
أعتقد أنّ تجربة العلاّمة فضل الله وآخرين قد طرحت على بساط البحث شرطاً آخر للاجتهاد والمرجعيّة، وهو شرط عيش الحياة، ومطالعة النصّ وهو يسير في بطن الواقع، الأمر الذي يلقي بظلاله على النتائج الفقهيّة النهائيّة في مقام إصدار الفتاوى، الذي هو مقام الحكم على الواقع سلباً أو إيجاباً، سكوناً أو تغيُّراً. لقد علّمتنا هذه التجربة أنّ هذا الموضوع بات هامّاً، وأنّ الفتوى والواقع وجهان لعملة واحدة، فلم يعُدْ يكفي الفقيه أن يقلِّب وجوه الأصول والأدلّة، وهو عملٌ جبّار يقدّر له، بل صار لزاماً عليه أيضاً أن يكون واقعيّاً حركيّاً؛ ليفهم النصوص نفسها، كونها جاءت للإجابة عن الواقع نفسه.
4 ـ النزعة اللغويّة والعرفيّة
يبدو واضحاً حجم الحضور اللغويّ للعلاّمة فضل الله في فهم الدين وقضاياه، فتعامله مع النصوص الدينيّة كان على الدوام قائماً على الفهم العرفيّ والأدبيّ، بصرف النظر عن موافقته في هذا الفهم هنا أو هناك. ومن هذا الإطار تعامل فضل الله مع النصوص الدينيّة المتَّصلة بالعقيدة أيضاً، وحاول أن لا يقترب من منهج التأويل، الذي استخدمه العرفاء والفلاسفة المسلمون في تعاملهم مع النص الدينيّ… لقد حاول أن لا يستخدمه في تفسيره لنصوص الكتاب والسنّة.
من هذه الناحية يمكن اعتبار السيد فضل الله تفكيكيّاً بمصطلح مدرسة خراسان، حيث لا يقبل بإقحام الفلسفة وطرائق تفكيرها في تفسير النصّ الدينيّ، بل إنّه كان يحمل موقفاً متحفِّظاً إزاء الدرس الفلسفيّ السائد في الحوزات الدينيّة، ويرى أنّ هيمنة العقل الصدرائيّ ـ بما يمثِّله من مزيج صوفيّ وعرفانيّ وإشراقيّ ومشّائيّ و… ـ على التعامل مع النصوص الدينيّة تركت أثراً سلبيّاً كبيراً على مناهج الفهم اللغويّ لهذه النصوص. إنّ فضل الله قارئٌ لغويٌّ وأدبيٌّ وعرفيٌّ للنصوص الدينيّة أكثر منه قارئاً فلسفيّاً عرفانيّاً تأمُّليّاً.
إنّ طريقته هذه تركت أثراً حتّى على استنتاجاته للنصوص الفقهيّة، حيث سعى في أكثر من موقعٍ لتجاوز ما أسماه الآليّة الهندسيّة في فهم النصّ، والتي هي ارتدادٌ للعقل الفلسفيّ الذي يحدّد الزوايا ولا يدوّرها، ليقترب بذلك من الروح المقصديّة للعديد من التشريعات الدينيّة، موفِّراً مجالاً أكبر للعمل على ولادة فقه النظريّة، الذي كان يحلم به الشهيد الصدر؛ ففقه النظرية لا يولد من رحم التفكيكات الهندسيّة للعقل الفلسفيّ في عمله داخل العلوم الاعتباريّة، وإنّما يولد من رؤية توحيديّة غير تفكيكيّة، وتوليفيّة غير تشطيريّة، بين المفاهيم، الأمر الذي توفّره الذهنيّة العرفيّة في فهم النصوص بدرجة من الدرجات، دون أن تستبدّ به.
5 ـ جرأة الفتوى والبحث العلميّ
يمكن تصنيف الفقهاء عادة إلى صنفَيْن في إطار البحث العلميّ؛ فهناك صنفٌ منهم تبدو في بحوثه العلميّة آثار وضوح الرؤية والقاطعيّة والبتّ في الأمور، مثل: السيد أبو القاسم الخوئيّ؛ فيما نلاحظ فريقاً آخر يدور في أبحاثه ذاهباً جائياً، يميل تارة إلى وجهة النظر الأولى، وأخرى إلى وجهة النظر الثانية، ثم يعود إلى الأولى فينتصر لها، وهكذا، فنحن نجد لديه قلقاً في البحث وتراجعاً لوضوح الرؤية والحسم.
لا يهمّنا الآن تحديد أسباب هذه الحالة، من نفسيّة وعلميّة موضوعيّة، كما لا يعنينا تقويم هذه الحال، ومتى تكون صحّيّة ومتى لا تكون كذلك، بقدر ما يعنينا أنّنا نجد هذه الحالة بعينها في المجال الإفتائيّ أيضاً؛ فبعض الفقهاء لديه وضوحٌ وحسمٌ في إصدار الفتاوى؛ فيما لا نجد ذلك لدى فريقٍ آخر، وهناك نجد كثرة الاحتياطات الوجوبيّة التي لها أسبابها الأخرى.
يمكن أن نصنّف العلاّمة فضل الله على تيّار وضوح الرؤية في المجال الإفتائيّ، ولهذا قلّت نسبيّاً احتياطاته الوجوبيّة، وأصدر سلسلة من الفتاوى الجريئة التي يصعب قبله التنبُّؤ بإمكان إصدارها. ومن الواضح أنّ السيد فضل الله ينظر هنا إلى مجال قضايا الناس واقعيّاً، لا إلى مجال التوازنات القائمة في الداخل الحوزويّ، بل ينقل عنه أنّه عندما كان يلاحظ عليه في بعض الفتاوى تأثيراتها على بعض الأجواء الدينيّة في بعض المناطق كان يجيب بأنّ الفتوى تهمّ الناس في العالم كلّه، والأصل فيها البيان والإبراز، لا التعمية والإخفاء، وأنّه ما من فتوى إلاّ ولها في بعض المناطق بعض التأثيرات الجانبيّة.
أعتقد ـ انطلاقاً من رؤية فقهيّة، ووفاقاً للشيخ مرتضى مطهّري أيضاً ـ أنّ الحقّ مع السيد فضل الله في ذلك، فالفقيه يحقّ له أن يحتاط لنفسه قدر ما يريد، لكن عندما يتصدّى للمرجعيّة العامّة فإنّ عليه أن يملك وضوحاً في الرؤية، ووضوحاً في عرض هذه الرؤية على الآخرين؛ لأنّ الموضوع سيصبح حينئذٍ موضوعَ مجتمعٍ وأمّة، لا موضوعاً شخصيّاً، وهناك يصبح الفقيهُ نفسُه ملكاً عامّاً للأمّة، لا أنّ الأمّة ملكٌ شخصيٌّ له. وهذه هي النقطة والعلامة الفارقة في رؤيتَيْ فضل الله والآخرين. من هنا فإنّ الفقيه إذا توصّل إلى نتيجة بحسب جمع العناوين والتئامها فعليه ـ إلاّ في حالاتٍ نادرة وقاهرة ـ أن يقولها، ولا يكتمها تحت مسمّيات مختلفة، ما دام قد صار محطّ أنظار الناس ومرجع أمورهم، سواءٌ وافقت هذه الفتاوى رغبات العصر وميول شبابه وفتياته أم خالفتها جميعاً، لا يهمّ، فالمهمّ هو شرعُ الله أن يبيَّن ويُكشَف النقاب عنه، ولا يظلم الشباب والفتيات ـ مثلاً ـ لأجل توازنات مصلحيّة داخل المؤسّسة الدينيّة، يعرفها الكثير ممَّنْ يعرف ويدرك، ولا يظلم الشرع بتطويعه لرغبات جيل هذا العصر أو ذاك.
6 ـ المرجعيّة القرآنيّة والنقد الحديثيّ
لا يشكّ مطالعٌ لتراث العلاّمة فضل الله في أنّه يقدّم ـ نظريّاً وعمليّاً ـ القرآن الكريم على غيره من مصادر المعرفة الدينيّة، ليس ذلك لأنّه مفسِّر قرآنيّ معروف فحسب، بل لأنّ منظومته الاجتهاديّة ترى في النصّ القرآنيّ نصّاً يُحتَكَم إليه، ويبتعد عن أشكال الالتباس والارتباك في حيثيّتَيْ الصدور والدلالة، مقارَناً بالحديث الشريف. وكانت نظريّة الحكومة ـ بما لها من معنى في أصول الفقه الإماميّ ـ عند فضل الله تقترب من حكومة النصّ الكتابيّ على نصّ السنّة أكثر من تصرّف نصّ السنّة في نصّ الكتاب الكريم.
وأظنّ أنّ للعلاّمة فضل الله الكثير من الملاحظات على التراث الحديثيّ الإسلاميّ ساهمت في تكوين نظرته إلى جملة من نصوص الحديث ومصادره، فهو لا ينكر حجّيّة السنّة، ولا حجّيّة الحديث، بل إنه كان يقول بحجّيّة خبر الثقة، قبل أن يعدل عنها أواخر حياته إلى القول بحجّيّة الخبر الموثوق. لكنّ فضل الله لم يكن يتهيَّب من ممارسة عمليّة النقد المتنيّ للحديث، فضلاً عن النقد السنديّ، فترك تراثُه طرحاً للكثير من الأحاديث؛ لمخالفتها العقل أو الوجدان أو القرآن الكريم. وكان يرى في الروح القرآنية أهمّ مساعدٍ له على نقد الأحاديث المرويّة، انطلاقاً من نظريّته في معنى المعارضة للقرآن العزيز، والتي وافق فيها السيد محمد باقر الصدر.
7 ـ التجديد في علم الكلام الإسلاميّ
تظلّ هذه القضية هي الأكثر حساسيّة في تجربة العلاّمة فضل الله؛ ذلك أنّ رؤيته النقديّة لبعض القضايا العقديّة ذات الطابع المذهبيّ ـ مثل: علم المعصوم، وولايته التكوينيّة، وخوارقه وكراماته، وغير ذلك ـ تركت أثرها الخاصّ، فقلّما وجدنا نقداً بهذه الصراحة لما صار يعدّ في القرون الأخيرة من مسلَّمات المذهب الإماميّ. إنّ إرادة شخصٍ إيجاد زحزحة في هذا التصوّر العقديّ ـ ولا يهمّنا أنجح في نظريّاته أم فشل ـ هو في حدّ نفسه أمرٌ صعبٌ، وله ضرائبه الخاصّة التي ينبغي الاستعداد لدفعها.
أعتقد أنّ ظهور حركة نقديّة ضدّ العلاّمة فضل الله كان دليل حالة صحّيّة في المجتمع الشيعيّ من حيث المبدأ، وأعتقد أنّ على بعض أنصار العلاّمة فضل الله أن يكفّوا عن اعتبار مطلق النقد خصومة أو مناهضة، لكنّ ما حصل بالفعل مع السيّد فضل الله لم يقف عند حدود الوضع المتقدّم، بل تعدّاه إلى انشطارٍ كبيرٍ في الساحة الشيعيّة هدر الكثير من الطاقات والأموال والفرص، ولا أريد أن أحدِّد المسؤول عن هذا الذي حصل، أهو طرفٌ ما بعينه أم الجميع أم…؟ بقدر ما أريد أن أؤكّد أنّ الاستنزاف الذي حصل أخرج الخلاف الفكريّ من حالته الصحّيّة، التي كنّا نرجوها في نقد الرجل، إلى حالة مرضيّة قاتلة، بل إلى شكلٍ من أشكال الهَوَس وفقدان الوعي والانضباط، وإلى نمطٍ أمنيٍّ مخابراتيٍّ يتَّهم الناس في عقائدها على الظنّة والتخمين، هذا إضافة إلى دور التعقيدات السياسيّة في الموضوع.
إنّنا مع التجديد في علم الكلام الإسلاميّ على أوسع نطاق، وعند المذاهب كافّة، ومع فتح باب الاجتهاد في هذا العلم، شرط أن ينضبط ذلك للحدّ الأدنى من القواعد العلميّة والأخلاقيّة، ولا يصبح تنازعاً سياسيّاً أو صراعَ حواشٍ أو مصالح أو لوبيات أو تصفية حسابات، وليس من حقّ أحدٍ غير المعصوم أن يمنع الناس من التفكير ما دامت جميعاً تحتكم إلى كتاب الله وسنّة النبيّ| وأهل بيته^، حتّى لو كانت القضايا عقديّة، ومجرّد أنّ الموضوع عقديٌّ لا يعني حرمة البحث فيه بتجرُّد، أو خلق مناخ غير صحّيّ حوله، بحيث يُفرض الحجر والإرهاب على مَنْ تبدو عنده وجهة نظر مختلفة، كما لا يجوز الخلط بين التاريخيّ والعقديّ، أو استخدام منطق التهويل الإعلاميّ، وتضخيم بعض المفردات العقديّة الصغيرة بحسب البنية الاعتقاديّة، وتحويلها إلى أصول عقديّة إسلاميّة أو مذهبيّة. كما نرى أنّ حساسيّة المسألة العقديّة في بناء المنظومة الإسلاميّة تستدعي من المشتغلين بهذا العلم وأنصار الحركة النقديّة بذل جهود مضاعفة، واعتماد الاحتياط الداعي إلى الهدوء والتريُّث والتعمُّق في البحث قبل الاستعجال بنقد هذه الفكرة أو تلك، وأن لا ينجرّوا من حيث لا يشعرون إلى شهوة النقد أو المعارضة، فيستسلمون لدواعي النفس أكثر من أن يكونوا مؤمنين بالتجديد بشكلٍ منزَّهٍ عن الأغراض الذاتيّة والنفسيّة وغير الأخلاقيّة.
وفي الختام
إنّنا نؤمن بضرورة دراسة فكر العلاّمة فضل الله دراسة علميّة لا تعيش عقدة التهجُّم عليه، ولا الانتصار له، في الجانب العلميّ. إنّ أصعب مشكلة تواجهها الحالة الإسلاميّة عموماً اليوم، والتي نسأل الله سبحانه أن تتجاوزها، هي إشكاليّة العلاقة بين الحقّ والعدل والمصلحة، فلقد طغى مفهوم المصلحة ومنطق التوازنات على مفهوم العدل والحقّ، وكثيراً ما تمّت التضحية بأفرادٍ أو جماعاتٍ يُعلَم أنّ الحقّ معها في هذه القضيّة أو تلك، لا لشيءٍ إلاّ لأنّ المصلحة تستدعي ذلك. من هنا يُذبح الضعيف لصالح القويّ؛ لأنّ المصلحة تستدعي أن لا نخسر القويّ، أو أن لا نخوض صراعاً معه. وعندما تتراكم هذه الحالات فستخلق تشوُّهاً في التجربة الإسلاميّة. وأعتقد أنّ الإمام عليّاً× إنّما كان صلباً في مواقفه بعد تولّيه الخلافة، ولم يدخل في توازناتٍ، الأمر الذي أبداه غير خبيرٍ في السياسة، لكي يوصل رسالته إلى المجتمع الإسلاميّ بأنّ مقولة المصلحة ـ وهي مقولة حقّ من حيث المبدأ ـ عندما تتضخَّم فستحرف التجربة عن مسارها، وستنقلب المفاهيم والمعايير، وسيزول مفهوم التضحية الذي صنع التجربة الإسلاميّة في العصر النبويّ، وعندما يتمّ تطبيق فكرة المصلحة بهذه الطريقة المشوَّهة على مستوى جزئيّ هنا أو هناك، أو على مستوى كلّيّ وعامّ في الأمّة، فلن يعود للقيم الأخلاقيّة الرفيعة ـ ومنها نصرة المظلوم ـ دورٌ في إدارة حياة الإنسان، ولن يكون هناك فرقٌ كبير بين المصلحة الميكافيليّة والمصلحة بلباسها الإسلاميّ، والأنكى من كلّ ذلك أنّ الذي يؤمن معي بالخطّ نفسه، ويكون أكثر أخلاقيّة وصمتاً، يصبح لقمة سائغة لي؛ لكي أضحّي بها مراعاة لمَنْ لا يؤمن بالخطّ أساساً، ولا أخشى إلاّ من صراخه وعلوّ صوته!!
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾ (الأحزاب: 39).