محمد الحنتيتي
الملخص التنفيذي:
إن الهدف الذي يتوخى بحثنا تحقيقه يتمثل في تسليط الضوء على الفيلسوف سقراط بغية تكوين فكرة واضحة؛ عن فلسفته، وبالضبط عن منهجه في البحث عبر تحليل مقاطع من محاورة “أوطيفرون”، كي نبين بالملموس الطريقة التي كان يتبعها فيلسوف أثينا في التهكم وتولد الأفكار، ونحن نزعم أن سقراط لازال لم يحظ، عربيا على الأقل، بالاهتمام اللازم نظرا لما نسميه بالتعتيم الافلاطوني، فأغلب الدراسات تهتم بالتلميذ أكثر مما تتخصص في الأستاذ، وليس أدل على ذلك ندرة الكتب في مكتباتنا التي تتخذ من سقراط موضوعا لها. حتى إن نحن بلغنا هدفنا مكنا مجتمعنا، وخاصة أساتذتنا، من الاستعانة “بروح فيلسوفنا” من أجل إحياء درس الفلسفة في مؤسساتنا التعليمية اليوم كي يعود إلى لعب دوره في تكريس الفكر النقدي الذي يدفع صاحبه إلى فحص الأفكار، كما كان يفعل سقراط، قبل قَبولها.
لكل هذا، سيحاول بحثنا أن يجيب عن الأسئلة الآتي: من هو سقراط؟ ومن هم الفلاسفة الذين تأثر بهم وأثر فيهم؟ وما هي أهم مؤلفاته؟ وما هو منهجه في البحث الفلسفي؟ وما هي نظرياته الفلسفية؟
تمهيد:
يؤرخ الباحثون لزمن نشأة الفلسفة بالقرن السادس قبل الميلاد، في جزيرة تقع في البحر الأبيض المتوسط تدعى ملطية، كانت في ذلك الزمن تابع لبلاد اليونان الأوربية، حيث عاش رجل يسمى طاليس الملطي Thalès de millet (624 ق.م_546 ق.م)، يقال بأنه قدم إجابة مختلفة، عما كان سائدا في مجتمعه، عن سؤال ما أصل الوجود[1]. ففي الوقت الذي كان فيه الإغريق يؤمنون بأن العالم وأشيائه من صنع آلهة الأولمبياد المفارقة للطبيعة[2]، فسر طاليس هذه الأخيرة عبر إرجاعها إلى عنصر هو جزء منها.
ويعد أرسطو طاليس Aristote (384 ق.م_322 ق.م) المرجع الأساس الذي استند عليه مؤرخو الفلسفة بخصوص اعتقادهم أن نقطة البداية كانت من ملطية، نظرا لضياع جل كتب الحكماء الطبيعيين. لكن في القرن الماضي برز نقاش يشكك في هذه القضية، خصوصا وأن بعض الباحثين وصل بهم التطرف إلى حد القول: إن الفلسفة معجزة غربية، فهذا على سبيل المثال الإنجليزي برتراند راسل Bertrand Russel (1872_1970) يكتب كتابا من جزأين عنوانه “حكمة الغرب”، نكاد لا نجد فيه أية إشارة لأي فيلسوف أو عالم من الشرق.
لذلك رد آخرون، ومن داخل المعسكر الغربي كما فعل إيميل برييه Emile Bréhier (1876_1952) في مجلداته عن تاريخ الفلسفة، بأنه من الحكمة عدم تشويه التاريخ، فالفلسفة حتى لو كانت قد ظهرت، كتفكير عقلاني منظم في الوجود والإنسان والمعرفة بهدف الوصول إلى الحقيقة، في بلاد اليونان، فإنها استفادت حتما من الحكم والعلوم الشرقية، فطاليس نفسه سبق وأن سافر إلى مصر ووجد الأهرامات شامخة، أولم تُستخدم الهندسة في بناء تلك المعالم التاريخية؟!
وهناك آية أخرى تبرهن على أن فعل المثاقفة حاصل؛ حيث إن القول بالماء أصلا للوجود، ليس سابقة غربية، لأن حكما شرقية أشارت إلى ذلك منذ وقت قديم؛ فنجد في إحداها أنه في البدء قبل أن تسمى السماء، وأن يعرف للأرض اسم كان المحيط وكان البحر[3].
وأما سر بروز الفلسفة الغربية هو بناؤها لخطابات نظرية منطقية منظمة؛ فطاليس لم يكتف بتلك المسلمة، بل حاول أن يبرهن على مصداقيتها عبر حجج عقلية تربط النتائج بأسباب محددة من خلال الاعتماد على الحدس الفلسفي، وبمعزل عن السرد الخيالي الذي يميز الميثولوجيا، ومن دون استخدام التجارب كما يفعل العلماء. لهذا، فقد استحق أن يحمل لقب أول فيلسوف غربي كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الألماني نيتشيه Frederic Wilhelm Nietzsche (1844_1900) في كتابه “الفلسفة في العصر المأساوي عند الإغريق”.
ونجد سمة أخرى تميز الفلسفة الغربية، هي أن المنتمون إليها لا يقدسون الأفكار ولا الأشخاص حتى لو كانوا ممن سبق وأن تتلمذوا على أيديهم. ومن تمت، فالفيلسوف الحق لا يكون شيخا، وتلامذته إن هم شاءوا أن يستمروا على درب الفلسفة، توجب عليهم أن لا يتحولوا إلى مردين. من هنا فأنكسماندريس Anaximandre (610 ق.م_546 ق.م) انطلق في بحثه عن المبدأ الأول للوجود من انتقاد نظرية أستاذه طاليس، ونفس الأمر وقع له مع تلميذه أنكسيمانس Anaximène (588 ق.م_525 ق.م). وظلت الدراسات مستمرة في ميدان الكوسمولوجيا، من مطقتي أيونيا وإيليا، ردحا من الزمن.
ولما كانت الطبيعة ليس وحدها من يخشى الفراغ، وإنما العلم أيضا يخشاه، وإلا ملأه المتطفلون عليه، فذلك فعلا ما حدث، حينما انشغل الحكماء الطبيعيون بالسماء وأهملوا الأرض ومن عليها، ليشغل هذا الحيز رجال ينعتون بالسفسطائيين امتهنوا تعليم الشباب فن القول المنمق الذي يخول لهم أن يصيروا خطباء قادرين على نيل إعجاب الدهماء واستمالتها. وفاخروا هؤلاء الرجال بقدراتهم البيانية التي تمكنهم من تأييد الفكرة ونقيضها في آن واحد، وذهبوا في القول بأن الأخلاق مواضعات des Postulats نسبية مذهبا جعل المسرفين منهم يدعون إلى التملص منها، والنهج وفق قانون الطبيعة حيث الغلبة للأقوى.
ومازال الأمر كذلك، إلى أن بعث الله لهم رجلا حمل على عاتقه مهمة إبطال ادعاءاتهم، وفعلا تمكن من إخراسهم حينا من الدهر، فكسر شوكتهم، بقوة الحجة لا بحجة القوة. هذا الرجل هو سقراط الآثيني sucrate (470 ق.م_399 ق.م)، الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، حسب تعبير المفكر الروماني شيشرون Marcus talus cicero (106 ق.م_43 ق.م)، حينما اتخذ لنفسه شعار “اعرف نفسك” الذي كان مكتوبا في معبد ديلفي.
ليجعل مهمة الفلسفة الأولى هي الاشتغال بقضايا الإنسان، فهو الذي حمل على عاتقه البحث في الفضائل الخلقية، وبمناسبتها سعى إلى تحديد الكليات… [ف] كان يبحث في ماهية الأشياء، وكان يحاول الوصول إلى أقيسة منطقية[4]. فنال منذ ذلك الحين، وعن جدارة، لقب المؤسس الفعلي للفلسفة الأخلاقية.
إذن، من هو سقراط صاحب هذا المنجز العظيم في تاريخ الفلسفة؟ ومن هم الفلاسفة الذين تأثر بهم وأثر فيهم؟ وما هي أهم مؤلفاته؟ وما هو منهجه في البحث الفلسفي؟ وما هي نظرياته الفلسفية؟
المحور الأول: التعرف على سقراط
- من هو سقراط ؟
سقراط هو فيلسوف يوناني عاش في مدينة أثينا إبان القرن الخامس قبل الميلاد. وتخبرنا الكتب التي ترسم معالم شخصية هذا الفيلسوف: أنه كان ذو بنية قوية بشعر أشعت وأنف أفطس، وغالبا ما يتجول حافي القدمين. وأن أمه فيرانيتا كانت تعمل قابلة تولد النساء، وأباه سوفرونيسكو كان يشتغل نحاة، وهي نفس الحرفة التي امتهنها فيلسوفنا في شبابه قبل أن يتركها ويَهب نفسه للحكمة ولإصلاح عقول شباب مدينته، رافق هذا التخلي عن العمل عيشه لحياة الفقر والفاقة، التي طالما أبدت زوجته اكزانيثيب منها امتعاضا، كأم متوجسة على أطفالها الثلاثة. وتقول الرواية أنه شارك كجندي آثيني في معركة رفقة أبناء مدينته حيث أبدى بسالة وجلدا في القتال. وباستثناء تجربة قصيرة في السياسة، حتمها عليه واجب إطاعة القانون لما أتى الدور على حيه للمساهمة في تدبير شؤون المدينة، فالرجل كان عازفا على الحياة العامة كما يصرح بنفسه في محاورة “الدفاع”، التي كتبها أشهر تلامذته أفلاطون Platon (428 ق.م_348 ق.م)، حينما يقول: لا أجرؤ على الظهور في الجمعية الشعبية لكي أقدم نصائحي للمدينة بشأن الأمور التي تخصكم جميعا […] فاعلموا، علم اليقين، أيها الأثينيون، أنني لو كنت دخلت عالم السياسة لكان قد قضي علي[5].
وانطلاقا من محاورة “أوطيفرون” يتجلى للمهتمين بتاريخ الفلسفة أن حياة الرجل ستنتهي بطريقة مأساوية، عبر كشفها على أنه سيتعرض لادعاء عام[6] مضمونه أنه ملحد بآلهة الأولمبياد، مخترع لآلهة جديدة، وهو بمثل هكذا فعل مفسد للشباب معلمهم الضلال.
وتتضمن محاورة “الدفاع” أسماء رافعي الادعاء وهم: ميليتوس وأنيتوس ولوكون، ميليتوس مملوء ضغينة باسم الشعراء، وأنيتوس ممثلا للصناع والسياسيين، ولوكون ممثلا للخطباء[7].
ويبين سقراط، في نفس المحاورة، أن سبب شيوع هذه الأفكار عنه هو أن شاعرا كوميديا يدعى أرسطوفان Aristophane (450 ق.م_385 ق.م)، منذ عشرين عام خلت، كان قد أطلق العنان لخياله الجامح في مسرحية عنوانها “السحب” يدعي فيها أن سقراط مذنب، فهو يعنى عناية كبرى بالبحث فيما تحت الأرض وما في السماء، وبقلب القضية الضعيفة قضية قوية، وتعليم هذا كله للغير[8].
وما الادعاء الذي تعرض له سقراط إلا مكيدة دبرها له ممثلي الحزب الديموقراطي الحاكم، حينما اشتبهوا في موالاته للحزب الأرستقراطي المعارض لهم، كون الرجل كان كثيرا الاختلاط بشباب تنتمي أسرهم لهذا الحزب. إضافة إلى أنه كان يكشف لوجهاء قومه من دعاة المعرفة جهلهم أمام الملأ فيضعهم في إحراج، فلم يجدوا بدا من إخراسه بتلك الطريقة[9].
هذه الاتهامات ستؤدي بالقضاة إلى الحكم عليه بالإعدام. علما أنه لم يشأ أن يستجديهم أو يقترح حكما مخففا أو يدفع فدية، كما كان شائعا في زمانه. بل هاجمهم بتهكمه المعهود مثلما هاجم ملفقي الادعاءات، في خطبته الشهيرة أثناء المحاكمة[10]، وطالبهم بالعيش على نفقة الدولة نظير ما قام به تجاه أبناء جلدته، وبالرغم من ذلك فأصوات الذين أدانوه لم ترجح إلا بعدد بسيط على أصوات الذين قالوا ببراءته.
ولما تزامن وقت النطق بالحكم مع شهر كانت أثينا تحرم فيه إراقة الدم[11]، فقد وُضع في سجن لأزيد من شهر، وهناك تدور أحداث محاورتين شيقتين وهما: “أقريطون” حيث عرض عليه فيها صديقه أقريطون الفرار من السجن وهيأ له الأسباب، ورفضه ذلك بحجة أنه يجب أن يؤدي المرء ما تأمر به الدولة ويأمر به الوطن، اللهم إن أقنعه بالوسائل التي يسمح بها القانون؟ أم اللجوء إلى العنف، فإنه إذا كان كفرا في حق الأم أو الأب، فهل سيكون أقل من ذلك إذا كان بإزاء الوطن؟[12] و”فيدون” المحاورة التي برهن فيها سقراط، لكل من سيبيس الميغاري وسيمياس الطيبي، على خلود النفس، كي يطمئن أصدقاءه على مصيره، ويشد عضدهم في موقف شجاع قل نظيره، قبل أن يتجرع سم الشوكران، ويخلص النفس من قبرها وفق تعبير أفلاطون.
وفيما يتعلق بالفلاسفة الذين تأثر بهم، فالتاريخ لا يترك لنا شواهد واضحة بخصوصهم، غير أنه يمكننا أن نستنير بما كتبه أفلاطون، لنعثر في محاورة “فيدون” على اسم أناكسيجراس Anaxagore (500 ق.م_428 ق.م) حينما يصرح سقراط قائلا: ثم استمعت إلى رجل كان عنده كتاب لأناكسيجراس […] وسرني ما ظننت أنني واجد في أناكسيجراس من يعلمني ما وددت أن أعلم من أسباب الوجود[13]. لكنه ما أن انتهى من قراءة الكتاب حتى أعرض عنه في اللحظة التي اكتشف فيها تفسيره للطبيعة على نحو آلي وإهماله الغايات الكامنة وراء الأفعال البشرية.
وهنا نتأكد أن سقراط بدأ حياته مهتما بالعلم الطبيعي متأثرا بأناكسيجراس، الذي يُعتقد بأنه أول من أدخل الفلسفة إلى أثينا حينما استدعاه صديقه الجنرال بريكلس Périclès (490 ق.م_429 ق.م)، قبل أن يغير فيلسوفنا التوجه نحو الاهتمام بشؤون الإنسان، مستخدما منهج الديالكتيك الذي تلقى فيه درسا من الحكيمين الطبيعيين بارمينيدس Parménide (540 ق.م_480 ق.م) وتلميذه زينون الأيلي Zénon d’Elée (490 ق.م_430 ق.م)، وهكذا، فهو يعد كذلك تلميذا لهذين الحكيمين كما جاء في محاورة لأفلاطون موسومة باسم “بارمينيدس”.
وإننا نعتقد، متفقين في ذلك مع فؤاد الأهواني (1908_1970)، أن هؤلاء ليسوا هم فقط من استفاد سقراط من أفكارهم، بل نعده أيضا من تلامذة فيتاغورس Pythagore (580 ق.م_495 ق.م)، خصوصا حينما نعلم بأن أعضاء الجماعة الفيتاغورية كانوا يلتزمون التقية فيما يتعلق بانتمائهم. ويمكننا أن نعتر في كتب أفلاطون على بعض الشواهد تزكي اعتقادنا: ففي محاورة “الدفاع” يصرح سقراط بأنه لما سمع بأن الكاهنة تصفه على إثر حوارها مع صديقه شيريفون بأنه حكيم، أصبح شغله الشاغل هو فهم مقصود ممثلة الإله على الأرض، لأنه يعتبر بأن الحكمة صفة لا يستحق أن يوصف بها إلا الإله، مَثله في ذلك كمَثل فيتاغورس الذي رفض أن ينادى بالحكيم sophos واكتفى بلقب محب الحكمة philosophos. ونجد في محاورة “فيدون” شاهدين آخرين: أولهما أن كل الذين حضروا المحاورة، وهم أصدقاء سقراط من الآثينيين ومن الغرباء، ينتمون إلى جماعة الفيتاغوريين، ولنا في هذا الكلام الذي يربط فيه سقراط سيبيس وسمياس بفيلولاوس Philolaos (480 ق.م_385 ق.م) الفيلسوف الفيتاغوري من مدينة طيبة دليل على ذلك: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس، فهلا سمعتماه قط يتحدث عن هذا؟[14] وهنا كانوا يتحاورون عن تحريم الانتحار الذي هو جزء من المعتقدات الفيتاغورية. وثانيهما أن سقراط يؤمن بفكرة التناسخ وهذا واضح من خلال قوله في محاورة “فيدون”: كل شيء حي قد ولد من الميت […] لأنه لو كانت الروح موجودة قبل الميلاد، وأنها إذ تجئ إلى الحياة وإذ تولد لا تكون ولادتها إلا من الموت أو الاحتضار، ألا يجب عليها بعد الولادة أن تستمر في وجودها ما دام لا بد لها أن تولد مرة أخرى؟[15] ونفس الفكرة تتكرر في الكتاب العاشر من “الجمهورية”، وتظهر بشكل واضح في محاورة “فايدروس” من خلال تصريح سقراط الآتي: يمكن للنفس البشرية أن تنتقل إلى حياة حيوانية كما تنتقل بالمثل نفس إنسان من هيئة الحيوان إلى الحالة الإنسانية[16].
أما أهم الفلاسفة الذين أثر فيهم فيصنفونهم الباحثون إلى صنفين: صغار السقراطيين وهم كل من أقليدس مؤسس المدرسة الميغارية، وأنستانس صاحب المدرسة الكلبية، وأرستبوس منشئ المدرية القرنائية. ويبقى كبير السقراطيين هو الفيلسوف الشهير أفلاطون. هذا ولسقراط تأثير على الفلسفة الغربية برمتها باعتباره من أوائل مؤسسيها.
ويخبرنا التاريخ بأن أنجع طريقة تمكن من نقل الأفكار للأجيال اللاحقة هي التدوين. لذا، سنحاول أن نقف عند الكتب التي تحفظ لنا أفكار الرجل.
- ما هي مؤلفات سقراط ؟
ما أن نبحث عن كتاب دونه فيلسوف أثينا بيديه حتى نصدم بحقيقة أنه لم يكتب ولا حرف، فكيف تعرفنا عليه؟ وكيف وصلتنا فلسفته؟ هناك مصادر أربعة تقربنا من شخصية الرجل وأفكاره، وهذه المصادر حسب أهميتها ومصداقيتها تواليا هي: محاورات أفلاطون، مسرحية “السحب” لشاعر هزلي يدعى أرسطوفان يقال بأنه عاصر سقراط، كُتب في التأريخ لشخص يسمى زينيفون Xénophon (430 ق.م_355 ق.م) يقال بأنه كان تلميذا لسقراط وقد توجه توجها عسكريا بعد موت أستاذه، وأخيرا بعض الإحالات في كتب الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو طاليس تلميذ أفلاطون.
وبالرغم من كل هذه المصادر التي تتحدث عن سقراط فقد ظهر بعض المحدثين يشككون في أن يكون الرجل فعلا شخصية واقعية، ويقولون بأنها روائية خلقها بعض الكتاب ليعبروا عن أفكارهم من خلالها. فما مصدر هذا الاعتقاد يا ترى؟
بالرجوع إلى المصدر الأول، وهو الأهم، المتمثل في محاورات أفلاطون نجد أنفسنا أمام إحراج كبير سببه أن أفلاطون كتب حوالي سبع وعشرين محاورة[17] تتضمن حوارات بخصوص قضايا فلسفية، كالتقوى في محاورة “أوطيفرون” والواجب في “أقريطون” والعدالة في “الجمهورية” والصداقة في “لاخيس” والجمال في “فيدروس” والحب في “المأدبة”… تدور بين سقراط وشخصيات أخرى تتغير حسب كل محاورة؛ كجلوكون في “الجمهورية” وكاليكليس في “جورجياس” وفيدروس في “فيدروس”… ليظل سقراط حاضرا فيها كلها كشخصية رئيسية، باستثناء محاورة “القوانين” التي غاب عنها.
من هنا، يأتي اعتقاد هؤلاء الباحثين الذين يميلون إلى أن سقراط مجرد شخصية روائية، معللين ذلك بأن أفلاطون تحرج من أن ينتقد أبناء جلدته بشكل مباشر، فاستخدم أسلوبا فنيا أدبيا عبر من خلاله عن أفكاره على لسان شخصية روائية سماها سقراط، وهي الشخصية الأدبية نفسها التي اعتمدها الشاعر أرسطوفان في مسرحية “السحب”، وما إحالات أرسطو طاليس في حقيقة الأمر إلا إحالات بشكل غير مباشر على أستاذه أفلاطون، أما زينيفون فكتبه أصلا لا يعتد بها لأنها تصور سقراط بشخصية مختلفة عن التي تظهر في كتب أفلاطون.
لكن أرجح الظن والذي يجمع عليه أغلب الباحثين في تاريخ الفكر الفلسفي وخاصة المهتمين بفلسفة أفلاطون أمثال (A.N.Whitehead, B.Russel, F.W.Taylor)، والذي يبدو لنا معقولا، هو أن هناك “سقراطان” إن صح التعبير، الأول شخصية تاريخية واقعية والثاني شخصية روائية خيالية، وآيتهم على ذلك هو الاختلاف فيما بين المحاورات التي كتبها أفلاطون، حيث قسموها إلى مجموعتين: محاورات سقراطية، وأخرى أفلاطونية. فإذا كانت الأولى تناقش قضايا أخلاقية لا تنتهي إلى حلول محددة وتتبع أسلوب البحث عن ماهيات المفاهيم دون أن تشير بشكل صريح وواضح إلى وجود موضوعي لهذه الماهيات. فإن الثانية تتطرق لمباحث فلسفية أخرى إلى جانب بحثها في الأخلاق كالسياسة والجمال والوجود والخطابة والتشريعات… ويظهر فيها تدريجيا نضج واضح في توظيف نظرية المثل ذات الأصل الفيتاغوري[18] وغالبا ما ينتهي البحث فيها إلى نتيجة إيجابية، باعتبار أن أفلاطون صاحب مذهب فلسفي أما سقراط فالفلسفة عنده منهج وأسلوب حياة، ولعل هذا دليل واضح يفسر سبب عدم تدوينه لفلسفته.
ونحن نعتقد أن شهادة أرسطو حول بحث سقراط عن حد للمفاهيم والاشتغال بالفلسفة الأخلاقية لهي دليل قوي على الوجود الواقعي للفيلسوف الآثيني[19]، وإلا فمن غير المنطقي أن يقدم أرسطو شهادة في أفلاطون عبر شخصية سقراط، التي إن فرضنا أنها مجرد شخصية روائية، لا تعبر، خصوصا في المسألة التي وجه فيها المعلم الأول شهادته، عن اكتمال الفكر الأفلاطوني، وأرسطو يقدم هذه الشهادة بعد موت أستاذه أفلاطون؟!
إضافة إلى ذلك نعتقد أن مسرحية “السحب” تزيد من تأكيد فرضية وجود سقراط الحقيقي، فبالرجوع إليها نجدها تتضمن أفكار أعاد عرضها سقراط بشكل ملخص في محاورة “الدفاع” كي يبين ما تعرض إليه من تشهير وتنكيل من طرف أسرطوفان كاتب المسرحية، فيخبرنا فيلسوفنا أن هذا المسرحي روج أفكار كاذبة ورسخها في عقول الآثينيين. ولو أن أرسطوفان كان هدفه مهاجمة أفلاطون فلما لم يهاجمه بشكل مباشر ويحاول دحض أفكاره كما حاول أرسطو طاليس فعل ذلك دون اللجوء إلى شخصية سقراط؟[20]
كل هذا يزكي اعتقادنا في وجود سقراط واقعي بشحم ولح عاش في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، ونعتبر أن أفلاطون أراد أن يؤرخ لفلسفة أستاذه، الذي جاوره، كما أخبرنا هو نفسه، لمدة طويلة فتأثر به وتعلم منه، فلم يجد أفضل من هذه الطريقة لرد الجميل، ويا لها من طريقة جليلة إذ من دونها كانت أفكار ومنهج سقراط ليضيعا وما كانت البشرية تستفيد منهما!
وبعد هذه العملة التي قام بها التلميذ، وحينما اشتد عوده ونضج فكره، انفصل عن أستاذه مع الحفاظ على طريقته في الجدل وتوليد الأفكار لكن ليس بشكل واقعي وإنما بأسلوب روائي إبداعي رائع لا يمكن لأي كان أي يحاكيه. حيث استخدم سقراط كشخصية روائية عبر من خلالها على كل ما كان يريد أن يقول وجعله يحاور كل أطياف المجتمع آنذاك، بل جعله يحاور حتى ابني أرستون جلوكون وأديمانتوس[21] وهما شقيقي أفلاطون وممثلان للحزب الأرستقراطي حينها.
وعبر الأخذ بهذه الأسباب الآنفة الذكر يمكن القول، مع شيء من النسبية في الحكم، أن هناك عشر محاورات تعبر عن فلسفة سقراط وهي: “هيبياس”، “إيوان”، “خرميدس”، “لاخيس”، “ليسيس”، “جورجياس”، “بروتاجوراس”، “أوطيفرون”، “الدفاع”، “أقريطون”. وفي هذا الورقة سنحاول أن نكون فكرة عامة عن فلسفة سقراط انطلاقا من تحليل مقاطع من محاورة “أوطيفرون” ورصد معالم المنهج السقراطي.
المحور الثاني: الفلسفة السقراطية
- ما هو المنهج الذي كان يعتمده سقراط ؟
من المسلم به أن الحقيقة غاية كل خطاب فلسفي كان أو علمي، وإذا كانت الغاية هي نقطة وصول، بات من الضروري وجود طريق يؤدي إليها، والسبيل في هذا النوع من الخطابات يدعى منهجا.
وقد ارتبط المنهج في الفلسفة بالعقل المنطقي المحترم لمبادئ التفكير السليم، وهي ثلاثة مبادئ: أولا مبدأ الهوية la loi de l’identité، ثانيا مبدأ عدم التناقض la loi de contradiction، ثالثا مبدأ السببيةla loi de causalité .
ولما كان سقراط فيلسوفا، فإن خطابه لم يزغ عن هذه المبادئ، بيد أنه اصطبغ بخصوصية هذا الفيلسوف، الذي كانت الحكمة معه ممارسة وتطبيق وليس كتابة وتنظير. لذا، ابتدع لأنموذجه منهجا عرف باسم التهكم والتوليد، وحينما نعود إلى المحاورات السقراطية نلاحظ بوضوح أنه في جوهره منهج جدلي يراعي مبادئ التفكير السليم. فما المقصود بالتهكم والتوليد؟ وكيف يستخدم سقراط الجدل؟
تُبين المحاورات التي كتبها أفلاطون بوضوح كيف كان سقراط يطبق الجدل، وكيف كان يولد الأفكار عبر تهكمه المسلط على محاوَريه، فقد كان دأبه أن يبادر أحدهم بسؤال عام حول قضية أخلاقية ما، وغالبا ما يسأل فئة من الناس تتباهى بمعارفها، ولكي يحافظ على حبل الود حتى يجيب المحاوَرون عن سؤاله، فإنه يزكي تفاخرهم ويدعي بأنهم سيساعدونه على تكوين معارف مادام أنه أصلا لا يعرف أي شيء، ولكن يشترط عليهم أنه لن يقبل بأجوبتهم إلا بعد فحص عقلاني، فصحيح أنه يحب محاوَريه لكن حبه للحق يفوق حبه لهم.
وهكذا، سرعان ما يكشف لهم أن معارفهم ليست إلا أوهاما، غير أن هذا الكشف يتم، غالبا، أمام الملء، فأسلوب سقراط في الأسئلة محرج، لأنه يجعل المحاوَرين يكتشفون جهلهم حينما يظهر التناقض في إجاباتهم، فيعمل بعد ذلك على مساعدتهم بطريقة متدرجة على الوصول إلى المعرفة الصحيحة، وهو يرى أنه في هذه العملية متأثر بعمل والدته فيرانيتا الداية، كونه لا يصنع الأفكار بل يساعد على استخراجها، مثلما أنها لا تصنع المواليد بل تساعد على استخراجهم.
وقد برع سقراط في تطبيق الجدل الذي تعلمه حينما التقى في شبابه بكل من بارمينيدس وزينون وتلقى منهما درسا في الدياليكتيك من ذلك النوع الذي أصبح هو ذاته يلقنه للآخرين فيما بعد[22].
ولكي لا يبقى كلامنا نظريا وحسب، سنعمل على الرجوع إلى محاورة سقراطية وهي: “أوطيفرون”، عبر إدراج مقاطع منها ومحاولة تحليلها، بما يتيح لنا إمكانية الوقوف عن كثب عند كيفية تطبيق منهج التهكم والتوليد.
- مقاطع من محاورة “أوطيفرون”
المقطع الأول: تفاخر أوطيفرون بنفسه وبمعرفته
سقراط: ولكن هل تعتقد يا أوطيفرون أنك تعرف أنت نفسك معرفة دقيقة كل الدقة ما هو الحق بخصوص الأمور الدينية وبخصوص التقوى وعدم التقوى، بحيث أنك لا تخشى ما دام الأمر على ما تقول، أن يحدث أن تكون مرتكبا بدورك، بتقديم أباك للمحاكمة عملا غير تقي؟
أوطيفرون: إنني لن أكون نافع لعمل شيء يا سقراط، ولن يكون هناك فرق بين أوطيفرون وعامة الناس، إذا لم أكن أعرف كل هذه الأشياء معرفة دقيقة.[23]
المقطع الثاني: ثناء سقراط على أوطيفرون وطلب التلمذة على يديه
سقراط: ولأنني أعرف هذا، يا صاحبي العزيز، فإنني أتوق إلى أن أصير تلميذك، واعيا أن أحدا، ولا حتى ذلك الميليتوس نفسه، لا يبدو عليه مجرد إدراك وجودك، أما أنا فقد أدركني وثقبني على الفور بنظره، حتى إنه يرفع ضدي ادعاء بالضلال. والآن، بحق زوس، قل لي ما أكدت منذ لحظة أنك تعلمه علم اليقين. فأي شيء هي في رأيك التقوى؟ وما هو الضلال سواء كان ذلك في حالة القتل أو في أي حالة أخرى؟ أوليس التقوى هي هي ذاتها في كل الأفعال؟ أوليس الضلال كذلك هو ضد كل تقوى، ولكنه في ذاته مشابه لذاته ويحتفظ بطبيعة معينة واحدة، وذلك إذا نظرنا إلى الأمر من حيث خاصية الضلال ذاتها ومهما يكن الشكل الذي ستكون عليه في كل الحالات واقعة الضلال؟[24]
المقطع الثالث: التعريف الأول المقدم للتقوى من طرف أوطيفرون
أوطيفرون: في رأيي بالطبع أن التقوى بالضبط ما أفعله الآن، أي مقاضاة المذنب سواء كان قاتلا أم لصا سارقا للمقدسات أو مرتكب لأي ذنب آخر من هذا القبيل، وسواء إن حدث وكان أباك أم أمك أم أي شخص آخر، أما عدم تقديمه للمحاكمة فسيكون عملا غير تقي. فانظر يا سقراط إلى الدليل القاطع الذي سأعرضه عليك على أن القانون هو كما أقول، وقد عرضت هذا الدليل بالفعل من قبل على آخر مبينا أن السلوك الصائب سيكون هذا: أن لا نغض العين عن صاحب فعل فيه ضلال أيا من كان هو. ذلك أنه يأتي على أن الناس أن يعتقدوا أن زيوس هو خير الآلهة وأعدلهم، ولكنهم يتفقون مع ذلك أنه قيد أباه نفسه، لأنه كان يلتهم أبناءه بغير عدل، وأن هذا الأب نفسه كان قد شوه بدوره أباه لأسباب أخرى متشابهة، ومع هذا فإنهم يثورون ضدي لأنني أتهم أبي بأنه مذنب، وهم هكذا يتناقضون مع أنفسهم ويتخذون من الآلهة موقفا مغايرا لموقفهم مني.[25]
المقطع الرابع: رفض سقراط التعريف لأنه بالمثال وليس بالماهية
سقراط: فتذكر أن هذا ليس هو ما طلبت منك أن تعلمنيه، أي شيء أو شيئين من بين عشرات الأشياء التقية، بل تلك الصورة ذاتها التي يصير بها كل شيء تقي، حيث إنك قلت إن هناك شكلا وحيدا تكون به الأشياء غير التقية غير تقية والتقية تقية. أم أنك لا تتذكر ذلك؟[26]
المقطع الخامس: التعريف الثاني المقدم للتقوى من طرف أوطيفرون
أوطيفرون: إذن فالتقوى هو ما كان محبوبا ومقبولا من الآلهة، أما ما لم يكن محبوبا منها فهو غير تقي.[27]
المقطع السادس: فحص سقراط لجواب أوطفرون
سقراط: والآن هيا إلى فحص ما تقول. الشيء المحبوب من الآلهة والشخص المحبوب من الآلهة كلاهما تقيان، والشيء والشخص المكروهان من الآلهة ليسا بالتقيين، ومن جهة أخرى فإن التقوى والضلال ليسا نفس الشيء، بل هما متضادان إلى أبعد الحدود.
أوطيفرون: الأمر كذلك بالطبع.
سقراط: ويبدو لك كذلك أن قولنا صحيح.
أوطيفرون: أعتقد ذلك يا سقراط، فهذا ما يقال.
سقراط: ولكن ألا يقال كذلك، يا أوطيفرون، أن الآلهة في شقاق، وأنها على نزاع مع بعضها البعض، وأن هناك عداوات متبادلة بينها.
أوطيفرون: يقال هذا بالفعل.[28]
المقطع السابع: دحض سقراط لتعريف أوطيفرون
سقراط: على ما يظهر إذن، فإن نفس الأشياء يكرهها بعض الآلهة ويحبها البعض الآخر، فالمكروه من الآلهة والمحبوب من الآلهة هو واحد ونفس الشيء.
أوطيفرون: يظهر هذا.
سقراط: وهكذا إذن يا أوطيفرون، بحسب هذه البرهنة، فإن الأشياء التقية والأشياء غير التقية هي واحدة ونفس الشيء.
أوطيفرون: قد يكون هذا.[29]
المقطع الثامن: تحفيز سقراط لأوطيفرون كي يتابع الحوار ولا ينسحب قبل أن يفرغ من فحص أجوبته
سقراط: ولكنك أكبر مني علما بقدر ما أنت أصغر مني سنا. ولكن غزارة علمك تجعلك، كما كنت أقول، تفقد همتك. فهيا أيها الرجل السعيد وجمع قواك…[30]
المقطع التاسع: مساعدة سقراط لأوطيفرون على تكوين تعريف جديد
سقراط: …التقوى ما هي إلا جزء من العدل؟ هل تقول بهذا أم أن لك رأي آخر؟
أوطيفرون: كلا، بل نقول بهذا، لأنه يبدو لي أن كلامك صحيح.[31]
المقطع العاشر: تقديم أوطيفرون تعريفا ثالثا للتقوى
أوطيفرون: ها هو ما أعتقد إذن يا سقراط. الجزء من العدالة المبجل للآلهة والتقي هو ذلك الجزء منها الذي يخص العناية بالآلهة، أما ذلك الجزء الذي يخص العناية بالبشر فإنه يكون الجزء الباقي من العدالة.[32]
المقطع الحادي عشر: فحص التعريف الثالث للتقوى
سقراط: فليكن. ولكن ما هي تلك العناية بالآلهة التي تكون التقوى؟
أوطيفرون: إنها على وجه الدقة يا سقراط تلك العناية التي يقدمها العبيد إلى أسيادهم.
سقراط: فهمت. هي، فيما يبدو، نوع من الخدمة التي تقدم إلى الآلهة.
أوطيفرون: هي كذلك تماما.[33]
المقطع الثاني عشر: طلب سقراط من أوطيفرون توضيح تعريفه
سقراط: والآن قل لي يا أفضل الرجال: فيما يخص خدمة الآلهة، إلى هدف تحقيق أي عمل تسعى تلك الخدمة المتعلقة بهم؟ إنه من المفروغ منه أنك تعرف هذا، وأنت العالم، كما تقول، أكثر من أي شخص آخر بين الناس بأمور الدين.[34]
المقطع الثالث عشر: شرح أوطيفرون لتعريفه
أوطيفرون: لقد سبق أن قلت لك منذ قليل يا سقراط إن تعلم حقيقة كل هذا على نحو دقيق مهمة مليئة بالصعوبات. ولكني أستطيع أن أقول لك بصفة عامة إنه إذا عرف المرء كيف يقول ويفعل ما يعجب الآلهة بالدعاء والتضحية، فإن كل هذا سيعد تقوى. وفي هذه الأشياء نجاة العائلات ونجاة المجموعة السياسية. أما الأشياء المعارضة لما يعجب الآلهة فإنها ضلال، وهي ما يفسد كل شيء ويؤدي بكل شيء إلى الفناء.[35]
المقطع الرابع عشر: فحص سقراط لشرح أوطيفرون لتعريفه
سقراط: ذلك أنني متعطش لعلمك يا صديقي، وأنتبه إليك بكل عقلي، وهكذا لا أترك شيئا مما تقول يضيع. والآن قل لي: أي شيء هي تلك الخدمة التي تقدم إلى الآلهة. إنها، كما تقول، تنحصر في الطلب منهم وفي إعطائهم؟
أوطيفرون: نعم.[36]
المقطع الخامس عشر: بيان سقراط لما يترتب عن تعريف أوطيفرون
سقراط: وهكذا، يا أوطيفرون، فإن التقوى ستكون نوعا من فن التبادل التجاري بين الآلهة والبشر.
أوطيفرون: سمه تبادلا تجاريا، إن كانت تحلو لك هذه التسمية.
سقراط: أما أنا فلا يحلو لي إلا ما يظهر أنه الحقيقة. ولكن قل الآن: ما هي الفائدة التي تعود على الآلهة من الهدايا التي يتلقونها منا؟ ذلك أن ما يعطونه هم ظاهر أمام الجميع، أما ما يتلقونه منا، ففيم يفيدهم؟ هل سنتفوق عليهم في فن التجارة حتى لنتلقى منهم كل الخيرات، ولا يتلقون هم منا شيئا؟[37]
المقطع السادس عشر: عودة أطيفرون إلى التعريف الذي سبق ودحضه سقراط
أوطيفرون: وماذا تظن أنها يمكن أن تكون إلا تشريفا وتكريما، أو، كما كنت أقول منذ قليل، تقربا إليهم بما يعجبهم؟
سقراط: في هذه الحالة ستكون التقوى إذن، يا أوطيفرون، ما يعجب الآلهة وليس ما هو مفيد لهم ولا ما هو محبوب منهم؟
أوطيفرون: ولكنني أرى من جانبي أن هذا هو ما يحبونه أكثر من أي شيء آخر.
سقراط: فها نحن إذن من جديد، فيما يبدو، أمام أن التقوى هي ما تحب الآلهة.[38]
المقطع السابع عشر: اضطراب أوطيفرون وانسحابه
أوطيفرون: فلنؤجل هذا إلى مرة أخرى يا سقراط، لأنني مشغول الآن، ويجب أن أذهب على التو.[39]
- تحليل المقاطع بهدف رصد معالم منهج التهكم والتوليد السقراطي
يتبين، عبر المقطع الأول، أننا أمام رجل دين معتد بنفسه مفاخر بعلمه. أما معالم التهكم فتبدأ بالظهور انطلاقا من المقطع الثاني، حيث إن سقراط لا يهاجم رجل الدين ويتهمه بالتعالي والعجرفة وإنما يزكي ما قال بخصوص معرفته اليقينية بأمور الدين، بالرغم من أن فيلسوفنا قد يكون على علم مسبق بأن محاوَره أسير معارف ظاهرية يلوكها بلسانه، بحكم محاوراته المتعددة مع رجال الدين خصوصا وأن زمن إجراء محاورة “أوطيفرون” يتبين أنه في أخريات حياة الفيلسوف؛ أي في حوالي سن السبعين، ولن يمر وقت طويل بعد هذه المحاورة حتى يحاكم ويعدم.
ولما كانت غاية فيلسوف أثينا هي كسب المحاوَر والدنو منه حتى يطمئن له هذا الأخير، فإنه لم يجد بدا من اللجوء إلى التهكم عبر الثني على علمه. وحينما بلغ سقراط غايته، فقد بدأ بإلقاء أسئلته التوليدية على أوطيفرون بخصوص موضوع التقوى.
ونحن نعتقد بأن التهكم هنا حاصل وبادي، إن لم يكن لأوطيفرون، فعلى الأقل لقراء المحاورة، بحكم أنها لا تتضمن جمهورا اللهم شخصيتا الحوار الذي دار في رواق الحاكم الملك[40]. إذ أنه ليس هناك تهكم أكبر من أنك تعرف أن شخصا ما جاهل ويدعي بأنه أعرف العارفين بقضية ما، وبدل أن تقول له إنك مجرد واهم، تثني على تفاخره وتطلب منه أن يقبلك تلميذا[41] ريثما تُظهر له بالدليل القاطع أن معرفته باطلة من خلال إعانته على اكتشاف جهله.
ولهذا، يطلب سقراط، عبر سؤال، من أوطيفرون، أن يعرف له التقوى، لكنه يرسب في الاختبار الأول، فعلمه يقف به عند حد التعريف بالمثال لا بالماهية حينما يعرفها بأنها الوشاية بالظالم حتى لو كان هذا الظالم أقرب الناس إليك، وما أوطيفرون عنها ببعيد لأن ما جاء به إلى الملك هو اتهام أبيه بقتل خادمه، وهو بهذا الاتهام ينهج نهج الآلهة، فزوس كبيرهم وأعدلهم سبق له وأن عاقب والده لأنه مزق أبناءه تمزيقا، فيدفع سقراط بالحوار قدما، ويبين لمحاوَره أنه يبحث عن التعريف الماهوي[42]. وعند هذه اللحظة يطفو إلى السطح التهكم مرة أخرى، بيد أنه لا يظهر بمفرده وإنما يصطحب معه التوليد؛ فأما التهكم فمرده إلى أن ذلك الذي كل ما يعرفه هو أنه لا يعرف شيئا[43] يساعد ذلك الذي يباهى بعظمة معارفه، وأما التوليد فيتجلى في أن السؤال السقراطي يتضمن شروحات تفيد بأنه يبحث عن ماهية التقوى وليس عن مثال لفعل تقي.[44]
وفعلا حينما يدرك رجل الدين رغبة سقراط في البحث عن الماهيات ينجح التوليد، على الأقل من حيث الشكل، في تقديم جواب، لن يقبل به سقراط، كما يصرح في المقطع السادس، إلا بعد فحصه من حيث المضمون، مادام الفحص سمة أساسية من سمات السؤال السقراطي إلى درجة دفعت المشتغلين بالفلسفة إلى تسميته بسؤال فحص. وقد جاء في الجواب بأن التقوى هي فعل ما تحب الآلهة، والضلال هو فعل ما لا تحب.
هذه العملية التي قام بها فيلسوفنا، ستسهل عليه، في المقطع السابع، دحض التعريف المقدم من طرف أوطيفرون، كونه ينطوي على تناقض صارخ، لأن أوطيفرون سبق وأن سلم بأن الآلهة في شقاق، فكيف ستجمع على حب شيء واحد؟! ويكون بذلك السؤال السقراطي قد بدأ في زعزعة العقائد المعرفية للمحاوَر.
ولأنه حينما تكشف لشخص ما أخطاءه، فغالبا ما ينفر منك وقد يصل به الأمر إلى أن يكوِّن غلا في قلبه تجاهك، لذا، في المقطع الثامن، يلجأ سقراط إلى تلطيف الجو ويحفز أوطيفرون، عندما يخبره أن مصدر الخطأ ناتج، فقط، عن تكاسله، وليس عن جهله. وهنا يكون فيلسوفنا قد لجأ من جديد إلى فعل التهكم.
وفي المقطع التاسع يعود التوليد إلى الظهور، وبما أن الأسئلة السقراطية تتخذ شكلين أساسيين: إما مباشرة وتقتضي جواب من المتلقي أو استنكارية تتضمن جواب غالبا ما يجد المحاوَر نفسه مضطرا للموافقة عليه، لأنه ينبني على بديهية أو مسلمة، ولما كان سقراط في هذا المقطع قد طرح سؤالا من الصنف الثاني، فإن أوطيفرون سيوافق على مضمون جوابه وسيستخدمه في بناء تعريف جديد للتقوى مؤداه: أن التقوى هي الجزء من العدالة الذي يعتني عبره البشر بالآلهة، أما الجزء الآخر من العدالة فهو الذي يخصصه للعناية بالبشر، وهذا ما يظهر من خلال المقطع العاشر.
وكعادته يشرع فيلسوفنا، في المقطع الموالي، في فحص التعريف المقدم، عبر طرح أسئلة على المحاوَر في المقطع الثاني عشر، يطلب فيها منه أن يوضح مضمون تعريفه حتى يفهم ما يرمي إليه، أمر سيستجيب له في المقطع الثالث عشر. ويفسر بأنه يقصد بالعناية تقديم خدمة للآلهة من نوع الخدمات التي يقدمها العبيد لأسيادهم، وتتمثل هذه الخدمة بالضبط في إتقان الصلاة والتضحية والدعاء.
وهنا نلمس بوضوح تام أن أسئلة سقراط توليدية لأنها وجهت تفكير أوطفرون إلى بناء تعريفه وشرحه حتى لو كان التعريف غير صحيح، بحكم عدم تسليم المحاوَر نفسه لسقراط بشكل كلي فهو يقاوم الإصلاح السقراطي، كون أن ابن فيناريتا مصلح للنفوس.
وبعد الفحص في المقطع الرابع عشر، يبين سقراط مرة أخرى، في المقطع الموالي، ما يترتب على كلام أوطيفرون من تناقض؛ فكيف نساوي بين الدعاء الذي نقدمه للآلهة والخيرات الكثيرة التي تغدق علينا بها؟! ألا تصبح الآلهة بهذا الفهم للتقوى هي من تخدم الإنسان لأنها، بالرغم من كونها آلهة، تتورط في تجارة ضيزى؟! وهنا يبدو الاضطراب على رجل الدين واضحا، خصوصا وأن حدة التهكم تشتد، لأن سقراط يدفع بمحاوَره إلى اكتشاف جهله وهذا هو الشق الأول من المنهج السقراطي في التهكم والتوليد. أما الشق الثاني فيتمثل في مساعدة المحاوَر بأسئلة توجيهية، كما كان يحاول في هذا الحوار مع أوطيفرون، حتى يصل إلى تكوين تعاريف صحيحة.
لكن مكابرة أوطيفرون تحول دون إتمام العمل والمرور إلى الشق الثاني، لأنه يعود في المقطع السادس عشر إلى تقديم تعريف عن التقوى سبق وأن دحضه سقراط، فهو كما لو كان يدور في حلقة مفرغة، فالتهكم قد بلغ منه درجة جعلته يخجل من نفسه، ويفر منسحبا عبر الاستئذان من سقراط بدريعة أن عليه أن يقضي شيئا ما وسيعود في وقت لاحق لإتمام الحوار، وهذا ما يعكسه المقطع الأخير.
وهكذا، فسقراط قام بعمل جبار عبر منهجه حينما بَين ما يترتب عن الإيمان الظاهري المختصر في طقوس العبادات من نتائج خطيرة قد تؤدي إلى ضياع المجتمع. حيث كانت غايته، بالأساس، الكشف على أن أوطيفرون يقع في خلط واضطراب فيما يخص الجواب عن سؤال: هل تحب الآلهة ما هو مقدس أم أن ما تحب الآلهة يصبح مقدسا؟ باعتباره يصرح، وهذه فكرة يعتقد بها المجتمع اليوناني، أن بإمكان الإنسان أن يستميل الآلهة، فتصير أفعاله مقدسة ومحبوبة عندها حتى لو كانت أفعال ظالمة.
وكيف لا يكون عملا جبارا وهدفه هدم هذه الأفكار الخطير، وتجاوز هذا الفهم الخاطئة للقيم الأخلاقية بغية إصلاح النفوس عبر إعادة بناء الأخلاق على أساس سليم، وهذا فعلا ما نكتشفه عندما نعود إلى فلسفة الرجل؟!
- أهم ما جاء في فلسفة سقراط
تتلخص فلسفة سقراط في مقولة: إن العلم فضيلة والجهل رذيلة، هذه المقولة تثبت بأن المبحث الرئيس عند فيلسوفنا هو الفلسفة الأخلاقية، وهذا ما يؤكده بحثه الدائم عن إيجاد حد لتلة من المفاهيم المرتبطة بهذا المبحث من قبيل؛ مفهوم الصداقة الذي بحثه في محاورة لاخس، ومفهوم التقوى الذي تسلط الضوء عليه محاورة أوطيفرون، ومفهوم الواجب الذي تطرقت له محاورة أقريطون…
هذا لا يعني بأن فلسفته لا تهتم بنظرية المعرفة، فبدونها لن يتمكن من الوصول إلى حد صادق للمفهوم الأخلاقي، أمر جعله ينطلق من الجزئي إلى الكلي، من أمثلة مشخصة إلى تصور مجرد، ففي محاورة “أقريطون”، على سبيل المثال، يبدأ من واقعة الهروب من السجن ويصل إلى بيان ماهية الواجب، ليوضح أن الأخلاق ينبغي أن تبنى على أساس العقل، فيترتب عن ذلك أنها ستكون أخلاقة مطلقة يلتزم بها كل الأفراد إن هم أرادوا تحقيق سعادتهم، فالأخلاق ليست نسبية كما ارتأوا خصومه السوفسطائيين الذين اعتبروا أن الإنسان مقياس كل شيء.
وهكذا فالفلسفة عند سقراط تؤمن بأن الفضيلة توجد في طبيعة الإنسان الأصلية، بيد أن مشوشات عدة تحول بينه وبين كشفها، وأهمها الجهل الذي يؤدي بصاحبه إلى اقتراف الشرور، والحل الوحيد هو مساعدة هذا الإنسان على نفض غبار الجهالة من على عينيه حتى يتمكن من رؤية الخير والعدالة والشجاعة والعفة… ويسعى إليها كي يعانقها ويجعلها خلفية لسلوكاته.
فالظالم لا يعرف ماهية الظلم، لأنه لو علمها لكان قادرا أن يعرف ماهية العدل ويفاضل بينهما، حينما يفطن إلى أن الظلم لن يجلب له السعادة، بل الفضيلة وحدها هي التي بإمكانها أن تحقق له سعادة الدنيا والآخرة.
ولغاية مساعدة الناس ادعى سقراط الجهل، وراح يتجول في أزقة أثينا يحاور كل من صادف في طريقه سواء كان من مواطنيه أم من الغرباء. وهكذا، فإن فيلسوف أثينا امتهن الفلسفة كعلاج للنفوس ولم يشأ أن يدونها فتظل حبيسة الكتب، وهو بمثل هكذا فعل لم يساعد معاصريه بل ساعد ويساعد البشرية جمعاء إلى يومنا هذا، إذ أنه بإمكاننا دائما أن نعود إلى فلسفته، ونستنير بها في فهم بعض معضلاتنا في أفق إيجاد حلول ممكنة لها، كما يمكننا أن نستعين بمنهجه في تكريس الفكر النقدي داخل المجتمع.
خلاصة تركيبية:
خلاصة القول إنه بإمكاننا استثمار الفيلسوف سقراط من حيث كونه صاحب منهج في الحكمة قائم على الفحص العقلاني، وفلسفة أخلاقية تهدف إلى إرساء أخلاق مبنية على العقل لا على مرجعيات عقدية أو أعراف قبلية، أمر من شأنه أن يؤدي بنا إلى التأسيس للمواطن العقلاني المنفتح على الغير والمتسامح معه، لأنه لن يستقبل الأفكار دون فحص، وإن هو فعل ذلك سيدرك أن فكرة الإنسانية قائمة على التعدد والاختلاف. وبالتالي، سيجنح إلى التعايش مع هذا الاختلاف ولن ينظر إليه على أنه خلاف.
ونحن نزعم أن البحث في الفلسفة السقراطية لهو بحث خصب، بما يعلمنا سقراط من دروس في آداب الحوار، ودماثة الأخلاق، وسعة الصدر، وبناء الحجة، وفحص الأفكار، وفصاحة اللغة، وبلاغة الألفاظ… لذلك على باحثينا أن يعيدوا اكتشاف هذا الفيلسوف، خصوصا أن جل الدراسات السابقة لا تقدم لنا صورة واضحة عنه بحكم “التعتيم الأفلاطوني” نظرا للصعوبة أثناء الفصل بين الأستاذ والتلميذ.
لائحة المصادر والمراجع:
- أفلاطون، محاكمة سقراط، (محاورات “أوطيفرون”، “الدفاع”، “أقريطون”)، ترجمة وتقديم الدكتور عزت قرني، دار قباء الطبعة الثانية القاهرة 2001.
- أفلاطون، محاورات أفلاطون أوطيفرون. الدفاع. أقريطون. فيدون، ترجمة زكي نجيب محمود، سلسلة ميراث الترجمة العدد 1773، المركز القومي للترجمة القاهرة 2012.
- أفلاطون، محاورة فايدروس، ترجمة أميرة حلمي مطر، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2011.
- أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1970.
- إيميل برييه، تاريخ الفلسفة الجزء الأول الفلسفة اليونانية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطبع والنشر بيروت لبنان، الطبعة الأولى يونيو 1982.
- برتراند راسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، سلسة عالم المعرفة، العدد 62، الكويت فبراير 1983.
- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2012.
المراجع المستخدمة بواسطة:
أرسطو، ما بعد الطبيعة، الميم، ف 4. 1078 ب.
_______________________________
[1]– هناك من يرى بأن سؤال ما الهيولى الأولى التي جبلت منها كل شيء؟ هو من طرح أرسطو طاليس، ولما كان منهاج هذا الفيلسوف يقتضي منه عرض الآراء المختلفة للقضية التي يناقشها، فقد بحث عن إجابات محتملة لسؤاله عند الحكماء الطبيعيين. ومنه، فليس بالضرورة أن يكون سؤال ما أصل الوجود؟ هو السؤال الرئيسي الذي طرحه هؤلاء الحكماء، خصوصا إذا علمنا أنهم كانوا رجل عمل أكثر من كونهم رجال تأمل، فمن المحتمل أن بحث إجابات أخرى، قد تكون هي الأساسية عندهم، حتمت عليهم إجابة سؤال الوجود. وللاضطلاع على المزيد انظر كتاب إيميل برييه، تاريخ الفلسفة الجزء الأول الفلسفة اليونانية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطبع والنشر بيروت لبنان، الطبعة الأولى يونيو 1982، من ص 56 إلى ص 59.
[2]– وفق الديانة الأولمبية فهناك آلهة متعددة كل واحد منها صنع شيء من أشياء العالم وهو في نفس الوقت يرعاه، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإله السماء هو أورانوس زوج غايا إلهة الأرض وابنهما هو كرونوس إله الزمن، وهناك أيضا أبولون إله الشمس والمعرفة، ونجد كذلك ديونيزوس إله الجسد والغريزة، أما زوس فهو كبير الآلهة وللإشارة هو ابن الإله كرونوس.
[3]– يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2012، ص25.
[4]– أرسطو، ما بعد الطبيعة، الميم، ف 4. 1078 ب. نقلا عن إيميل برييه، تاريخ الفلسفة الجزء الأول الفلسفة اليونانية، المرجع نفسه، ص124.
[5]– أفلاطون، محاكمة سقراط، (محاورات “أوطيفرون”، “الدفاع”، “أقريطون”)، ترجمة وتقديم الدكتور عزت قرني، دار قباء الطبعة الثانية القاهرة 2001. ص 124.
[6]– يبين الدكتور عزت القرني أنه في اللغة اليونانية هناك فرق بين الادعاء العام والاتهام، فإذا كان الأول يخص الجنح التي يرتكبها المواطن في حق الدولة فإن الثاني يخص تلك التي يرتكبها المواطن في حق أحد الأفراد. ومنه، فبالرجوع إلى محاورة “أقريطون” يكون سقراط كمدعى عليه بينما يكون والد أوطيفرون كمتهم.
[7]– أفلاطون، محاكمة سقراط، المصدر نفسه، ص 112.
[8]– المصدر نفسه، ص 104.
[9]– وقد اعتاد الآثينيون على حبك مثل هذه المكائد ورمي العلماء والفلاسفة بها، فتعرض لها كل من أناكسيغراس وبروتاغراس وأرسطو لكنهم فروا ما عدا سقراط الذي قرر المواجهة.
[10]– متضمنة هذه الخطبة في محاورة الدفاع للفيلسوف أفلاطون.
[11]– بسبب واقعة حدثت في مثل هذا الشهر؛ حيث كادت تغرق السفينة التي أبحر عليها تيسيوس صحبة أربعة عشر شابا قاصدين أقريطيش، فندروا لأبولون أنه لو سلموا ليحجن إلى ديلفي مرة في كل عام تتزامن مع وقت الحادث، وما تزال تلك العادة متواصلة عند اليونانيين القدامى.
[12]– أفلاطون، محاكمة سقراط، المصدر نفسه، ص 161.
[13]– أفلاطون، محاورات أفلاطون، أوطيفرون. الدفاع. أقريطون. فيدون، ترجمة زكي نجيب محمود، سلسلة ميراث الترجمة العدد 1773، المركز القومي للترجمة القاهرة 2012، ص 180.
[14]– المصدر نفسه، ص 128.
[15]– المصدر نفسه، ص 180.
[16]– أفلاطون، محاورة فايدروس، ترجمة أميرة حلمي مطر، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2011، ص 76.
[17]– المحاورة هي عمل أدبي تتضمن شخصيات تدور بينها حوارات بخصوص قضايا مختلفة، وقد أخبرنا الفيلسوف ألكساندر كوايريه في كتابه “مدخل لقراءة أفلاطون” أن هذه المحاورات كانت تمثل فوق المسارح في زمن الإمبراطورية الرومانية.
[18]– هي أساس الفلسفة الأفلاطونية ونقطة ارتكازها ويمكن هنا الرجوع إلى كتاب برتراند راسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، سلسة عالم المعرفة، العدد 62، الكويت فبراير 1983، من ص90 إلى ص 95. للاضطلاع على تفاصيل أكثر وضوحا بخصوص الموضوع. كما يمكن للقارئ أن يعود بشكل مباشر لمحاورات أفلاطون ليضطلع على نظريته هذه ونشير هنا أنها تحضر بشكل واضح في الكتاب السابع من الجمهورية.
[19]– وردت الشهادة في كتاب أرسطو المعنون بما بعد الطبيعة، الميم، ف 4. 1078 ب. نقلا عن إيميل برييه، تاريخ الفلسفة اليونانية، المرجع نفسه، ص 124. حيث يقول فيها: “كان سقراط يبحث في الفضائل الخلقية وبمناسبتها يسعى إلى تحديد كليات، …كان يبحث في ماهية الأشياء… وكان يحاول الوصول إلى أقيسة منطقية، ومبدأ الأقيسة المنطقية ماهية الأشياء… وثمة شيئان يصح أن نعزوهما إلى سقراط وهما الاستدلال الاستقرائي والتعريف الكلي، وإنما على هاتين الدعامتين تقوم بداية العلم”.
[20]– هناك براهين أخرى غير التي أوردناها عن مصداقية وجود سقراط واقعي، أنظر على سبيل المثال لا الحصر الصفحة 89 من كتاب برتراند راسل، حكمة الغرب الجزء الأول، المرجع نفسه.
[21]– يحضران كمحاورين رئيسيين لسقراط، إلى جانب آخرين، في محاورة الجمهورية.
[22]– حكمة الغرب، المرجع نفسه، ص 81.
[23]– أفلاطون، محاكمة سقراط، المصدر نفسه، ص 40.
[24]– المصدر نفسه، ص 42.
[25] – المصدر نفسه، ص 42.
[26] – المصدر نفسه، ص 44.
[27] – المصدر نفسه، ص 44.
[28] – المصدر نفسه، ص 45.
[29] – المصدر نفسه، ص 48.
[30] – المصدر نفسه، ص 55.
[31] – المصدر نفسه، ص 56.
[32] – المصدر نفسه، ص 57.
[33] – المصدر نفسه، ص 58.
[34] – المصدر نفسه، ص 59.
[35] – المصدر نفسه، ص 60.
[36] – المصدر نفسه، ص 60.
[37] – المصدر نفسه، ص 61.
[38] – المصدر نفسه، ص 61.
[39] – المصدر نفسه، ص 63.
[40]– حيث إن أثينا لم تكن حينها تعرف فصلا بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، بل كان الدين من شأنها وكانت تعاقب كل من يثبت أنه خارج عن الدين.
[41]– أنظر المقطع الثاني ص 12.
[42]– واضح أن أوطيفرون لا يُعرف التقوى تعريفا ماهويا، بل يقدم مثالا عن فعل يظن أنه تقي، هو في ذلك مثله كمثل شخص طلبت منه أن يعرف لك الماء، وبدل أن يقول لك: هو ذرتا هدروجين وذرة أكسيجين، يقول إن الماء هو الموجود في الكأس أو القنينة أو البحر… لكن ما أدرانا أن يكون فعلا ذاك الموجود في البحر أو القنينة… ماء إذ من المحتمل أن يكون ممتزجا بمادة أخرى فلا يظل ماء. لذلك درج سقراط على رفض التعريف بالمثال وجعل غايته البحث عن تعريف يقدم تصور عقلي وكلي للمفاهيم.
[43]– هذا هو الشعار الذي كان يردده سقراط باستمرار أثناء محاوراته.
[44]– أنظر المقطع الرابع ص15.