أحدث المقالات

رصدٌ ومقارنة

د. الشيخ غلام حسين أعرابي(*)

ترجمة: حسن الهاشمي

صورة المسألة

هناك أسئلةٌ بشأن التفسير الروائي عند الشيعة، وعند أهل السنّة، لم تتمّ الإجابة عنها بالشكل المناسب حتّى هذه اللحظة، من قبيل:

ـ هل حظي التفسير الروائي عند الشيعة وأهل السنّة بدرجةٍ واحدة من الاهتمام؟

ـ ما هي آراء الشيعة والسنّة بشأن مقدار الاستفادة من الروايات التفسيرية؟

ـ ما هو حجم الروايات التفسيرية من وجهة نظر الشيعة وأهل السنّة؟

ونسعى في هذا المقال إلى دراسة هذه الأسئلة بشكلٍ مقارن، من خلال الاستناد إلى نظريات الفريقين.

كانت كلتا الفرقتين حتّى ما قبل رحيل رسول الله| ترجع إليه في تفسير القرآن؛ وأما بعد رحيله فقد شكّلت إحدى هاتين الفرقتين اتّجاهاً في التفسير، وذهبت الأخرى إلى اتّجاهٍ آخر؛ إذ ذهبت منهما فرقة إلى القول بأعلمية أهل البيت^، ويرَوْنهم وحدهم الأهل لتفسير القرآن الكريم، ويستندون في ذلك إلى وصايا النبي الأكرم| بشأنهم، ومن ذلك قوله: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ؛ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»([1]).

وقوله|: «عَلِيٌّ مَعَ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ، لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»([2]).

ومن هنا قال بعض المحقِّقين من أهل السنة: «يمكن القول بالاستناد إلى هذا الحديث: إنّ عليّاً× أعلم الناس بتفسير القرآن»([3]).

وذهب الفريق الآخر إلى نظرية الخلافة، ومنهم: أبو بكر وعمر، إلى التأكيد على عدم نقل الحديث، متمسكين بالخشية من الاختلاف في أحاديث النبي|؛ إذ نقل عن الخليفة الأول أنه قال: «إنكم تحدِّثون عن رسول اللهﷺ أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمَنْ سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فاستحلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه»([4]). وعن الخليفة الثاني قوله: «أقلّوا الرواية عن رسول اللهﷺ، إلاّ في ما يُعْمَل به»([5]).

وقال بعض المحقّقين في هذا الشأن: «إن هذا الإعراض ـ بل والمنع من تفسير القرآن ـ بين بعض الصحابة شاع بعد رحيل رسول الله|، ثم اتّسعت دائرته في عصر التابعين، ونتيجةً لذلك حيل بين الناس وبين التدبُّر في آيات القرآن، مكتفين من ذلك بصرف تلاوة كتاب الله»([6]).

وعلى الرغم من الترويج لهذا الاتجاه، إلاّ أن العلماء المسلمين ـ الأعمّ من الشيعة والسنّة ـ لم يجدوا بُدّاً من الرجوع إلى الروايات التفسيرية، والاهتمام بجمعها، واشتغلوا بتأليف التفاسير على أساس الروايات. بَيْدَ أن المفسِّرين لم يكونوا على رأي واحد في ما يتعلَّق بالتعاطي مع الروايات التفسيرية، ويمكن بيان توجّهاتهم في مجال التفسير الروائي، ودراستها ضمن العناوين التالية:

1ـ اهتمام الفريقين بالروايات التفسيرية

بغضّ النظر عن بعض الصحابة الذين منعوا من رواية وتدوين الحديث، نجد اهتماماً ملحوظاً بنقل الحديث من قبل العلماء والمحدّثين ـ من الفريقين ـ، ولا سيَّما بعد رفع المنع. وتكفي نظرةٌ عابرة على آثار التفسير الروائي المأثورة عن الصحابة والتابعين، وجمعها لاحقاً ضمن المؤلَّفات التفسيرية، لتثبت اهتمام الفريقين بالتفسير الروائي بشكلٍ واضح([7]). ومن هذا الاهتمام تبلورت المدارس التفسيرية في المدينة المنورة ومكّة المكرّمة والكوفة([8]).

 2ـ أنواع الروايات التفسيرية من حيث المحتوى

كان المفسِّرون ينقلون الروايات التفسيرية ضمن بيان معنى الآيات، دون تصنيفها في تبويب خاصّ. غاية ما هنالك يبدو أن هذه الروايات تنقسم إلى عدّة أقسام، ومن أهمها: الروايات التوضيحية، وروايات شأن النزول، وروايات التنزيل والتأويل، وقد أضاف العلامة الطباطبائي نوعاً آخر من الروايات التفسيرية أطلق عليه مصطلح (روايات الجَرْي والتطبيق).

ومراده من «الجَرْي» تطبيق المفهوم العام على مصاديقه، وقد اقتبس سماحته هذا المصطلح من روايات الجَرْي: «إن القرآن يجري كما يجري الشمس والقمر»، وقال في شرح ذلك: «القرآن الكريم كتابٌ دائم لكل الأزمان، وتسري أحكامه على كل الناس، فيجري في الغائب كما يجري في الحاضر، وينطبق على الماضي والمستقبل كما ينطبق على الحال. مثلاً: الآيات النازلة في حكمٍ على أحد المؤمنين بشروط خاصّة في عصر النبوّة يسري ذلك الحكم على غيره لو توفَّرت تلك الشروط في العصور التالية أيضاً، والآيات التي تمدح أو تذمّ بعض مَنْ يتحلى بصفات ممدوحة أو مذمومة تشمل مَنْ يتحلى بها ممَّنْ لم يعاصر النبيّ|.

فإذن مورد نزول آيةٍ ما لا يكون مخصِّصاً لتلك الآية نفسها، ونعني بذلك لو نزلت في شخصٍ أو أشخاص معينين لا تكون الآية جامدةً في ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص، بل تسري في كل مَنْ يشترك مع أولئك في الصفات التي كانت مورداً لتلك الآية. هذا هو الذي يُسمّى في ألسنة الأحاديث بـ «الجَرْي». قال الإمام الباقر×، في حديثه للفضيل بن يسار عندما سأله عن هذه الرواية: ما في القرآن آيةٌ إلاّ ولها ظهرٌ وبطن، وما فيها حرف إلاّ وله حدٌّ، ولكل حدّ مطّلع، ما يعني بقوله: ظهر وبطن؟ قال×: ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعدُ، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيءٌ وقع…، الحديث. وفي بعض الأحاديث يعتبر بطن القرآن يعني انطباقه بموارد وجدت بالتحليل، مثل: الجَرْي»([9]).

وعلى أيّ حالٍ يمكن تقسيم الروايات التفسيرية ـ بلحاظ المحتوى ـ إلى الأقسام التالية:

أـ الروايات التوضيحية: إن المراد من هذه الروايات هو الروايات الواردة في شرح مفردةٍ أو جملة أو مضمون آيةٍ، من قبيل: تفسير «الرفث» بالجماع، و«الفسوق» بالكذب، و«الجدال» بالقسم بصيغة: «لا والله»، و«بلى والله»([10]).

إن هذا النوع من الروايات يلعب دورا كبيراً في فهم مراد الله؛ لأن شرح المفردات لا يتوقَّف على العرف واللغة فقط، بل قد يستند في بعض الموارد إلى الروايات التفسيرية. فربما كان لبعض الكلمات عدّة معانٍ في العرف واللغة، وتكون الروايات وحدها هي التي تستطيع تحديد المعنى المراد من بين تلك المعاني. ومن ذلك، على سبيل المثال: مفردة «الرفث» التي تطلق في اللغة العربية على الفاحش من القول والسباب، وتطلق مجازاً في معنى الجماع أيضاً([11]). والمنقول في تفاسير الفريقين أن المراد من «الرفث» في الآية هو الجماع.

ب ـ روايات شأن النزول: إن المراد من هذه الروايات هي تلك التي تبين واقعة أو عملاً أو سؤالاً، نزلت الآية أو الآيات بشأنه أو بسببه. ومن ذلك، على سبيل المثال: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)، فقد صرَّح أغلب المفسِّرين أن هذه الآية قد نزلت في شأن تصدُّق الإمام عليّ× بخاتمه أثناء ركوعه في الصلاة([12]).

ج ـ روايات الجري والتطبيق: وهي الروايات التي تعمل على تطبيق المضمون العامّ للآيات على مصاديقها، وليس من الضروري أن تبين جميع المصاديق، وإنما تبيّن أكمل المصاديق وأتمّها([13])، من قبيل: ما رُوي عن ابن عبّاس أنه قال: «ما أنزل الله آية في القرآن الكريم يقول فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلاّ كان عليٌّ× أشرفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد| في غير آيةٍ من القرآن، وما ذكر عليّاً إلاّ بخيرٍ»([14]).

ومن قبيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (الانفطار: 13 ـ 14)، التي تمّ تطبيق «الأبرار» فيها على أئمّة أهل البيت^، و«الفجّار» على أعدائهم([15]).

إن العرف عند التدقيق يرى هذه المصاديق مشمولةً لمضامين الآيات أيضاً؛ إذ إن الكلمات في مورد الجَرْي والتطبيق تكون من المشترك المعنوي الذي يمكن أن يكون له الكثير من المصاديق. وكلمة «الظلم» من هذا النوع؛ إذ تعني الخروج عن الحدّ والحقّ ـ الأعمّ من العملي والنظري ـ، ومن هنا تمّ تطبيق «الظلم» في بعض الآيات على «الشرك»، حيث نجد عبد الله بن مسعود في روايةٍ يفسِّر الظلم الوارد في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82) بـ «الشرك»([16]).

د ـ روايات بطن القرآن: هناك في بعض الروايات حمل مصاديق على آيات من القرآن لا تتناسب معها في ظاهر العرف واللغة. ومن هنا يتم التعبير عنها بـ «روايات البطن»، من قبيل: تطبيق «الشجرة الملعونة» على بني مروان وبني أميّة، وهو أمرٌ لم يتقبَّله أغلب أهل السنّة، ويمكن أن يكون منشأ هذا الرفض منهم هو أن ظاهر العرف واللغة لا يساعد عليه.

قال الآلوسي في تفسيره، بعد ذكر الروايات الواردة في تفسير «الشجرة الملعونة»: «في عبارة بعض المفسِّرين هي بنو أميّة… ومعنى جعل ذلك فتنةً للناس جعله بلاء لهم ومختبراً، وبذلك فسَّره ابن المسيب، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا، وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفائهم منهم ممَّنْ كان عندهم عاملاً، وللخبائث عاملاً، أو ممَّنْ كان من أعوانهم كيفما كان. ويحتمل أن يكون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلاّ فتنةً…؛ باعتبار أن المراد بها بنو أميّة، ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلِّها، ومنع الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله على نبيِّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ، إلى غير ذلك من القبائح العظام، والمخازي الجسام، التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام»، ثم استطرد الآلوسي قائلاً: «وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص، كما زعمته الشيعة؛ أو على العموم، كما نقول؛ فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ﴾ (الأحزاب: 57)»([17]). وبعبارةٍ أخرى: إن تطبيق «الشجرة الملعونة» على بني أميّة هو من قبيل: بيان البطن؛ إذ لولا الروايات لما أمكن للعرف أن يصل إلى هذا المعنى بشكلٍ مستقلّ.

هـ ـ الروايات الفقهية: هناك من الآيات التفسيرية ما هو تفسيرٌ لآيات الأحكام. ويبدو أن الحاجة إلى هذه الروايات ثابتة عند الفريقين، ويشهد لذلك كثرة التأليفات التفسيرية في هذا الشأن عند الشيعة وأهل السنّة تحت عنوان: (آيات الأحكام).

3ـ المذاهب المتنوّعة في التفسير الروائي

لم يتّبع المفسرون من الفريقين منهجاً واحداً في التفسير الروائي، ولذلك ظهرت من خلال هذه الفجاج مذاهب تفسيرية متنوّعة، نبيِّنها في ما يلي:

أـ المذهب الروائي البَحْت: والمراد به منهج أولئك الذين يحظرون تفسير القرآن الكريم بغير الروايات، من أمثال: الأخباريين المتطرِّفين من الشيعة، والكثير من أصحاب الظاهر في مذهب أهل السنّة.

قال الإسترآبادي: «تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار^ بعدم جوازه [أي التفسير من غير الرجوع إلى روايات أهل البيت]؛ معلِّلاً بأنه إنما يعرف القرآن مَنْ خوطب به، وأن القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة، وأنه إنما نزل على قدر عقول أهل الذكر^، وأن العلم بناسخه ومنسوخه، والباقي على ظاهره، وغير الباقي على ظاهره، ليس إلاّ عندنا أهل البيت»([18]).

كما قال السيد البحراني، في مقدّمة تفسيره: «رأيتُ عكوف أهل الزمان على تفسير مَنْ لم يرووه عن أهل العصمة ـ سلام الله عليهم ـ، الذين نزل التنزيل والتأويل في بيوتهم، وأوتوا من العلم ما لم يُؤْتَه غيرهم، بل كان يجب التوقُّف حتى يأتي تأويله عنهم؛ لأن علم التنزيل والتأويل في أيديهم، فما جاء عنهم^ فهو النور والهدى، وما جاء عن غيرهم فهو الظلمة والعمى. والعجب كل العجب من علماء علمي المعاني والبيان، حيث زعموا أن معرفة هذين العلمين تطلع على مكنون سرّ الله ـ جلَّ جلاله ـ من تأويل القرآن… ولا رَيْبَ أن محلّ ذلك من كتاب الله ـ جلَّ جلاله ـ تحتاج معرفته إلى العلم به من أهل التنزيل والتأويل، وهم أهل البيت^ الذين علَّمهم الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي معرفة ذلك إلاّ منهم، ومَنْ تعاطى معرفته من غيرهم ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال، فأنّى تصرفون؟!»([19]).

وقد ذهب الشيخ الحُرّ العاملي إلى الاعتقاد بأن استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن منوطةٌ بالروايات التفسيرية([20]). ويبدو أن أغلب الأخباريين الشيعة يذهبون إلى تفسير القرآن في ضوء الروايات التفسيرية([21]).

وهناك مؤيِّدون لهذا الرأي بين علماء أهل السنّة أيضاً؛ إذ قال السيوطي في هذا الشأن: «قال قومٌ: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن، وإنْ كان عالماً أديباً متَّسماً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلاّ أن ينتهي إلى ما رُوي عن النبيّﷺ في ذلك»([22]).

وقال القرطبي: «ذهب بعض العلماء إلى توقُّف تفسير القرآن على السماع [عن النبيّ الأكرم|]»([23]).

وقال الشاطبي: «لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه، دون النظر في شرحه وبيانه، وهو السنّة؛ لأنه إذا كان كلياً، وفيه أمورٌ كلية، كما في شأن الصلاة والزكاة والحجّ والصوم ونحوها، فلا محيص عن النظر في بيانه»([24]).

وبذلك ندرك أن أنصار هذا الرأي يذهبون إلى القول بأن التفسير بالرأي يستند إلى ظواهر القرآن، دون الرجوع إلى الروايات التفسيرية([25]). ويبدو أن هؤلاء يفترضون أن تفسير القرآن هو من جملة مهامّ النبي الأكرم|، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44)؛ إذ يذهبون إلى القول بأن تفسير القرآن وبيانه ـ طبقاً لهذه الآية ـ هو من المسؤوليات الملقاة على عاتق رسول الله، وعليه لا يحقّ لغيره أن يتولّى مهمّة تفسير القرآن([26])؛ ومن هنا قيل: إن رسول الله| قد علَّم تفسير القرآن لأصحابه، وقام الصحابة بدورهم يعلِّمون التابعين كيفية التفسير، وبذلك تمّ جمع آلاف الروايات التفسيرية المنقولة عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين في مجال تفسير القرآن، وإن هذا العدد من الروايات يكفي للباحثين في تفسير القرآن، ومن هنا فإن العدول عن هذا المنهج في تفسير القرآن، وتجاوز المرويّ عن الصحابة والتابعين، يُعَدّ بدعةً، وإذا لم يَرِدْنا شيءٌ عن السلف الصالح بشأن بيان الآيات وجب علينا التوقُّف والسكوت([27]).

وبطبيعة الحال فإن رؤية أنصار مدرسة التفسير الروائي قد تعرَّضت للنقد من قبل الآخرين. وفي ما يلي نشير إلى بعض هذه الإشكالات والانتقادات.

ب ـ المذهب الروائي التكميلي: وهو مذهب أولئك الذين يقولون: إن الرجوع إلى الروايات في تفسير القرآن يقتصر على موارد الحاجة، فيما إذا كانت الرواية تحتاج في اكتمال صورتها ومعناها إلى الرواية، وإلاّ فإن تفسير القرآن لا ينحصر بالروايات. ولذلك فإن هؤلاء يرجعون في تفسيرهم ـ مضافاً إلى القرآن ـ إلى العلوم الأدبية والأشعار، والأصول العقلية أيضاً.

ولهذا المذهب بدوره الكثير من الأتباع من الفريقين، من أمثال: المفسِّرين الشيعة من غير الأخباريين، وعموم المفسِّرين من أهل السنّة، باستثناء المتطرِّفين من أهل الظاهر، الذين تقدَّم منّا ذكر أقوالهم.

فها هو القرطبي ـ على سبيل المثال ـ، بعد نقل أقوال أنصار مذهب التفسير الروائي البَحْت، يرفض أدلتهم، ويصفها بأنها فاسدةٌ؛ مستدلاًّ لذلك بأنهم إنْ أرادوا بذلك حظر التفسير على أحدٍ إلاّ إذا كان تفسيره على ما تقتضيه الروايات فما عساهم يقولون في مورد اختلاف الصحابة في تفسيرهم للقرآن؟ فهذا يدلّ على عدم استناد جميع أقوالهم إلى ما سمعوه من رسول الله|. وإذا كان يجب تقييد التأويل ـ مثل التنزيل ـ بالمسموع من النبيّ| فما معنى أن يدعو النبيّ لابن عباس بأن يفقِّهه الله في الدين، ويعلِّمه التأويل؟!

وبطبيعة الحال لا يخفى أن الحاجة إلى الروايات التفسيرية تمسّ؛ للحيلولة دون الوقوع في الخطأ في التفسير، وتعبيد مسار الفهم والاستنباط([28]).

وإن السيوطي، بعد نقله لنظرية أنصار المذهب التفسيري، عمد إلى نقل رؤية أولئك الذين لم يحصروا مصادر التفسير بالروايات فقط، وقالوا بضرورة الاستعانة بسائر العلوم في هذا الشأن([29]). وعلى سبيل المثال: لم يكتَفِ البغوي في تفسيره بذكر الروايات فقط، وإنما أضاف إليها آيات القرآن الكريم، وأقوال المفسِّرين أيضاً.

والشنقيطي، رغم ترتيب كتابه على أساس تفسير القرآن بالقرآن، إلاّ أنه يرى ضرورة الرجوع إلى الروايات التفسيرية في إكمال وتتميم دلالات بعض الآيات القرآن، وقال في ذلك: «من الأمور التي نتمسَّك بها في هذا الكتاب أننا إذا وجدنا ما يفسِّر الآية من نفس القرآن، دون أن يكون وافياً بالمراد، عمدنا إلى إكمال وتتميم المعنى بدلالة السنّة؛ لأن السنّة مفسِّرة للقرآن»([30]).

كما يمكن العثور على أنصار لهذه النظرية بين المفسِّرين الشيعة من الأصوليين، من أمثال: الطوسي، والطبرسي، بل وحتّى بين المفسِّرين الأخباريين منهم، من أمثال: الفيض الكاشاني، والحويزي أيضاً. قال الفيض الكاشاني: «وإنما معوَّلي فيه على كلام الإمام المعصوم من آل الرسول، إلاّ في ما يشرح اللغة والمفهوم وما إلى القشر يؤول؛ إذ لا يوجد معالم التنزيل إلاّ عند قومٍ كان ينزل في بيوتهم جبرئيل، ولا كشاف عن وجوه عرائس أسرار التأويل إلاّ مَنْ خوطب بأنوار التنزيل، ولا يتأتّى تيسير تفسير القرآن إلاّ ممَّنْ لديه مجمع البيان والتبيان. فعلى مَنْ نعوِّل إلاّ عليهم؟ وإلى مَنْ نصير إلاّ إليهم؟ لا والله لا نتَّبع إلاّ أخبارهم، ولا نقتفي إلاّ آثارهم»([31]).

وإنما يعتبر الحويزي من أنصار هذه النظرية؛ لكونه ـ بالإضافة إلى الروايات ـ يذكر الآثار الأخرى أيضاً، ولم يتعرَّض بالنقد للتفاسير غير الروائية. وقال في ذلك: «إني لما رأيت خدمة كتاب الله، والمقتبسين من أنوار وحي الله، سلكوا مسالك مختلفة؛ فمنهم مَنْ اقتصر على ذكر عربيته ومعاني ألفاظه؛ ومنهم مَنْ اقتصر على بيان التراكيب النحوية؛ ومنهم مَنْ اقتصر على استخراج المسائل الصرفية؛ ومنهم مَنْ استفرغ وسعه في ما يتعلَّق بالإعراب والتصريف؛ ومنهم مَنْ استكثر من علم اللغة واشتقاق الألفاظ؛ ومنهم مَنْ صرف همّته إلى ما يتعلَّق بالمعاني الكلامية؛ ومنهم مَنْ قرن بين فنون عديدة، أحببتُ أن أضيف إلى بعض آيات الكتاب المبين شيئاً من آثار أهل الذكر المنتجبين، ما يكون مبدياً بشموس بعض التنزيل، وكاشفاً عن أسرار بعض التأويل. وأما ما نقلتُ ممّا ظاهره يخالف لإجماع الطايفة المحقّة فلم أقصد به بيان اعتقادٍ ولا عمل، وإنما أوردتُه؛ ليعلم الناظر المطَّلع كيف نقل وعمَّنْ نقل»([32]).

ومن الجدير بالذكر أن بعض أنصار هذه النظرية، من أمثال: البغوي والحويزي، قد أولوا الروايات في تفاسيرهم أهمّية أكبر، ولذلك قد يبدو للقارئ أنهم من أنصار المذهب الروائي في التفسير، ولكنْ بعد التدقيق في كلماتهم التي أوردوها في مقدّمات تفاسيرهم، والالتفات إلى بعض المسائل غير الروائية التي ذكروها في مؤلَّفاتهم، يتّضح أن الأمر ليس كذلك.

ج ـ التفسير الروائي التأييدي: يذهب أصحاب هذه النظرية إلى القول بأن الروايات التفسيرية لا تتمتّع بالحجية في تفسير وشرح آيات القرآن الكريم. كما أنه لا حاجة إلى الروايات التفسيرية في تفسير القرآن. بل لا حاجة حتّى إلى بيان شخص النبيّ الأكرم| في هذا الشأن أيضاً. وإن المقولات التفسيرية يمكن أن تكون مجرّد مؤيّدات لما يفهمه الإنسان من آيات القرآن. ومن بين هؤلاء: العلامة الطباطبائي، والشيخ الصادقي الطهراني. فقد تحدَّث العلامة الطباطبائي في جميع مواضع تفسيره عن الروايات بوصفها مؤيّدات، وغالباً ما يعقِّب بعد نقل الرواية بعبارة: «وهذا المعنى يؤيِّد ما استفدناه من ظاهر لفظ الآية»([33]).

تقوم هذه النظرية على عدّة أصول، يمكن بيانها كما يلي:

الأصل الأوّل: إن القرآن الكريم واضحٌ في بيان مدلولاته ومعانيه، وإن بإمكان كل شخص أن يدرك معانيه من خلال التدبُّر في آياته. وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي: «عرض الروايات المنقولة عنه| على كتاب الله لا يستقيم معناها إلاّ مع كون جميع ما نقل عن النبيّ| ممّا يمكن استفادته من الكتاب، ولو توقَّف ذلك على بيان النبيّ| كان من الدَّوْر الباطل، وهو ظاهرٌ»([34]).

وقال الشيخ الصادقي الطهراني: «إن القرآن خير مَنْ يفسِّر نفسه، وإن الذين يتمسَّكون في تفسير القرآن بغير القرآن مفسدون. فعلى مَنْ يبحث في تفسير القرآن أن يبحثوا عنه في ذات القرآن، وأن يستنطقوا آياته. وإن الذهاب إلى الأساليب والمناهج التفسيرية الأخرى ذهابٌ نحو السراب، ودخول في متاهات الصحارى القاحلة»([35]).

الأصل الثاني: إن المنهج التفسيري المتَّبع من قِبَل الأئمة^ هو تفسير القرآن بالقرآن. وقد أكَّدوا للناس أن القرآن يفسِّر نفسه، ومن ذلك: قولُهم: «فإن القرآن يفسِّر بعضه بعضاً»([36])، أو «مَنْ ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم»([37]). ولازم هذا الكلام أن لا حاجة إلى الروايات التفسيرية في تفسير القرآن. ومن هنا فقد ذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره: «وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها [أي تفسير القرآن بالقرآن] على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير»([38]).

الأصل الثالث: «إن كلامهم^ جميعاً بمنزلة كلامٍ واحد، يفسِّر بعضه بعضه»([39]). والقرآن بدوره كلامٌ واحد، وعليه فإن بعضه يفسِّر بعضه الآخر أيضاً، ولذلك لا يحتاج في تفسيره إلى الروايات. وقد يَرِدُ اتّهامٌ في سورة، ويَرِدُ جوابه في سورة أخرى. فعلى سبيل المثال: ورد اتّهام النبيّ الأكرم| في سورة الحجر بالجنون، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر: 6)، وجاء الردّ على هذا الاتهام في سورة القلم؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ (القلم: 2)»([40]).

ومن الجدير بالذكر أن المستفاد من كلام العلاّمة الطباطبائي هو أنه يرى أن الروايات على ثلاثة أقسام، وهي:

الأوّل: الروايات القطعية والمتواترة. وهذه الروايات يجب القبول بها.

الثاني: الروايات غير القطعية، المخالفة للقرآن والسنّة القطعية. ولذلك لا بُدَّ من رفضها، وعدم القبول بها.

الثالث: الروايات التي لا يوجد في القرآن والعقل دليلٌ يؤيِّدها أو ينكرها([41]).

وعلى هذا الأساس فإن العلامة الطباطبائي لا يرى إلاّ القسم الثالث من الروايات صالحاً لكي يُتَّخذ منهجاً في تفسير القرآن. وقال في ذلك: «قد تبين أن المتعيِّن في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه، وتفسير الآية بالآية، وذلك بالتدرُّب بالآثار المنقولة عن النبيّ وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم».

بَيْدَ أن هذا الكلام مخالفٌ لرأي المشهور بين العلماء والمفسِّرين من الفريقين. والرأي المشهور بينهم هو ما قاله أحمد بن حنبل، من أن السنّة هي التي تفسِّر القرآن([42]).

 

 4ـ آفات الروايات التفسيرية

لقد أدّت مختلف العوامل والأسباب على طول التاريخ إلى تعرُّض الروايات التفسيرية إلى بعض الآفات. ومن هنا فإن الاستفادة منها، وتوظيفها بشكلٍ صحيح ودقيق، ليس ميسوراً بالنسبة إلى عموم الناس.

ويمكن بيان بعض هذه الآفات على النحو التالي:

أـ عدم كفاية الروايات التفسيرية: لم يتمّ نقل هذه الروايات في بيان جميع آيات القرآن الكريم. ومن هنا فإنها غير وافية بجميع آيات القرآن. فهناك لبعض الآيات الكثير من الروايات ـ الأعمّ من شأن النزول، وشرح مفردات الآيات، وبيان مضمون الآيات، وجَرْي وتطبيق الآيات على مصاديقها، وبيان المعاني الباطنية للآية ـ، وفي المقابل هناك الكثير من الآيات التي لم تَرِدْ في بيانها حتّى رواية تفسيرية واحدة. ومن الواضح أن هذه الآفة تمثِّل مشكلة كبيرة بالنسبة إلى القائلين بمذهب التفسير الروائي، ولا سيَّما أن أصحاب هذا الرأي يقولون: إذا لم يصلنا في مورد بعض الآيات تفسير عن السَّلَف أو المعصومين^ فيجب علينا أن نلتزم الصمت.

ب ـ تسلُّل الإسرائيليات بالروايات التفسيرية: لقد عمد الذين أسلموا من أهل الكتاب إلى إدخال الكثير من مأثوراتهم الدينية إلى دائرة الروايات الإسلامية، وقد أدى امتزاج تلك المأثورات بالروايات الإسلامية إلى صعوبة التمييز بين الصحيح والسقيم منها([43]).

ج ـ دسائس الزنادقة في الروايات: لقد عمد بعض غير المسلمين، من الذين كانوا يعيشون في الأوساط الإسلامية، إلى تعمُّد إقحام بعض المسائل الخاطئة ضمن الكتب الروائية، أو عملوا على إشاعتها بين عموم المسلمين مشافهةً. ومن بينها: أسطورة الغرانيق، المنقولة في كتب الفريقين([44]). فقد ذهب بعض علماء المسلمين إلى الاعتقاد بأنها من اختلاق الزنادقة([45]).

ومن بين الذين لعبوا دَوْراً كبيراً في تدليس الحديث، وإضافة الكفر والزندقة في دائرة الروايات الإسلامية، (عبد الكريم بن أبي العوجاء)؛ إذ قال عنه ابن عديّ: لما أُخذ ليضرب عنقه قال: وضعت «فيكم أربعة آلاف حديث، أحرِّم فيها الحلال، وأحلِّل فيها الحرام»([46]).

د ـ سوء فهم الرواة: الآفة الأخرى التي تصيب دائرة التفسير الروائي تكمن في خطأ الرواة في فهم المراد من الروايات. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: ما كان في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ (البقرة: 26)؛ إذ ذهب بعض الرواة إلى تفسير «البعوضة» بالإمام عليّ×، وتفسير «ما فوقها» برسول الله|.

وقد سُئل الإمام الباقر× عن هذا التفسير الوارد من بعض الرواة لهذه الآية، فقال: «سمع هؤلاء شيئاً [و]لم يضعوه على وجهه. إنما كان رسول الله| قاعداً ذات يوم، هو وعليّ×؛ إذ سمع قائلاً يقول: ماشاء الله وشاء محمد، وسمع آخر يقول: ما شاء الله وشاء عليّ. فقال رسول الله|: لا تقرنوا محمداً و[لا] عليّاً بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ ولكنْ قولوا: ماشاء الله، ثم [شاء محمد، ماشاء الله، ثم] شاء عليّ. إن مشيئة الله هي القاهرة التي لا تساوى، ولا تكافأ، ولا تدانى. وما محمد رسول الله في [دين] الله وفي قدرته إلاّ كذبابةٍ تطير في هذه الممالك الواسعة. وما عليٌّ× في [دين] الله وفي قدرته إلاّ كبعوضةٍ في جملة هذه الممالك، مع أن فضل الله تعالى على محمد وعليّ هو الفضل الذي لا يفي به فضله على جميع خلقه.. أي يقصر عنه ولا يوازيه». هذا ما قاله رسول الله| في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان، فلا يدخل في [تفسير] قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾»([47]).

هـ ـ تسلل الأساطير الجاهلية: يعتبر تأثير المعتقدات الجاهلية على الروايات التفسيرية من بين الآفات الأخرى التي تعرّضت لها هذه الروايات أيضاً؛ إذ نجد في تفاسير الفريقين من الشيعة وأهل السنّة روايةً عن ابن عباس وغيره تقول: «عن أبان بن تغلب قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الأرض على أيّ شيءٍ هي؟ قال: على الحوت، قلتُ: فالحوت على أيّ شيءٍ هو؟ قال: على الماء، قلتُ: فالماء على أيّ شيءٍ هو؟ قال: على الصخرة، قلتُ: فعلى أيّ شيءٍ الصخرة؟ قال: على قرن ثور أملس، قلتُ: فعلى أيّ شيءٍ الثور؟ قال: على الثرى، قلتُ: فعلى أيّ شيءٍ الثرى؟ فقال: هيهات، عند ذلك ضلّ علم العلماء»، وعلى بعض الروايات: (الصخرة بين قرني ثورٍ)([48]).

وقد حاول بعض العلماء توجيه هذا النوع من الروايات بشكلٍ متكلِّف. ومن ذلك: ما ذكره الشهرستاني ـ على سبيل المثال ـ بقوله: إن المراد من كون الأرض على قرن ثور هو عمارة الأرض وزراعتها؛ إذ هو رهنٌ بالحراثة، وكانت الحراثة سابقاً تتمّ بواسطة الأبقار والثيران، واليوم بمعدّات أخرى([49]).

ومن الجدير بالذكر أنه لم يبرّر سوى لقرن الثور والأرض، وسكت عن سائر المقولات الأخرى، من قبيل: الصخرة والماء والثرى والحوت وما إلى ذلك.

أرى أن هذه الحكاية تمتدّ جذورها في الأساطير الجاهلية. وممّا قيل في ذلك: إنه «سئل بعضهم عن الحكمة في اختفائهﷺ في غار ثور، دون غيره؟ فأجيب بأنه| كان يحبّ الفأل الحَسَن، وقد قيل: إن الأرض مستقرّةٌ على قرن الثور؛ فناسب استقراره| في غار ثور، تفاؤلاً بالطمأنينة والاستقرار في ما يقصده»([50]).

وبعد ذلك تمّ نقل ذات هذه الأسطورة في تفاسير أهل السنّة عن ابن عباس وغيره، وفي تفاسير الشيعة عن الإمام عليّ× والأئمة المعصومين^. ويبدو أن هذه الأسطورة قد اتّخذت شكل الرواية بالتدريج.

النتائج

1ـ لقد كان نقل الروايات التفسيرية وتداولها محظوراً في عصر الصحابة إلى حدٍّ ما، ولكننا بعد ذلك أخذنا نشهد إقبالاً تدريجياً على نقل وتدوين الروايات التفسيرية، وبذلك حصلنا على تراثٍ تفسيري معتدّ به.

2ـ لم تكن الروايات التفسيرية تحظى بمكانةٍ واحدة من قبل العلماء المسلمين؛ فبينما كان هناك من العلماء مَنْ يذهب إلى استحالة فهم القرآن بمعزل عن الروايات التفسيرية، إلاّ أن هناك في المقابل مَنْ يرى إمكانية فهم القرآن في الكثير من الآيات، ويعدّون الروايات التفسيرية مجرّد مكمِّل ومتمِّم لفهم الآيات القرآنية، ويرَوْن أن دلالة الآيات على مقاصدها مستقلّة عن الروايات، مع الإبقاء على الروايات التفسيرية في حدود المؤيِّدات. فالمصدر الوحيد عندهم في فهم القرآن هو القرآن نفسه. وبعبارةٍ أخرى: هناك مَنْ يعتبر الروايات التفسيرية هي المصدر الوحيد في تفسير القرآن، ويذهب آخرون إلى اعتبار الروايات التفسيرية أحد المصادر التفسيرية.

3ـ يُعَدّ تسلُّل الروايات الإسرائيلية، والأساطير الجاهلية، وأخطاء فهم الرواة للروايات، وغياب الروايات التفسيرية وعدم توفُّرها في جميع الآيات، يُعَدّ من أهمّ الآفات ونقاط الضعف في الروايات التفسيرية.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة قم، متخصِّصٌ في مجال العلوم القرآنيّة. له مؤلَّفاتٌ متعدِّدة.

([1]) إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم 4: 114، دار الفكر، بيروت، 1401هـ؛ محمد الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3: 160، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م.

([2]) محمد الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 3: 134.

([3]) زين الدين المناوي، التيسير بشرح الجامع الصغير 2: 146، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، 1988م.

([4]) شمس الدين الذهبي، تذكرة الحفاظ 1: 3، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.

([5]) أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني، المصنف 11: 325، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403هـ.

([6]) مجيد معارف، تاريخ عمومي حديث: 73 (مصدر فارسي).

([7]) انظر: محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعرفة، بيروت، 1412هـ؛ تفسير الثعالبي؛ حسين البغوي، معالم التنـزيل في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420هـ؛ جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت: 1993م. وانظر من بين تفاسير الشيعة: تفسير فرات الكوفي؛ السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن.

([8]) انظر: الدكتور محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسّرون 1: 96، شركة دار الأرقم، بيروت؛ محمد هادي معرفت، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 1: 316 فما بعد، الجامعة الرضوية، مشهد، 1377هـ.

([9]) العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 54 ـ 55، تعريب: السيد أحمد الحسيني، مكتبة فدك.

([10]) انظر: السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 1: 427، نشر بنياد بعثت، طهران، 1316هـ؛ عبد علي بن جمعة الحويزي، نور الثقلين 1: 427، انتشارات إسماعيليان، قم، 1415هـ؛ محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2: 155؛ جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 219، دار الفكر، بيروت، 1416هـ.

([11]) محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2: 156.

([12]) انظر: جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 3: 105؛ أبو محمد ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2: 209، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م؛ عبد الله البيضاوي، أنوار التنـزيل وأسرار التأويل 2: 339، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1418هـ؛ محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6: 289؛ جار الله الزمخشري، الكشّاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([13]) انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 54.

([14]) عبد الرحمن بن أبي حاتم، تفسير القرآن العظيم 1: 196، المكتبة العصرية، صيدا.

([15]) انظر: السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 5: 602.

([16]) انظر: أحمد بن مصطفى المراغي، تفسير المراغي 7: 178، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([17]) السيد محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم 15: 105 ـ 108، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.

([18]) محمد أمين الإسترآبادي، الفوائد المدنية والشواهد المكّية: 270، جامعة المدرسين، قم، 1424هـ.

([19]) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 1: 7 ـ 8 (المقدمة)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2008م.

([20]) انظر: الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 35، مؤسسة آل البيت، قم، 1414هـ.

([21]) انظر: محمد سعيد الحكيم، المحكم في أصول الفقه 3: 175، نشر جاويد، قم، 1414هـ.

([22]) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 477. وانظر أيضاً: صديق القنوجي، أبجد العلوم 2: 175، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.

([23]) انظر: أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1: 33، دار الشعب، القاهرة.

([24]) إبراهيم الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه 3: 369، دار المعرفة، بيروت.

([25]) انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 78، جامعة المدرسين، قم، 1417هـ.

([26]) انظر: خالد عبد الرحمن العكّ، أصول التفسير وقواعده: 168، دار النفائس، بيروت، 1406هـ.

([27]) انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 84.

([28]) انظر: أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1: 33 ـ 34.

([29]) انظر: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 477.

([30]) محمد أمين الشنقيطي، البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1: 27؛ 5: 175، دار الفكر، بيروت، 1415م.

([31]) الملا محسن الفيض الكاشاني، الأصفى في تفسير القرآن 1: 2، نشر دفتر تبليغات إسلامي، قم، 1418هـ.

([32]) عبد علي بن جمعة الحويزي، نور الثقلين 1: 2.

([33]) انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 427. وانظر أيضاً: 2: 216؛ 3: 68؛ 4: 177؛ 5: 17؛ 8: 72؛ 19: 78.

([34]) انظر: المصدر السابق 3: 85.

([35]) محمد الصادقي الطهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن 1: 16 ـ 17، انتشارات فرهنگ إسلامي، قم، 1365هـ.ش.

([36]) العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 9: 127، مؤسسة الوفاء، بيوت، 1403هـ.

([37]) المصدر السابق 89: 377.

([38]) العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 10.

([39]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 26: 67، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1367هـ.ش.

([40]) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان لعلوم القرآن 10: 595؛ تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي، دار الكتاب، قم، 1367هـ.ش.

([41]) انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 293.

([42]) انظر: أحمد البغدادي، الكفاية في علم الدراية 1: 14، بنياد بعثت، المكتبة العلمية، طهران، 1416هـ.

([43]) انظر: المقالات والآثار ذات الصلة بهذا الشأن.

([44]) انظر: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان لعلوم القرآن 7: 144؛ حسين البغوي، معالم التنـزيل في تفسير القرآن 3: 346.

([45]) انظر: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب 23: 237، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420هـ.

([46]) انظر: إبراهيم الحلبي الطرابلسي، الكشف الحثيث 1: 172، عالم الكتب، بيروت، 1407هـ.

([47]) انظر: التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري: 209 ـ 210، نشر مدرسة الإمام الهادي، قم، 1409هـ.

([48]) انظر: تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2: 58. وانظر أيضاً: محمد مظهري، التفسير المظهري 6: 123، نشر مكتبة رشدية، باكستان، 1412هـ؛ نصر بن محمد السمرقندي، بحر العلوم 2: 390، دار الفكر، بيروت.

([49]) انظر: السيد عبد الحجة البلاغي، حجة التفاسير وبلاغ الإكسير 1: 242، انتشارات حكمت، قم، 1386هـ.

([50]) انظر: أبو بكر أحمد البيهقي، دلائل النبوّة 2: 479، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985م؛ محمد الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3: 242، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً