أحدث المقالات

قراءةٌ تحليلية تقويمية مقارنة بين الإمامين:

الطوفي والخميني

حيدر حبّ الله

تمهيد

من الطبيعي أنّه عندما يتمّ التأكيد على مرجعيّة المصلحة للأحكام الشرعيّة، وأنّها التي تقف خلف هذه التشريعات كلّها، وفي الوقت عينه تغدو المصلحة معياراً لكشف الحكم الشرعي في ما لا نصّ فيه، من الطبيعي أن يأتي إلى ذهننا هذا السؤال: ماذا لو كان ما انكشف لنا من النصّ يعارض ما انكشف لنا من المصلحة؟ مَنْ هو المرجع في هذه الحال؟ هل يقدّم النصّ على المصلحة، أو العكس؟

فكرة العلاقة بين النصّ والمصلحة يفترض أن تكون تلقائيّةً في المناهج الاجتهاديّة القائمة على مرجعيّة المصلحة في بعض المساحات من جهة، وقدرة العقل على اكتشافها من جهة أخرى، لكنّنا نجد هذه القضية تظهر للعلن بشكلٍ واضح مع الإمام نجم الدين الطوفي(716هـ)، في ما طرحه حول المصلحة.

لقد تسبَّبت أفكار الطوفي في إثارة جدلٍ، ما يزال مستمرّاً إلى يومنا هذا، حول سؤال المرجعيّة بين النصّ والمصلحة؛ ففيما انتقد كثيرون ما طرحه الطوفي، حاول بعضٌ تفسير كلامه أو إرجاعه إلى معانٍ أخرى قابلة للقبول في الفضاء الإسلامي العام.

على خطٍّ آخر، لم تكن الإماميّة الاثنا عشريّة لتوافق ـ طبقاً لأصولها الفكريّة والاجتهاديّة ـ على مرجعيّة المصلحة، وخاصّةً في مواجهة النصوص، لكنّ وجهة نظرٍ ترى أنّ الفكر الإمامي شهد بداية تحوُّل هنا مع الإمام روح الله الخميني(1989م)، الذي نظّر برأيهم لمقولات الطوفي عينها في تقديم المصلحة على النصّ، وهو أمرٌ يتوقّع أن يثير جدلاً واسعاً في فضاءٍ محافظ على هذا الصعيد، مثل: الفضاء الإمامي.

سوف ندرس في هذا المقال ـ إنْ شاء الله ـ فكرةَ المرجعيّة بين النصّ والمصلحة، متناولين بالتحليل والتقويم ما قدّمه الطوفي والخميني وأنصارهما، وكذلك ما طرحه المعارضون، لنحاول ضمن هذا المشهد الخروج بموقف في هذا الموضوع بالغ الأهمّية.

المواقف والالتباسات في شخصيّة الإمام الطوفي وفكره

يصنّف الطوفي أوّل مَنْ عارض إجماع الأمّة في منع تقديم المصلحة على النصّ. وتبدو فكرته المثيرة هذه داعيةً للباحثين للغوص في شخصيّته وتاريخه، فموقفهم السلبي منه دفعهم للطعن فيه من عدّة جهات؛ تارةً من ناحية مستوى علمه وحفظه ومكانته؛ وأخرى من ناحية مذهبه، فرغم أنّه سنّي حنبلي، لكنّهم اعتبروا أنّه لم يَفِ لحنبليّته، بل خالف الحنابلة في عدّة مواضع، كما لم يَفِ لسنّيته، بل مال نحو التشيُّع، حتى قيل بأنّه مال نحو الرفض، حيث اتّهمه ابن رجب الحنبلي(795هـ) صراحةً بأنّه كان شيعيّاً منحرفاً عن السنّة([1])، وترجمه السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة([2])، وتبنّى الإمام محمد أبو زهرة وآخرون تشيُّعه([3]).

وينقل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي عن السيد عبد الحسين شرف الدين، في مقالٍ له في مجلّة العرفان، أنّه ردّ على الدكتور محمد معروف الدواليبي(2004م) في زعمه أنّ الطوفي يعبِّر عن رأي شيعي، وأنّه قال: (إنّ الطوفي من الغلاة الذين ما زالت خصومنا تحمّلنا أوزارهم). وهو ما قاله فعلاً شرف الدين في بعض كتبه([4]). ويميل البوطي إلى أنّ الرجل كان يتطوّح بين التشيُّع والتسنُّن، فلم يمشِ على قواعد الفريقين في الفقه والعقيدة([5]).

ولا أريد هنا أن أدرس شخصيّة الطوفي وتاريخه([6])، لكنْ يبدو لي أنّ خروج شخص عن قواعد المذاهب جميعها ليس بالضرورة دليلَ ضعف؛ بل قد يكون أحياناً مفتاحاً للتجديد والتنوير. وليس بعيداً أن يكون الطوفي رجلاً لم يعِشْ تقيُّداً بالمذاهب، بل كان متنوّعاً حرّاً في تفكيره، ممّا أنتج عنده حصيلةً قد تبدو خليطاً هجيناً لا ينسجم مع أيٍّ من مذاهب المسلمين، ولهذا يُنقل عنه انتقاده الشيعة في مواضع عديدة وبعنفٍ، كما يُنقل عنه انتقاداته للآخرين.

ولا أجد من الضروري تناول هذه القضية بسلبيّة ونحن نبحث مسألة المصلحة؛ لأنّ إثارة الحديث عن مذهب الرجل قد تشكّل ـ في أسلوبها وطريقتها ـ عائقاً أمام سلامة البحث وموضوعيّته. فلنفرضه انتمى لأيّ مذهبٍ، فهذا لا يعنينا، وإنّما تهمّنا هنا آراؤه وأدلّته فحَسْب.

وفي مقابل سلبيّة بعض الباحثين من الطوفي، كالشيخ البوطي، نلاحظ أنّ الشيخ محمد رشيد رضا(1935م) قام في العصر الحديث بطباعة رسالة الطوفي في مجلّة المنار؛ كي تكون ـ حَسْب تعبيره ـ تبصرةً لأولي الأبصار، كما جاء في مقدّمة رسالة الطوفي نفسها.

ويخيّل لي أنّ الموقف من رسالة الطوفي يتأثّر سلباً وإيجاباً بمَدَيات تموضع الباحث وحاجته إلى التحرّر من النصوص وهو يتعامل مع الواقع، وهو ما يرتدّ إلى إشكاليّة العلاقة بين النصّ والواقع من جهة شبه أنطولوجيّة، ومعضلة العلاقة بين النصّ والعقل من جهة إيبستمولوجيّة. فالفقيه الذي يبحث عن فكفكة المشكلات الناشئة عن تصادم الواقع (والعصر) مع النصوص قد يكون ميّالاً لمثل تفكير الطوفي، وخاصّة في ظلّ فضاءٍ نصّي مغلق وجامد، وفي سياق حاجة نهضوية للعقلانيّة؛ بينما الفقيه الذي عاش في زمن التلاعب بالنصوص لأجل الواقع وضروراته، ورأى التأثيرات السلبيّة لهذا الأمر على الهويّة الدينيّة مثلاً، تجده حَذِراً من مثل رسالة الطوفي.

إنّ الذي يحدونا لهذا التمهيد حول هويّة الطوفي وشخصيّته وانتمائه ليس سوى الإشارة إلى:

أـ ضرورة تحييد المواقف العقديّة والمذهبيّة ونحن نتعامل مع نظريّة الطوفي أو غيرها؛ حتّى لا تكون حاجزاً أمامنا عن تناول الأفكار بموضوعيّة عالية.

ب ـ إنّ شخصاً من هذا النوع يجب أن لا ننظر في أعماله من منظارٍ انتمائي، بمعنى علينا أن لا نفهمه بالضرورة مسقطين حنبليّته أو تشيُّعه ونحن نفهم نظريّته؛ لأنّه من المتوقَّع منه أن يعالج الأمور بطريقةٍ مغايرة تماماً للموروث عند المذاهب في مطالعة قضيّة المصلحة، ربما من حيث التقسيم والتعريف والاستدلال والفهم وغير ذلك. فنحن أمام عيّنة يتوقَّع منها طريقة مغايرة تماماً في تناول الأمور، وكأنّها تتحرّك ضمن بارادايم مختلف.

الطوفي ونظريّة تقديم المصلحة على النصّ، بيانٌ وتشريح

يمهّد الطوفي لفكرته بذكر الأدلّة التي يعتمدها الفقيه في الاجتهاد، ويبلغ بها تسعة عشر دليلاً، يعتبرها أدلّة الشرع، يشرع فيها بالكتاب والسنّة والإجماع، وينتهي بإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة (عند الشيعة) وإجماع الخلفاء الأربعة، كاشفاً عن كون بعضها مما هو متّفق عليه بين المذاهب؛ وبعضها الآخر مما هو مختلف فيه، ثم يستدلّ على تأصيل مرجعيّة المصلحة بحديث (لا ضرر).

وبعد هذا التمهيد يقول الطوفي: «وهذه الأدلّة التسعة عشر أقواها النصّ والإجماع. ثم هما إمّا أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها؛ فإنْ وافقاها فبها ونعمت، ولا تنازع؛ إذ قد اتفقت الأدلّة الثلاثة على الحكم، وهي: النصّ؛ والإجماع؛ ورعاية المصلحة المستفادة من قوله×: (لا ضَرَر ولا ضرار)؛ وإنْ خالفاها وجب تقديم المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدّم السنّة على القرآن بطريق البيان».

هذا النصّ هو الأكثر خطورة عند نقّاد الطوفي؛ فالطوفي هنا يعلن أنّ العلاقة بين النصّ والمصلحة تسمح للمصلحة بتخصيص النصّ. إنّه حَذِرٌ جداً من جعل المصلحة معارضة للنصّ أو حاذفة لمرجعيّته، فهو لا يقبل بذلك، لهذا فهو ينظِّر بالعلاقة بين الكتاب والسنّة، فكما أنّ السنّة تصلح لتخصيص الكتاب وتقييده وغير ذلك ممّا يسمّى بياناً له، كذلك الحال في المصلحة تصلُح لهذا الأمر عينه في علاقتها بالنصّ والإجماع، وبهذا تكون العلاقة بين النصّ والمصلحة علاقةً تفسيريّة من وجهة نظر الطوفي، وليست علاقة غالبٍ ومغلوب.

لكنّ الأمر الأكثر تحدّياً أمام الطوفي هنا هو في تقديم تصوّر معقول لبيانيّة المصلحة للنصّ أو لكون المصلحة تصلح لتخصيص النصوص أو تفسيرها، فكيف يمكن إدراج المصلحة في سياق المناهج التفسيريّة للنصوص؟ هذا الأمر يبدو حتّى الآن غير مفهوم، ولعلّ عدم فهمه ساعد على توجيه انتقادات حادّة للطوفي من قبل خصومه.

لهذا يحاول الطوفي شرح هذه الفكرة عبر القول بأنّ النصّ والإجماع إمّا لا يكون فيهما ضررٌ أو يكون، فإذا لم يكن فيهما ضرر البتّة فالأمر واضحٌ، وإذا كان فيهما ضررٌ فإنّ حديث نفي الضرر الوارد عن النبيّ يصلح للتخصيص والاستثناء؛ جمعاً بين الأدلّة.

ويواجه الطوفي نفسه هنا بتساؤل، وهو: إنّ الإجماع أقوى من المصلحة؛ لأنّ المصلحة منطلقة عند الطوفي من الفكرة التي يعطينا إيّاها حديث لا ضرر، والمفروض أنّ الحديث غير قاطع ولا يقيني، فكيف يا تُرى تقدَّمت المصلحة الآتية من حديث غير يقيني على الإجماع الذي يمثِّل يقيناً وقوّةً؟!

لكنّ الطوفي يرفض هذا الكلام كلّه بشدّة، مؤكّداً أنّ المصلحة أقوى؛ لأنّ الأقوى من الأقوى هو الأقوى.

وتبدو محاولة الطوفي حتّى الآن غير مقنعة، الأمر الذي يضطرّه للكشف عن مبرّرات أقوائيّة المصلحة من النصّ والإجماع؛ لهذا يعقد بحثاً مطوّلاً نسبيّاً حول المصلحة ومرجعيّتها، فيعرِّفها في الشرع ـ أوّلاً ـ بأنّها: «السبب المؤدّي إلى مقصود الشارع، عبارة (عبادة) أو عادة»، ثم يقوم ـ ثانياً ـ بسرد النصوص التي تؤكّد بناء الشريعة على المصالح، معتمداً ـ في عبارةٍ مختصرة ـ على الاستقراء.

إنّ تعريف المصلحة بالسبب المؤدّي إلى مقصود الشارع يجعل هناك صلةً بين نظريّة المصلحة الطوفيّة ونظريّة المقاصد؛ وهو ما أظنّ أنّه سوف يساعده في تكريس نظريّته، كما سوف نرى لاحقاً.

يواصل الطوفي محاولته عبر تأصيل فكرة المصالح، فيتحدّث عن تعليل الأفعال الإلهيّة، موافقاً على تعليلها بعللٍ غائيّة، في نزعةٍ معتزليّة واضحة عنده هنا. ثم يتكلّم عن أنّ تبعيّة الأحكام للمصالح هل هي واجبة على الله أو أنّها من باب التفضّل؟ فيراها واجبةً عليه؛ من باب أنّه أوجبها على نفسه، مقترباً في ذلك من التفكير الأشعري. ثم يخوض في تفصيل أدلّة رعاية الشريعة للمصالح، مستنداً للكتاب والسنّة والإجماع والعقل (النظر)، ليخرج بالنتيجة التالية: ما دامت الشريعة قد بُنيت على المصالح وراعتها لزم تقديم المصالح على النصّ تقديمَ بيانٍ، وليس العكس.

يبدو لنا الطوفي هنا وكأنّه؛ بمحاولته تأصيل فكرة المصلحة في بِنْية التشريعات الدينيّة، يريد أن يجعل المصلحة أشبه بالقيد اللبّي (المتّصل غير الملفوظ) في كلّ النصوص والإجماعات أيضاً، بمعنى أنّ كلّ نصٍّ؛ حيث إنّه مبنيّ على المصلحة، فكأنّه يقول: تشترط معلوميّة العوضين في البيع؛ لأنّ في المعلوميّة مصلحة، ومن ثم يدور الحكم مدار وجود هذه المصلحة حدوثاً وبقاءً. وكأنّ النصوص في نفسها مقيّدة الآن بحالة المصلحة، فإذا انتفت هذه الحالة لم يكن في النصوص إطلاق. وهذا ما يجعل الطوفي مهتمّاً كثيراً بأقوائيّة المصلحة على النصّ؛ إذ رُبَما بجعله المصلحة جزءاً من بِنْية التشريع يكون قد قيّد النصوص بالمصلحة من أوّل الطريق، فبارتفاعها تزول معطيات النصوص؛ لأنّ القيد المتّصل أقوى من المقيّد به، والقرينة مقدّمة على ذي القرينة.

بل لعلّ ما تقدّم من تعريف الطوفي للمصلحة بأنّها السبب المؤدّي إلى مقصود الشارع يساعده هنا أيضاً؛ لأنّ الفعل المدلول عليه بالنصّ وجوباً أو تحريماً صار بحيث يلزم أن يكون مفضياً إلى مقصود الشارع؛ إذ ما دامت الأحكام مبنيّة على المصالح، وما دامت المصالح مبنيّة على العلاقة السببيّة بينها وبين المقاصد الشرعيّة، فهذا يعني أنّ كلّ دليلٍ لفظي بات مقيّداً بأن يخدم سببيّة الوصول إلى المقاصد، فإذا انتفت هذه السببيّة صار الحكم مفرّغاً من مضمونه القائم عليه، وهو المصلحة. وبما أنّ المقصد هو المطلوب الأوّل فلا معنى لمطلوبيّة ما في النصّ ما دام غير قادر على إيصالنا ـ عبر المصلحة التي باتت منتفيةً فيه ـ إلى المقصد.

وهذا ما تؤكِّده عبارةٌ أخرى للطوفي في آخر رسالته، حين يقول: «المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلّفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلّة كالوسائل، والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل». رغم أنّه في التعريف اعتبر المصلحة سبباً للمقاصد، وهو هنا يعتبرها عينها.

من هنا، عاد الطوفي لتقديم المزيد من مبرّرات تقديم المصلحة على النصّ والإجماع، عبر بيان عناصر قوّة في المصلحة على الإجماع، بعد تقديمه تحليلاً نقديّاً لحجّية الإجماع، وهي:

أـ المصلحة متفقٌ عليها بين الجميع؛ بينما الإجماع ليس متّفقاً على قيمته وحجّيته، فقد خالف في ذلك جماعةٌ من المسلمين، كالنظّام وبعض الشيعة والخوارج والظاهريّة. والتمسُّك بالمتَّفق عليه أَوْلى من التمسُّك بغيره.

ب ـ النصوص مختلفة متعارضة، وهي سبب الاختلاف المذموم شرعاً؛ بينما المصلحة متّفق عليها، ونحن مأمورون بالاعتصام بعرى الوحدة وترك الفرقة.

بهذه الطريقة صوَّر لنا الطوفي أنّ مرجعيّة المصلحة توجب اتفاق الأمّة، بينما مرجعيّة النصوص والإجماع توجب اختلافهم.

ج ـ بعض النصوص والوقائع التي تدلّ على أنّ النبيّ والصحابة استخدموا تقديم المصلحة على النصّ عند التعارض، مثل: حديث النبيّ لعائشة في مسألة هدم الكعبة وبنائها على معيار إبراهيم×.

ورعاية المصلحة ليس قياساً مذموماً كقياس إبليس، ولا تعطيلاً للشريعة، بل هو تقديمُ دليلٍ أرجح على غيره، عند عدم إمكان الجمع والتوفيق، كما تمّ تقديم الإجماع على النصّ عند بعض الفقهاء.

بعد تقريره هذا المشهد يواجه الطوفي السؤال الذي يُعَدّ الأهمّ والأبرز هنا، وهو: إنّ الشريعة عالمةٌ بمصالح العباد بأفضل من علم العباد بمصالحهم، فترك أدلّة الشرع الدالّة على المصالح لصالح غيرها باطلٌ فاسد، بل هو معاندة.

وكأنّ الطوفي هنا يواجه الفكرة التي ترى أنّ ما يقوم به الآن من التنظير للمصلحة ليس سوى الاجتهاد في مقابل النصّ، والذي لا يقبل به المسلمون، فكيف يريدنا الطوفي أن نترك النصوص لصالح أمرٍ بشري، مع أنّ الشريعة أعلم بمصالحنا؟!

يستند الطوفي هنا في ردّ هذه القضيّة إلى تفويضٍ شرعي بمعياريّة فهمنا للمصلحة. فهو يعتبر أنّ الشريعة بنفسها أحالت فهم المصلحة علينا، عبر حديث لا ضرر. وبهذا تكون عمليّة ترك النصوص تابعةً للعمل بنصٍّ آخر مقدّم عليها، وهو حديث نفي الضرر. وهذا كلّه لا ينافي كون الله أعلم منّا بمصالحنا.

بهذه الطريقة جعل الطوفي ممارسته لمرجعيّة المصلحة بنفسه تطبيقاً لمرجعية نصٍّ على نصّ، فهو يفترض تقدّم حديث لا ضرر على سائر أدلّة الشرع، والمفروض أنّ تشخيص الضرر بيد المكلَّف نفسه؛ لأنّ النصوص لا تشخّص له الضرر بنحو كشف المصاديق هنا وهناك، فتعيينه للضرر يوجب تنزيل حديث نفي الضرر على الواقعة، وتجميده للأحكام الأوليّة الموجودة في النصوص ضمن تلك الواقعة.

بهذه الطريقة ينهي الطوفي تقرير فكرته، مؤكِّداً في نهايتها على أنّه لا يدّعي القطع، بل يدّعي الاجتهاد في هذه المسألة. والظنّ في الفروع حجّة. كما أنّه يؤكّد أنّه لا يخشى مخالفة فكرته للسائد، لهذا فهو يقول ـ ردّاً على مَنْ قد يطالبه باتّباع السواد الأعظم، وهو مشهور الأمّة ـ: «والسواد الأعظم الواجب اتّباعه هو الحجّة والدليل الواضح، وإلاّ لزم أن يتّبع العلماءُ العامّةَ إذا خالفوهم؛ لأنّ العامّة أكثر، وهو السواد الأعظم».

ولا ينتهي الطوفي من بحثه قبل أن يؤكِّد على فكرة أنّ ما تحدّث عنه مجالُه غير العبادات والمقدّرات الشرعيّة؛ أمّا العبادات والمقدّرات فمرجعها النصوص نفسها، شارحاً كيفيّة التعامل مع النصوص من حيث دلالاتها واختلافها وتعارضها. فمورد نظريّته الأمور غير العباديّة وغير المقدّرة في الشرع، وهي: المعاملات والسياسات والتجارات وأمثالها. ومبرّره في هذا التمييز:

أـ إنّ العبادات حقّ الشرع، ولا نعرف حقّه إلاّ منه، أمّا حقوق المكلّفين فهي لهم ولأجلهم؛ لأنّها أحكام سياسيّة وشرعيّة وضعت لمصالحهم. وحيث إنّ مرجعيّة المصلحة مقرّرة من قبل المولى سبحانه لهذا نأخذ بها هنا.

ب ـ إنّ مصالح غير العبادات معلومة للعباد بحكم العقل والعادة، فعندما لا يشرحها دليل الشرع يُعلَم أنّه يحيلها للعقول.

ولا يترك الطوفي البحث قبل أن يوضّح الموقف في حال تعدّد المصالح والمفاسد واختلافها، ليحكم بضرورة الترجيح بالأهمّية. فهو هنا ناظرٌ إلى قانون التزاحم وتقديم الأهمّ، فيشرحه ويشرح حالات التساوي بتفصيلٍ منه([7])، لا داعي للخوض فيه هنا.

هذه صورة نظريّة الطوفي وهو يوضّح لنا مراداته. وعلينا تحليلها ومقارنتها بالفضاء المحيط؛ فقد قيل بأنّ سلسلة من قواعد الاجتهاد عند الفقهاء يمكن أن تشكّل البيئة الحاضنة لنظريّة الطوفي، وأهمّها:

1ـ القول بالاستحسان بالمصلحة عند بعض المالكيّة، فهو نوعٌ من تخصيص النصّ بالمصلحة.

2ـ قاعدة بناء الشريعة على المصالح، أو قانون تبعيّة الأحكام للمصالح.

3ـ بناء الفقهاء على قاعدة تغيّر الأحكام زمكانيّاً بتأثير عنصر المصلحة([8]).

4ـ تخصيص الغزالي العمومَ بالمصلحة، حيث قال في مسألة قتل الزنديق المتستّر إذا تاب، والمخالفة للحديث الدالّ على مقاتلة الناس حتّى يشهدوا الشهادتين: «فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحةٍ في تخصيص عموم، وذلك لا ينكره أحدٌ»([9]).

ويرى هذا التحليل أنّ الطوفي بنى فكرته على هذه الأمور دون أن يشير إليها في رسالته([10])، بما يوحي وكأنّ رسالته قاصرةٌ في بيانها لفكرتها.

وإلى جانب هذا كلّه ممّا يوافق عليه بعض الباحثين، لكنّه يرى أيضاً أنّ نظريّة الطوفي هي أبلغ صورة وصل إليها تاريخ الفقه الإسلامي على المستوى المعرفي، لكنّها قوبلت بالرفض الشديد ولم يكتب لها الاستمرار([11]). ويحتمل بعض الباحثين أنّ السبب هو أنّ الطوفي كتب رسالته هذه في منفاه، ولم تكن من حوله بيئة تحتضن أفكاره، ولهذا لا نجد ذكراً لفكرته هذه حتّى عند الحنابلة والمالكيّة الذين جاؤوا بعده أو عاصروه، رغم اهتمامهم بمثل هذه القضايا واشتغالهم عليها، كابن تيمية وابن قيّم الجوزية والشاطبي وغيرهم. ورغم حضور شخصيّة الطوفي في المصنّفات اللاحقة، لكنّ نظريته هذه كانت غائبةً إلى أن أخرجها القاسمي، ثم رشيد رضا في العصر الحديث([12]).

نظريّة الطوفي ومسلسل الانتقادات والمناقشات

لم تهدأ الانتقادات على نظريّة الطوفي ـ أو كما سمّاها بعضهم: غلوّ الطوفي([13]) ـ في الفضاء السنّي، ثم الشيعي لاحقاً بدرجةٍ أخفّ. وقد كانت أبرز الانتقادات متكرّرة موحّدة بين الناقدين. وسوف نتوقّف قليلاً عند هذه الانتقادات بالتحليل، محاولين في الوقت عينه ممارسة المزيد من الحفر في نظريّة الطوفي واستجلائها أكثر فأكثر.

1ـ من تقديم المصلحة على النصّ إلى تقديم النصّ على النصّ

تعتبر هذه الملاحظة من الملاحظات المنهجيّة المهمّة، وهي ترى أنّ كلّ ما فعله الطوفي لا يبرّر تقديم المصلحة على النصّ، ولا يؤسّس لنظريّة من هذا النوع؛ لأنّ مستند الطوفي في كلّ ما قاله هو حديث نفي الضرر، وهذا يعني أنّ تجميد الأحكام الأوّلية في الشرع ليس إلاّ لأجلّ دليلٍ من النصّ نفسه، وهو حديث نفي الضرر، فما معنى القول بتقديم المصلحة على النصّ؟!([14]).

هذه الملاحظة صحيحةٌ. وفي الوقت عينه لا أظنّها تزعج الطوفي، بل هو قد صرّح بها في رسالته؛ لأنّ الفكرة المركزيّة هنا هي أنّ الطوفي يريد منح مرجعيّةٍ للفهم العقلي البشري للمصلحة، ويقدّم هذه المرجعيّة على النصّ. ومستنده في التقديم هو مرجعيّة النصّ، فكأنّه اعتبر ـ أو على الأقلّ يمكنه أن يعتبر ـ أنّ حديث نفي الضرر هو دليل حجّيةٍ، بحيث يصبح فهم المصلحة حجّةً بدليل حجّيةٍ هو حديث نفي الضرر. فأنت عندما تجعل آية النبأ دليلاً على حجّية خبر الواحد لا تقول بعد ذلك بأنّ تعارض الخبر مع الإجماع هو تعارض القرآن مع الإجماع، بل تعبِّر عنه بأنّه تعارض الخبر مع الإجماع أو مع قول الصحابيّ، وهكذا أنت تقول: أنا أعمل بالقياس وهو مصدرٌ اجتهادي، وفي الوقت عينه يكون دليل حجّية القياس عندك هو النصّ القرآني، دون أن يسلب ذلك القياسَ مرجعيّتَه القائمة به. فحديث لا ضرر هو بمثابة دليل حجّية المصلحة بفهمها البشري، وبعد تحقُّق حجّية الفهم البشري للمصلحة ـ والذي عبّر عنه الطوفي بتفويضنا فهم مصالحنا ـ تصبح العلاقة بين المصلحة والنصوص الأوّلية، وهذا ما كان يهدف إليه الطوفي.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ مرجعيّة المصلحة في وقوفها بوجه النصوص هو النصوص.

2ـ استحالة معارضة النصّ للمصلحة، أو عبثيّة الافتراض

المعضلة الثانية التي يراها الناقدون هنا هي أنّ الطوفي عقد رسالته كلّها لمعالجة فكرة معارضة النصوص للمصالح. والفرضيّة في حدّ نفسها غير معقولة؛ لأنّ الشريعة مبنيّة على المصالح، فكيف يعقل أن تُعارض المصالح؟! وبتعبيرٍ آخر: إنّ الشريعة في ذاتها جاءت لأجل تحقيق مصالح العباد، فكيف يُعقل الحديث عن فرضيّة تعارضها مع مصالح العباد لتقديم المصالح عليها؟! بل إنّ الطوفي يرفض وجود المصالح المهملة، ويرى أنّ الشريعة راعت جميع المصالح، ويقيم الأدلّة من الكتاب والسنّة وغيرهما على أنّ الشريعة راعت جميع المصالح كلّها، فكيف تسنّى له أن يجمع بين قوله هذا وبين اعتقاده بتصادم النصّ مع المصلحة؟!([15]).

إلاّ أنّ هذه الملاحظة لم تفهم في تقديري فكرة الطوفي؛ لأنّها لم تميِّز بين مقام الثبوت والشيء في نفسه، وبين مقام الإثبات والشيء بحَسَب انكشافه لنا. فالطوفي لا يشكّ في أنّ الشريعة الواقعيّة لا تعارض المصالح، بل هو سعى لإثبات ذلك. إنّما كلامه في كيفيّة اكتشاف الشريعة الواقعيّة التي لا تعارض المصالح وسُبُل الاجتهاد فيها، ولهذا فهو يقول بأنّ إطلاق الدليل ـ مثلاً ـ لو عارضه رؤيتنا لمفسدةٍ في مورده فهنا هل الشريعة تجعل إطلاق الدليل حجّةً علينا أو تقيّده برؤيتنا للمصالح والمفاسد، والتي هي رؤية حجّةٍ معتبرة بحديث لا ضرر؟ إنّ القضيّة تكمن هنا، لا في واقع الشريعة. فالإشكال خلطٌ بين مقام الثبوت ومقام الإثبات.

3ـ المصلحة من التوحيد إلى الفُرقة، أو وَهْم توحيديّة المصلحة

يسجِّل بعض الناقدين هنا ملاحظةً، يمكنني أن أوافق عليها، وهي تتّصل بمحاولة الطوفي جعل مرجعيّة المصلحة أقوى من مرجعيّة الإجماع والنصّ، انطلاقاً من الاتفاق عليها، وذلك أنّ تشخيص المصالح وتعيينها هو أمرٌ مختلف فيه كذلك، بل هو عُرضة ـ رُبَما بشكلٍ أكبر ـ للأهواء والرغبات، وليس قضيّةً واضحة للجميع حتّى تكون مدعاةً لاتّفاق الأمّة، بينما النصوص والإجماعات موجبةً للفرقة!([16]).

ولا يستطيع الطوفي هنا أن يجيبنا بأنّ الإجماع مختلفٌ في أصل حجّيته، بخلاف المصلحة؛ لأنّه استعان في إثبات تفوّق المصلحة على الإجماع بأنّ المصلحة توحّد، والنصوص؛ لتعارضها، تفرِّق، مع أنّ النصوص لا شَكَّ في أصل حجّيتها. وبهذا نفهم أنّ الطوفي كان ناظراً لتنزيل حجّية الإجماع أو النصّ على مجال الممارسة التطبيقيّة. وفي هذه الحال لا يصحّ منه زعم أنّ مرجعيّة المصلحة توحّد؛ فإنّ البشر أشدّ اختلافاً في تعيين المصالح والمفاسد، سواء على مستوى الكلّيات والمعايير أم على مستوى التطبيق الميداني.

بل ثمّة في مرجعيّة المصلحة خطورة من ناحيةٍ أخرى كان ينبغي أن يُلفت إليها الطوفي، وهي خطورة الاستغلال؛ لأنّ التذرّع بالمصالح العليا من أقوى وسائل السلطات الحاكمة للتلاعب بحقوق الناس، بل وبقضايا الدين نفسه. ولم يضع لنا الطوفي أيّ معيار يجنّبنا خطورةً من هذا النوع، بل هذه المخاطرة عندما تُلصِقُ نتائجَها بالدين تصبح مقلقةً وحقيقيّةً تماماً من الزاوية الدينيّة، ولذلك كان أمثال: القرافي وابن تيمية على حَذَر من قضيّة المصلحة عموماً.

بل حتّى على مستوى التنظير، وليس التطبيق، ليس مبدأ مرجعيّة المصلحة في الاجتهاد أمراً مجمعاً عليه. فعلى الأقلّ لبعض الشيعة والخوارج والظاهريّة موقفٌ سلبي هنا، وهذا واضحٌ. بل لو كان مجمعاً عليه فإنّ مبدأ مرجعيّة النصّ أقوى في هذا الإجماع في الأمّة من مبدأ مرجعيّة المصلحة. وإذا قصد من الإجماع على المصلحة أصل قانون تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ثبوتاً فهذا لو تمّ فيه إجماعٌ، لكنّه غير الإجماع على مرجعيّة المصلحة بوصفها وسيلةً اجتهاديّة، كما هو واضحٌ، وألمحنا إليه.

بل قد أضاف بعضُ الباحثين ـ وهو الدكتور مصطفى زيد ـ أنّ التعارض بين النصوص قضيّة واقعة في العبادات نفسها، والطوفي لا يقبل بإجراء قانون تقديم المصلحة على النصّ في العبادات، ويرى أنّ التعارض بين الأحاديث له علاجه هنا، ويقدّم فيه صيغاً علاجيّة. والإشكاليّة هي: إذا كان الطوفي يوافق على وجود مرجعيّات علاجيّة للتعارض القائم بين النصوص، ويعمل عليه في العبادات، فلماذا لا تكون هذه المرجعيّات العلاجية رافعاً للفرقة التي تقع بسبب تعارض الأخبار حتّى في غير العبادات؟! بل إنّ الطوفي في آخر رسالته يشرح الموقف في حال تعارض المصالح والمفاسد. فالمشكلة هي هي، وكما يوجد مرجعيّات علاجيّة في تعارض المصالح والمفاسد توجد كذلك في تعارض النصوص، فما الفرق بين الحالتين؟! ومن ثمّ فزعمه أنّ النصوص متعارضة، فتكون مدعاة لفرقة الأمّة؛ فيما المصلحة ليست كذلك، لا يكون له وجهٌ على الخطّين معاً([17]).

وإنّني إذ أُوافق على هذه الإضافة النقديّة، لكنْ لديّ ملاحظة على تفصيلٍ جزئيّ فيها، وهي ملاحظة تطال الطوفي والناقد معاً هنا، وذلك أنّ وجود المرجعيّات العلاجيّة لا يرفع الفرقة، لا في تعارض المصالح، ولا في تعارض النصوص؛ لأنّ الاختلاف الواسع قائمٌ تارةً في أصل وتعيين المرجعيات العلاجيّة؛ وأخرى في كيفيّة تطبيقها على الوقائع والحالات، وهذا أمرٌ نجده في التعارض المصلحي والنصّي معاً، وإنْ كان في النصّي أوضح على بعض الصُعُد.

ومن الغريب ما قاله البوطي هنا، من أنّ دعوى تعارض النصوص تعني أنّها ليست من عند الله! فكيف يدّعي الطوفي أنّ النصوص متعارضة، والمفروض أنّها من الله؟ وذلك أنّ تعارض النصوص يُقصد منه ما وصلنا من الروايات المنسوبة، لا تعارض الصادر من النصوص. فغريبٌ جدّاً من البوطي طرح هذه المداخلة النقديّة، وإلاّ فلماذا يبحث الأصوليّون والمحدِّثون وعلماء الصنعة الحديثيّة في اختلاف الأخبار وقواعد حلّ التعارض؟

وعلى أيّ حالٍ أصلُ هذه الإشكاليّة تفصيليّة بالنسبة للطوفي؛ ولو أنّه حذفها فلن تتضرّر نظريّته؛ لأنّ طريقة تقديم دليل نفي الضرر على سائر الأدلّة الأوّلية لا حاجة فيها إلى فكرة الوحدة والفرقة. علماً أنّ فكرة الوحدة والفرقة لا تمثِّل دليلاً شرعيّاً مستقلاًّ في الاجتهاد حتّى نرجّح ما يوجب الوحدة على ما يوجب الفرقة، وإلاّ لزم القول بسقوط حجّية الأخبار كلّها لما تسبِّبه النصوص الحديثيّة من اختلاف في الأمّة، كما قال بذلك الكثير من القرآنيين المتأخِّرين والمعاصرين.

أضِفْ إلى ذلك أنّ هناك فرقاً بين الخلاف في الأمّة والاختلاف؛ فاختلاف الرأي والاجتهاد رُبَما لا يسبّب مشكلةً في بعض الأحيان، بل يكون باباً للتيسير على المكلّفين؛ بينما الخلاف والصراع والنزاع وضعف آليّات الاختلاف هي المشكلة الأكبر في هذه الأمّة.

لهذا من الأفضل للطوفي التخلّي عن تقديم المصلحة على النصّ ضمن معياريّة الوحدة والفرقة، نحو ممارسة تقديم يقوم على أصول دلاليّة وهرمنوطيقيّة، استناداً إلى علاقة دليل حجّية المصلحة بأدلّة الأحكام الأوّلية، وهو ما سنتحدَّث عنه في المداخلة التالية.

4ـ علاقة النصوص الأوّلية بحديث نفي الضرر

يبدو ـ أو فُهِمَ ـ من الطوفي أنّه يريد تخصيص جميع الأدلّة الأوّلية في الشرع بحديث نفي الضرر، باعتبار أنّها عامّة في كلّ موردٍ من مواردها لحالة الضرر وغيره، فيكون حديث نفي الضرر أخصّ منها، فيخصِّصها.

إنّ علاقة حديث نفي الضرر بأدلّة الأحكام الأوّلية لا تبدو واضحة بسرعة للباحث، ويمكن تصوّرها من جهات متعدّدة لمعرفة مدى صوابية تقديم الطوفي لحديث نفي الضرر على سائر الأدلّة التفصيلية في الشرع. ويمكننا هنا ذكر بعض التخريجات المتصوّرة لشرح هذه العلاقة، والتفصيل في محلّه، وأهمّها:

التخريج الأوّل: ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين ـ ناقداً نظريّة الطوفي ـ من رفض العلاقة السلطويّة بين حديث لا ضرر والأدلّة الشرعيّة، فذكر أنّ حديث لا ضرر هو العامّ، والأدلّة التفصيليّة في المجالات المختلفة هي الخاصّ، فالمفترض أن نقول: إنّ حديث نفي الضرر يقرّر عدم وجود ضرر في الشريعة، لكنّه يخصَّص بالدليل الدالّ على وجوب العقوبات والحدود مثلاً رغم ما فيها من ضرر، وبهذا الجمع نصل إلى نتيجة تقدّم الأدلّة التفصيليّة على حديث لا ضرر، وليس العكس، خلافاً لما أراده الطوفي([18]).

لكنّ هذه المحاولة لم تلاحظ أنّ النسبة الحقيقيّة بين كلّ نصٍّ خاصّ وبين حديث نفي الضرر هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنّ النصّ الخاصّ يثبت أحكامه بالإطلاق الشامل لمورد الضرر وغيره، كوجوب الوضوء الشامل للوضوء الضرري وغيره؛ وحديث نفي الضرر ينفي الضرر في مورد هذا النصّ (الوضوء) وغيره، فتكون النسبة مما لا يقبل تخصيص أحدهما بالآخر، بل لو صحّت فرضيّة هذا المناقش هنا لكان تخصيص الدليل الشرعي التفصيلي بحال عدم الضرر وعدم الحَرَج مستحيلاً، ومن ثمّ فيلزم الإبقاء على ثبوت وجوب الصوم ولو لزم منه الضرر أو الحَرَج، وهذا غير معقول؛ لأنّه يفضي عمليّاً إلى تعطيل قانون نفي الضرر ونفي الحَرَج، إذ أين سيصبح مورد تطبيقهما في ما دلّت عليه النصوص بإطلاقها أو عمومها الشاملين لمورد الضرر والحَرَج؟!

وكأنّ المناقش هنا تصوَّر أنّ المراد هو نفي الشيء الذي يكون منه الضرر نوعاً، أو يتعنون بالعنوان الضرري نوعاً، لهذا مثَّل بالعقوبات، مع أنّ ثبوت الضرر في الشرع أعمّ من هذه الحال.

التخريج الثاني: ادّعاء أنّ تقديم حديث نفي الضرر على سائر الأدلّة مبرّره أنّ الحديث وما يحفّ به من مؤيّدات قطعي السند، فيقدّم على الأدلّة الظنّية؛ لأنّ تلك الأدلّة سوف تصبح في إطلاقها أو عمومها معارضةً لقطعيّ السنّة، والقاعدة تفرض علينا طرح ما خالف قطعيّ السنّة.

لكنّ هذه المحاولة تفترض في البداية أنّ حديث نفي الضرر وما يحيط به قطعيّ الصدور، وهذه القطعيّة محلّ خلاف شديد وغير مقنعة. نعم، أصل نفي الضرر في الجملة في الشريعة معلومٌ، أمّا وجود حديث له عموم أو إطلاق فهو أمرٌ غير محرز بشكل يقيني. بل في المقابل لو صحّ هذا التخريج فلن يتمكّن من مواجهة الأدلّة قطعيّة الصدور، كالنصوص القرآنيّة والعديد من نصوص السنّة، وسيجعل ذلك قاعدة نفي الضرر ضيّقة الدائرة، وهو ما سيلغي في كثيرٍ من الأحيان قدرتها على التأثير، وهو ما رُبَما لن يخدم نظريّة الطوفي أيضاً.

التخريج الثالث: ما أحتمل شخصيّاً أنّه هو مستند الطوفي، وقد تناوله أيضاً بعضُ الأصوليّين من الإماميّة، وهو أن يُفترض أنّ العلاقة مع حديث نفي الضرر لا ينبغي أن نجعلها مع كلّ نصّ شرعي على حِدَة، لتكون النسبة هي العموم والخصوص من وجهٍ، بل نجعلها بين الحديث وبين مجموع الأدلّة الشرعيّة، وبتغيير شكل أحد طرفي العلاقة سوف تتغيَّر النتيجة، وسوف تصبح عموماً وخصوصاً مطلقاً؛ فكأنّ حديث لا ضرر يخصّص جميع الأدلّة الشاملة لجميع الوقائع دفعةً واحدة وبما هي مجتمعةً معاً وفي قوّة نصٍّ واحد، وبهذا يكون مبرّر تقدّم حديث نفي الضرر على سائر الأدلّة هو التخصيص، كما يُفهم من الطوفي.

لكنّ هذا التخريج ناقشه السيد الخوئي بأنّه لا يوجد عندنا دليلٌ اسمه مجموع الأدلّة حتّى نوقع التعارض معه، بل ليس بأيدينا إلاّ كلّ نصٍّ قائم بذاته، فالعلاقة يجب أن تكون بين حديث نفي الضرر وكلّ نصّ على حِدَة([19]). وبعبارةٍ أخرى: إنّ اعتبار مجموع الأدلّة دليلاً واحداً فيه عنايةٌ زائدة تحتاج إلى تبرير بعد أن كان كلّ دليل هو في حقيقته دليلاً مستقلاًّ، ولا نملك تبريراً لهذه العناية الزائدة([20]).

لكنّ السيد الصدر رفض هذه المناقشة، واعتبر أنّ الشريعة لمّا نزلت بالتدريج، معلنةً ذلك في سياستها التبيينيّة، فكأنّها ترى أنّ الفاصل الزماني بين نصوصها منزّلٌ منزلة العدم، فيكون الارتباط بين حديث نفي الضرر وسائر الأدلّة بحكم الاتصال، ولولا نصب الشريعة قرينة عامّة على سياستها التدريجيّة في بيان الأحكام لما قام العرف بتقديم الخاصّ على العام مع الانفصال، فإنّ هذا لا يفهمه العرف إلاّ تعارضاً مستقرّاً ومستحكماً، وعبر هذه الطريقة تصبح العلاقة الاتّصاليّة بين حديث نفي الضرر ومجموع الأدلّة قائمةً، وبهذا يقدّم عليها بالأخصيّة([21]).

ولا أريد أن أخوض هنا في مناقشات حول هذه الفكرة؛ إذ قد يلزم منها ـ كما أفاد السيد الحائري ـ هدم الظهور؛ بسبب تحوُّل القرائن المنفصلة إلى قرائن متصلة([22])، وهذا ما يحدث ما يشبه عندهم الكارثة في الاجتهاد، وفقاً لمعايير الأصوليّين في خصائص القرينة المتصلة والمنفصلة. لكن ما أودّ التعليق عليه هنا، مكتفياً به، هو أنّ سياسة التدرّج في بيان الأحكام لا تعني الاتصال أبداً ولا ما في قوّته، ولا يوجب ذلك ربط كلّ نصّ بمجموع النصوص الشرعيّة ربطاً اتصاليّاً بالمعنى الدلالي للكلمة؛ لأنّ سياسة التدرّج لا تعني إلاّ أنّ الأحكام تأتي بشكلٍ تدريجي، والبديل الذي كان ينبغي أن يُقحمه الصدر هنا هو أنّ النصّ إذا كان في دلالته على صلةٍ بخمسة نصوص من حيث مضمونه فإنّ الفهم العرفي للنصوص يكون بمقارنته بالمجموع، لا بفصل علاقاته مع كلّ واحد على حِدَة. فلو جاء دليلٌ منفصل يتحدّث عن الضرر على المتوضئ فقال: الوضوء الضرري مرفوعٌ عنكم فإنّ العرف لا يربط هذا الحديث ربطاً منفصلاً بكلّ نصٍّ نصٍّ من نصوص الوضوء وأحكامه، فيُحدث التشظّي والتقطيع بينها، بل يربط النصّ بما يتّصل به من حيث المضمون بوصف المتّصل نصّاً واحداً، لا بجعل الحديث قرينةً متّصلة مع مجموع ما يرتبط به. فكلام السيد الخوئي والسيد الصدر معاً غير مقنع، وفي الوقت عينه يبدو أنّ فكرة نسبة حديث نفي الضرر إلى المجموع معقولة، وخاصّة مع ورود تعبير (في الإسلام) في بعض روايات حديث الضرر.

لكنْ مع هذا كلّه يبقى في النفس شيءٌ من إثبات أنّ العرف يعمد إلى ذلك، فيكون الأمر محتملاً على الوجهين، ولا مرجِّح في البين، وإنْ كانت النفس تميل إلى قيام العرف بذلك.

التخريج الرابع: ما يصبّ أيضاً في مصلحة نظريّة الطوفي، ورُبَما يكون هو المستكنّ في ذهنه. فبدل أن يذهب الطوفي إلى ممارسة التخصيص المباشر؛ لأنّ التخصيص المباشر قد لا يسمح للطوفي بتقديم حديث لا ضرر على الأدلّة الأوّلية؛ إذ النسبة بينه وبينها هي العموم والخصوص من وجه (بصرف النظر عن التخريج الثالث)، وفي هذه الحال لا موجب للتقديم، بل المتعيِّن هو التساقط…

بَدَل أن يذهب نحو ذلك، كان من الأفضل له استخدام نظريّة الحكومة التي انتصر لها ـ في علاقة لا ضرر بأدلّة التشريعات الأوّلية ـ جمهورُ أصوليّي الإماميّة في القرنين الأخيرين، طبعاً لو قبلنا بفهمهم وتفسيرهم لهذا الحديث، ووافقنا على أصل فكرة الحكومة، وكذلك بصرف النظر عن فهم الحكومة هنا وهويّتها، حيث يوجد خلافٌ بين مدرسة النائيني وغيره…، فقد اعتبروا أنّ الحديث ناظرٌ إلى مختلف الأحكام الشرعيّة، ويشير إليها، ويعلن نفي الضرر فيها، وخصوصيّة الحكومة هذه (والتي يفسِّرها بعضهم بالنظر والإشراف) هي التي تجعل حديث لا ضرر مقدّماً، وليست خصوصيّة نسبة الأخصّية؛ لعدم وجودها؛ حيث النسبة هي العموم والخصوص من وجهٍ.

وبهذا نعرف أنّه لو تمّ فهم المشهور لحديث نفي الضرر فإنّ الصحيح هو ما ذهب إليه الطوفي من تقديم حديث نفي الضرر على سائر الأدلّة الشرعيّة.

5ـ الطوفي ومفارقة التمسُّك بالإجماع ضدّ الإجماع

لاحظ بعضُ الناقدين على الطوفي أنّه اعتمد على الإجماع في إثبات تقدّم المصلحة على الإجماع؛ وذلك حين اعتبر أنّ قوّة المصلحة على الإجماع تكمن في الإجماع على مرجعيّة المصلحة، بينما الإجماع نفسه محلّ خلاف في الأمّة، وغير ذلك، والاعتماد على الأمر المتفق عليه يوجب الوحدة، فيكون أرجح من غيره، وهذا يعني أنّ الطوفي اعتمد على أمرٍ مختلف فيه ـ وهو الإجماع ـ؛ لكي يُثبت أنّ المصلحة أرجح من غيرها، وهذا نوعٌ من المفارقة([23]).

لكنّ هذا النوع من الانتقادات لا يصحّ مؤاخذة الطوفي به؛ فالطوفي يبدو عليه الاعتقاد بحجّية الإجماع. فقد استند إلى ما يعتقد هو أيضاً به. كما أنّه يبدو كونه بصدد مناقشة الرافضين لفكرته في سياق يؤمن بحجّية الإجماع ونفوذ منطقه. لهذا استخدم أدلّتهم في إثبات نظريّته، وهذا رائجٌ. لكنْ لو تمكّن الطوفي من إثبات تقدّم المصلحة على الإجماع بمعطيات متّفق عليها لكان ذلك أقوى له أيضاً.

6ـ من نقد سعة النصّ إلى نقد النصّ نفسه، هل اجتهد الطوفي في مقابل النصّ؟!

هناك تهمةٌ رائجة يتهم بها الطوفي، وهي أنّه نظّر للاجتهاد في مقابل النصّ. ونريد هنا أن ندرس هذه التهمة ونقوّمها.

في البداية، ثمّة تساؤلٌ يمكن أن يطرح نفسه هنا، وهو أنّ القاعدة التي أصّلها الطوفي في تقدّم المصلحة على النصّ هل تقف عند حدود التعامل بين دليلين ثبتت حجّيتهما، لكنّهما تنافيا في موضع مشترك؛ أو أنّ القضية تذهب أبعد من ذلك؟ وبتعبيرٍ آخر: هل تتمكّن المصلحة عند معارضتها للنصّ من تقييد النصّ وتخصيصه فقط، أو أنّ لديها القدرة على إبطال النصّ بشكلٍ تامّ وطرحه جانباً أيضاً؟

من الطبيعي أنّ هذا التساؤل سوف يفرض ثلاثة أشكال من العلاقة بين النصّ والمصلحة، هي:

الشكل الأوّل: أن تكون حجّية النصّ ثابتة نهائيّاً، وكذلك حجّية المصلحة، لكنْ يتنافيان في حالةٍ أو ظرف أو موضع معيّن، كما لو دلّ الدليل على حصر حقّ الطلاق بيد الرجل، وفي حالة كون الرجل عدوانياً معتدياً على المرأة باستمرارٍ يصبح هذا الحصر مخالفاً للمصلحة.

هنا تعني هذه المنافاة أنّ إطلاق دليل حصر حقّ الطلاق بالرجل يعارض إطلاق دليل مرجعيّة المصلحة، ومركز التعارض هي حالة عدوانيّة الرجل وإضراره بالمرأة. ومن الواضح في تقديري أنّ هذا الشكل مشمولٌ لكلام الطوفي. لكنْ كيف يعالج الطوفي مشكلةً من هذا النوع؟ نحن لا نعرف. فهل يعتبر أنّ تقدّم المصلحة على النصّ يُلزم الرجل بالطلاق، أو أنّه يذهب بها أبعد من ذلك، فيُثبت للمرأة هنا حقّ الطلاق لنفسها؟ هذا ما يحتاج لتأمُّلٍ أكثر؛ لفهم توابع نظريّته.

الشكل الثاني: أن يكون مركز التنافي مستمرّاً دائماً على طول الخطّ، وليس له حالةٌ دون حالة، غاية الأمر أنّ فترة عصر النصّ لم يكن فيها هذا التنافي قطعاً أو احتمالاً. وفي هذه الحالة يتنافى الإطلاق الأزماني للنصّ مع مرجعيّة المصلحة، ويفترض منطقيّاً أن يقول الطوفي هنا بتاريخيّة النصّ المذكور؛ انسجاماً مع قانون تقدّم المصلحة على النصّ.

وهذا الشكل وإنْ كان من أشكال الشكل الأوّل، لكننا فصّلناه لمزيد أهمّيته.

الشكل الثالث: أن يفترض أنّ النصّ بتمام حالاته وأزمنته وأوضاعه منافٍ للمصلحة. وفي هذه الحالة يفترض أن يقول الطوفي بنفي صدور النصّ. وهذا إنّما يكون عادةً في الطرق الظنّية لإثبات النصوص، مثل: أخبار الآحاد وغيرها.

لا يبدو واضحاً من الطوفي أنّه يتحدّث عن هذه الحالة، وإنْ بدا من الشيخ البوطي نسبة ذلك منه إلى الطوفي([24]). لكنّ توابع نظريّته يفترض أن تطال ذلك منطقيّاً، ومن ثمّ فيكون من شروط ثبوت حجّية الطرق الظنّية الأخرى عدم منافاتها مع المصلحة.

والسؤال: هل نظريّة الطوفي هنا تجعل العلاقة المتعاكسة بين النصّ والمصلحة من نوع علاقة التعارض أو من نوع علاقة التزاحم؟

هذا السؤال في غاية الأهمّية؛ لأنّنا لو جعلنا نظريّة الطوفي من شؤون باب التعارض بين الأدلّة فهذا يعني أنّ المصلحة تهدم إطلاق أو عموم النصوص في حالتها، أو تهدم حجّية النصّ تماماً؛ بينما لو قلنا بأنّ مرجع نظريّة الطوفي هو التزاحم فهذا يعني أنّ النصوص سالمةٌ من حيث إطلاقاتها وعموماتها، كلّ ما في الأمر أنّه في حالة تزاحم امتثال دليلين شرعيّين، هما: النصّ والمصلحة، ولا يتسنّى الجمع بين الامتثالين المذكورين، نأخذ بالأهمّ، وهو مفاد المصلحة عند الطوفي. وهذا كله على بعض النظريات في التمييز بين التعارض والتزاحم.

إذا فسّرنا العلاقة بأنّها علاقة تزاحم فيجب حذف الشكل الثالث المتقدِّم من أشكال التنافي بين النصّ والمصلحة؛ لأنّ علاقة التزاحم لا يمكنها أن تكون موجودة في حالة التنافي المطلق، فيما يبقى الشكل الأوّل، ورُبَما ـ بشيءٍ من التكلّف ـ الشكل الثاني أيضاً؛ أمّا لو قلنا بأنّ الحالة هي حالة تعارض فالأشكال الثلاثة متصوّرة.

وإذا جعلناها من نوع التعارض فما هو المرجِّح لتقديم المصلحة على النصّ؟ يجيب الطوفي هنا بأقوائيّتها، وبناء الشريعة عليها.

والراجح بالنظر أنّ الطوفي فهم الأمر على أنّه تعارضٌ. وهذا منسجمٌ مع تخريج الموقف وفقاً لنظريّة التخصيص أو الحكومة بما يفهم من كلامه. وبناءً عليه يأتي السؤال: ما هو نوع المرجِّح لتقديم المصلحة على النصّ عند التعارض، فنهدم إطلاق الدليل أو نسقط أصل حجّيته؟

ويمكن الجواب ـ انتصاراً لموقف الطوفي ـ بأنّه ما دامت الشريعة الواقعيّة مقيّدة في جميع أحكامها برعاية المصالح فهذا يعني أنّها مقيّدة ذاتاً بعدم الثبوت وعدم الشمول لأيّ موردٍ يكون على خلاف المصلحة. فإذا أدركنا المصلحة بسبيلٍ معتبر شرعاً فهذا يعني أنّ هذه الحال التي أدركنا فيها المصلحة يفترض أن تكون خارجةً عن الشريعة، وتلقائيّاً لا يكون من المعقول أنّ النصّ يشملها؛ لأنّ النصّ لا يشمل ولا يخبر إلاّ عن الشريعة الواقعيّة، المفروض أنّها مقيّدة بعدم معارضة المصلحة.

وبناءً عليه كلّ الحجج الصدوريّة والدلاليّة لا يشمل دليل حجّيتها حالة كونها معارضة للمصلحة. فمجيء دليل حجّية المصلحة على عكس مفاد النصوص يوجب تقدّمه عليها.

بل يمكن القول بأنّ الظنّ بعدم المصلحة في حالةٍ ما يوجب سقوط الظنّ بصدور الحديث أو إطلاقه وعمومه. وأدلّة حجّية الظنّ الصدوري أو الدلالي مقيّدة بعدم وجود ظنٍّ على خلافها، والمفروض وجوده هنا، فتسقط عن الاعتبار. وهذا ما ينتج تقدّم المصلحة على النصّ عمليّاً، بمعنى زوال حكم النصّ في حال الظنّ بعدم المصلحة، فضلاً عن القطع.

ولكنّ هذه العمليّة برمّتها تقوم على:

أـ أصل قدرة العقل موضوعيّاً على كشف المصلحة أو المفسدة، ولو بمستوى الظنّ.

ب ـ ثبوت كون الإدراك العقلي الظنّي للمصلحة أو المفسدة قد ثبتت له الحجّية من الشارع، حتّى في حال تعارضه مع نصوص ولو ظنّية معتبرة.

والخصوصيّة الأولى أكثر أهمّية هنا؛ لأنّها لو لم تثبت لم يكن يمكن للمصلحة فعل شيء على الإطلاق. بينما الخصوصيّة الثانية تعترف بقدرة العقل على تحصيل ظنٍّ موضوعي بالمصلحة أو المفسدة، غاية الأمر لم تثبت له الحجّية. وهذا وإنْ لم ينتج عنه حكمٌ شرعي، ومن ثمّ لا يصلح لمعارضة دليلٍ شرعي، لكنّه ـ كما رأينا ـ يمكن أن يُسقط حجّية ظنٍّ صدوري أو دلالي. وهناك فرقٌ بين سبيلٍ يثبت حكماً شرعياً؛ لأنّه سبيل حجّة، فيعارض حجّةً أخرى؛ وسبيلٍ آخر لا يثبت ذلك، لكنّه يسلب سبيلاً حجّةً عناصرَ حجّيته.

والآن لننظر: هل سعى الطوفي لإثبات هاتين الخصوصيّتين؟

الجواب بالإيجاب؛ فقد اعتبر أنّ العقل لديه قدرة معرفة المصالح في غير العبادات؛ وفي المقابل اعتبر أنّ حديث نفي الضرر يمنح شرعيّةً لهذا الإدراك العقلي عمليّاً. وبهذا كلّه نكتشف أنّ الطوفي لم يجتهد في مقابل النصّ، كما صوّره بعضُ خصومه، بل طبَّق تماماً ما يطبِّقه سائر الفقهاء عند استخدامهم حديث نفي الضرر في مجال الأضرار، لا في مجال المصالح والمفاسد؛ فهم يسمحون للعقل من جهةٍ بإدراك الضرر ولو بسبيلٍ لا يبلغ رتبة اليقين القطعي، مثل: الرجوع لأهل الخبرة؛ حيث يقبلون بقول أهل الخبرة في إثبات ضرريّة الصوم مثلاً، ثم يستخدمون حديث نفي الضرر لنفي وجوب الصوم في هذه الحال. والذي فعله الطوفي هو العمليّة نفسها، فسمح للعقل بإدراك المصلحة والمفسدة إدراكاً بالعلم العادي، ثم منح هذا الإدراك حجّيةً وتأثيراً على تقييد سائر الأحكام بحديث نفي الضرر، بعد أن فسَّره بمعنى المصلحة والمفسدة.

بل بإمكان الطوفي هنا أن يناقش الفضاء الحنبلي والمالكي عامّة، بأنّكم عندما اعترفتم بحجّية المصلحة المرسلة آمنتم بإمكان العبور من إدراك المصلحة إلى إدراك الحكم الشرعي، وعمليّة وعي المصلحة عقليّاً لا فرق فيها بين وجود نصٍّ وعدمه. فالعملية نفسها التي مارستموها في مورد الإرسال يمكنني أن أمارسها في مورد النصّ. فهل العقل هناك غير العقل هنا؟! وهل ميكانيزما الاكتشاف هناك غيرها هنا؟! أليس من المنطقيّ في فضاءٍ حنبليّ يؤمن بالمصالح المرسلة وسدّ الذرائع أن تكون المصلحة منكشفة لنا، فلماذا تنكشف لنا حال فقدان النصّ ولا تنكشف حال وجوده؟ وما هو الفارق المعرفي والوجودي هنا؟ نعم، غاية ما في الأمر أنّ النتيجة هنا سوف تعارض نصّاً، وقد رأينا أنّ معارضة نصٍّ لا تعني سوى معارضة دليلٍ لدليل آخر، فينبغي إجراء قواعد التعارض هنا، وليس سلب الوعي العقلي بالمصلحة أصلَ وجوده من الأوّل أو حجّيته، إلاّ بدليلٍ منفصل، أو بإثبات قصور دليل حجّيته عن الشمول لغير حالة الإرسال (وهو ما يمكن ادّعاؤه جزئيّاً في بعض أدلّة حجّية المصلحة).

وبهذا نكتشف أنّ الأخذ على الطوفي كونه اجتهد في مقابل النصّ غير صحيح، وخاصّة في الفضاء السنّي. والغريب أنّ بعض نقّاد الطوفي يأخذ عليه أنّ نظريّته ليست سوى تقديم نصٍّ على آخر، لا تقديم المصلحة على النصّ، كما رأينا سابقاً؛ فيما بعضٌ آخر يأخذ عليه أنّه يجتهد في مقابل النصّ! وفي ظنّي أن كلا الإشكالين غير صحيح، ولو أُريد مناقشة الطوفي فالأفضل الذهاب نحو مفروضاته وأصوله وأدلّته مباشرةً.

 

7ـ الشيخ أبو زهرة وتهمة تقديم الطوفي المصلحة على الدليل القطعي

ورغم هذا كلّه، يبدو أنّ الشيخ محمد أبو زهرة يعتبر أنّ مركز الخلاف بين الفقهاء والطوفي هو أنّ الطوفي جعل مركز التعارض قائماً بين النصّ قطعيّ السند والدلالة وبين المصلحة، لا بين النصوص الظنّية سنداً أو دلالةً وبين المصلحة، وإلاّ فمَنْ قَبْلَه قبلوا بنوعٍ من التعارض وتقديم المصلحة على النصّ في حالات الظنّ، وهذا معنى موافقة مالك على تخصيص الظنّ بالمصلحة، بل هذا معنى أنّهم يعتبرون الخبر الآحادي شاذَّ المتن عندما يعارض مصلحةً أيضاً، فلا يأخذون به([25]).

معنى هذا الكلام أنّ ما يختلف فيه المشهور مع الطوفي هو النصوص القطعية سنداً ودلالةً. وهذا ما سوف يعقِّد الموقف أمام الطوفي جدّاً، ويجعله بالفعل في مقابل النصّ! فهل صحيحٌ أنّ الطوفي يدّعي ذلك؟ ولو ادّعاه فهل يكون كلامه غريباً أيضاً، أو يمكن فرض تخريجٍ له لو صحّت أصوله ومبتنياته التحتيّة دون التورُّط في الاجتهاد في مقابل النصّ؟

وبالذهاب أكثر عمقاً في ما طرحه الطوفي يمكن أن تثار أسئلةٌ مشروعة، وهي: إنّ الطوفي حيث كان هناك إدراك للمصلحة كان لا يتعقّل حجّية النصّ؛ لأنّ النصّ مبنيٌّ على عدم معارضة المصالح، لكنّ السؤال الأكثر جدّيةً أمام الطوفي هو: كيف تسنّى للعقل أن يُدرك المصلحة وهو يرى نصّاً ـ وخاصّةً القطعيَّ منه ـ على خلاف إدراكه؟

إنّ السؤال هنا منقلبٌ على الطوفي، فبَدَل أن يقول لنا: كيف اقتنعتم بوجود حكمٍ شرعيّ مع أنّه منافٍ للمصلحة؟! نقول نحن له: كيف اقتنعت بمنافاة المصلحة في مورد وجود دلالةٍ من نصٍّ؟!

لعلّ ما يرجّح كلام أبو زهرة هو أنّ الطوفي نفسه يصرِّح بأنّه يتكلم عما هو أبعد من نظريّة المصالح المرسلة، ويبدي نفسه وكأنّه مختلفٌ عن البقيّة. لكنّ نصوص الطوفي لا تساعد على افتراض الشيخ أبو زهرة دائماً؛ فالرجل لم يُشِرْ إطلاقاً إلى فكرة النصّ القطعي، بل بالعكس تعامل مع النصوص على أنّها مبهمةٌ فيما المصلحة قاطعة، وهذا يرجِّح أنّ نظره إلى نصوص تحتمل أوجهاً أخرى، وليست قاطعة السند والدلالة.

بل ثمّة نصٌّ في رسالة الطوفي قد يكون شاهداً على عكس تفسير أبو زهرة له، حيث يقول: «وأمّا النصّ فهو إمّا متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إمّا صريح في الحكم أو محتمل. فإنْ كان متواتراً صريحاً فهو قاطعٌ من جهة متنه ودلالته، لكنْ قد يكون محتملاً من جهة عمومٍ أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعاً مطلقاً. فإنْ فُرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطعيّة من كلّ جهة، بحيث لا يتطرّق إليه احتمالٌ بوجهٍ، منعنا أنّ مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإنْ كان آحاداً محتملاً فلا قطع. وكذا إنْ كان متواتراً محتملاً، أو آحاداً صريحاً لا احتمال في دلالته بوجهٍ؛ لفوات قطعيّته من أحد طرفَيْه، إمّا متنه أو سنده»([26]).

فهذا النصّ يبدو مانعاً عن الخروج باستنتاج أبو زهرة لمقصود الطوفي. فالطوفي يرفض أن يكون النصّ القطعي من تمام جهاته مخالفاً للمصلحة، وهو بهذا لا يرى موضوعاً لنظريّته في دائرة القطعيّات النصّية، فكيف يناقشه أبو زهرة بأنّ محلّ نزاعه ليس سوى القطعيّات؟!

ولو سلّمنا أنّ الرجل يتحدّث عن النصوص القطعيّة تماماً فإنّ كلامه يظلّ يحظى بقدر من المعقوليّة في التصوير؛ وذلك أنّ الطوفي يريد أن يفتح ثغرةً في قطعية النصّ عند معارضته للمصلحة؛ لا في حجّية النصّ القطعي بعد المعارضة. فالنصّ لولا المعارضة كان قطعيّاً، لكن بمجرّد أنّه عارض مصلحةً فهذا يجعله في دائرة الإبهام، ولهذا عبّر عنه الطوفي بالمبهم. ومرجع كلام الطوفي إلى اعتباره النصوص والدلالات ذات خاصرة رخوة، بمعنى أنّها قابلة لاهتزاز اليقين بها نتيجة دخول أيّ عنصر إضافي على الخطّ، وهذا هو مسلك العديد من الهرمنوطيقيّين، بل والأصوليّين أيضاً؛ فاليقينيّة متفرّعة على رصد تمام العوامل الداخليّة والخارجيّة في النصّ، ودخول عنصر معارضة المصلحة يهدم هذه اليقينيّة، فعندما يعارض النصُّ القطعي ـ لولا المعارضة ـ المصلحةَ فهو في الحقيقة يعارض نصّاً آخر، وهو حديث لا ضرر، كما يعارض عنده الكثير من نصوص التعليلات وبناء الأحكام على المصالح، ويعارض النزعة المقاصديّة التي تجعل العبرة بالمقاصد، لا بالوسائل. فهذه العناصر المجتمعة تُحدث في النصّ القطعيّ اهتزازاً في قطعيّته، وبهذا يمكن التخلّي عن إطلاقه بعد ذلك.

لستُ أريد الانتصار للطوفي بقدر ما أريد محاولة فهمه بطريقةٍ معقولة، وإلاّ فالحديث عن إمكانات العقل سوف يأتي التعليق عليه، وهل العقل بمعارضة نصّ قطعي ـ لولا التعارض ـ يمكنه أيضاً أن يدّعي اليقين أو حتّى الظنّ في قضايا عمليّة متشابكة ومعقّدة أو لا؟

8ـ الطوفي والشيعة وفكرة النسخ والتخصيص بعد النبيّ

يتّهم الإمامُ محمد أبو زهرة الطوفـيَّ بأنّه أخذ أو التقى بفكرته التي طرحها مع الشيعة. ويشرح هذه القضيّة من خلال قوله بأنّ الشيعة يقولون بالنسخ والتخصيص للشريعة المحمَّديّة بعد وفاة النبيّ| من قبل الأئمّة، اعتماداً على الاجتهاد. وإنّ تخصيص الطوفي الشريعة بالمصلحة يلتقي مع تخصيص الشيعة لها بالاجتهاد الصادر من أئمّة أهل البيت([27]). كما يعتبر الدكتور محمد يوسف موسى أنّ نظريّة الطوفي تفتح باب النسخ بعد وفاة النبيّ|، الأمر المرفوض جملةً وتفصيلاً([28]).

ولست هنا بصدد الحديث عن مذهب الطوفي، فهذا ألمحنا له سابقاً. لكنّ ما يهمّني هو شرح فكرة الطوفي، وتصوُّر الشيعة لأئمّتهم؛ لأكتشف أنّ أبو زهرة أخطأ في فهم الاثنين معاً:

أمّا الشيعة، فلا يقولون بتخصيص الشريعة النبويّة بالاجتهاد الصادر عن أئمّة أهل البيت عبر علومٍ تلقّوها، بل هم منقسمون في هذه القضيّة:

فبضعهم لا يرى أنّ أهل البيت يقومون بإضافة أيّ شيء على الشريعة الواردة في الكتاب والسنّة، وإنّما يمارسون شرحاً لها. وانطلاقاً من عصمتهم فإنّ شرحهم لها هو الشرح مضمون الصحّة وسط شروحات المسلمين الأخرى. ووفقاً لهذا الفريق لا يوجد تخصيص ولا نسخ للقرآن، ولا للسنّة النبويّة.

أمّا الفريق الآخر، فرغم كونه يعتقد بأنّ الأئمّة لديهم ولايةٌ تشريعيّة، وكأنّهم يقبلون بأنّ الشريعة لم تصدر لعموم الناس كلّها، لكنّهم يعتقدون بأنّ الجزء المتبقّي من الشريعة قد اختصّ النبيّ أو الله سبحانه وتعالى به أهل البيت؛ لكي يبيِّنوه للناس بالتدريج. فالمخصِّص الصادر من أحد أئمّة أهل البيت ليس منطلقاً من الاجتهاد، كما تصوّر أبو زهرة، بل هو مأخوذٌ من النبيّ أو الإلهام الإلهي، وهو جزءٌ من الشريعة المحمَّدية من الأصل، غاية الأمر أنّ البيان له قد تأخّر إلى ما بعد وفاة النبيّ.

وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل، وقلنا بأنّ أهل البيت ليس لهم ولاية تشريعيّة، بل همّ شُرّاحٌ للكتاب والسنّة. نعم، لهم ولايةٌ تدبيريّة على مستوى إدارة السياسة الشرعيّة([29]).

2ـ وأمّا الطوفي، فالرجل لا يقول بنسخ الشريعة بالمصلحة ولا بتخصيصها بها بعد وفاة النبيّ، بل كلّ ما يراه أنّ حديث نفي الضرر أصّل لمرجعيّة معرفيّة جديدة هي المصلحة. وهذا يعني أنّه كلّما خالف النصّ المصلحة انكشف أنّه ليس فيه إطلاق شامل لهذه الحال، أو أنّ إطلاقه غير حجّة. وما الفرق بين طرح الحديث لشذوذ متنه بمخالفته المصلحة والمقاصد الشرعيّة وبين طرح إطلاق الحديث لشذوذه بمخالفته المصلحة الشرعيّة؟! فلماذا قبل أبو زهرة من البقية فعل ذلك في الحديث، ولم يقبل من الطوفي؟! وأمّا قصّة النصّ قطعيّ السند والدلالة فقد توقَّفنا عندها قبل قليلٍ، فلا نعيد.

فما ذكره أبو زهرة مؤاخذاً الشيعة والطوفي معاً في غير محلّه.

9ـ البوطي وتناقضات الطوفي

يلاحظ الشيخ البوطي على الطوفي وقوعه في التناقضات. ويذكر لذلك مثالين عمدة، يرى أنّه لو لاحظناهما فهما «كافيان لإسبال حجاب الإهمال على مجموع أدلّته وبراهينه التي ساقها إلى دعواه».

وهذان المثالان هما:

أـ صرّح الطوفي في بداية رسالته بأنّ أدلّة الشرع تسعة عشر، وذكر منها المصلحة المرسلة، ثم قال بأنّ أقوى هذه الأدلّة هو الكتاب والسنّة، ثم لما تحدّث عن معارضة المصلحة للكتاب والسنّة والإجماع قدّم المصلحة على النصّ والإجماع، فكيف يكون النصّ والإجماع أقوى الأدلّة، ثم تكون المصلحةُ، التي هي من سائر الأدلّة، مقدّمةً عليهما في الوقت عينه؟!

ب ـ إنّه يقول في تفسير حديث لا ضرر بأنّ معناه أنّه «لا لحوق ضرر شرعاً إلاّ بموجب خاصّ مخصِّص»، ثم بعد ذلك يجعل المصلحة مقدّمة على كلّ الأدلّة، فإذا كان هذا حال المصلحة، فمَنْ هو الذي سوف يقوم بتخصيص دليل نفي الضرر؟!([30]).

كما أخذ الدكتور مصطفى زيد على الطوفي تناقضه حين اعتبر أنّ المصلحة متَّفقٌ عليها، وفي الوقت عينه تحدّث آخر الرسالة عن تعارض المصالح والمفاسد، ليضع لها حلاًّ، فكيف تكون المصلحة متَّفقاً عليها، وتكون مثل هذه المعارضات قائمة؟!([31]).

ولكنّني أعتقد بأنّ إشكاليّة المفارقة في كلمات الطوفي غير مقنعة؛ وذلك:

أوّلاً: إنّ تهافت كلامه في موضوع أقوائيّة النصّ والإجماع على المصلحة مع قضيّة المصلحة المرسلة لا يصلح تناقضاً؛ لأنّ كلامه متّصل واضح في أنّه ما يزال بصدد التوضيح، فيوضِّح بعضه بعضاً. وإلاّ فالإشكال في محلّه، وخاصّة نتيجة ما قلناه سابقاً، من أنّ ميكانيزما الاجتهاد في المصلحة المرسلة هي بعينها في المصلحة في مورد النصّ، إلاّ إذا قال الطوفي بأنّ أقوائيّة النصّ والإجماع في مورد التعارض مع سائر الأدلّة، والمفروض أنّ المصلحة المرسلة لا موضوع لتعارضها مع النصوص؛ لأنّ موضوعها انعدام النصّ، فيرتفع الإشكال عن الطوفي.

ثانياً: إنّ المثال الثاني يشكّل نقداً قويّاً على الطوفي لو صحّ، وليس مجرّد تهافت بياني، كما في المثال الأوّل لو صحّ. لكنّ البوطي في تقديري لم يلتفت إلى مراد الطوفي. وما يوضِّح مراده هو مراجعة ما توصَّلت إليه آخر أبحاث علم أصول الفقه عند الإماميّة. فالطوفي اعتبر أنّ حديث نفي الضرر يخصِّص جميع الأدلّة الأوّلية، وفي الوقت عينه لاحظ أنّ هذا الحديث لو تمّ فسوف يواجه أدلّةً تشرِّع الضرر بكلّ صراحة، بل هي ناظرةٌ وخاصّة بقضايا الضرر، فأراد أن يفصل التشريعات الضرريّة عن التشريعات غير الضرريّة بذاتها، فجعل حديث نفي الضرر مخصِّصاً لكلّ النصوص التي تقدّم تشريعات غير ضرريّة بذاتها، كالوضوء والغسل والصلاة، فيما أخضع حديث نفي الضرر، فخصَّصه بالأدلّة الدالّة على التشريعات الضرريّة بذاتها، من نوع العقوبات والحدود، فلا يصحّ إشكال البوطي عليه.

بل نصُّ الطوفي واضحٌ في تمييزه للأمور، حين يقول متحدّثاً عن مقتضيات النصّ والإجماع ـ والغريب أنّ البوطي نقل هذا النصّ عنه أيضاً ـ: «وإنْ اقتضيا ضرراً فإمّا أن يكون الضرر مجموع مدلوليهما أو بعضه؛ فإنْ كان مجموع مدلوليهما فلا بُدَّ أن يكون من قبيل: ما استثني من قوله عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضرار، وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات؛ وإنْ كان الضرر بعض مدلوليهما فإنْ اقتضاه دليلٌ خاصّ اتّبع الدليل؛ وإنْ لم يقتضه دليلٌ خاصّ وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضرار؛ جمعاً بين الأدلّة».

فنحن نلاحظ الطوفي يميّز بين التشريعات الضرريّة بذاتها والتي تكون أدلّتها متمحّضة لما هو ضرريّ، وبين غيرها، فيخصِّص أدلّة التشريعات بلا ضرر، بينما يخصِّص لا ضرر بدليل التشريع الضرري بذاته، كالعقوبات.

وهذه هي الفكرة التي تناولها الأصول الشيعيّ لاحقاً تحت عنوان تفسير التشريعات الضرريّة في ضوء كلّية وحكومة قاعدة لا ضرر على مختلف التشريعات، وسلكوا في ذلك مسالك متعدِّدة، وكانوا بصدد رفع الوهن المتصوَّر على حديث لا ضرر من حيث كثرة التخصيصات العارضة عليه.

وبهذا يظهر أنّ الطوفي لم يتورّط في أيّ خطأ. لكنْ مع ذلك يمكننا أن نأخذ عليه هنا خلطه بين تفسير حديث نفي الضرر بالضرر بالمعنى الخاصّ، وهو النقص في النفس أو البدن أو الأطراف أو المال، وبين الضرر بمعنى المفسدة في مقابل المصلحة؛ فإنّ محاولته ترتيب العلاقة بين حديث نفي الضرر وسائر الأدلّة بنوعَيْها: المتمحّض للضرر وغيره، ينبغي أن يقوم على التفسير الخاصّ لفكرة الضرر، وهو التفسير الذي لا ينفع الطوفي في أصل نظريته في تقديم المصلحة على النصّ. أمّا لو فهمنا الضرر بمعنى المفسدة في مقابل المصلحة فإنّه لن يكون هناك تخصيصٌ لحديث نفي الضرر؛ لأنّ التشريعات الضرريّة بعنوانها، كالحدود، ليست مفسدةً، بل هي مصلحة حتّى لمَنْ يقع عليه الحدّ في كثير من الأحيان، فضلاً عن غيره. إلاّ إذا قيل بأنّ الطوفي فهم من الضرر في الحديث الأعمّ من معنى النقص والمفسدة!

 

10ـ مفارقة التخصيص بالمصلحة مع إباء النصوص عن التخصيص

هذه المداخلة قدَّمها الشيخ البوطي، حيث ذهب إلى أنّه لو فرضنا أنّ الطوفي يقصد معارضة المصلحة للنصّ بنحو التخصيص، لا بنحو النسخ، فإنّ النصوص التي بين أيدينا آبيةٌ عن التخصيص الزائد، بمعنى أنّ النصّ القرآني ونصوص السنّة والإجماع وسيرة الصحابة بأقوالهم وأفعالهم وسكوتهم وغير ذلك قد أنهى مجال التخصيص، فلو كان ثمّة تخصيصات للعمومات غير ما وصلنا فكيف سكت النبيّ والصحابة عن التخصيص، ولم يشرحوه لنا، ممّا يكشف عن أنّ هذا التخصيص غير وارد على العامّ، وإلاّ لزم من ذلك جهل الصحابة بمدلولات النصوص والقدر المراد منها، أو أنّ علينا أن نلتزم بالنسخ، وهو واضح الفساد([32]). وبعبارةٍ أخرى: إنّ كلام الطوفي معناه أنّ التخصيص مستمرٌّ في النصوص إلى يوم القيامة، ويمكن أن يطرأ عليها بشكلٍ متواصل ودَوْري.

لكنّ هذه المحاولة النقديّة غير مبرهنة في القاعدة التي تقوم عليها؛ وذلك:

أوّلاً: مَنْ قال بأنّ هذا التخصيص الذي مارسناه نحن بالمصلحة لم يصدر عن النبيّ أو الصحابة، بحيث لم يصلنا، أو لم نفهمه نحن من النصوص بعد، فهل وصلتنا كلّ تفاصيل الوقائع والأقوال التي تحقَّقت في القرن الهجريّ الأوّل؟! إنّ هذه دعوى كبيرة في أن نقول بأنّ المشهد التاريخي في قضايا تتصل بتفاصيل الأحكام والنصوص هو كلّه تحت سلطاننا ومشهودٌ واضح لنا! بل لو كان الأمر كذلك فما معنى الاجتهاد في ما لا نصّ فيه؟ وما معنى القياس والمصلحة المرسلة وسدّ الذرائع وغير ذلك؟ فكيف نلجأ إلى كلّ هذه السبل الاجتهاديّة، مفترضين أنّ نتائجها لم تصدر في الكتاب والسنّة، ولم يشرحها لنا الصحابة؟! وإذا كان النبيّ والصحابة قد وضعوا لنا معايير من نوع القياس والمصلحة المرسلة وسدّ الذرائع والاستحسان وغيرها، مكتفين بوضع المعايير في إرشادنا لمعرفة الأحكام الشرعيّة، فإنّ الطوفي بإمكانه هنا أن يدّعي أنّ الشرع قد منحنا أيضاً ـ بحديث لا ضرر ـ معياراً لنقوم بتطبيقه بأنفسنا.

ثانياً: إنّ بعض أشكال التخصيص والتقييد التي قد يدّعيها الطوفي لا موضوع لها في تلك الأزمنة حتّى تصدر فيها نصوصٌ، كما في كثير من محاولات تطبيق نظريّة المصلحة في العصر الحديث. وتكفي نظريّة الطوفي قيمةً أنّها قادرةٌ على التدخّل في الوقائع النازلة والمسائل المستحدثة التي لم يكن لها موضوع في سالف الأزمنة، ولكنّها تقع لفظاً ضمن عامّ أو مطلق. وفي هذه الحال عدمُ عثورنا على المخصّص لا يجعل النبيّ أو الصحابة مقصِّرين، ولا يسمح لنا بفرض انتهاء إمكانات التخصيص في العمومات والتقييد في المطلقات.

وعليه، فهذه الإشكاليّة الناقدة للطوفي في غير محلّها أيضاً.

11 ـ مَدَيات منطقيّة التمييز بين العبادات والمعاملات عند الطوفي

التمييز بين العبادات والمعاملات ظاهرةٌ عرفها الفقهاء المسلمون منذ فجر تاريخ الفقه الإسلامي. وغالباً ما كان ينظر للعبادات على أنّها مكانٌ مغلق أسراري غير مفهوم، فيما كانت المعاملات مسرحاً للتحليل العقلاني البشري، وكانت يدهم مبسوطة فيها أكثر. وهذا شيء نجده في أدبيّات الفقه الإسلامي إلى يومنا هذا.

الإشكاليّة تكمن في أنّ الطوفي ميَّز بين العبادات والمعاملات، باعتبار أنّ العبادات هي حقّ الله، فيما المعاملات هي شؤون بشريّة. وحقّ الله لا يُعْرَف إلاّ منه. وقد لاحظ الباحث مصطفى زيد أنّ هذا التمييز غير منطقي؛ فإذا كانت العبادات والمعاملات مبنيّة على المصالح فهي كذلك في الاثنين معاً، فلا داعي للتمييز([33]).

لكنّ الدكتور زيد لم يأخذ بعين الاعتبار ادّعاء الطوفي أنّ إمكانات العقل في العبادات ضعيفة، بخلاف المعاملات. فلم يغيّر الطوفي الموقف تبعاً للتمييز في بناء العبادات والمعاملات على المصالح، بل هو يعترف بأنّها جميعاً مبنيّة عليها، لكنّه لما أقرّ بعجز العقل عن معرفة المصالح في العبادات؛ كون العبادات حقاً إلهيّاً لا يُعْرَف إلاّ به، التزم بهذا التمييز، ومن ثم فمداخلة مصطفى زيد غير منطقيّة.

وهذا يعني أيضاً أنّ الطوفي ليست مشكلته في حكومة حديث نفي الضرر على أدلّة العبادات، بل لم أجِدْ رفضاً منه لذلك. كلّ ما في الأمر أنّ هذه الحكومة تحتاج في مقام التنزيل إلى اكتشاف المصلحة والمفسدة في العبادات، الأمر غير المتوفّر فيها. فالطوفي ليست مشكلته مع القواعد والتقعيدات، بل مشكلته ميدانيّة بامتياز هذه المرّة.

لكنْ بالعودة إلى الطوفي، هل كان منطقيّاً في تمييزه إمكانات العقل بين المعاملات والعبادات أو لا؟

أعتقد أنّ إطلاق دعوى عجز العقل عن الولوج في مجال العبادات غير مفهومة وفقاً لبناءات أمثال الطوفي، وخاصّة أنّ بعض الشواهد التاريخيّة التي ذكرها عن الصحابة لتأسيس فقه المصلحة ترتبط بالعبادات. فبعض قضايا العبادات مما يبدو واضحاً في أسراريّته، وهذا لا نشكّ فيه، لا أقلّ في كونه أسراريّاً بالنسبة إلينا إلى اليوم، وفي حدود نموّ وتطوّر عقولنا وعلومنا؛ لكنّ بعضاً آخر يُفترض بعقليّةٍ مصلحيّة، مثل: عقليّة الطوفي، أن تقبل بإمكان كشفه، وخاصّة أنّ النصوص التعليليّة العامّة والخاصّة موجودةٌ في العبادات كما هي موجودة في المعاملات، والطبيعة الغامضة في بعض المعاملات تشابه الغموض الذي في بعض العبادات. فلماذا كانت الأيّام العشرة الإضافيّة على الأشهر الأربعة في عدّة المتوفّى عنها زوجها؟! ولماذا كان استبراء الأمة بحيضةٍ واستبراء المطلّقة بالعدّة الكاملة؟! وإذا جعل الطوفي هذه الأشياء من ضمن المقدّرات الشرعية التي يريد إلحاقها بالعبادات فنحن نسأله: لماذا لم يكن الوضوء مفهوماً في سياق الدعوة إلى الدخول على الصلاة متنظِّفاً، أو لكون وضع الماء على هذه المواضع لمصلحة المزيد من التنبُّه عند الإنسان وبعض النشاط فيه؟! ولماذا لا نفهم النهي عن الرفث في الحجّ على أنّه لأجل مصلحة هجران الدنيا في هذه الرحلة الإلهيّة؟! ولماذا لا نفهم تشريع الصوم على أنّه ترويضُ النفس على الانقطاع عن شهوة البطن وتذكُّر الفقراء؟! ومن ثم لماذا لا تكون هذه مصالح مظنونة من وراء هذه العبادة؟!

إنّ تهيُّب الطوفي دخول فضاء العبادات ليس مفهوماً من الزاوية الموضوعيّة، وإنْ كان مفهوماً لي من الزاوية النفسيّة، من حيث ارتباط العبادات والطقوس بالهويّة الدينيّة. ولهذا نرى أنّ الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة(2000م) تجرّأ في ستينيات القرن العشرين ـ منطلقاً من فقه المصلحة ـ على القول بأنّ الصوم اليوم؛ حيث يضعف الاقتصاد ونحن بحاجةٍ للنهوض، وهو مصلحةٌ عالية، لزم تجميده أو تعديله على العمّال، وحاول ثني الحجيج عن الذهاب إلى مكّة؛ باعتبار ما يؤثِّره ذلك من خروج الأموال والنقود إلى الخارج وإضعاف الاقتصاد. وكونُ العبادات حقّ الله لا ينفي أن تكون جميع التشريعات حقّ الله في العباد أيضاً.

بهذا لا نفهم وجه التمييز على إطلاقه بين العبادات والمعاملات؛ بحجّة العجز عن الفهم تارةً؛ والقدرة عليه أخرى. فلم أجد إلى اليوم فقيهاً أو باحثاً قدَّم لنا مقاربة تحليليّة معمَّقة لإثبات كلّية هذا التمييز الرائج بين المسلمين.

12ـ تحدّيات العقل، هل يمكن إعادة إنتاج نظريّة الطوفي مقاصديّاً؟

كان أحد أكثر الإشكالات أهمّية على نظريّة الطوفي هو قياس درجة قدرة العقل الإنساني على اكتشاف المصالح([34])، بحيث يمكن من خلال طاقته تعطيل النصوص كلاًّ أو جزءاً. وقد سبق أن تحدّثنا عن هذا الموضوع في أكثر من مناسبة. فعن أيّ عقلٍ يحدِّثنا الطوفي والفكر الإنساني ما يزال مشغولاً منذ آلاف السنين بمعرفة المصالح من المفاسد، والخير من الشرّ؟! وها هي مذاهب الفكر الرأسمالي والليبرالي والاشتراكي والشيوعي والوجودي تتعارض وتتصارع في فهم معنى الخير والشرّ والعدالة الاجتماعيّة وما فيه صلاح الإنسان وفساده. فمتى حسمت الأمور أو كانت بهذا المستوى من الوضوح والصفاء، حتّى نوكل الأمر إلى العقل في معارضة مفاد النصوص؟!

بل حتّى على مستوى تنزيل الكلّيات العقلية على مصاديقها نحن أمام معضلات كبرى، في قضايا معقّدة اليوم على المستوى الأخلاقي. وكلّ فريق يرى السلوك الأخلاقي على طريقته. وهذا كلّه يربك مَدَيات وثوقنا بقدرة العقل على تعيين المصالح بمستوى يوقف النصوص نفسها.

إنّني أعتقد أنّ هذه الإشكاليّة هي من أقوى الإشكاليّات، وبالأخصّ في فضاء بعض النصوص الإماميّة عن أهل البيت النبويّ، والتي تعتبر أنّ العقل عاجزٌ عن الفهم في مجال الشريعة وملاكاتها. ومن ثم فنظريّة الطوفي تبقى مجرّد حالات قد تبلغ بالإنسان مستوىً عالٍ من الوثوق بتعيين المصلحة أو المفسدة، لكنّها من الصعب أن تشكِّل ظاهرةً، فضلاً عن قاعدة، ما لم نقم بالتعاون مع الطوفي في إجراء تعديل جَذْريّ لنظريّته، أو تفسير مختلف لها.

وعمليّة إعادة إنتاج نظريّة الطوفي في العصر الحديث يمكنني أن أفهمها عبر إجراء أربعة توضيحات ضروريّة:

أـ أن نفهم المصلحة على أنّها عين الأغراض العليا الشرعيّة المنصوصة أو شبه المنصوصة في الشرع، أي هي المقاصد أو روح القانون. وهذا ما تساعد عليه ـ كما رأينا ـ بعض نصوص الطوفي. وبهذا نميِّز بين مفهوم المصلحة المخارجة للشريعة والمصلحة المستنبطة منها عبر نصوص ملفوظة أو غير ملفوظة.

ب ـ أن نجعل الاستناد لحديث لا ضرر ليس تبريراً لتقديم المصلحة المنفصلة على النصّ، بل هو تبرير لنظريّة المقاصد نفسها، في تقديم المقاصد المستنبطة من الشريعة الملفوظة أو المستقرأة، على الأشكال والوسائل.

ج ـ أن نفهم تقييد المقاصد لكلّ النصوص على أنّه تقييدٌ متصل غير منفصل. فكلّ نصٍّ يحمل معه تقييداً لُبِّياً ضمنيّاً عرفناه من فهم المنظومة المقاصديّة، وهذا التقييد هو عدم معارضة مفاد هذا النصّ لمقاصد الشريعة ومصالحها العليا. فالنصوص تولد مقيّدةً، لا أنّ المصلحة المقصديّة مقيّدة بالنصّ.

وهذا التقييد هو منح أهمّية للسياقات الكلّية للشريعة على الكلمات الملفوظة في كلّ نصّ. ففصل كلّ نصّ عن السياقات الكلّية للشريعة هو الخطأ الذي يقع فيه الاجتهاد الشرعي، وذلك عندما يعتبر أنّه لا يتعامل في كلّ موضوعة ومسألة فقهيّة إلاّ مع نصوصها، بمعزل عن السياقات الزمكانيّة، وعن السياقات الكليّة للشريعة، سواء سمّيناها المقاصد أم غيرها.

وبهذا نفهم معنى قول الطوفي بأنّ تقديم المصلحة على النصّ هو تقديم وتخصيص بيان، وليس افتئاتاً على الشريعة والنصوص.

د ـ أن نعي أنّ تقديم المقاصد على النصوص، أو المصلحة على النصوص، ليس سوى تقديم الأهمّ ملاكاً على الأقلّ أهمّية. فنحن أمام نوع من التزاحم الملاكي الدائم، والنتيجة من وراء هذا التزاحم الملاكي هي انتصار الملاكات الأقوى، التي هي المقاصد والغايات والمآلات والأغراض، على الأضعف، التي هي خصوصيّات الطرق والوسائل.

عبر هذه التوليفة الرباعيّة يمكنني أن أدّعي بأنّ الطوفي لم يقُمْ سوى بالبدء بعمليّة تكوين نظريّة المقاصد بصيغتها المتطوِّرة التي تنامَتْ مع الشاطبي. وهو بهذه الطريقة يتخلَّص من أزمة قدرة العقل على تعيين المصالح؛ لأنّه يعتبر العقل هنا مجرّد أداة اجتهاديّة تطبيقيّة معاً. فالمصلحة وهويّتها وحدودها ومعاييرها يأخذها العقل من الشريعة، فيعرِّف المصالح في ضوء الشريعة وما تراه هي من مصالح وما تريده هي منها. ومن ثم لا تأتي هناك مؤاخذة الشيخ البوطي على الشيخ الطوفي بأنّ المصلحة نعرفها بهَدْي النصوص، لا من العقول([35]). أمّا في مجال التطبيق فلا يقوم سوى بإثبات أنّ هذه المصلحة الشرعيّة سوف تتعرَّض للخطر مع هذا الحكم أو ذاك. وهنا إذا وصل لرتبة اليقين بذلك فالأمر واضح، ولو كان يقيناً عادياً؛ بينما لو وصل لدرجة الظنّ فإنّ هذا الظنّ بانخرام المقصد لو تمسَّكنا بإطلاق دليلٍ هنا أو هناك سوف يؤدّي إلى سقوط الظنّ بالإرادة الجدّية للإطلاق في النصوص، ممّا يسقطها عن الحجّية لو بنينا على أنّ حجّية الظنّ الدلالي مشروطة بعدم قيام ظنّ على خلافها؛ لأنّ التطابق بين الدلالة التصديقيّة الأولى والثانية، وكذلك بينهما وبين الدلالة التصوُّرية، ليس قاعدةً عقليّة، بل هو خاضعٌ لسياقات، ومن ثم لا يمكن الأخذ بالإطلاق في هذه الحال؛ للشكّ الحقيقي في انعقاده، وعدم حصول وثوق بذلك.

وبهذا نعيد تشكيل نظريّة الطوفي بلا أيّ حَرَج، بناء على ثبوت نظريّة المقاصد. غاية الأمر أنّنا لا نوافقه على التمييز بين العبادات والمعاملات بالشكل الذي طرحه كما قلنا. وإلاّ فتقديم المصالح المخارجة للنصّ والآتية من مجرّد العقل المنفصل، دون حصول يقينٍ قاطع أو ظنٍّ معتبر بحجّية هذا الاستنتاج العقلي، ممّا لا وجه له، ولا نوافق الطوفي عليه.

وأعتقد بأنّنا لو فهمنا الطوفي على أنّه استمرار وبداية تحوّل لنظريّة المقاصد الشرعيّة، وفترة بدايات التحوّل تكون عادةً قاصرةً في الكشف عن تمام الخصوصيّات في النظريّة، فسوف يساعدنا ذلك على فهمه، وينهي النزاع بينه وبين المقاصديّين على الأقلّ. وإلاّ فبصرف النظر عن الطوفي نطرح تفسيراً لنظريّته، ولا نجد فيه كلّ تلك المشاكل التي طرحت عليه.

من الطوفي إلى الخميني، تحليل فكرة تقديم المصلحة على النصوص

يحلِّل بعض الباحثين المعاصرين ـ وهو الأستاذ يحيى محمد ـ الموقف الإمامي من نظريّة الطوفي، فيعتبر أنّ نقاط الاختلاف تكمن في ثلاثة عناصر:

العنصر الأوّل: في تفسير وفهم حديث لا ضرر، حيث يفهمه الاجتهاد الشيعي الإمامي على أنّ المراد به الضرر. وليس الضرر بموازٍ للمفسدة، ولا بمواجهٍ للمصلحة، بل هو متداخلٌ معهما. ومن ثمّ فالحديث لا يشيّد مرجعيّة المصلحة، بل مرجعيّة نفي الضرر.

العنصر الثاني: رفض الإماميّة لنظريّة المصلحة المرسلة. وهذا خلاف في العمق بينهم وبين الطوفي الذي يحتاج لمثل انطلاقة نظريّة المصلحة المرسلة ومبرّراتها؛ كي يتوصّل إلى ما توصّل إليه في موضوع معارضة النصّ للمصلحة.

العنصر الثالث: رفض الإماميّة تخصيص أو تقييد أو نسخ النصوص بالعقل، وحصرهم ذلك بخصوص السمع. ويستشهد لذلك بقول السيد عبد الحسين شرف الدين: «نحن الإماميّة إجماعاً وقولاً واحداً لا نعتبر المصلحة في تخصيص عامّ، ولا في تقييد مطلق، إلاّ إذا كان لها في الشريعة نصٌّ خاصّ يشهد لها بالاعتبار. فإذا لم يكن لها في الشريعة أصلٌ شاهد باعتبارها، إيجاباً أو سلباً، كانت عندنا ممّا لا أثر له. فوجود المصالح المرسلة وعدمها عندنا على حدّ سواء»([36]).

وبهذا يخرج الباحث الموقَّر بنتيجةٍ تقضي بأنّ هناك تقاطعاً حادّاً بين الفكر الإمامي وفكر الإمام الطوفي، ولا يمكن أن يلتقيا ويتوافقا؛ لأنّهما يختلفان في الأصول والأسس، خاتماً بالقول: «إنّ الرفض لنظريّة الطوفي لدى الوسط الإمامي الاثني عشري هو على أشدّه، فهذا الاتجاه يمنع الأخذ بالمصلحة من حيث الأصل، ما لم تكن قطعيّة، فكيف إذا ما كانت على حساب النصّ؟!»([37]).

وما أفاده حفظه الله صحيحٌ. بَيْدَ أنّه يمكننا أن نضيف مسألةً مهمّة أخرى أيضاً، وهي أنّ الذهنيّة الأصوليّة الشيعيّة، فضلاً عن الأخباريّين منهم، تعتبر الظنّ ـ بمفهومه المختلف عن اليقين وعن الاطمئنان ـ فاقداً للحجّية، ويحتاج إلى ما يُسعفه ليكون حجّة، وأنّ القاعدة تقتضي عدم حجّية غير اليقين ما لم يكن هناك دليلٌ على حجّيته، وأنّ الأدلّة الشرعيّة قامت على حجّية عدد محدود من الطرق الظنّية، مثل: أخبار الآحاد والظهورات اللفظيّة، ومن ثمّ فليس هناك قاعدةٌ عند مشهور الإماميّة اسمها مبدأ حجّية الظنّ في الفروع، والتي نلمحها في كلمات الطوفي. ولا نستثني من الإماميّة في هذا الأمر عدا مدرسة الانسداد القائلة بحجّية مطلق الظنّ، والتي لم تَحْظَ بحضورٍ قويّ على امتداد التاريخ.

وعلى أيّ حال، هذا التصوير الذي يقدِّمه لنا يحيى محمد سرعان ما يتحوّل، حيث يعتبر أنّ تحوّلاً حقيقيّاً حصل عند الإماميّة في القرن العشرين، وذلك مع ظهور الإمام الخميني، باعتبار أنّه أثر على تعديل اتجاه السير في الاجتهاد الإماميّ نتيجة ضغط الواقع عقب الانطلاق بمشروع الدولة الإسلاميّة. ونقطة الأوج في هذا التعديل هي موافقة الإمام الخميني على ما طرحه الإمام الطوفي في تقديم المصلحة على النصّ عند التعارض.

ولم يكتفِ السيد الخميني بطرح الفكرة نظريّاً، بل إنّه مارس تطبيقات لها في القرارات والمواقف التي اتّخذتها الدولة الإسلامية التي أسّسها في إيران. ويستشهد يحيى محمد لهذا التحليل بكلام الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، أحد الفقهاء المعاصرين، حين يعتبر أنّ الإمام الخميني يُعَدّ صاحب طريقة جديدة في الاجتهاد، لم يسبق أن اختارها أحدٌ في الوسط الإماميّ، وخاصّة بعد إقراره بتأثير عنصر الزمان والمكان في الاجتهاد الشرعيّ.

إنّ نقطة امتياز السيد الخميني أنّه لم يَخْشَ من العمل بالمصلحة الراجعة لقضايا الدولة والنظام وتقديمها على مفادات النصوص، فهو يقيِّد تقديم المصلحة على النصّ بخصوص حالات نظام الحكم وحاجات الدولة، ولا يُطلق فكرة التقديم، كما فعل الطوفي. ورغم ذهاب بعض علماء الإماميّة المتأخّرين لفكرة الأحكام الولائيّة، وإطلاق مقولة منطقة الفراغ، من مثل: السيد محمد باقر الصدر، لكنّ الصدر لم يقُمْ بالحديث عن نفوذ حكم وليّ الأمر في غير حالات منطقة الفراغ، رافضاً أن يدخل مجال نفوذه إلى منطقة الإلزامات والتشريعات، كالوجوب والحرمة.

وما يوضِّح لنا ذهنيّة السيد الخميني أنّه أطلق اليد للعقل الإنسانيّ في النظر في المصالح بأدواته، بعيداً عن النصوص، فأسَّس مجمع تشخيص مصلحة النظام، مستنطقاً الواقعَ بعيداً عن النصّ. كما اعتقد بتقديم الحكومة والدولة على سائر الأحكام الأوّليّة، رافضاً إخضاع نشاط الدولة للعناوين الثانويّة. بل السيد الخميني يصرّح بأنّ الدولة بإمكانها عندما ترى ما يرجع لمصلحة النظام في ذلك… بإمكانها فسخ العقود والمعاهدات مع الآخرين، بل لها تجميد العمل بالشريعة ـ عبادةً كانت أم غير عبادة ـ، كتعطيلها الحجّ عندما يخالف صلاح الدولة الإسلاميّة (والسيّد الخميني قد عطّل الحجّ بالفعل في أعقاب حادثة مكّة عام 1987م، كما تمّ تعطيل نظام الجِزْية والذمام).

ويختم الباحث يحيى محمد فكرته بالقول: «بهذا يتبيّن مدى الاتفاق الذي يجمع بين الطوفي والخميني، مع أنّ الأوّل لاقى في حياته الكثير من المتاعب على آرائه وأفكاره، بخلاف الثاني الذي ما زالت آراؤه مورد توسعة واعتماد وتنفيذ. وبالتالي إنّ سرّ العلاقة (التي) جعلتنا نجمع بين هذين الفقيهين هو ما انفردا به من اجتهادٍ خاصّ رجّحا فيه المصلحة العقليّة على النصّ عند تعارضه معها، أي إنّهما أجازا تغيير حكم النصّ بهذه المصلحة. ومعلومٌ أنّه لم يقُلْ بذلك أحدٌ قبل الطوفي ولا بعده من الفقهاء، سوى روح الله الموسوي الخميني، فتلك هي العلاقة التي تربط بين فقيهين ينتميان إلى مذهبين وزمانين مختلفين: أحدهما معاصر ومؤسّس لدولةٍ إسلاميّة؛ والآخر عاش منذ سبعة قرون مضت»([38]).

بعد ذلك يضعنا الباحث يحيى محمد في سياق تحوُّلات التجديد الفقهي عند الشيعة بعد التجربة الإيرانيّة، فيرى أنّ الفقه بدأ يتأثَّر بالواقع، وأنّ هذا الأمر كان قد حصل في الوسط السنّي قبل ذلك، ويعتبر أنّ مواقف السيد الخميني ومدرسته كانت مهمّة لتحقيق انتقال الفقه الشيعي من مرحلةٍ إلى أخرى، رغم المحافظة على الفقه الجواهري، وبدأنا نرى أنّ الدولة في إيران أخذت تسنّ سلسلة من القوانين التي لا وجود لها في الشريعة، مثل: الإلزام بتسجيل عقود الزواج في الدوائر الرسميّة، والإلزام بغرامات تأخير تسديد الديون للبنوك، والتخلّي شيئاً فشيئاً عن شرط الاجتهاد في القاضي، وكذلك فتح باب محاكم الاستئناف، والمفروض أنّ الاستئناف يناقض مبدأ قطعيّة حكم القاضي الأوّل. وبهذا يكون الباب الذي فتحه الخميني بجرأةٍ، ممّا لم يكن أحدٌ قادراً على طرقه…، قد أحدث وما يزال تحوُّلاً كبيراً في الاجتهاد الشيعي، وأدّى ذلك لطروحاتٍ كثيرة في تعديل مناهج الاجتهاد وتاريخيّة النصوص والزمان والمكان وغير ذلك، من نوع موضوع دية العاقلة، والشطرنج، وحرمة بيع الدم، وذبح الأضحية خارج مِنى، وفقه الاحتكار، والعناصر الزكويّة، والدعوة لتحديد النسل. وبهذا تحوَّلت إيران نحو تشكيل ذوقٍ فقهيّ جديد لم يكن يعرفه الشيعة من قبل([39]).

بين الطوفي والخميني، قراءةٌ مقارنة في عناصر الالتقاء والتمايز

هذه عصارة ما طرحه هذا الباحث في هذا الموضوع. وقد سبق لي أن كانت لديّ تعليقاتٌ موجزة على هذه القضيّة، احتملتُ فيها تقارب الرجلين، دون أن أجزم بذلك([40]). لكنّني هنا أتصوَّر أنّ بينهما اختلافاً في سعة النظريّة من جهةٍ، وتقارباً قويّاً من لبّ الفكرة من جهةٍ ثانية، وتنوُّعاً في طريقة مقاربة الموضوع من جهةٍ ثالثة:

1ـ أمّا مقارنة نفس النظريّتين مع بعضهما من حيث السّعة والنطاق، فنحن نلاحظ أنّ النسبة بين نظريّتي الطوفي والخميني هي العموم والخصوص من وجه؛ ففيما لا يجد السيد الخميني حَرَجاً في تقديم المصلحة على النصّ، ولو في العبادات، كما جاء في رسالته الشهيرة للسيد عليّ الخامنئي عقب خطبة الجمعة للأخير([41])، بما يجعل نظريّته أوسع من نظريّة الطوفي، ونصوصه واضحة هنا، وخاصّة في مثال الحجّ، لكنّه يجري نظريّته هذه في خصوص ما يتّصل بمصالح الدولة، وبهذا تكون نظريّته من جهةٍ ثانية أخصّ من نظريّة الطوفي.

وبتعبيرٍ آخر: إنّهما يشتركان في تقديم المصلحة على النصّ في دائرة مصالح الدولة والنظام الإسلاميّ؛ فيما يمتاز الخميني عن الطوفي في توسعته مجال التقديم للعبادات، وهو ما رأينا أنّ الطوفي لا يوافق عليه؛ بينما يمتاز الطوفي بتوسعته ـ حَسْب ظاهر كلامه ـ تقديم المصلحة على النصّ لغير قضايا الدولة ومتطلّبات النظام الإسلامي. وبهذا يلتقيان ويفترقان في سعة نظريّتهما.

2ـ أمّا تقاربهما في لبّ الفكرة، فأعتقد بأنّه لا ينبغي التشكيك في ذلك، بصرف النظر عن تخريج كلّ واحدٍ منهما للقضيّة، ومدخله في تناول الموضوع، وزاوية رؤيته له، وبصرف النظر عن تفسير كلمة المصلحة ومعناها، ممّا أسلفنا محاولة تفسيره عند الطوفي. فأصلُ القضيّة، عنيتُ تقديم المصلحة (بمفهومها المجمل الآن) على النصّ في إطلاقه أو عمومه، هو أمرٌ مشترك بينهما من حيث الناتج، وطبعاً في دائرة القضايا السلطويّة.

3ـ وأمّا تنوُّع مقاربة الموضوع، وهو الأمر الأهمّ بالنسبة إلينا هنا، فإنّنا نلاحظ أنّ الطوفي ينطلق في مقاربته للموضوع من عنصر نفي الضرر في أصل الشرع، وعنصر تقديم المقاصد على الوسائل، وعنصر أقوائيّة سبيل المصلحة من سبيل النصوص والإجماعات، وهو بهذه النتيجة يقوم بتخصيص أو تقييد النصوص، وقد يقوم بطرح حجّية خبر آحادي مثلاً.

هذا المشهد الذي رأيناه مع الطوفي لا نرى شبيهه مع الخميني؛ لأنّه لا يقارب الموضوع بهذه الطريقة، بل السيد الخميني لا يفهم حديث لا ضرر في سياق المصلحة والمفسدة، كما هو واضح من بحوثه في قاعدة لا ضرر، ولا يوظِّف أصلاً كلمة المقاصد والوسائل في بحوثه ومحاضراته وبياناته وكلماته…، بل يقاربه من زوايا أُخَر.

ولتوضيح تصوُّره يمكننا تسليط الضوء على بعض كلماته؛ لفهمه بشكل أفضل، وذلك:

يلاحظ من بعض نصوص الإمام الخميني أنّه يصرّ على عدم مخالفة الشرع وأحكامه، لكنّه يطالب مجلس صيانة الدستور بأن يلاحظ ضرورات البلاد التي يلزم مراعاتها إما من خلال العناوين الثانويّة أو من خلال ولاية الفقيه([42]). وفي رسالته التي أدَّتْ إلى تشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام يؤكِّد أنّ قضيّة مصلحة النظام قد تشكّل أهمّ تحدٍّ يواجه التجربة الإسلاميّة في السلطة، ويمكنها تعرية هذه التجربة لو وقعنا في أيّ خطأ([43]).

هذا الكلام يحضر في تصوّرنا مقولة الضرورة. لكنّ السيد الخميني يتعامل مع الضرورات السياسيّة والمجتمعيّة عبر سبيلين: العنوان الثانوي؛ وولاية الفقيه. ومعنى ذلك أنّ وليّ الأمر؛ حيث له ولاية ممنوحة من الشرع نفسه، فإنّ نفس هذه الولاية أو رُبَما دليل جعلها الشرعي يقدَّم على الأدلّة الأوّلية، فيمكنه التصرّف في الأمور بما هو تحت ولايته؛ لتحقيق الأغراض التي جعلت الولاية لها.

وبهذا نلاحظ حضور ثلاثة أفكار في غاية الأهمّية:

أـ إطلاق ولاية الفقيه ومرجعيّة دليل جعل الولاية في ذلك.

ب ـ ضرورة النظر إلى نتائج التشريعات على المستوى الاجتماعي، وقدرتها على تحقيق أهداف الشريعة وغاياتها.

ج ـ مفهوم الضرورة بمعناه العامّ، لا الجزئي الفردي.

في موضوعٍ آخر، يصرِّح الخميني بقضيّة يعتبرها واضحةً وبسيطة، وهي أنّ مصالح النظام تقدّم على جميع الأشياء([44]). وهذا الكلام يضعنا مرّةً أخرى في سياق نوع من التزاحم أو الضرورة أو تقديم الأهمّ ملاكاً.

في نصٍّ ثالث بالغ الأهمّية، ينتقد الخميني المقاربات الحوزويّة للأمور، ويعتبر أنّها لا توصل إلى حلٍّ، ويؤكِّد أنّ مراعاة الشرع مسألةٌ مهمّة وأساسيّة، لكنّ الأمر الذي لا ينبغي الغفلة عنه هو أن لا تصل التجربة الإسلاميّة إلى يوم تُتَّهم فيه بعجزها عن إدارة العالم والمجتمع. فالمهم ليس الأعلميّة في الفقه بالمعنى الكلاسيكي، بل مستوى الوعي بمصالح المجتمع وأفراده أيضاً([45]). ومن هنا يكرِّر السيد الخميني أنّ مصلحة الإسلام والمسلمين واحدة، وأنّه لا تفكيك بينهما([46]).

إنّ الخميني هنا واضحٌ جدّاً في اعتباره نجاح الشريعة في تحقيق أهدافها في الاجتماع السياسي مسألة عليا لا ينبغي أن تقدّم عليها مسائل فرعيّة. والخصوصية التي تعنينا هنا أنّه لا يميّز بين مصالح الإسلام ومصالح المسلمين، فهو يعتبر أنّ مصالح الاثنين واحدة، ومن ثمّ لا يمكن أن تكون هناك مصالح للإسلام ليست مصالح للمسلمين أو العكس. ومن الطبيعي أن ينظر الخميني هنا إلى مفهوم الإسلام للمصلحة، وقيام التشريعات على المصالح الراجعة على العباد، فلا يمكنك رصد مصالح الإسلام في تطبيق الشريعة دون أن تلاحظ أنّ هذه المصالح ترجع على المسلمين. وهذا دمجٌ في غاية الأهمّية، ويحتاج لوسيط يشكّل ميزاناً للتقويم، وهو المفاهيم الكلّية العامّة، من نوع العدالة الاجتماعيّة ورفع الفقر وعزّة المسلمين وغير ذلك…

وهذا الفهم الذي يقدِّمه الخميني يبتعد كثيراً عن الفهم التعبُّدي في التعامل مع الشريعة، والذي قد يطرحه بعضٌ هنا وهناك إلى اليوم، من أنّنا مكلّفون بالعمل بالشريعة، ولا نعرف هل ستكون لها نتائج إيجابية دنيويّة علينا أو لا؟ فالسيد الخميني لا يفكِّر بهذه الطريقة إطلاقاً؛ لأنّه لا يفكِّر هنا بمنطق التنجيز والتعذير فحَسْب، بل بمنطق النتائج والواقع، وهذا معنى دخول الواقع جزءاً مهمّاً من تفكيره الفقهي في الإدارة المجتمعيّة، وهو بهذا يضع الفقه في موضع الاختبار. وهذه قضيّة ليست بسيطة أبداً.

وبهذا نكتشف أنّ كيفيّة تناول الرجلين للموضوع مختلفة:

ففيما استند الطوفي للمقاصد، وحديث نفي الضرر، ومبدأ قيام التشريعات على المصالح والمفاسد.

اعتمد الخميني على فهمٍ كلّي للشريعة بوصفها منظومة للإدارة المجتمعيّة، وأنّ تفاصيل الأحكام ليست سوى حلقات في سلسلة يُراد لها تحقيق العدالة الاجتماعيّة والصلاح الإنساني العامّ، ومن ثمّ فكلّ ما يتصل بالإنسان الكبير (المجتمع ـ النظام ـ الأمّة) يصبح هدفاً ومقصوداً، وما يتصل بالإنسان الصغير (الفرد) يصبح وسيلة ومحكوماً. فلم يعتمد السيد الخميني على حديث لا ضرر، بل اعتمد على فهمٍ مجموعيّ لتركيبة التشريعات من جهةٍ، وعلى دليل ولاية الفقيه ثانيةً، وعلى مرجعيّة الحكم الثانوي من جهةٍ ثالثة.

وبهذا وُلدت عنده نظريّة الولاية المطلقة بهذا الجانب للإطلاق، وهو إطلاقٌ يؤكِّد بعض الباحثين أنّه لم يسبقه إليه أحدٌ([47]).

هذا التصوّر الذي خرج به الخميني رُبَما لا يمكن فصله عن رؤيته لدَوْر الزمان والمكان في الاجتهاد؛ لأنّه بفكرته هذه يريد تكريس فكرته الأولى، وهي أنّ الأحكام التي صدرت في عصرٍ معيّن من الممكن أن يكون موضوعها قد تغيّر ونحن لا نشعر بذلك، متوهِّمين أنّ الموضوع هو عينه. وسببُ هذا الشعور هو رؤيتُنا للمتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم بمنظارٍ سطحي، وغيبوبتنا عن الواقع. وبتغيّر الموضوعات ينبغي تغيُّر الأحكام وفقاً للقاعدة، وهذا يعني أنّ الأحكام التي تتغيَّر أو تتخصّص إنّما تولد غير مطلقة، بل بفعل وعي الواقع نكتشف أنّ خلفها رؤية هي المنظورة. وهذا ما يفهم بوضوح من كلمات السيد الخميني في رسالته إلى الشيخ القديري، والتي دوَّنها عام 1988م([48]).

إنّ فكرة الزمان والمكان تقرِّبنا من فكرة التخصيص لظاهر الحكم بملاكه ومقصده وروحه، والتمييز بين الشكل الظاهري للحكم والمقصد الحقيقي المكتشف عبر تجريد الأحكام من فضاءاتها الزمكانيّة. وبهذا يمكننا تصنيف الخميني بأنّه بات يتّجه أواخر عمره نحو التفكير بطريقةٍ واقعيّة مقاصديّة نوعاً ما؛ فحاجات ومتطلّبات النظام السياسي هي المقصود الذي تنصهر فيه الأحكام الفرعيّة، والفقيه يجب أن يلاحظ هذه العلاقة بين كلّ حكم فرعي وبين حاجات النظام، ليطلب أو يجمّد الأحكام الفرعيّة، تبعاً لتحقيقها لحاجات النظام العامّة.

من هنا، يعتبر العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله أنّ الذهنية الثوريّة للسيد الخميني هي التي حرَّكت إعادة فهمه للنصوص؛ لجعلها ضمن سياقات كلّية من نوع التحرير والمساواة والعدالة ورفع الظلم، دون أن يخرج عن قواعد الاجتهاد الرسميّة([49])، ملاحظاً عنصر النتائج على أرض الواقع، وليس فقط عنصر العلاقة بيننا وبين النصّ؛ لأنّ الغايات تُختبر في النتائج.

وبهذا نكتشف اختلاف زاوية الرؤية بين الرجلين، لكنّ السؤال الأبرز هو: إنّ الطوفي واضحٌ في حديثه عن تخصيص النصّ بالمصلحة، بينما لا نجد تعبير التخصيص أو التقييد هنا في أدبيّات الخميني، فهل عملية تجميد الأحكام الفرعيّة العباديّة وغيرها هي ـ من وجهة نظر الخميني ـ نوعٌ من التخصيص أو لا؟ وعلى الافتراض الثاني فما هي نوعيّة هذه العملية التي يقوم بها وليّ الأمر؟

من الممكن أن يقال بأنّ هناك فرقاً بينهما، هو السبب في عدم توظيف الخميني لمفرداتٍ من نوع التخصيص والتقييد. ويتعزّز هذا الاعتقاد بهذا الفرق بأنّ السيد الخميني لم يستخدم هذه الآليّة في التفكير في بحثه الفقهي، ولا في فتاواه، وإنّما نلاحظ أنّه يستخدمها في سياسة وليّ الأمر، ما يثير في ذهننا احتماليّة أنّ عمليّة التجميد هذه ليست عمليّةً اجتهاديّة للتوصّل إلى حكم الله في الواقعة من خلال مقاربة النصوص نفسها، وتجديد عمليّات فهمها، بل هي عمليّة ولائيّة، أي هي نوع من تفويض السلطة الشرعيّة صلاحية التجميد بعنوانٍ ثانوي أو بعنوان جعل الحاكميّة نفسه، دون أن يكون ناتج هذه العمليّة فتوائيّاً ولا اجتهاديّاً في النصوص.

وهذا هو الفارق بين الرجلين بشكلٍ جوهري، وهو ما يجعل الطوفي أكثر عمقاً من الخميني هنا من ناحية أنّه ذهب بنظريّة المصلحة نحو بِنْية الاجتهاد وفهم الدين نفسه، لا نحو السلطة وتنظيم عمليّة إدارة تطبيق الشريعة نفسها على أرض الواقع بما يحقِّق مصالحها العليا الكامنة في ضرورات النظام.

هذا الكلام معقولٌ جدّاً. لكنّ الذي يبدو لي أنّه بالتحليل ليس سوى ـ أو لا يعقل إلاّ أن يقوم على ـ عمليّة تخصيص للإطلاقات. فكأنّ السيد الخميني قيّد إطلاقات الأدلّة الأوّلية بتدخُّل الحاكم، تماماً كما نقول: يجب على الولد الوفاء بالنذر، لكنْ بإمكان الأب إبطال هذا النذر بالنهي عنه. فكأنّ كلّ الأحكام الشرعيّة الفرعيّة مقيّدة بمقيّد من هذا النوع (إلاّ على تقدير إصدار الحاكم لحكمٍ مخالف)، وفي الوقت عينه يكون هناك تكليفٌ للحاكم الشرعي نفسه في أنّه لا يجوز له ذلك إلاّ إذا رأى صلاحاً يتّصل بقضايا الأمّة والنظام، بلا حاجة إلى أن يوازن بين نوعيّة صلاح النظام ونوعيّة المصلحة في الأحكام الأوّلية، وإلاّ عُدْنا إلى قاعدة التزاحم والعناوين الثانويّة، والمفروض أنّ الخميني لا يريد ذلك… فدليل وجوب الحجّ مقيّد من الأوّل بدليل جعل الحاكميّة، بمعنى أنّه يقول: الحجّ واجبٌ على المستطيع إذا لم ينْهَ عنه الحاكم الشرعي، وفي المقابل ثمّة خطابٌ شرعي موجّه للحاكم بالنهي عن صدّ الناس عن الحجّ والعمل على ذهابهم له، شرط أن يكون ذلك ـ وفقاً لتشخيص الحاكم ـ غير مناقضٍ لمصالح النظام العليا، وهذا هو معنى تقدّم مصالح النظام على جميع الأحكام الأوّلية.

فنحن مع السيّد الخميني بتنا مجبورين على افتراض وجود تقييدٍ ما في أدلّة الأحكام الفرعيّة، حتى نصحّح تقدّم حكم الحاكم وفقاً للمصلحة النظاميّة على كلّ الأحكام الأوّلية، دون حاجة إلى قاعدة التزاحم ولا العناوين الثانويّة. ومن ثمّ لا فرق من الناحية العميقة بين الطوفي والخميني في هذه النقطة، حتّى لو سمّينا الحكم الذي يصدره الحاكم حكماً ولائيّاً؛ لأنّ نفس قدرته على تجميد الحكم الأوّلي معناه أنّ الحكم الأوّل مقيّد بعدم إعمال الحاكم لولايته، وإلاّ كان حكمُ الحاكم مخالفاً للشرع!

نعم، الفرق الدقيق بينهما أنّ السيد الخميني لا يقول بأنّ تجميد الحجّ في هذه اللحظة هو حكمٌ مستنبط من النصوص، بل هو تشخيصٌ بشري، إذ لو كان حكماً مستنبطاً من النصوص عبر عمليّات المقاربة والمقارنة بينها للزم تحريم الحجّ فتوائيّاً، ولو من دون إصدار الحاكم حكمه الولائي. وهذا ما لا أعتقد بأنّ السيد الخميني يقول به. بل هو يرى أنّ تجميد إطلاق دليل وجوب الحجّ متفرِّع على تحقُّق صغرى الحكم الولائي، ولهذا يربط كلّ هذه العمليّة بمفهوم الحاكميّة. بينما يفهم من الطوفي أنّ الأمر يقع داخل النصوص نفسها، والعقل الإنساني ليس سوى كاشف عن تقيّد النصّ بهذه المصلحة. بينما الخميني لا يرى ذلك، بل يرى أنّ التقييد كأنّه ليس إلاّ تقييداً واحداً، وهو تقييد جميع الأدلّة الأوّلية بعدم إعمال الحاكم ولايته على عكسها. فكلاهما مرجع تقييده إلى عمليّة داخليّة بين النصوص، لكنّ تطبيق التقييد (لا التقييد نفسه) عند السيد الخميني ليس مأخوذاً من النصوص، بل هو عمليّة بشرية خالصة؛ لأنّ إصدار الحكم الولائيّ هو عمليّة بشريّة خالصة؛ إذ الحكم الولائي هو جهدٌ بشري إنشائي، وليس اكتشافيّاً فحَسْب، كما حقَّقناه في محلّه([50]).

وبهذا نعرف أنّ النتيجة عند الطوفي ستكون حكماً شرعيّاً أوّلياً، بينما النتيجة عند الخميني ستكون حكماً شرعيّاً ثانويّاً، أي إنّ الحكم الأوّلي وهو وجوب الحجّ توقَّف الآن، وحلّ مكانه بالنسبة للمكلّفين حكمٌ ثانويّ، وهو حرمة الحجّ بعد تعنونه بعنوان أنّه صار منهيّاً عنه من قِبَل الحاكم؛ لأنّ إصدار الحاكم لحكمٍ مخالف يوجب تجمُّد إطلاق الحكم الأوّلي، دون أن يكون مفاد حكم الحاكم حكماً أوّلياً أو ثانويّاً بنفسه بالضرورة؛ لأنّه حكمٌ بشريّ، ولا حكم شرعيّاً فيه سوى وجوب طاعته.

وقفةٌ تقويميّة لنظريّة الإمام الخميني

بعد أن فهمنا نظرية الرجلين، وعرفنا عناصر الالتقاء والاختلاف بينهما، يمكننا أن نعود لنظريّة السيد الخميني من زاوية تقويمها؟ فهل ثمّة ما يبرّر هذه العمليّة في الشرع أو لا؟

الذي يبدو لنا أنّ أدلّة جعل الولاية للحاكم لا تفيد، لا بالدلالة المباشرة ولا بالإطلاق ولا بدلالة الاقتضاء ولا بغير ذلك، ضرورةَ أن يُمنح صلاحية ولاية مطلقة من هذا النوع من الإطلاق. وما قاله السيد الخميني من أنّ حصر عمل الحاكم بالعناوين الثانويّة يوجب تفريغ حكومته من مضمونها غيرُ صحيح، وكأنّه يريد بذلك جعل خصوصيّة الإطلاق مفادة بدلالة الاقتضاء في النصوص، حَسْب اصطلاح علماء أصول الفقه الإسلاميّ، والتي تجعل الولاية لوليّ الأمر.

وأعتقد بأنّ السيد الخميني كان بإمكانه تعديل نظريّته عبر إجراء تعديلات في فكرة العناوين الثانويّة نفسها، بإجرائها على المجتمع والإنسان الكبير. فالضرر والضرورة والحَرَج والعسر لم تَعُدْ شأناً فرديّاً، بل حيث إنّنا نفهم أنّ التشريعات الفرديّة تقع في سياق تشريعات المجتمع فهذا يعني أنّ العناوين الثانويّة وقواعد التزاحم تجري في العلاقة بين الأحكام الفرديّة والمصالح النوعيّة المجتمعيّة النظاميّة، والمقدّم هو مصالح النظام مثلاً. وعليه فلا حاجة لفرض إطلاقٍ في دليل الولاية ـ وهو غيرُ واضح دلاليّاً ـ، بل يمكن الوصول إلى نتائج مقاربة عبر إعادة إنتاج مفهوم التزاحم والعناوين الثانوية من سياقها الفردي إلى سياقها المجتمعي والنظامي، بعد إثبات أنّ كلّ ما يكون في مصلحة النظام ويقع مزاحماً أو منافساً لمصالح الأحكام الأوّلية الفرديّة والاجتماعيّة فإنّ ما فيه مصلحة النظام هو الأقوى ملاكاً والأهمّ. وهذه العمليّة بنفسها بحاجةٍ إلى إثباتٍ اجتهاديّ أيضاً، وليست مسلّمةً أو بديهيّة، وإلاّ حدّدنا التقديم بحالات إحراز الأهمّ، وقد يكون مصالح النظام تارةً وقد يكون العكس أخرى.

وعليه، نحن قد نوافق على نظريّة السيد الخميني في تقديم المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة من حيث المبدأ، بلا حاجة لفرض إطلاقٍ في ولاية وليّ الأمر، ويكون مبرّر هذا التقديم هو أهمّية المصالح النوعيّة على المصالح غير النوعيّة، على فرض إثبات كلّية هذه المقولة، ويكون دليل الولاية مفوّضاً الحاكم تشخيص هذه الأهمّية، ولولا هذا التفويض ستكون حكومته مفرَّغة من مضمونها.

نتيجة البحث في علاقة النصّ بالمصلحة

وعليه، مقولتا الطوفي والخميني صحيحتان في تقديم المصلحة على النصّ، لكنْ عبر عمليّة إعادة التفسير أو الإنتاج التي قدَّمناها لهما، وهي تقع في سياق قواعد الحاكميّة والأهمّية وفقه الأولويّات من جهةٍ، وفي إطار نظريّة المقاصد الشرعيّة من جهةٍ ثانية.

وخلاصة فكرتنا أنّ تعديل المصلحة من مفهومها المخارِج للنصّ إلى مفهومها المقاصدي المداخِل للنصّ يوجب رفع الإشكاليّات عن نظريّة الإمام الطوفي، عدا إشكاليّة التمييز بين العبادات والمعاملات، بعد التسليم بكلّية النظريّة المقاصديّة بوصفها أصلاً موضوعاً.

كما أنّ تعديل فكرة إطلاق ولاية وليّ الأمر نحو فكرة إعادة إنتاج مفهوم العناوين الثانويّة وقواعد الأولويّات في السياق النظاميّ والسياسيّ يوجب أيضاً رفع الإشكاليّات عن نظريّة الإمام الخميني، بعد التسليم بكلّية تقدّم السياسيّ على غيره في التشريعات بوصفها أصلاً موضوعاً.

ولا أريد أن أُبدي هنا موافقةً أو مخالفة لهذين الأصلين الموضوعَين اللذين تقوم عليهما نظريّة الطوفي والخميني، بل بحثُهما موكولٌ إلى محلّه.

وبهذا نخرج بنتيجة أنّ تقديم المصلحة على النصّ بالمعنى الذي قلناه ليس فيه بأسٌ، وإنْ كنتُ أقترح هنا تغيير هذا العنوان؛ لأنّ كلمة (تقديم المصلحة على النصّ) هي بنفسها موجبةٌ لتكوين انطباع سلبيّ. ولنذهب نحو اختيار عنوانٍ آخر من نوع: تقديم الأحكام النظاميّة ومصالحها على الأحكام الفرديّة ومصالحها، أو تقديم المصالح المقاصديّة على المصالح الوسائليّة.

الهوامش

([1]) قال فيه: (وكان مع ذلك كلّه شيعيّاً منحرفاً في الاعتقاد عن السنّة، حتى أنّه قال في نفسه:

حنبليٌّ رافضي أشعري *** هذه أحد العبر…

ووجد له في الرفض قصائد، وهو يلوح في كثير من تصانيفه، حتى أنّه صنف كتاباً سمّاه: العذاب الواصب على أرواح النواصب. ومن دسائسه الخبيثة أنّه قال في شرح الأربعين، للنووي: اعلم أنّ من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص، وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطاب، وذلك أنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة من ذلك الزمان فمنعهم من ذلك، وقال: لا أكتب مع القرآن غيره، مع علمه أنّ النبيّﷺ قال: اكتبوا لأبي شاة خطبة الوداع، وقال: قيِّدوا العلم بالكتابة، قالوا: فلو ترك الصحابة يدوّن كلّ واحد منهم ما روى عن النبيّﷺ لانضبطت السنّة، ولم يبْقَ بين آخر الأمّة وبين النبيّﷺ في كلّ حديثٍ إلاّ الصحابيّ الذي دوَّن روايته؛ لأنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم إلينا، كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما. فانظر إلى هذا الكلام الخبيث المتضمِّن أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هو الذي أضلّ الأمّة، قصداً منه وتعمّداً. ولقد كذب في ذلك وفجر… وقد كان الطوفي أقام بالمدينة النبويّة مدّةً يصحب الرافضة: السكاكيني المعتزلي، ويجتمعان على ضلالتهما، وقد هتكه الله، وعجل الانتقام منه بالديار المصريّة. قال تاج الدين أحمد بن مكتوم القيسي في حق الطوفي: …كان قليل النقل والحفظ، وخصوصاً للنحو على مشاركة فيه. واشتهر عنه الرفض، والوقوع في أبي بكر وابنته عائشة رضي الله عنهما، وفي غيرهما من جملة الصحابة رضي الله عنهم، وظهر له في هذا المعنى أشعارٌ بخطّه، نقلها عنه بعض مَنْ كان يصحبه ويظهر موافقةً له، منها قوله في قصيدة:

كم بين مَنْ شكّ في خلافته *** وبين مَنْ قيل: إنه الله…

فرفع أمر ذلك إلى قاضي قضاة الحنابلة سعد الدين الحارثي، وقامت عليه بذلك البيّنة، فتقدّم إلى بعض نوّابه بضربه وتعزيزه وإشهاره، وطيف به، ونودي عليه بذلك، وصرف عن جميع ما كان بيده من المدارس، وحبس أياماً، ثم أطلق… قلت: وقد ذكره بعض شيوخنا عمَّنْ حدَّثه عن آخر: أنه أظهر له التوبة، وهو محبوسٌ. وهذا من تقيّته ونفاقه…). (الذيل على طبقات الحنابلة 4: 368 ـ 370؛ وراجِعْ: الصفدي، الوافي بالوفيات 19: 43؛ وابن العماد، شذرات الذهب في أخبار مَنْ ذهب 6: 39 ـ 40).

([2]) انظر: أعيان الشيعة 7: 301 ـ 302.

([3]) انظر: أبو زهرة، ابن حنبل: 361 ـ 363.

([4]) يقول السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه (النصّ والاجتهاد: 49 ـ 50): «وقبل أن نختم هذا البحث نرى لزاماً علينا أن ننبِّه الأستاذ الدواليبي إلى تدارك ما نقله عن الإماميّة من الأخذ بالمصالح المرسلة، وتقديمهم إيّاه على النصوص القطعيّة؛ فإنّ هذا ممّا لا صحّة له، ولم يقل به منهم أحد. وسليمان الطوفي من الغلاة الذين ما زالت خصومنا تحمّلنا أوزارهم. ورأي الإماميّة في هذه المسألة ما قد ذكرناه آنفاً، وعليه إجماعهم، وتلك كتبهم في أصول الفقه منتشرة، فليراجعها الأستاذ، وليعتمد عليها في ما ينقله عن الإماميّة، بَدَلاً من اعتماده في ذلك على كتاب ابن حنبل سامحه الله تعالى». وقد تصوّر بعضٌ (انظر: يحيى محمد، فهم الدين والواقع: 99، الهامش رقم 1) أنّ السيد شرف الدين يُثبت تشيُّع الطوفي، غاية الأمر يضعه في غلاة الشيعة. وهذا أمرٌ وإنْ كنتُ أجده محتملاً، لكنّه بعيدٌ؛ إذ لعلّ شرف الدين قصد من الغلوّ هنا التطرُّف والمبالغة في الأمور، لا الانتماء لمذهب الغلاة من الشيعة، فهذا أمرٌ لا يعقل أن يكون قد قال به أحدٌ أصلاً، وخاصّة بمفهوم الغلوّ في الفقه الإماميّ، والله العالم.

([5]) انظر: البوطي، ضوابط المصلحة: 202 ـ 206.

([6]) لمزيد اطّلاع حول شخصيّة الطوفي وتاريخه ومذهبه، انظر: مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 45 ـ 70.

([7]) الطوفي، رسالة في رعاية المصلحة (مطبوعة مستقلاًّ): 45 ـ 47؛ وانظرها في كتاب عبد الوهّاب خلاف، مصادر التشريع في ما لا نصّ فيه: 105 ـ 144.

([8]) راجع ـ لمزيد اطّلاع ـ: محمد سلام مدكور، المدخل للفقه الإسلامي: 264 ـ 273.

([9]) الغزالي، المستصفى: 176؛ وانظر حول نظريّة المصلحة قبل الطوفي ما كتبه: مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 17 ـ 43.

([10]) انظر: علي حبّ الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة: 207 ـ 208.

([11]) انظر: يحيى محمد، فهم الدين والواقع: 99 ـ 102.

([12]) انظر: مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 99 ـ 102.

([13]) انظر: محمد تقي الحكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن: 392، 400؛ ومحمد أبو زهرة، ابن حنبل: 352، 353، 36؛ والإمام مالك: 393، 417، 424، 431.

([14]) انظر: محمد سلام مدكور، المدخل للفقه الإسلامي: 260؛ ومصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 85.

([15]) انظر: محمد أبو زهرة، ابن حنبل: 357 ـ 358؛ والإمام مالك: 421 ـ 422؛ ومحمد سلام مدكور، المدخل للفقه الإسلامي: 260؛ والبوطي، ضوابط المصلحة: 209 ـ 210؛ ومصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 85، 89 ـ 90، 96، 117.

([16]) انظر: محمد سلام مدكور، المدخل للفقه الإسلامي: 260.

([17]) انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي: 90 ـ 91، 93.

([18]) انظر: مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 85، 90.

([19]) انظر: الخوئي، دراسات في علم الأصول 3: 512 ـ 513.

([20]) انظر: الإيرواني، دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة 1: 150.

([21]) انظر: الصدر، بحوث في علم الأصول 5: 506؛ ومباحث الأصول 4: 617، القسم 2.

([22]) انظر: الحائري، مباحث الأصول 4: 617، القسم 2، الهامش رقم 1.

([23]) انظر: البوطي، ضوابط المصلحة: 212.

([24]) انظر: البوطي، ضوابط المصلحة: 210.

([25]) انظر: محمد أبو زهرة، ابن حنبل: 356 ـ 357؛ والإمام مالك: 420 ـ 421؛ وعلي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي: 86، 88.

([26]) انظر: رسالة في رعاية المصلحة (ضمن كتاب مصادر التشريع في ما لا نصّ فيه): 123.

([27]) انظر: أبو زهرة، ابن حنبل: 361.

([28]) انظر: الأموال ونظريّة العقد في الفقه الإسلامي: 132 ـ 135؛ والبيوع منهج وتطبيقه: 18 ـ 20؛ وراجع: البوطي، ضوابط المصلحة: 210.

([29]) راجع: حيدر حبّ الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 517 ـ 569.

([30]) البوطي، ضوابط المصلحة: 207 ـ 209.

([31]) انظر: مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 116.

([32]) انظر: البوطي، ضوابط المصلحة: 210 ـ 211.

([33]) انظر: مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي: 116.

([34]) انظر: أبو زهرة، ابن حنبل: 358 ـ 359؛ والإمام مالك: 422 ـ 424.

([35]) انظر: ضوابط المصلحة: 215.

([36]) شرف الدين، النصّ والاجتهاد: 47.

([37]) انظر: يحيى محمد، فهم الدين والواقع: 109 ـ 113.

([38]) انظر: يحيى محمد، فهم الدين والواقع: 113 ـ 116.

([39]) انظر: يحيى محمد، فهم الدين والواقع: 68 ـ 74 (الطبعة الثانية).

([40]) انظر: حبّ الله، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 4: 384 ـ 388.

([41]) انظر: صحيفه إمام 20: 451 ـ 452.

([42]) انظر: صحيفه إمام 21: 422.

([43]) انظر: صحيفه إمام 20: 463 ـ 465.

([44]) انظر: صحيفه إمام 21: 335.

([45]) انظر: صحيفه إمام 21: 177 ـ 178، 217 ـ 218.

([46]) انظر: صحيفه إمام 19: 407، و15: 115 ـ 116.

([47]) انظر: سعيد ضيائي فر، الإمام الخميني منهجه في الاجتهاد ومدرسته الفقهيّة: 226، 243.

([48]) انظر: صحيفه إمام 21: 149 ـ 152.

([49]) انظر: فضل الله، الفقيه والأمّة: 61 ـ 62، 83.

([50]) انظر: حبّ الله، شمول الشريعة: 313 ـ 358.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً