الشيخ حب الله النجفي(*)
8ـ التوحيد الأفعالي
«أجمعت كتب العقائد الإسلامية على أن معبداً الجهني هو أوّل مَنْ تكلّم في القَدَر من المسلمين»([1]).
«أجمعت كتب العقائد الإسلامية على أنه أوّل مَنْ تكلَّم في القَدَر من المسلمين»([2]).
تصريحان صحيحان، صادقان صائبان، يحملان مدلولاً عظيماً جسيماً في تأريخ الكلام والإسلام:
«كلّ» ما ورد عن النبيّ أو عليٍّ في «القَدَرية»، نفاة القَدَر، فهو موضوعٌ مكذوبٌ عليهما ـ صلوات الله عليهما ـ.
لذلك نرى الصحيحين خاليين عاريين من مثل هذه الروايات «النبوية»!.
ولله درُّ شارح العقيدة الطحاوية، السلفي، علي بن علي؛ إذ أعلن بأن «كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفةٌ»([3]).
ما اكتفى الوضّاعون بالافتراء على النبيّ، بل قاموا بالافتراء على عليٍّ؛ موقنين بأن كلام عليٍّ ككلام النبيّ؛ ومن أبرز المفتريات على عليٍّ: «لو وجدتُ رجلاً من أهل القَدَر لأخذت بعنقه ولا أزال أضربه حتى أكسر عنقه؛ فإنهم يهود هذه الأمّة»([4]). وقد نقدنا هذا النصّ، ودحضنا قول المحقِّق المدقِّق د. النشّار فيه، فيما سبق، فلا نعيد.
المعتزلة، حينما شاهدوا الوضّاعين يضعون الأحاديث النبوية والعلوية في ذمّهم، بدأوا يضعون كما وضعوا؛ ومن أبرز مفترياتهم على عليٍّ: «تلك مقالة إخوان الشيطان وعبدة الأوثان و… وهم قَدَرية هذه الأمّة ومجوسها»([5]). قال المحقِّق المدقِّق د. النشّار، تعليقاً على هذا النصّ: «نحن نرى أنه إذا كان هذا النصّ حقّاً لعليٍّ فعليٌّ إذن كان معتزليّاً قبل المعتزلة؛ فقد ورد فيه جميع المصطلحات المعتزلية التي ظهرت بعد عصر عليٍّ بزمنٍ طويل…»([6]).
ولقد أجاد في ما أفاد حقّاً وصدقاً، لكنّه غفل عن أهمّ عنصرٍ دالّ على الوضع، وهو وجود كلمة «القَدَرية»؛ نسأل: كيف غفل النشّار عن حقيقةٍ تأريخية ذكرها هو بنفسه في المجلَّد نفسه مرّتين؟!
ما اكتفى وضّاعوهم بالافتراء على عليٍّ، بل قاموا بالافتراء على النبيّ؛ ومن أبرز هذه الروايات «النبويّة»:
ـ «سيكون في أمتي رجلٌ يُقال له: واصل، [يفصل] بين الحقّ والباطل»([7]).
ـ «واصلٌ! وما واصلٌ؟! يَصِلُ الله به الدِّين»([8]).
تكلّم معبدٌ(80هـ) في القَدَر الإلهي لأوّل مرةٍ في تأريخ الإسلام؛ قال: «لا قدر، والأمر أنفٌ»، فتبعه ناسٌ، «يقرأون القرآن»([9]) ولا يعونه، يتلونه ولا يعقلونه، كالخوارج تماماً؛ ماذا كان موقف أئمّتنا أمام هذا الانحراف؟
أفتى إمامنا الباقر: «فمَنْ رأيتُم منهم إماماً يصلّي بالناس فلا تصلّوا وراءه… مَنْ مات منهم فلا تصلّوا عليه»([10]).
هذه الفتوى الإمامية الكلامية، الخالدة الرائدة، إنما رواها وذكرها أهل السنّة فقط؛ مقلِّدين لها، مقتدين بها. المستفتي من إمامنا الباقر هو «حرب بن سريج»، وقد أخطأ علماء وعظماء الشيعة فكتبوا: «حرب بن شريح»!([11]).
وجاءه رجلٌ بصريّ فقال: «يا سيّدي، إني وافدُ أهل البصرة إليك؛ وذاك أن القَدَر قد نشأ في البصرة، وقد ارتدّ أكثر الناس، وأريد أن أسألك عنه… الخير؟» فأجابه: «اكتب: علم وقضى وقدّر، وشاء وأراد، وأحبّ ورضي»، ثمّ سأله: «الشرّ؟» فأجابه: «اكتب: علم وقضى وقدّر، وشاء وأراد، ولم يرْضَ ولم يحبّ». قال الرجل: «فرجعتُ إلى البصرة،فنصب لي منبرٌ في مسجد الجامع، فاجتمع الناس، فقرأتُ عليهم ما كتبتُ، فرجع أكثر الناس»([12]).
نسأل: ما معنى رجوع «أكثر الناس» عن عقيدتهم؟ أوليس هذا أدلّ دليلٍ على خضوع وخنوع أمّتنا لأئمّتنا؟!
وممّا يؤيِّد ويؤكِّد، بشِدَّةٍ وحِدَّةٍ بالغتين، هذا الخضوع والخنوع، هو أن إمامنا كان في سنٍّ «كأنّه ما بلغ بعد»([13]).
مضَتْ على البِدْعة المعبدية في تأريخ الكلام والإسلام أعوام، وإذا بالأمّة الإسلامية تُفاجأ باعتقادٍ معاكس: «الجَبْر»، جاء به جَهْم(128هـ). هذا الجبر كان مختلفاً تماماً عن الجبر الذي كان يدعو إليه طغاة بني أميّة؛ قلنا سابقاً: إن جَهْماً غلا في التوحيد الصفاتي، ونقول الآن: ما اكتفى بذلك، بل غلا في التوحيد الأفعالي أيضاً؛ قال: «لا يجوز أن يوصف البارئ سبحانه وتعالى بصفةٍ يُوصَف بها خلقُه؛ لأن ذلك يقتضي تشبيهاً»، لكنّه وصف الله سبحانه وتعالى بـ:
«القدرة» و«الفعل» و«الخلق»؛ لِمَ؟ «لأنه لا يُوصَف شيءٌ من خلقه بـ القدرة، والفعل، والخلق»([14]). فالخلق كلّهم
لا «قادرون»، ولا «فاعلون»، ولا «خالقون»، بل هم «مُجْبَرون»، «مفعولٌ بهم»، «مخلوقٌ فيهم». هذا هو جَبْر جَهْم.
ماذا حدث؟ قدَّم هذا الاعتقاد أعظم خدمةٍ لعرش الطغاة، لذلك تصدّى له أئمّتنا بكلّ ما لديهم من قوّةٍ؛ نادَوْا: «لا جَبْر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرَيْن»([15]). نادوا بالتوسُّط في التوحيد الأفعالي، كما في التوحيد الصفاتي.
أوّل شخصيةٍ إسلامية تأثَّرت بهذا النداء الإمامي ـ الكلامي هو أبو حنيفة؛ سُئل عن القَدَر فأجاب بما نصُّه: «هذه مسألةٌ قد استصعبَتْ على الناس؛ فأنّى يطيقونها؟!
هذه مسألةٌ قد ضلّ مفتاحها… ولن تفتح إلاّ بـ «مخبرٍ عن الله سبحانه وتعالى يأتي بما عنده»، وقد فات ذلك.
والذي نقول… قولاً متوسّطاً بين القولين؛ أينما مال ملتُ معه؛ كما قال محمد بن عليٍّ رضي الله عنهما: لا جَبْر، ولا تفويض»([16]).
هذا التصريح الأعظم من الفقيه الأعظم له مدلولٌ أعظم: التوسّط بين القولين هو ﴿الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ﴾؛ لذا «أينما مال ملتُ معه»؛ هذا تسليمٌ مطلقٌ؛ دون أيّ قيدٍ أو شرطٍ. وكيف لا يسلِّم المسلم للصراط المستقيم؟! نقرأ ما سطره فخر الأمّة: «قد ذكرنا مراراً أن ﴿الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ هو بين الجَبْر والقَدَر، وهو الطريقة الوسطى». أضاف مباشرةً: «الله سبحانه وتعالى في كلّ موضعٍ ذكر ما يتمسّك به المجبِّرة ذكر عقيبه ما يتمسَّك به القَدَرية، وبالعكس»([17]).
فالقرآن هو أوّل المنادين بالتوسّط: في التوحيد الصفاتي، والتوحيد الأفعالي، و…. هذا أعظم تفسيرٍ للقرآن.
وقال الطحاوي: «دين الله في الأرض والسماء… بين الجَبْر والقَدَر… فهذا ديننا واعتقادنا؛ ظاهراً وباطناً»([18]).
أبو حنيفة ما اكتفى بنفي الجَبْر والتفويض، بل نسبه إلى أئمّتنا. والشافعيُّ كذلك([19]). أما مالكٌ فقال أحدُ أتباعه: «ما شبهت تصرّف المجتهدين… في الأحكام الشرعية إلاّ بتصرُّفهم في الأفعال الوجودية: لا جَبْر، ولا تفويض»([20]).
فنفي الجَبْر والتفويض في الأفعال الوجودية ممّا يضرب به المَثَل؛ فهو مسلَّمٌ عند جميع المالكية.
وأما أحمد وأهل الحديث فيدلّنا على رأيهم في المسألة كلامٌ جامعٌ مانعٌ، من أعظم أعاظم السَّلَفية؛ قال: «أهل السنّة لا يقولون بالتفويض كما تقول القَدَرية، ولا بالجَبْر كما تقول الجَهْمية، بل أئمّة السنّة، كالأوزاعي، والثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، متَّفقون على إنكار قول الجَبْرية…»([21]).
وقرَّر التفتازاني رأي الأشاعرة؛ قال: «المحقِّقون من أهل السنّة على نفي الجَبْر والقَدَر، وإثبات أمرٍ بين الأمرَيْن»([22]).
نعم، قال رأس الأشاعرة: «الرافضة… ثلاث فرق… الفرقة الثانية… يزعمون أنه: لا جَبْر… ولا تفويض…؛ لأن الرواية عن الأئمّة، زعموا، جاءت بذلك، ولم يتكلَّفوا أن يقولوا في أعمال العباد «هل هي مخلوقةٌ أم لا؟» شيئاً»([23]).
ينبِّهنا هذا المتكلِّم الرائد الخالد، بكلامه الرائد الخالد، على أن أئمّتنا ما اكتفوا بنفي الجَبْر والتفويض، بل تكلَّفوا أن يقولوا في أعمال العباد «هل هي مخلوقةٌ أم لا؟» شيئاً، وعلى كلّ إماميٍّ أن يتّبعهم في قولهم هذا.
نسأل أئمّتنا عن أعمال العباد: هل هي مخلوقةٌ أم لا؟ نراهم يجيبون عن هذا السؤال قبل نفيهم للجَبْر والتفويض!: «أفعال العباد مخلوقةٌ… و﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ولا نقول بالجَبْر ولا بالتفويض»([24]). السندُ صحيحٌ، والمتنُ صريحٌ بأن نفي الجَبْر والتفويض إنما جاء دعماً وإسناداً للقول بخلق أعمال العباد؛ تنبيهاً للأمّة الإسلامية على نُكْتةٍ في غاية الأهمّية؛ وهي أن القول بخلق أعمال العباد لا يستلزم الجَبْر، بل إنما يستلزم نفي التفويض.
أئمّتنا ـ صلوات الله وصلوات ملائكته ورسله أجمعين عليهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين ـ:
تكلَّفوا أن يقولوا، بل يعيدوا ويكرِّروا، أن أعمال العباد «مخلوقةٌ»،
وتكلَّفوا أن يقولوا، بل يعيدوا ويكرِّروا، أن القول بخلق الأعمال اعتقادٌ مستنبطٌ من القرآن،
وتكلَّفوا أن يقولوا، بل يعيدوا ويكرِّروا، أن القول بخلق الأعمال معناه نفي الجَبْر والتفويض في آنٍ واحدٍ.
الأشعريُّ يخاطب الفرقة الثانية من الشيعة: أنتم تزعمون أنكم إماميّون، فتكلَّفوا ما تكلَّفوا، وقولوا بما قالوا.
الأشعريُّ يخاطب الفرقة الثانية من الشيعة: أنا لا أزعم أنّي إماميٌّ، لكنّني تكلَّفت ما تكلَّفوا، وقلتُ بما قالوا.
المعتزلةُ لم يدركوا ولم يفهموا هذا الكلام، لذلك رفضوه أشدَّ الرفض، وردّوه أشد الردّ؛ أوّلهم رأسهم؛ صرخ في وجه إمامنا الصادق: «…نهى عن القبيح ولم يقضه، وحثّ على الجميل ولم يحُلْ بينه وبين خلقه»([25]). والمعتزلة بعده، كلّهم قلَّدوا رأسهم؛ فـ «أجمعوا أن الله… لا يخلق أعمال العباد»([26]).
الأمّة الإسلامية صدّقت أئمّتنا، وكذَّبت المعتزلة؛ بحيث نبزتهم بلقب «القَدَرية»، بمعنى «المفوِّضة».
لا يُقال: إن الأمّة الإسلامية إنما تأثَّرت بما صحّ عن النبيّ|: «إن الله خالق كلّ صانعٍ وصنعته»([27]).
لأنه يُقال: الحديث النبويّ ما صرَّح بخلق الأفعال نفسها، بل بخلق نتيجة وثمرة أفعال الصنّاع، وهي: الصنائع.
ولأنه يُقال: الحديث النبويّ ما دلّ الأمّة الإسلامية على دليلٍ قرآنيّ على كون أفعال العباد مخلوقةً.
ولأنه يُقال: الحديث النبويّ ما صرَّح بأن القول بخلق أفعال العباد هو القول بالتوسُّط في التوحيد الأفعالي.
أئمّتنا أعلنوا التوحيد الأفعالي منذ عهد الرسول، وأمام الرسول: «إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا»([28]).
لم يكتَفِ أئمتنا بالقول بخلق أفعال العباد، بل قالوا بـ «الاكتساب»، وجعلوه مرادفاً لـ «الاختيار»؛ نقرأ: «إن المعرفة من صنع الله في القلب مخلوقةٌ، والجحود صنع الله… مخلوقٌ، وليس للعباد فيهما من صنعٍ، ولهم فيهما «الاختيار» من «الاكتساب»… فبـ «الاختيار» و«الاكتساب» عاقبهم الله وأثابهم»([29]).
اختار إمامُنا من أفعال العباد كلّها فعلين مصيريين، معينين مسير الإنسان في الدنيا ومصيره في العقبى؛ وهما: الإيمان والكفر، سمّاهما: «المعرفة» و«الجحود»، والمشكلة الكلامية منصبّةٌ على هذين الفعلين قبل غيرهما.
الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإيمان في المؤمن، والكفر في الكافر؛ فكيف يثيب ويعاقب على فعلين هو خلقهما؟! قبل أن يجيب الإمام عن هذه الشبهة الكلامية يؤكِّد بضرسٍ قاطعٍ بأن «خلق» و«صنع» الإيمان والكفر لله فقط؛ لا شريك له في ذلك. بهذا الكلام ينادي بصوتٍ عالٍ خالدٍ رائدٍ بالتوحيد الأفعالي، بعد ذلك يجيب عن الشبهة: ليس معنى عبارة «ليس للعباد فيهما من صنعٍ» أن الإنسان في إيمانه وكفره كالجماد، لا إرادة له ولا اختيار، بل الأفعال الإنسانية على نوعين: إرادية؛ وغير إرادية.
النوع الثاني كضَرَبان القلب، يخلقه الله في الإنسان؛ شاء أم لم يشأ، «اختاره» و«اكتسبه» أم لا؛ فالقلب جمادٌ.
النوع الأوّل لا يمكن أن يوجد بمجرّد الخلق والصنع، إلاّ إذا أراده، شاءه، اشتهاه، «اختاره»، «اكتسبه» الإنسان.
العباد إنما يثابون ويعاقبون على النوع الأوّل، لا الثاني؛ فلا أحد يُثاب أو يعاقب على ضَرَبان قلبه!
العباد إنما يُثابون ويعاقبون على إرادتهم، مشيئتهم، «اختيارهم»، «اكتسابهم»، لا على خلقهم وصنعهم.
خالقٌ وصانعٌ، صفتان لا يوصف بها إلاّ الله، و«فاعلٌ… ومكتسبٌ، ومستطيعٌ، صفاتٌ يوصف بها الإنسان»([30]).
هذه هي عقيدةُ الاكتساب الإمامية ـ الكلامية، على حقيقتها. جاء الأشعري بعد حوالي قرنين فقال بها، لكنّه:
ما فهمها كما فهمناها، بل حَسِب أن معنى عبارة «ليس للعباد فيهما من صنعٍ» أن الإنسان فيهما كالجماد؛
لِمَ لم يفهمها؟ لأنّه «لم يتكلَّف» أن يقرأ ما بعدها، وهو نصُّ الإمام عليٍّ أن «فاعل» إنما هي صفة الإنسان، فقال: «فإنْ قال قائلٌ: فلِمَ لا دلّ وقوع الفعل، الذي هو كسبٌ، على أنه لا «فاعل» له إلاّ الله…؟ قيل له: كذلك نقول»([31]).
وقال مؤكِّداً: «الله سبحانه وتعالى هو «الفاعل»؛ ألا ترى أن حركة الاضطرار تدلّ على أن الله سبحانه وتعالى هو «الفاعل» لها؟!»([32]).
العبارة الأشعرية الأخيرة تدلّ دلالةً قاطعةً على أن رأس الأشاعرة لم يميِّز بين النوعين من الأفعال الإنسانية؛ حَسِب أن «ليس للعباد فيهما من صنعٍ» معناه أنهما كضَرَبان القلب، حركتان اضطراريّتان، لا «اختياريتان»!
لم يكتَفِ أئمّتنا بالقول بخلق أفعال العباد وبالاكتساب، بل قالوا بـ «مقارنة الاستطاعة للفعل»؛ نقرأ:
«…فإذا أراد الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة؛ فمن ثمّ قيل للعبد: مستطيعٌ، متحرِّكٌ»([33]).
«إن الله خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الاستطاعة، ثمّ لم يفوِّض إليهم؛ فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل، فإذا لم يفعلوه… لم يكونوا مستطيعين»([34]).
العبارة الأخيرة تنادي بأعلى صوتها: إن مقارنة الاستطاعة للفعل هو التفسير الإماميّ لنفي التفويض.
جاء الأشعري فصرَّح بأن الاستطاعة «يستحيل تقدُّمها للفعل»، بل هي «مع الفعل للفعل»([35]).
هذا التشابُه العجيب بين الرأيين لم ينَلْ إعجاب غوّاص بحار الأنوار، بل نال سخطه؛ إذ قال: «ما ورد في هذا الخبر، من عدم تقدُّم الاستطاعة على الفعل، موافقاً لأخبارٍ أوردها الكلينيّ في ذلك، يحتمل وجوهاً: الأوّل: التقيّة؛ لموافقته لما ذهب إليه الأشاعرة…؛ الثاني:…؛ الثالث:…. والأوّل أظهر»([36]). وهذه أعظم زلّةٍ وقع فيها؛ فالأشاعرة في زمن أئمّتنا لم يوجَدوا ولم يولَدوا بعدُ؛ بل رأسهم إنما وُلد في عامٍ غاب فيه آخر أئمّتنا (260هـ)؛ فكيف يتّقي إمامُنا المتوفَّى عام 148هـ فرقةً ليس لها وجودٌ على وجه الكرة الأرضيّة؟!
بل كيف أعجب غوّاص البحار بهذا التوجيه غير الوجيه، فرآه «أظهر» من سائر التوجيهات والتأويلات؟!
أما نحن فلا نعجب أبداً بهذا التأويل العليل، بل نعجب تماماً بهذا التشابه العجيب بين الأئمّة والأشاعرة.
ولا نكتفي بهذا الإعجاب، بل نعجب بتشابهٍ آخر بينهما، في تفسير قوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ «اسْتَطَاعَ» إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾:
قال إمامنا×: «إنّما يعني بـ «الاستطاعة» الزاد والراحلة؛ ليس استطاعة البَدَن»([37]).
قال رأس الأشاعرة: «إن الله سبحانه وتعالى أراد المال، وهو الزاد والراحلة، ولم يُرِدْ استطاعة البَدَن»([38]).
لكنْ مع كلّ ذلك ما طابق موقف الأشعري موقف أئمّتنا تماماً، إنما طابقه تماماً موقف ابن تيميّة والسَّلَفية:
«أما القَدَرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلاّ قبل الفعل، ومَنْ قابلهم من المثبتة يقولون: لا تكون إلاّ مع الفعل؛
وقول الأئمّة والجمهور هو: الوسط؛ إنها لا بُدَّ أن تكون معه، وقد تكون مع ذلك قبله»([39]). هذا هو التوسُّط الإمامي.
من أروع المواقف الكلامية ـ الإمامية إثبات التوحيد الأفعالي بواسطة سورة الحمد؛ قال فخر الأمّة: «ورد الشام معتزليٌّ، فكتب هشام بن عبد الملك إلى أبي جعفرٍ الباقر؛ ليحضر ويتكلَّم معه، فقال: إنّي كبيرٌ، والآن ابني جعفرٌ ينوب عنّي في المناظرة، فجاء جعفرٌ الصادق وقال للقَدَريّ: اقرأ الفاتحة، فقرأ، فلمّا بلغ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال له جعفر الصادق: على ماذا تستعين بالله، وعندك أن الفعل منك؟! وجميع ما يتعلَّق بالإقدار: بالتمكين والألطاف، قد حصلَتْ وتمّت. فانقطع القَدَري بهذا الحرف الواحد»([40]). ونقله التفتازاني بعينه([41]). لكنّ «الإقدار بالتمكين والألطاف» بحثٌ متأخِّرٌ، لمّا يُطرحْ في زمن الإمام الباقر، فهو ليس من كلام الإمام.
هذان العَلَمان العظيمان تأثَّرا بهذا الموقف، ونقلاه عن الإمام×. وهناك من تأثر به فقط؛ مثلاً:
قال ابن جزي: «﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾… دليلٌ على بطلان قول القَدَرية والجَبْرية، وأن الحقّ بين ذلك»([42]).
عَدَّ ابن قيِّم الجوزية القَدَرية ممَّن يطبِّق ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ولا يطبِّق ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾([43]).
وهناك موقفٌ كلاميّ ـ إمامي ما نسبه إلى أئمّتنا أحدٌ من أهل السنّة، إلاّ فخر الأمّة الإسلامية؛ قال مستدلاًّ:
1ـ على إثبات الصانع: «سُئل عليٌّ… رضي الله عنه… فقال: الدليل عليه: نقص العزائم، وفسخ الهِمَم»([44]).
2ـ على نفي التفويض: «وهذه الدلالة أخذتُها من قول أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه: عرفْتُ ربّي بنقص…»([45]).
وهذا معناه أن القائل بالتفويض إنما ينفي دليلاً قاطعاً على وجود الله؛ فهو، شاء أم أبى، يحارب الله.
مسكُ الختام كلامُ الإمام×، كما رواه عنه الشهرستاني: «إن الله ـ تعالى ـ أراد بنا شيئاً، وأراد منا شيئاً؛ فما أراده بنا طواه عنّا، وما أراده منّا أظهره لنا؛ فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عمّا أراده منّا؟!»([46]).
هذا النصُّ العظيم علَّم أمَّتنا أن تميِّز بين الإرادتين: التكوينية؛ والتشريعية؛ وأن تكفّ عن البحث في الأولى.
الشهرستاني حمل «سائر الآيات في الإرادة» على هذه العبارة([47])، ففسَّر كلام الله عزَّ وجلَّ بكلام الإمام×.
ابن تيمية قال: «الإرادة نوعان…: التحقيق إثبات النوعين؛ كما أثبت ذلك السَّلَف والأئمّة؛ ولهذا قال جعفرٌ:…»([48]).
ابن تيمية، بعبارته هذه، الجامعة المانعة، يؤكِّد قوله بأن «جعفر بن محمد من أئمّة الدِّين باتّفاق أهل السنّة»([49]).
نكتةٌ ببليوغرافيةٌ
روى البيهقي (384 ـ 458هـ) وابن عساكرٍ (499 ـ 571هـ)، عن أبي نعيمٍ الأصبهاني أنه قال: «حدَّثنا…: حدَّثنا أحمد بن يحيي ابن الوزير: حدَّثنا محمد بن إدريس الشافعي، عن يحيي بن سليمٍ، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفرٍ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، أنه خطب الناس يوماً، فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله: موادّ من الحكمة، وأضدادٌ من خلافها؛ فإنْ سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإنْ هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإنْ ملكه اليأس قتله الأسف، وإنْ عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإنْ أسعد بالرضا نسي التحفُّظ، وإنْ ناله الخوف شغله الحزن، وإنْ أصابته مصيبةٌ قصمه الجوع، وإنْ أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإنْ عضّته فاقةٌ شغله البلاء، وإنْ أجهده الجوع فند به الضعف؛ فكلّ تقصيرٍ به مضرّ، وكلّ إفراطٍ له مفسدٌ.
فقام إليه رجلٌ ممَّنْ كان شهد معه الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القَدَر، فقال: بحرٌ عميقٌ، فلا تَلِجْه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القَدَر، قال: بيتٌ مظلمٌ، فلا تَدْخُلْه. قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القَدَر، قال: سرّ الله، فلا تتكلَّفْه. قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا…، قال: أما إذا أبيتَ فإنه أمرٌ بين أمرَيْن؛ لا جَبْرٌ ولا تفويضٌ.
قال: يا أمير المؤمنين، إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرُك، فقال: عليَّ به، فأقاموه، فلمّا رآه سلَّ من سيفه قدر أربع أصابع، فقال: الاستطاعة؛ تملكها مع الله، أو من دون الله؟ وإيّاك أن تقول أحدهما، فترتدّ، فأضرب عنقك، قال: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قُل: «أملكها بالله الذي إنْ شاء ملَّكنيها»([50]).
هذا النصّ الإمامي ـ الكلامي، الخالد الرائد، هل ذكره أبو نعيمٍ الأصبهاني نفسه في مصنَّفاته؟
هذا ما لم يُشِرْ إليه العَلَمان العظيمان المذكوران، لكنْ أشار إليه، بل صرَّح به عَلَمان عظيمان آخران، هما:
1ـ برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي الرباط (809 ـ 885هـ).
2ـ علاء الدين ابن قاضي خان علي بن عبد الملك المتّقي الهندي (888 ـ 975هـ).
سطر الأول ما نصُّه: «روي أبو نعيمٍ في الحلية، في ترجمة إمامنا الشافعي، بسنده إليه، ثم إلى عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، أنه خطب الناس يوماً، فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان… إنْ شاء ملَّكنيها»([51]).
سطر الثاني ما نصُّه: «عن محمد بن إدريس الشافعي، عن يحيى… عن جعفر بن محمدٍ، عن… عليّ بن أبي طالبٍ، أنه خطب الناس يوماً، فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان… إنْ شاء ملَّكنيها (حل)»([52]). حل: حلية الأولياء.
لكنّنا بحثنا «حلية الأولياء» المطبوع فلم نعثر على هذا النصّ، وهذا معناه أن المطبوع قد سقط منه هذا النصّ.
موقفٌ مختلقٌ = تأثير ٌ مختلقٌ
انفردت مصادرنا بذكر موقفٍ لإمامنا الكاظم× يُنكر فيه خلق المعاصي، ويتأثَّر به أبو حنيفة:
أما الكليني فما ذكره، أبداً وبتاتاً، لكنْ جاء الصدوق فرواه مسنداً في ثلاثةٍ من مصنَّفاته؛ وهو:
«خرج أبو حنيفة ذات يومٍ من عند الصادق×، فاستقبله موسى بن جعفرٍ×، فقال له: يا غلام؛ ممَّنْ المعصية؟ فقال: لا تخلو من ثلاث: إمّا أن تكون من الله عزَّ وجلَّ، وليست منه، فلا ينبغي للكريم أن يعذِّب عبده بما لم يكتَسِبْه؛ وإما أن تكون من الله عزَّ وجلَّ ومن العبد، فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضعيف؛ وإما أن تكون من العبد، وهي منه، فإنْ عاقبه الله فبذنبه، وإنْ عفا عنه فبكرمه وجوده»([53]).
جاء المفيد فقال: «الصحيح عن آل محمدٍ^ أن أفعال العباد غير مخلوقةٍ لله سبحانه وتعالى»، ثمّ ذكر هذا الموقف([54]).
لكنْ: هل هذا الموقف الدالّ على «أن أفعال العباد غير مخلوقةٍ لله سبحانه وتعالى» هو «الصحيح عن آل محمدٍ^»؟
أما المفيد فلم يذكُرْ سنده، أبداً وبتاتاً؛ فكيف يدّعي بضرسٍ قاطعٍ أنه هو «الصحيح عن آل محمدٍ^»؟!
وأما الصدوق فذكر رجال سنده كلّهم:
وهو أوّلهم، ولا شَكَّ في كونه ثقةً «صدوقاً»؛
وثانيهم شخصيةٌ مجهولةٌ؛ اسماً ونسباً: في «الأمالي»: أحمد بن محمد بن أحمد، وفي غيره: محمد بن أحمد!
أما لقبه ففي «التوحيد»: الشيباني، وفي غيره: السناني! ومع ذلك كلّه يروي عنه الصدوق مترضِّياً عليه!
فهل يكفي ترضّي الصدوق عليه في أن نعدّه ثقةً «صدوقاً»؟! يحتمل؛ فهو «محتمل الوثوق»، لا «صدوق».
ثالث رجال السند: محمد بن أبي عبد الله الكوفي، المتَّحد مع «محمد بن جعفر الأسدي» الثقة.
رابع رجال السند سهل بن زيادٍ الآدمي؛ قال النجاشي الرجالي فيه: «كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمدٍ فيه. وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب، وأخرجه من قم إلى الريّ، وكان يسكنها»([55]).
فالسند غير صحيحٍ؛ فكيف حكم المفيد عليه بالصحّة؟ هل وجد له سنداً آخر؟ فلِمَ لم يذكُرْه؟
قال ابن تيمية: «…كيف والكذب عليها ظاهرٌ؛ فإن أبا حنيفة من المقرّين بالقَدَر؛ باتّفاق أهل المعرفة به وبمذهبه… فكيف يحكي عن أبي حنيفة أنه استصوب قول مَنْ يقول: إن الله لم يخلق أفعال العباد؟! وأيضاً فموسى بن جعفرٍ وسائر علماء أهل البيت متَّفقون على إثبات القَدَر، والنقل بذلك عنهم ظاهرٌ معروفٌ. وأيضاً فهذا الكلام المحكيّ… يقوله أصاغر القَدَرية وصبيانهم، وهو معروفٌ من حين حدثت القَدَرية؛ قبل أن يولد موسى بن جعفرٍ…»([56]).
9ـ التوحيد العبادي
أمر أمير المؤمنين× قائد جيشه؛ قائلاً: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟!… أنْ: لا تدع تمثالاً إلاّ طمَسْتَه، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويتَه». صحَّحه مسلمٌ([57])، محدّثٌ سنّي في القرن الثالث الهجري.
عاصر هذا المحدِّث السنّي محدِّثٌ شيعي، إمامي، اثنا عشري، فروى مسنداً:
ـ «عن أبي عبد الله، عن آبائه^، عن أمير المؤمنين× قال: بعثني رسول الله فقال: لا تَدَعْ قبراً إلاّ سوَّيْتَه».
ـ «عن أبي عبد الله، عن آبائه^، عن عليٍّ× قال: أرسلني رسول الله في هَدْم القبور، وكسر الصُّوَر»([58]).
خلف هذين العَلَمين العظيمين المتعاصرين عَلَمان عظيمان متعاصران: البيهقي السنّي، والطوسي الشيعي؛
روى الأوّل ما رواه سلفه مسلمٌ، عن أمير المؤمنين×([59]).
وروى الثاني ما رواه سلفه أيضاً، بل وزاد عليه([60]).
مَنْ أراد أن يعبد الله وجب عليه إزالة وإزاحة أيّ أثرٍ لمَنْ كان يعبد غير الله؛ سواءٌ كان تمثالاً أو قبراً أو….
مَنْ أراد أن يعبد الله وجب عليه بناء وإعلاء كلّ أثرٍ لمَنْ كان لا يعبد غير الله؛ سواءٌ كان تمثالاً أو قبراً أو…
ما اكتفى إمام الكلام× بالأمر بتسوية القبور، بل أضاف إلى هذا الأمر موقفاً عمليا خالداً رائداً؛
قال مالكٌ: «بلغني أن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه كان يتوسَّد القبور، ويضطجع عليها»؛ تأكيداً عمليّاً على تسويتها؛
قال شارح كلام مالكٍ: «بلاغه صحيحٌ، وقد أخرجه الطحاوي برجالٍ ثقاتٍ عن عليٍّ»؛ لكنْ:
وردت أحاديث نبويّةٌ ناهيةٌ عن القعود على القبور، صحيحة السند([61])، فكيف نجمع بينها وبين هذا الموقف؟
قال مالكٌ: «وإنما نهى عن القعود على القبور، فيما نرى، للمذاهب»([62]). نجمع بينهما بتخصيص النهي بـالـ «مذاهب»؛
قال شارح كلام مالكٍ: ««للمذاهب» يريد حاجة الإنسان»؛ خصَّص مالكٌ النهي النبوي بقضاء الحاجة؛ لكنْ:
كيف أباح مالكٌ لنفسه أن يؤوِّل هذه الأحاديث النبويّة الصحيحة؟ أجاب شارح كلامه: «بدليل فعل عليٍّ»([63]).
فمالكٌ إنما خصَّص وأوَّل السنّة النبويّة بالسنّة العلويّة، وكذلك فعل أبو حنيفة والشافعي([64])؛ تسليماً مطلقاً لعليٍّ.
من أخطر المواقف العملية الكلامية ـ الإمامية إحراق عليٍّ مَنْ عبده؛ دفاعاً خالداً عن التوحيد العبادي:
روى الكليني، بسندين صحيحين، عن إمامنا الصادق: «أتى قومٌ أمير المؤمنين فقالوا: السلام عليك يا ربَّنا، فاستتابهم، فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرةً، وأوقد فيها ناراً، وحفر حفيرةً أخرى إلى جانبها، وأفضى ما بينهما، فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الأخرى (ناراً) حتّى ماتوا»([65]).
هذا هو التقرير الصحيح الدقيق للواقعة؛ ليس فيه ذكرٌ لـ «عبد الله بن سبأ» المختلق، ولا لأيّ شخصٍ آخر.
صحَّح البخاري أنه «أتى عليٌّ رضي الله عنه بزنادقةٍ فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عبّاسٍ، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم؛ لنَهْي رسول الله: لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولقتلتُهم؛ لقول رسول الله: مَنْ بدَّل دينه فاقتلوه»([66]).
سؤالٌ يطرح نفسه: مَنْ المخطئ؟ المخطئ هو الذي نقل الخبر إلى ابن عبّاسٍ نقلاً غير دقيق؛ من جهتين:
الأولى: كون القوم «بدَّلوا دينهم» إلى دينٍ آخر، والدقيق هو أن القوم «أحدثوا» ديناً جديداً: عبادة عليٍّ.
الثانية: إن عليّاً أحرقهم، والدقيق هو ما ذكره إمامنا الصادق: «أوقد في الحفيرة الأخرى (ناراً) حتّى ماتوا».
قال ابن قتيبة (213 ـ 276هـ): «ولا نعلم في أهل البِدَع والأهواء أحداً ادّعى الربوبيّة لبشرٍ غيرهم؛ فإنّ عبد الله بن سبأ ادّعى الربوبية لعليٍّ فأحرق عليٌّ أصحابه بالنار، وقال:
لمّا رأيتُ الأمر أمراً منكراً *** أجَّجْتُ ناري ودعَوْتُ قنبرا»([67])
قال ابن أبي الحديد، مسنداً: «إن عليّاً× مرّ بقومٍ وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال: أسَفَرٌ أم مرضى؟ قالوا: لا…، قال: فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمّة والجِزْية؟ قالوا: لا، قال: فما بال الأكل في نهار رمضان؟ فقاموا إليه فقالوا: أنتَ أنتَ، يومئون إلى ربوبيّته، فنزل× عن فرسه، فألصق خدَّه بالأرض، وقال: ويلكم، إنما أنا عبدٌ من عبيد الله، فاتَّقوا الله، وارجعوا إلى الإسلام، فأبَوْا، فدعاهم مراراً، فأقاموا على كفرهم، فنهض إليهم، وقال: شدُّوهم وثاقاً، وعليَّ بالفعلة والنار والحطب، ثمّ أمر بحفر بئرين، فحفرتا: إحداهما سرباً، والأخرى مكشوفةً، وألقى الحطب في المكشوفة، وفتح بينهما فتحاً، وألقى النار في الحطب، فدخَّن عليهم، وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبَوْا، فأمر بالحطب والنار، فأُلقي عليهم، فأحرقوا»([68]). الفقرة الأخيرة غير مطابقةٍ للتقرير الدقيق.
قال ابن طاهرٍ المقدسي(355هـ):«السبئية قالوا لعليٍّ: أنت إله العالمين…؛ فاستعظم عليٌّ ذلك…، وأمر بهم فأحرقوا بالنار، فدخلوا النار وهم يضحكون، ويقولون: الآن صحَّ لنا أنك إلهٌ؛ إذ «لا يعذِّب بالنار إلاّ ربُّ النار»!»([69]).
قال ابن عساكرٍ (499 ـ 571هـ): «قامَتْ إليه طائفةٌ، وهم السبئية، وكانوا أحد عشر رجلاً، فقال: ارجعوا؛ فإني عليُّ بن أبي طالبٍ، أبي مشهورٌ وأمّي مشهورةٌ، وأنا ابن عمّ محمدٍ؛ فقالوا: لا نرجع، دَعْ داعيك؛ فأحرقهم بالنار، وقبورهم في صحراء، أحد عشر مشهورةٌ، فقال مَنْ بقي… منهم: علمنا أنه إلهٌ؛ واحتجّوا بقول ابن عبّاسٍ: لا يعذِّب بالنار إلاّ خالقها…. فقال ابن عبّاسٍ: قد عذَّب أبو بكرٍ بالنار، فاعبدوه أيضاً!»([70]). هذان النصّان عكس نصّ البخاري.
أضاف ابن عساكر، بسندٍ آخر: «جاء أناسٌ إلى عليّ بن أبي طالبٍ، من الشيعة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أنتَ هو؛ قال: مَنْ أنا؟ قالوا: أنتَ هو، قال: ويلكم، مَنْ أنا؟ قالوا: أنتَ ربّنا أنتَ ربّنا، قال: ارجعوا، فأبَوْا، فضرب أعناقهم، ثم خدَّ لهم في الأرض، ثمّ قال: يا قنبر، ائتني بحزم الحطب، فأحرقهم بالنار، ثمّ قال: لمّا رأيتُ الأمر أمراً منكراً…»([71]).
قال ابن تيمية (661 ـ 728هـ): «أمر (عليٌّ رضي الله عنه) بإحراق أولئك الذين ادّعوا فيه الإلهية؛ فإنه خرج ذات يومٍ، فسجدوا له، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو، قال: مَنْ أنا؟ قالوا: أنتَ الله الذي لا إله إلاّ هو، فقال: ويحكم؛ هذا كفرٌ، ارجعوا عنه وإلاّ ضربْتُ أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخَّرهم ثلاثة أيامٍ؛ لأن المرتدَّ يُستتاب ثلاثة أيامٍ، فلمّا لم يرجعوا أمر بأخاديد من نارٍ فخدّت عند باب كندة، وقذفهم في تلك النار»([72]).
حسَّن الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 ـ 852هـ) أنه «قيل لعليٍّ: إن هنا قوماً… يدَّعون أنك ربّهم،… فقال لهم: ويلكم؛ ما تقولون؟ قالوا: أنتَ ربّنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم؛ إنما أنا عبدٌ مثلكم؛ آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إنْ أطعتُ الله أثابني إنْ شاء، وإنْ عصيتُه خشيتُ أن يعذِّبني، فاتَّقوا الله وارجعوا، فأبَوْا، فلما كان الغد غدَوْا عليه، فجاء قنبرٌ، فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتُم ذلك لأقتلنَّكم بأخبث قَتْلةٍ، فأبَوْا إلاّ ذلك، قال: يا قنبر، ائتني بفعلةٍ معهم مرورهم، فخدّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبَوْا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها، حتّى إذا احترقوا قال:…»([73]).
هذا الموقف العملي العلوي من أحسم وأحكم المواقف الكلامية ـ الإمامية في الدفاع عن التوحيد العبادي.
نعيد ثانيةً: إمامنا× ما أحرقهم بالنار، أبداً وبتاتاً، بل كما صحّ عن صادقنا×: خنقهم بدخان النار.
هذا أمرٌ لم يلتفت إليه علماء وعظماء الأمّة الإسلامية، حتّى ابن عبّاسٍ، مع أنه عاصر إمامنا×!
نعيد ثانيةً: القوم ما «بدَّلوا» دينهم، بل «أحدثوا» ديناً جديداً، فـ «أحدث» إمامنا فيهم عقاباً جديداً: الدخان.
من أخطر المواقف العملية الكلامية ـ الإمامية موقف إمامنا الباقر×؛ دفاعاً خالداً عن التوحيد العبادي: «بيان بن سمعان التميمي… من الغلاة القائلين بألوهيّة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه؛ قال:
حلّ في عليٍّ جزءٌ إلهيّ، واتّحد بجسده؛ فيه كان يعلم الغيب؛ إذ:
أخبر عن الملاحم وصحّ الخبر، وبه كان يحارب الكفّار وله النصرة والظَفَّر، وبه قلع باب خيبر؛ وعن هذا قال: والله ما قلعتُ باب خيبر بقوّةٍ جسدانية…، غذائية، ولكنْ قلعتُه بقوّةٍ رحمانية ملكوتية؛ بنور ربّها مضيئةٍ؛ فـ: القوّة الملكوتية في نفسه كالمصباح في المشكاة، والنور الإلهي كالنور في المصباح؛ قال: ورُبَما يظهر عليٌّ في بعض الأزمان. وقال في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ﴾؛ أراد به: عليّاً؛ فهو الذي يأتي في الظُّلَل، والرَّعد صوته، والبرق تبسُّمه.
ثم ادّعى بيان أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهي؛ بنوعٍ من التناسخ، ولذلك استحقّ أن يكون إماماً وخليفةً!…
ومع هذا الخِزْي الفاحش كتب إلى محمد بن عليّ بن الحسين الباقر ـ رضي الله عنهم ـ، ودعاه إلى نفسه؛ وفي كتابه: «أسلِمْ تسلَمْ، ويرتقي مَنْ سلم؛ فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوّة». فأمر الباقر أن: يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به، فأكله، فمات في الحال، وكان اسم ذلك الرسول عمر بن أبي عفيفٍ»([74]).
«البيانية؛ أصحاب بيان النَّهْدي، وقالوا:… «بيان» نبيّ؛ وتأوَّلوا في ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا «بَيَانٌ» لِلنَّاسِ وَهُدَىً﴾، وادّعى بيان النبوّة، وكتب إلى أبي جعفرٍ محمد بن عليّ بن الحسين×، يدعوه إلى نفسه، والإقرار بنبوّته، ويقول له: «أسلِمْ تسلَمْ، وترتقِ في سُلَّم، وتنْجُ وتغنَمْ؛ فإنك لا تدري أين يجعل الله النبوّة والرسالة؟ و﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾، وقد أعذر مَنْ أنذر»، فأمر أبو جعفرٍ×… رسول بيان؛ فأكل قرطاسه الذي جاء به… وكان اسم رسوله: عمر بن عفيفٍ الأزدي»([75]).
هذا الموقف العملي، الإمامي ـ الكلامي، أمام غلاة الشيعة موافقٌ مطابقٌ للموقف العلويّ أمام غلاة الشيعة؛
أولئك الغلاة ما «بدَّلوا» دينهم، بل «أحدثوا» ديناً جديداً، فـ «أحدث» إمامنا فيهم عقاباً جديداً: الدّخان؛
هؤلاء الغلاة ما «بدّلوا» دينهم، بل «أحدثوا» ديناً جديداً، فـ «أحدث» إمامنا فيهم عقاباً جديداً: أكْل قرطاسهم.
ابن عبّاسٍ عارض إمامنا؛ لأنه خلط وخبط بين حكمين، ولم يميِّز بينهما: تبديل الدين، وإحداث دين؛
ابن عبّاسٍ عارض إمامنا؛ لأنه سمع أن إمامنا «أحرقهم بالنار»؛ خلافاً لنهي النبيّ، وكان الواقع غير ذلك.
إمامنا الباقر أيَّد وأكَّد بموقفه الخالد الرائد موقف إمامنا عليٍّ؛ إذ «أحدث» عقاباً جديداً في حقّ الغلاة.
علماء وعظماء الأمة الإسلامية، كلّهم، أيَّدوا وأكَّدوا؛ بسكوتهم وثبوتهم، هذا الموقف التأريخي ـ الكلامي.
التوحيد العبادي هو أوّل مضامين الرسالة النبوية والشريعة المحمدية: «قولوا: «لا إله إلا الله» تفلحوا».
التوحيد العبادي هو أوّل مضامين الذكر الحكيم والقرآن الكريم: تكرّر ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ 30 مرةً؛ لكنْ:
قال عزَّ وجلَّ: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾؛
سألَتْ الأمّة الإسلامية: لم تكرّر ذكر التوحيد العبادي في آيةٍ واحدةٍ مرّتين؟
قال الثعلبي(427هـ): «قال جعفرٌ الصادق: الأولى وصفٌ وتوحيدٌ؛ والثانية رسمٌ وتعليمٌ؛ يعني قولوا:…»([76]).
قال ابن الجوزي (508 ـ 597هـ): «قال جعفرٌ الصادق: وإنما كرّر…لأن الأولى وصفٌ وتوحيدٌ؛ والثانية…»([77]).
قال القرطبي(600 ـ 671هـ):«قال جعفرٌ الصادق: الأولى وصفٌ وتوحيدٌ؛ والثانية رسمٌ وتعليمٌ؛ يعني قولوا:…»([78]).
قال ابن تيميّة (661 ـ 728هـ): «ذكر عن جعفر بن محمدٍ أنه قال: الأولى وصفٌ وتوحيدٌ؛ والثانية رسمٌ وتعليمٌ. ومعنى هذا أن الأولى هو ذكر أن الله شهد بها… والتالي للقرآن إنما يذكر أن الله شهد بها هو والملائكة وأولو العلم، وليس في ذلك شهادةٌ من التالي نفسه بها، فذكرها الله مجرّدةً ليقولها التالي؛ فيكون التالي قد شهد بها أنه لا إله إلاّ هو»([79]).
هذا الشرح الرائع اللامع لكلام إمامنا الصادق× كرَّره وقرَّره تلميذه ابن القيِّم في تفسيره القيِّم؛ لكنْ: من أعجب العجائب، بل وأغرب الغرائب، أنه بدَّل اسم «جعفر بن محمد» باسم «محمد بن جرير الطبري»!([80]).
ونحن لو راجعنا تفسير الطبري وبحثنا فيه، من ألفه إلى يائه، لما وجدنا لهذه العبارة عَيْناً ولا أثراً!
كأنّ ابن القيِّم التفت إلى هذا الأمر، في مصنَّفه الآخر، فجاء باسمٍ جديدٍ، وهو: «محمد بن جعفر»!([81]).
قال الخازن (678 ـ 741هـ): «قيل: إن الأوّل وصفٌ وتوحيدٌ؛ والثاني رسمٌ وتعليمٌ؛ أي: قولوا:…»([82]).
لو قارنّا بين هذه النصوص المتعاصرة لوجدنا بوضوحٍ امتياز ابن تيميّة في إكرامه وإعظامه لإمامنا الصادق، بل لو قارنّا بين جميع النصوص الواردة لوجدنا بوضوحٍ امتياز ابن تيميّة في إكرامه وإعظامه لإمامنا الصادق؛
فاق ابن تيميّة معاصرَيْه، ابن القيِّم والخازن، بأن ذكر اسم إمامنا الصادق واسم أبيه الباقر وبصورةٍ صحيحة،
فاق ابن تيمية سابقيه، الثعلبي وابن الجوزي والقرطبي، بأن شرح كلام إمامنا شرحاً مفصَّلاً، لا ملخَّصاً.
نقول: ابن تيميّة فهم كلام الإمام× على أحسن ما يُرام، وأفضل ما تستوعبه الأفهام.
التوحيد العبادي جاء به النبيّ، وتلقَّته الأمّة بالقبول؛ لكنْ بعد وفاة الرسول هل بقيت الأمّة ثابتةً عليه؟
أجاب ابن مالكٍ، مسنداً: «دخل ناسٌ من اليهود على عليّ بن أبي طالبٍ، فقالوا له: ما صبرتم بعد نبيكم إلاّ 25 سنةً حتّى قتل بعضكم بعضاً، فقال عليٌّ: قد كان صبرٌ وخيرٌ (فذكر خيراً)، ولكنْ ما جفَّتْ أقدامُكم من البحرحتّى قلتُم: ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾»([83]).
أجاب ابن الجوزي: «قال رجلٌ من اليهود لعليّ بن أبي طالبٍ: ما دفنتم نبيّكم حتّى قالت الأنصار: منّا أميرٌ؛ ومنكم أميرٌ، فقال له عليٌّ×: أنتم ما جفَّتْ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتُم: ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾»([84]).
أجاب أبو طالبٍ المكّي: «عارض عليٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ رأس الجالوت لمّا قال له: لم تلبثوا بعد نبيكم إلاّ 30 سنةً حتّى ضرب بعضكم رقاب بعضٍ بالسيف، فقال: أنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتُم لموسى:…»([85]).
أجاب الزمخشري: «عن عليٍّ رضي الله عنه أن يهوديّاً قال له: اختلفتُم بعد نبيِّكم قبل أن يجفّ ماؤه، فقال: قلتُم: ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهاً﴾ قبل أن تجفّ أقدامكم»([86]).
وأجاب النسفي بهذا الجواب بعينه([87]).
أجاب الفخر: «قال بعض اليهود لعليٍّ×: ما دفنتم نبيكم حتّى اختلفتم، فقال: إنما اختلفنا عنه، وما اختلفنا فيه، وأنتم ما جفَّتْ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتُم لنبيِّكم: ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾»([88]).
أجاب ابن عادلٍ الحنبلي بمثل ما أجاب به فخر الأمّة الإسلامية؛ غير أنه بدَّل «×» بـ «رضي الله عنه»([89]).
أجاب النظّام النيسابوري بمثل جواب الزمخشري، وأضاف إليه عبارة الفخر: «اختلفنا عنه، لا فيه»([90]).
أجاب اليافعي: «من الأجوبة المعجبة المقحمة ما رُوي أنه… لمّا قال له بعض اليهود:… قال له عليٌّ رضي الله عنه: فإنكم ما جفَّتْ أقدامكم من البحر حتّى قلتُم معشر اليهود: ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾»([91]).
صرَّح إمام الكلام× بأفضل بيانٍ، أمام العالم كلّه، بأن الأمّة الإسلامية بقيت ثابتةً على التوحيد العبادي.
وبما أنها بقيت ثابتةً راسخةً على التوحيد العبادي وقف الإمام× منها موقفاً ناصراً مؤازراً، معيناً لا مهيناً؛
«رُوي أن رجلاً قال لعليٍّ: ما بال خلافة أبي بكرٍ وعمر كانت صافيةً، وخلافتك أنت وعثمان متكدِّرةٌ؟ فقال: إن أبا بكرٍ وعمر كنتُ أنا وعثمان من أعوانهما، وكنتَ أنت وأمثالك من أعواني وأعوان عثمان»([92]).
أعانهما، نصرهما، آزرهما في سبيل نشر التوحيد العبادي في أرجاء الكرة الأرضية، ولم يكتَفِ بذلك، بل:
صحَّح البخاري أن ابنه سأله: «أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله؟ قال: أبو بكرٍ… ثمّ عمر»([93]). بل صرَّح ابن تيميّة:
«خير هذه الأمّة بعد نبيِّها: أبو بكرٍ، ثمّ عمر؛ كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ؛ موقوفاً ومرفوعاً»([94]).
هذان الموقفان التأريخيان الإماميان ـ الكلاميان أثَّرا أكبر وأكثر تأثيرٍ في تأريخ حياة الأمّة الإسلامية.
جمهور الأمة الإسلامية تأثَّر كامل التأثُّر بهذين الموقفين العظيمين الجسيمين، الخالدين الرائدين؛ لكنْ:
إنْ كان إمامنا× يرى أبا بكرٍ خير الناس بعد الرسول فلِمَ توقَّف في بيعته، وما بايعه إلاّ بعد مدّةٍ؟
إنْ كان أبو بكرٍ خير الناس بعد الرسول فلِمَ هجرَتْه فاطمة، «فلم تَزَل مهاجرته حتّى توفِّيت»؟!([95]).
إنْ كان أبو بكرٍ خير الناس بعد الرسول فلِمَ اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؟
الجواب الصحيح عن هذه الأسئلة الثلاثة هو: التوحيد العبادي؛ توضيحه أن الأمّة سألَتْ: مَنْ الخليفة؟:
إمامنا× ما كان يُقاس به أحدٌ في الدفاع عن التوحيد العبادي؛ لذا قال: «نرى لنا في هذا الأمر نصيباً»([96]).
سيدة نساء أهل الجنّة رأت الرأي نفسه، فعدَّتْ أبا بكرٍ غاصباً حقّ أوّل وأفضل المدافعين عن التوحيد.
الأنصار رأوا أنه لولا موقفهم في الدفاع عن التوحيد العبادي لما بقي للتوحيد العبادي عينٌ ولا أثرٌ.
فالكلّ كانوا متَّفقين على أن المناط في الخلافة هو: التوحيد العبادي، والدفاع عنه، والتضحية من أجله.
انقضَتْ الأيام وتوفِّيت سيّدة نساء أهل الجنّة، ثابتةً راسخةً على عقيدتها؛ في عليٍّ وأبي بكرٍ ومَنْ بايعه.
تأثَّرت شيعة فاطمة وعليٍّ بهذا الموقف العلويّ ـ الفاطميّ، وبقيَتْ ثابتةً راسخةً على عقيدتها فيهم.
انقضت الشهور والدهور وإذا بعليٍّ ـ إنْ صحَّ النقل عنه ـ يرى أن خير الناس بعد رسول الله أبو بكرٍ، ثمّ عمر! إن إمامنا× بموقفه هذا أفنى نفسه؛ خدمةً خالصةً خالدةً لتوحيد المسلمين تحت راية التوحيد العبادي.
التوحيد العبادي هو هو هدف خلق الجنّ والإنس: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.
فسَّرها إمام الكلام×: «إلاّ لـ: آمرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي».
اعتمد الزجّاج([97])؛ والماتريدي([98])؛ والطبراني([99])؛ والواحدي([100])؛ وابن المنير([101])؛ وابن كثير([102])، هذا التفسير؛ مثلاً:
صرَّح رأس الماتريدية: «دلّ قوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ﴾ على أن تأويل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ على إضمار «الأمر»؛ أي: إلاّ ليأمرهم بالعبادة على كلّ حالٍ؛ لأنه لو خلقهم للعبادة ما قدروا على غيره».
علّق الشهاب على كلام الماتريدي: «وهو كلامٌ حَسَنٌ دقيقٌ»([103]).
جاء ابن تيميّة، فسجَّل أروع ما يمكن تسجيله: «على هذا فيجوز أن يُقال: إن الله إنما خلق الجنّ والإنس ليعبدوه؛ فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره، وبها يحصل محبوبه، وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم، وإنْ كان منهم مَنْ لم يعبُدْه، ولم يجعَلْه عابداً له؛ إذ كان في ذلك الجعل تفويت محبوباتٍ أخر، هي أحبّ إليه من عبادة أولئك، وحصول مفاسد أخر هي أبغض إليه من معصية أولئك.
ويجوز أيضاً أن يُقال: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ فإنه أراد بخلقهم: (ما هم) صائرون إليه؛ من الرحمة والاختلاف.
ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أُمروا بها، وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون، وكلاهما مرادةٌ له؛ تلك مرادةٌ بأمره، والموجود منها مرادٌ بخلقه وأمره؛ وهذه مرادةٌ بخلقه، والمأمور منها مرادٌ بخلقه وأمره؛ وهذا معنى ما يُروى عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في قوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ قال: معناه: إلاّ لآمرهم أن يعبدوني، و…،
واعتمد الزجّاج هذا القول؛
فرواه ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾؛ قال: لآمرهم وأنهاهم»([104]).
لِمَ لا يحقّ لنا أن نعبد غير الله؟ لأن غيره غير قادرٍ على «البداء»، بل الله وحده هو القادر على «البداء»؛
ما هو البداء؟ أحد مصاديقه هو ما رواه الترمذي، وحسَّنه هو والألباني، عن النبيّ: «لا يردّ القضاء إلاّ الدعاء»([105]).
فنبيُّنا، بل ربُّنا، هو أوَّل مَنْ قال بأحد مصاديق البداء: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، فأغيِّر القضاء لأجل الدعاء.
فلو قيل بعدم إمكان البداء؛ أي بعدم إمكان تغيير القضاء، فما هي فائدة، ثمرة، نتيجة الدعاء؟
فكلّ مَنْ يدعو الله عزَّ وجلَّ فهو، شاء أم أبى، مؤمنٌ بأحد مصاديق البداء؛ بتغيير القضاء نتيجة الدعاء.
فكلّ المسلمين، بل كلّ المتديِّنين، بما أنهم متَّفقون على الدعاء، على فائدة الدعاء، متَّفقون على البداء.
لكنْ يُشْكَل: البداء في اللغة العربية هو الظهور، لا التغيير؛ فمعنى البداء لله هو الظهور لله؛ لا تغيير الله قضاءه!
هذا الإشكال ناشئٌ من قلّة العلم والإلمام باللغة العربية؛ إذ فرقٌ بين: «بدا الأمر لفلانٍ» و«بدا لفلانٍ في الأمر»؛ البداء بمعنى «بدا الأمر لله» معناه أن الأمر ما كان بادياً ظاهراً لله، ثمّ بدا وظهر له؛ هذا ما لا يعتقده مسلمٌ.
البداء بمعنى «بدا لله في الأمر» معناه أن الله كان قد قضى أمراً، ثمّ أضرب عن ذلك القضاء.
قال أحد الصادقَيْن’: «ما عبد الله بشيءٍ مثل البداء»([106]). إنما يستحقّ العبادة لكونه قادراً على تغيير القضاء.
قال إمامنا الصادق×: «ما عظّم الله بمثل البداء»([107])، بمثل الاعتقاد بقدرته التامّة على تغيير القضاء.
فسّر إمامنا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾: «وهل يمحي إلاّ ما كان ثابتاً؟ وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟»([108]).
يمحو الله ما يشاء ممّا كان ثابتاً في القضاء، ويثبت ما يشاء ممّا لم يكن في القضاء.
صرّح إمامنا×: «ما بعث الله نبيّاً حتّى يأخذ عليه… أن الله يقدِّم ما يشاء، ويؤخِّر ما يشاء»([109]).
يقدِّم الله ما يشاء ممّا كان مؤخَّراً في القضاء، ويؤخِّر ما يشاء ممّا كان مقدَّماً في القضاء.
نعم، صرَّح إمامنا×: «إن لله علمين: علمٌ مكنونٌ مخزونٌ؛ لا يعلمه إلاّ هو؛ من ذلك يكون البداء»؛ لكنّه صرح: «ما بدا لله في شيءٍ إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له»، وصرّح: «إن الله لم يَبْدُ له من جهلٍ»([110]).
هذان التصريحان يفسِّران المراد من «العلم» في التصريح السابق؛ وأنه «القضاء»، لا العلم الذاتي.
الاعتقاد بالبداء إنما هو اعتقادٌ إسلاميّ؛ من شأنه أن يوحِّد الأمّة الإسلامية تحت راية التوحيد العبادي.
أئمّتنا كانوا يعبدون الله وحده؛ لذلك كانوا عند الشدائد يفزعون إلى الله وحده؛ قال إمامنا الصادق×: «كان أبي إذا حزبه أمرٌ قام فتوضّأ، وصلّى ركعتين، ثم قال في دبر صلاته: اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كربٍ، وأنتَ رجائي في كلّ شدةٍ، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقةٌ وعُدّةٌ؛ فكم من كربٍ قد يضعف عنه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويرغب عنه الصديق، ويشمت به العدوّ؛ أنزلتُه بك وشكوتُه إليك ففرَّجْتَه وكشفتَه؛ فأنتَ صاحبُ كلّ حاجةٍ، ووليُّ كلّ نعمةٍ، وأنتَ الذي حفظتَ الغلام بصلاح أبوَيْه، فاحفظني بما حفظتَه به،…، اللهمّ، وأسألك بكلّ اسمٍ هو لك، سمَّيْتَه في كتابك، أو علَّمْتَه أحداً من خلقك، أو استأثَرْتَ به… عندك، وأسألك بالاسم الأعظم الأعظم الأعظم، الذي إذا سُئِلْتَ به كان حقّاً عليك أن تجيب؛ أن:
تصلّي على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، وأن تقضي حاجتي»([111]).
هذا هو دعاء أئمّتنا، طبق ما نقله لأمّتنا «الإمام، الحافظ، الثقة، الرحال، الجوال، محدّث الإسلام، علم المعمرين»([112]).
يؤكِّد أئمتنا، تأكيداً حاسماً صارماً، على التوحيد العبادي، وبعد هذا التأكيد الوحيد الفريد الذي لا نظير له، لا يطلبون قضاء حاجتهم من الله مباشرةً، أبداً وبتاتاً، بل بواسطة الصلاة «على محمدٍ وعلى آل محمدٍ»؛ لِمَ؟ لأن محمداً وآل محمدٍ هم قمّة التوحيد العبادي، وهذا ما يذعن له جمهور المسلمين، ومَنْ خالفه شاذٌّ نادرٌ.
تقديم هذه القمّة التوحيدية ـ العبادية أمام الحوائج في الدعاء جاء في كتب جمهور العلماء والعظماء؛ مثلاً:
روى أبو نعيم الأصبهاني، بسنده، عن وهيبٍ: «إن من الدعاء الذي لا يردّ أن يصلّي العبد 12 ركعةً… فإذا فرغ خرَّ ساجداً، ثمّ قال: سبحان الذي… لا ينبغي التسبيح إلاّ له…، أسألك اللهمّ… باسمك الأعظم، وجدّك الأعلى…، أن تصلّي على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، ثمّ يسأل الله سبحانه وتعالى ما ليس بمعصيةٍ؛
قال وهيبٌ: وبلغنا أنه كان يُقال: لا تعلِّموها سفهاءكم؛ فيتعاونوا على معصية الله عزَّ وجلَّ»([113]).
الغزالي أكَّد على المواظبة على هذه الصلاة، داعياً إياها: «صلاة الحاجة»([114]).
جاء الحافظ السَّلَفي، عبد الغني المقدسي، فروى بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «مَنْ كانت له إلى الله حاجةٌ فليصُمْ الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة تطهَّر وراح إلى الجمعة، فتصدَّق صدقةً…، فإذا صلّى الجمعة قال: اللهم إني أسألك باسمك… أن تصلّي على محمدٍ وعلى آل محمدٍ وأن تعطيني حاجتي»([115]).
أئمّتنا علَّموا أمتنا كيف يفزعون إلى الله وحده؛ روى الصدوق بسندٍ صحيحٍ عن الصادق×: «عجبت لمَنْ فزع من أربعٍ كيف لا يفزع إلى أربع؟:
عجبتُ لمَنْ خاف كيف لا يفزع إلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾؟ فإنّي سمعتُ الله عزَّ وجلَّ يقول بعقبها: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾؛
وعجبتُ لمَنْ اغتمّ كيف لايفزع إلى قوله ـ تعالى ـ: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾؟ فإني سمعتُ الله عزَّ وجلَّ يقول بعقبها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾؛
وعجبتُ لمَنْ مُكر به كيف لا يفزع إلى قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾؟ فإنّي سمعتُ الله عزَّ وجلَّ يقول بعقبها: ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾؛
وعجبتُ لمَنْ أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله ـ تعالى ـ: ﴿مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ﴾؟ فإنّي سمعتُ الله عزَّ وجلَّ يقول بعقبها: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ﴾، و«عسى» موجبةٌ»([116]).
هذه العبارات الصادقة الناطقة، التي تربط حياة الإنسان كلّها بكلام الله عزَّ وجلَّ في التوحيد، بل الإخلاص، رواها:
الحافظ أبو القاسم ابن بشكوال (494 ـ 578هـ) في كتابه «المستغيثين بالله ـ تعالى ـ عند المهمّات والحاجات»: «أخبرنا أبو محمد ابن عتابٍ، عن أبيه قال: حدَّثنا ابن نباتٍ، عن أبي زكريا يحيي بن مالكٍ قال: حدَّثنا أبو بكرٍ السلمي قال: أملى علينا أبو بكرٍ ابن دريدٍ قال: أخبرنا عبد الأوّل بن مزيد: حدَّثنا جماعةٌ، عمَّنْ حدَّثهم عن أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ رضي الله عنه أنه قال: عجبتُ لمَنْ بلي بأربعٍ كيف يغفل عن أربعٍ؟:
عجبت لمَنْ ابتُلي بالغمّ كيف لا يقول: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾؟ والله يقول: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾،
وعجبتُ لمَنْ ابتُلي بالخوف كيف لا يقول: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾؟ والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾،
وعجبتُ لمَنْ مُكر به كيف لا يقول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ﴾؟ والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾،
وعجبتُ لمَنْ رغب في شيءٍ كيف لا يقول: ﴿مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ﴾؟ والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ﴾»([117]).
أئمّتنا هم قمّة التوحيد العبادي، والنصوص، شيعيّةً وسنّيةً، متوافقةٌ متطابقةٌ على ذلك؛ مثلاً:
قال ابن الجوزي: «حجّ عليُّ بن الحسين، فلمّا أحرم واستوَتْ به راحلته اصفرّ لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبّي؛ فقيل: ما لك لا تلبّي؟ قال: أخشى أن يقول لي: لا لبَّيك، ولا سعدَيْك! فلمّا لبّى غشي عليه!
ولمّا حج جعفرٌ الصادق فأراد أن يلبّي تغيَّر وجهه؛ فقيل له: ما لك يا بن عمّ رسول الله؟ فقال:
أريد أن ألبّي، فأخاف أن أسمع غير الجواب!»([118]).
أضاف: «حجّ الحسن 15 حجةً ماشياً، وإن النجائب لتُقاد بين يديه! وخرج من ماله لله مرّتين!»([119]).
أضاف: «كان عليّ بن الحسين إذا توضّأ اصفرّ؛ فيقول له أهله…: فيقول: تدرون بين يدي مَنْ أريد أن أقوم؟!»([120]).
أضاف: «جعفر بن محمدٍ… كان مشغولاً بالعبادة عن حبّ الرياسة!»([121]).
أضاف: «عن الليث بن سعدٍ قال: حججتُ سنة 113، فأتيتُ مكّة، فلما أن صلّيت العصر رقيتُ أبا قبيسٍ، فإذا أنا برجلٍ جالسٍ وهو يدعو، فقال:… ثمّ قال: اللهمّ إني أشتهي من هذا العنب فأطعِمْنيه، اللهمّ إن برديّ قد أخلقا؛ قال الليث: فوالله ما استتمّ كلامه حتّى نظرتُ إلى سلّةٍ مملوءةٍ عنباً، وليس على الأرض يومئذٍ عنبٌ، وبردين موضوعين، فأراد أن يأكل… فقال لي: تقدَّمْ… فأكلْتُ حتّى شبعتُ، والسلة بحالها!… مَنْ هذا؟… جعفر بن محمد»([122]).
أضاف: «موسى بن جعفرٍ… كان يُدعى «العبد الصالح»؛ لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل»([123]).
أضاف الخطيب البغدادي، والحافظ المزّي، وشمس الدين الذهبي، إلى النصّ الأخير لابن الجوزي:
«روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول اللهﷺ، فسجد سجدةً في أول الليل، فسُمع وهو يقول في سجوده: عظم الذَّنْب (من) عندي، فليحسن العفو من عندك؛ يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة.
فجعل يردِّدها حتّى أصبح!»([124]).
هذا ما رواه علماء وعظماء أهل السنّة في إمامنا الكاظم×.
هذه المواقف الإمامية ـ العبادية، الخالدة الرائدة الرافدة، أثَّرت في جميع الأمّة الإسلامية؛ شيعيّةً وسنّيةً.
10ـ ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾
كيف فسَّر أئمّتنا، وأمّتنا، هذه الجملة الإلهيّة؟
مَنْ هو الكاشف؟ وما هو المكشوف؟ وما هو المكشوف عنه؟
تفسير القرآن بالقرآن يقتضي تفسير قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾: في الجملة المفسِّرة الكاشف بلقيس؛ في الجملة المفسَّرة الكاشف مالك يوم القيامة: ﴿اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ﴾.
في الجملة المفسِّرة المكشوف هو الإزار؛ في الجملة المفسَّرة المكشوف هو الإزار نفسه؟
في الجملة المفسِّرة المكشوف عنه ساقا بلقيس؛ في الجملة المفسَّرة المكشوف عنه هو ساق الله؟
لا شَكَّ ولا رَيْبَ في جواب السؤال الأوّل؛ ففي ذلك اليوم الأمور والأفعال كلّها بيد الله؛ فالكاشف هو الله.
كلّ الشكوك والمشاكل إنما هي منصبّةٌ على السؤالين الأخيرين؛ فما هو جوابهما؟
أجاب النبيّ| عن السؤال الثالث: «يكشف ربُّنا عن ساقه»، وصحَّحه البخاري،([125]). فالمكشوف عنه ساق الله.
أجاب صادق آل محمدٍ^ عن السؤال الثاني، مرّتين، في موقفين عمليّين، لا لفظيّين؛ تثبيتاً لهما في الأذهان: «أشار إلى ساقه فكشف عنها الإزار»، و«كشف إزاره عن ساقه»([126]). فالمكشوف هو «الإزار»، لا أيّ شيءٍ آخر.
بهذه المواقف النبويّة ـ الصادقية، الخالدة الرائدة، حصلت الأمّة الإسلامية على تفسير العبارة القرآنية.
لكنْ طُرح هنا سؤالٌ آخر: ما هو جنس الإزار الذي يرتديه ربُّ العزّة والعظمة؟
أجاب عن هذا السؤال إمامُنا الرضا×: «حجابٌ من نورٍ يكشف، فيقع المؤمنون سجّداً»([127]).
فالمكشوف هو: إزارٌ نورانيّ، لا إزارٌ جسمانيّ ظلمانيّ؛ فالمكشوف عنه أيضاً: ساقٌ نورانيّةٌ، لا جسمانيّةٌ.
﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، فساقه التي يكشف عنها يوم القيامة: نورٌ، لا سبيل لظلمة الأجسام إليها.
ولذلك قال كليمُ الله: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾؛ أنظرْ إلى ﴿نُور السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، إلى النُّور المطلق.
صرَّح إمام الكلام×: «فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ في الدنيا، حتّى تموت، فتراني في الآخرة»؛([128]). لكنْ:
ما هو الفرق بين العالَمَيْن؛ بحيث ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ في هذا العالَم، وتراه في ذلك العالَم؟ الجوابُ واضحٌ؛
الدنيا عالم الأجسام، والأجسام ظلامٌ، فالأبصار في هذا العالم أجسامٌ، فلا تدرك إلاّ نوراً قد خالطه ظلامٌ؛
الآخرة عالم الأنوار، فالأبصار فيه أنوارٌ، لا أجسامٌ؛ ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ أي: نورٌ، يرى النور المطلق.
ما اكتفى أئمّتنا، أبداً وبتاتاً، بتأييد وتأكيد ما صرّح به النبيّ، وصحَّحه البخاري، حول رؤية الله في الآخرة، بل علَّموا أمَّتنا درساً إمامياً ـ كلامياً، لا غاية لمتانته ولا نهاية لرزانته؛ ألا وهو رؤية الله في عالَم الدنيا قبل الآخرة. روى أبو بكرٍ الدينوري(333هـ) وابن عساكرٍ (499 ـ 571هـ)، عن أبي الحسن المدائني (135 ـ 225هـ): «بينما محمد بن عليّ بن الحسين في فناء الكعبة فإذا أعرابيٌّ، فقال له: هل رأيتَ الله حيث عبدْتَه؟ فأطرق وأطرق مَنْ كان حوله، ثمّ رفع رأسه إليه، فقال: ما كنتُ لأعبد شيئاً لم أَرَه»([129]).
معناه أن مَنْ لا يُرى ليس من حقِّه أن يطلب منّي أن أعبده؛ لأن مَنْ لا يُرى ليس لائقاً للعبادة، أبداً وبتاتاً. لكنْ قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.
نتيجة القولين هي أن الله خلق الجنّ والإنس كلّهم بحيث يرَوْنه، وإلاّ فليس من حقِّه أن يعبد، أبداً وبتاتاً.
من هنا نفهم استغراب الأنبياء من تكذيب الأغبياء: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ﴾؟! وأنتم ترَوْنه بكلّ وضوحٍ!
فالله سبحانه وتعالى لم يَدَعْ أيّ مجالٍ، لأيّ جنّي أو إنسي، لأيّ شَكٍّ في وجوده، وفي وجوب عبادته، أبداً وبتاتاً.
هذا هو ربّنا وإلهنا وسيّدنا، حَسْب ما علَّمنا وعلَّم أمّتنا أئمّتنا. هذا منتهى الرحمة والرأفة والعطف واللطف بنا؛ هذه هي الرحمة المضاعفة التي أرادها الله لنا، ولذلك أمرنا أن نصف الله في صلواتنا بـ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
سأل الأعرابيُّ إمامَنا: «وكيف رأيْتَه؟» هل بعينك الجسمانية الظلمانية؟ وهو نورٌ مطلقٌ، لا يناله ظلام الأجسام!
أجاب إمامُنا: «لم تَرَه الأبصار» الجسمانية الظلمانية، ولن تراه ما دامت جسمانيةً ظلمانيةً؛ لأن هذا أمرٌ محالٌ، أجاب إمامنا: «ولكنْ رَأَتْه القلوب»، وهي نورانيةٌ، ترى النور المطلق، رؤيةً لا شَكَّ فيها، أبداً وبتاتاً.
فحتّى المجنون المطبق يرى الله سبحانه وتعالى رؤيةً واضحةً لائحةً لا شَكَّ فيها، بل حتّى الطفل الوليد؛ والدليل هو ما قاله إمامُنا الباقر× نفسه: «فطرهم الله على المعرفة به… أخرج من ظهر آدم ذرِّيته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذرّ، فعرَّفهم وأراهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحدٌ ربَّه؛ قال رسول الله: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة»، يعني المعرفة بأن الله عزَّ وجلَّ خالقه»([130]). المتن صريحٌ، والسند صحيحٌ، وفي صدر السند زرارة.
كلّ مولودٍ، وكلّ مجنونٍ، وكلّ جنّي، وكلّ إنسي، خلق الله له قلباً يرى الله به في هذه الدنيا قبل الآخرة.
في نهاية الأمر قال الأعرابي في وصف الإمام: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
في نهاية الأمر قالت الأمة الإسلامية، الشيعية والسنّية، في وصف الإمام: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
الرؤية غير الرواية
رُبَما يقال: صحيحٌ أن الصدوق روى عن أئمّتنا موقفين عمليين، ثبتا وأثبتا أن المكشوف هو إزار الله؛ لكنّ الصدوق بنفسه فسَّر هذين الموقفين العمليين الإماميين ـ الكلاميين؛ فلِمَ ذكرتُم ما رواه، وأهملتم ما رآه؟!
الجواب واضحٌ: نحن إنما نبحث في رسالتنا عن تأثير تراث أئمّتنا؛ وتراثهم هو ما رواه عنهم، لا ما رآه هو.
أوّل ما رواه أنهم قالوا في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾: «تبارك الجبّار». والظاهر منه: تباركت ساقه سبحانه وتعالى. لم يكتَفِ أئمّتنا بهذا التصريح القولي، بل أضافوا إليه التصريح الفعلي: «ثمّ أشار إلى ساقه فكشف عنها الإزار».
هذا الموقف الخالد الرائد، الإمامي ـ الكلامي، صريحٌ بأن المكشوف عنه ساق الله، والمكشوف إزار الله سبحانه وتعالى. لم يكتَفِ أئمتنا بكلّ ذلك، بل استدلّوا بالآية نفسها: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ لساق الله، ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾؛ لِمَ لا يستطيعون السجود؟ قالوا: «أفحم القوم ودخلتهم الهيبة» بانكشاف الساق، «وشخصت الأبصار» برؤيتها.
هذا هو أوّل ما رواه عنهم، حَسْب ما نراه نحن، بل ويراه كلّ إنسانٍ عربيّ، بل كلّ إنسانٍ موضوعيّ.
ما رآه الصدوق هو: «قوله×: «تبارك الجبّار»… يعني به: تبارك الجبّار أن يوصف بالساق الذي هذا صفته».
ما رآه الصدوق ناشئٌ عن عدم فهمه الدقيق لقوله×: «تبارك الجبّار»، ولفعله×: «أشار إلى ساقه»؛ نقول:
أما فعله× فهو صريحٌ في وصفه عزَّ وجلَّ بالساق، وأما قوله× فهو تنزيهٌ له عزَّ وجلَّ عن التشبيه، لا عن الساق.
ثاني ما رواه هو أنهم سُئِلوا عن قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ فبدأوا بالتصريح الفعلي قبل القولي؛ احترازاً: «كشف إزاره عن ساقه»، معلناً عملاً أن المكشوف إزار الله، وأن المكشوف عنه ساق الله، إعلاناً لا شَكَّ فيه،
ثمّ سجد إمامُنا لساق الله، «ويده الأخرى على رأسه، فقال: «سبحان ربّي الأعلى»، وهذا هو ذكر السجود.
هذا هو ثاني ما رواه عنهم، حَسْب ما نراه نحن، بل ويراه كلّ عربيّ، شريطة كونه موضوعيّاً حياديّاً.
ما رآه الصدوق هو: «معنى قوله: «سبحان ربّي الأعلى» تنزيهٌ لله عزَّ وجلَّ أن يكون له ساقٌ»([131]).
ما رآه الصدوق ناشئٌ عن عدم تلاوته: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾، فما قاله الإمام إنّما هو ذكر السجود فقط.
إمامُنا، بهذا الموقف العملي الخالد الرائد، سجَّل لأوّل مرةٍ في التأريخ سجدةً لساق الله في الدنيا قبل الآخرة.
أئمّتنا أيَّدوا وأكَّدوا ما قاله النبيّ، وصحّحه البخاري، في رؤية ساق الله في عالم الآخرة؛ صرَّح الصدوق: «ولو أوردْتُ الأخبار التي رُويت في معنى الرؤية لطال الكتاب بذكرها وشرحها وإثبات صحّتها.
ومَنْ وفَّقه الله ـ تعالى ذكره ـ للرشاد آمن بجميع ما يَرِدُ عن الأئمّة بالأسانيد الصحيحة، وسلَّم لهم»([132]). صدق الصدوق.
11ـ السكوت
أفتى إمامُنا الباقر×: «تكلَّموا في ما دون العرش، ولا تكلَّموا في ما فوق العرش»([133]). السند موثَّقٌ.
أفتى إمامُنا الصادق×: «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»([134]). السند صحيحٌ، والمتن صريحٌ.
أوّل شخصيةٍ إسلاميةٍ عملت بهذه الفتوى الإمامية ـ الكلامية هو أعظم عظماء أهل السنّة على الإطلاق؛ قال: «لا ينبغي لأحدٍ أن ينطق في الله بشيءٍ من ذاته، بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول برأيه شيئاً»([135]).
وسُئل الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنسٍ والليث بن سعدٍ عن الأحاديث في الصفات والرؤية و… فقالوا: «اقرؤوها كما جاءت، بلا كيفٍ»([136]). لا تتكلَّموا فيما وراءها، اسكتوا عنه ولا تنطقوا، أبداً وبتاتاً.
قال سفيان بن عيينة: «ما وصف الله به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره بالعربية، ولا بالفارسية»([137]).
سُئل «إمام الأئمّة» ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال: «بدعةٌ ابتدعوها، ولم يكن أئمّة المسلمين؛ من الصحابة والتابعين وأئمّة الدين وأرباب المذاهب؛ مثل: مالك بن أنسٍ وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبلٍ وإسحاق الحنظلي ويحيى بن يحيى وعبد الله بن المبارك ومحمد بن يحيى؛ لم يكونوا يتكلَّمون في ذلك، وينهون عن الخوض فيه والنظر في كتبهم بحالٍ. والله أسأل أن يعيذنا من مضلاّت الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن»([138]). أئمّتنا وقوا أمَّتنا «من مضلاّت الفتن» بفتواهم الخالدة الرائدة.
روى «شيخ الإسلام» الهَرَوي الفتويين مسندتين، بل وزاد فتوىً ثالثةً صادقةً: «لا تتجاوزْ ما في القرآن»([139]).
قال أبو القاسم الأصبهاني: «فالذي يعتمد عليه أرباب الدين والسنّة ويعوِّلون عليه أصلان:
أحدهما: أنْ يعلم ويعتقد أن في الدين أموراً يلزمنا الإيمان بجملتها، ولا يصحّ وصولنا إلى تفصيل حقائقها،
وسبيلنا: أن ننتهي إلى ما حدّ لنا فيه، وأن نردّ الأمر إلى ما ورد من التوقيف من أحكامها؛
قال بعض العلماء: إذا انتهى الكلام إلى الله وإلى ما تفرَّد به من العلم فليس إلاّ الانتهاء والتوقيف»([140]).
«أرباب الدين والسنّة» يعتمدون ويعوِّلون على أصلٍ أسَّسه لهم أئمّتنا؛ بفتويين إماميتين ـ كلاميتين.
من الأمور التي «يلزمنا الإيمان بجملتها، ولا يصحّ وصولنا إلى تفصيل حقائقها» هو القَدَر الإلهي؛
أفتى إمامُنا× بأنه «طريقٌ مظلمٌ فلا تسلُكْه، بحرٌ عميقٌ فلا تلِجْه، سرّ الله فلا تكلَّفْه»([141]).
علَّق الآجري على هذه الفتوى الإمامية ـ الكلامية بأن مَنْ خالفها «خولف به عن طريق الحقّ»([142]).
الشافعي ما اكتفى بتقليد هذه الفتوى واتّباعها، بل رواها عن إمامنا× مسندةً([143]).
قال أحمد بن حنبل: «أصل القَدَر سرّ الله ـ تعالى ـ في خلقه؛ لم يطَّلع على ذلك ملكٌ مقربٌ، ولا نبيّ مرسلٌ. والتعمُّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلّم الحرمان، ودرجة الطغيان. فالحَذَر كلّ الحَذَر من ذلك؛ نظراً أو فكراً؛ فإن الله سبحانه وتعالى طوى علم القَدَر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾»([144]).
أعاد الطحاوي كلام أحمد بن حنبلٍ بعَيْنه؛ مقرِّراً به مذهب أبي حنيفة والأحناف([145]).
انتصر أبو المظفَّر السمعاني بهذه الفتوى العلوية لـ «أصحاب الحديث»([146]).
انتصر ابن أبي الخير العمراني بهذه الفتوى العلوية على «المعتزلة القَدَرية الأشرار»، حَسْب تعبيره([147]).
قال مقرِّر مالكٍ: «جملة القول في القَدَر أنه سرّ الله؛ لا يدرك بجدالٍ ولا نَظَرٍ، ولا تشفي منه خصومةٌ ولا احتجاجٌ»([148]).
أبو حنيفة ما اكتفى بما رُوي عن النبيّ، بل استفاد واستفاض مباشرةً من باقر العلم بعد النبيّ، فأعلن للأمّة: «أقول كما قال أبو جعفرٍ محمد بن عليّ رضي الله عنه: لا جَبْر، ولا تفويض، ولا كره ولا تسليط، والله لا يكلِّف العباد ما لا يطيقون، ولا يرضى لهم بالخوض في ما ليس لهم به علمٌ»([149]).
الشهرستاني مدح إمامنا الصادق×، ثمّ قال: «هذا قوله في الإرادة: إن الله سبحانه وتعالى أراد بنا شيئاً وأراد منّا شيئاً، فما أراده بنا طواه عنّا، وما أراده منّا أظهره لنا؛ فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عمّا أراده منّا؟!»([150]).
أمّتنا قلّدت أئمّتنا، فنطقَتْ بما نطق الله به ورسوله، وسكتَتْ عمّا سكت الله عنه ورسوله.
12ـ وجه الله
ما هو المراد بوجه الله؟ لقد تكرَّر هذا التعبير في القرآن الكريم؛ دون بيان المراد منه.
أوّل مَنْ فسَّر هذا التعبير القرآني، في العالم الإسلامي، هو إمام الكلام×؛ ضمن موقفٍ خالدٍ رائدٍ رافدٍ:
قال الحكيم الترمذي(نحو 320هـ): «سأل رجلٌ عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه شيئاً، فلم يُعْطه، فقال: أسألك بوجه الله سبحانه وتعالى، فقال له: كذبْتَ؛ ليس بوجه الله سألتني؛ إنما وجه الله: الحقّ، ولكنْ سألتَ بوجهك الخَلْق»([151]).
قال المفسِّر الثعلبي(427هـ): «عن صالحٍ، عن سليمان بن عمرٍو، عن سالمٍ الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبيرٍ، عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، أن رجلاً سأله، فلم يُعْطه شيئاً، فقال: أسألك بوجه الله، فقال له عليٌّ: كذبْتَ؛ ليس بوجه الله سألتني؛ إنما وجه الله: الحقّ؛ ألا ترى قوله سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾؟ يعني: «الحقّ»، ولكنْ سألتني بوجهك الخَلْق»([152]).
وجه الله معناه: الحقّ؛ فما هو هذا الحقّ؟ الحقّ أن هذا السؤال له أجوبةٌ ثلاثةٌ، كلّها صحيحةٌ:
قال المفسِّر الثعلبي: «هو؛ عن مجاهد، الصادق: دينه؛ أبو العالية: ما أريد به وجهه»([153]).
قال المفسِّر القرطبي: «قال مجاهدٌ: معناه… هو؛ وقال الصادق: دينه؛ وقال أبو العالية وسفيان: …ما أُريد به وجهه»([154]).
جاء ابن تيمية فسطر أروع ما يمكن أن يسطر: «فإنّ ذِكْرَه ذلك بعد نهيه عن الإشراك وأن يدعو معه إلهاً آخر، وقوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾، يقتضي أظهر الوجهين؛ وهو: أن ﴿كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ﴾ ما كان لـ ﴿وَجْهه﴾؛ من: الإيمان، والأعمال، وغيرهما.
رُوي عن أبي العالية قال: إلاّ ما أُريد به وجهه؛ وعن جعفرٍ الصادق: إلاّ دينه، ومعناهما واحدٌ….
وقد رُوي عن عليٍّ ما يعمّ؛ ففي تفسير الثعلبي: عن… عليّ بن أبي طالبٍ: …إنما وجه الله: الحقّ…»([155]).
وجه الله هو «الحقّ»، لا خلاف في ذلك أبداً؛ بل الاختلاف في اللحاظ:
مجاهدٌ لاحظ الحقّ بعينه، ولم يلحَظْ معه شيئاً آخر، فوجد أن الحقّ هو: الله، فقال: وجه الله هو الله.
إمامُنا لاحظ ما يصدر من الحقّ، فوجد أن ما يصدر منه هو: دينه، فقال: وجه الله دين الله.
أبو العالية لاحظ ما يصدر إلى الحقّ، فوجد أن ما يصدر إليه هو: ما أُريد به وجهه، ففسَّره به.
استخلاص النتائج واقتطاف الثمار
اتّبعت أمَّتنا الإسلامية، بكافّة فِرَقها الفقهية والكلامية، مواقف أئمّتنا التوحيدية؛ مثلاً:
1ـ التصريح بماهية التوحيد والعدل. الأمة الإسلامية، جلُّها أو كلُّها، إماميّةٌ في التوحيد والعدل.
2ـ طرد الأوهام والأفهام عن بلوغها إلى الإحاطة والإلمام بالملك العلاّم.
3ـ التصريح بأن الله عزَّ وجلَّ «لا يدرك بالحواسّ، ولا يقاس بالناس».
4ـ تأييد وتأكيد تصريح النبيّ بأن ثمرة التوحيد هي الجنّة، وإنْ دخلها الموحِّد بعد جزائه على سيئاته.
5ـ تعليم الأمّة الإسلامية أن تبدأ كلامها بتوحيدٍ مضاعفٍ: «الحمد لله، الواحد الأحد».
6ـ نفي العددية عن التوحيد. ابن حنبل وأبو حنيفة وضعا هذا التعليم في صدر كلامهما في العقيدة.
7ـ تعليم الأمّة الإسلامية الاستدلال على التوحيد بالعلم والفكر، لا بالسيف والفتك.
8ـ التوسُّط في التوحيد: «لا نفي، ولا تشبيه». والتوسُّط في كلام الله: «لا خالق، ولا مخلوق».
يبدو أن الأشعري أخذ من النصّ الأخير أن صفات الله لا هو، ولا غيره، ونفسانية الكلام، وأزليّة الإرادة.
9ـ التصريح بالتنزيه المكاني، بتعبيراتٍ مختلفةٍ؛ وبأزليّة التنزيه المكاني، بتعبير: «كان ولا مكان».
10ـ التصريح بالتوحيد الأفعالي: «أفعال العباد مخلوقةٌ» أوّلاً، وبالتوسُّط فيه: «لا جَبْر ولا تفويض» ثانياً.
11ـ التصريح بنظرية الكسب، وبمقارنة الاستطاعة للفعل، وتفسير استطاعة الحاجّ بالزاد والراحلة.
12ـ استنباط التوحيد الأفعالي من سورة الحمد، والاستدلال على وجود الله بواسطة التوحيد الأفعالي.
13ـ تقسيم الإرادة الإلهية إلى: تكوينية؛ وتشريعية. والحثّ على بذل الجهد في استنباط الإرادة الثانية.
14ـ تصريح عليّ: «بعثني… رسول الله… أن: لا تَدَع تمثالاً إلاّ طمسْتَه، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويْتَه».
15ـ الموقف الحاسم الصارم أمام مَنْ أحدث عبادة عليٍّ: أحدث أئمّتنا في حقّهم عقوبةً جديدةً.
16ـ ذكر فلسفة ورود ذكر التوحيد العبادي: «لا إله إلاّ الله» في آية «آل عمران: 18» مرّتين.
17ـ التصريح أمام العالم كلّه بأن الأمّة الإسلامية بقيت ثابتةً على التوحيد العبادي.
18ـ الدفاع عن الأمّة الإسلامية، وعن حكّامها وأمرائها؛ لدفاعهم عن التوحيد العبادي.
19ـ تفسير قوله تعالى: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾: «إلا لآمرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي».
20ـ بدء الدعاء بالصلاة على محمدٍ وآل محمدٍ؛ لأنهم قمّة التوحيد العبادي.
21ـ التأييد والتأكيد العملي للحديث النبوي، الذي صحَّحه البخاري: «يكشف ربُّنا عن ساقه».
22ـ الإفتاء بالسكوت والإمساك وعدم الكلام في ذات الله، والتصريح بأن وجه الله هو «الحقّ».
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم. من العراق.
([1]) د. علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1: 318.
([3]) ابن أبي العزّ الدمشقي، شرح العقيدة الطحاوية: 358.
([4]) الإسفراييني، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين: 94.
([5]) ابن المرتضى، طبقات المعتزلة: 10.
([6]) د. علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1: 411.
([7]) عبد الجبّار الهمذاني، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 234.
([9]) السجستاني، سنن أبي داود: 512؛ جامع الترمذي: 423 ـ 424.
([10]) أبو بكر الآجري، الشريعة: 236؛ ابن بطّة العكبري، الإبانة 2: 38.
([11]) تفسير فرات الكوفي: 571؛ رجال الطوسي: 132.
([12]) هبة الله…اللالكائي، اعتقاد أهل السنّة والجماعة 4: 758؛ يحيي بن أبي الخير…العمراني، الانتصار في الردّ على…الأشرار 2: 520.
([13]) اللالكائي، اعتقاد أهل السنّة والجماعة 4: 758.
([14]) الشهرستاني، الملل والنحل: 69؛ عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفِرَق: 194ـ 195.
([15]) من الشيعة: الكليني في الكافي، والصدوق في التوحيد وعيون أخبار الرضا×، وأبو منصور الطبرسي في الاحتجاج.
من السنّة: الشهرستاني، الملل والنحل: 134، محمد بن يوسف أطفيش، شرح (كتاب) النيل 17: 168.
([16]) أبو المؤيّد المكّي، مناقب أبي حنيفة: 363؛ ابن البزازي الكردري، مناقب أبي حنيفة: 358.
([17]) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب 15: 67 ـ 68.
([18]) الطحاوي، العقيدة الطحاوية: 77.
([19]) أبو بكر البيهقي، مناقب الشافعي 1: 416. ابن عساكر الدمشقي، تأريخ مدينة دمشق 51: 182.
([20]) بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه 4: 25.
([21]) ابن تيمية الحرّاني، منهاج السنّة النبوية 2: 301.
([22]) سعد الدين التفتازاني، شرح التلويح على «التوضيح لمتن التنقيح» 1: 349.
([23]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين 1: 114 ـ 115.
([24]) الصدوق، الخصال 2: 608؛ التوحيد: 445؛ عيون أخبار الرضا× 2: 125 و127.
([25]) عبد الجبّار الهمذاني، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 239.
([26]) أبو القاسم البلخي الكعبي، مقالات الإسلاميين: 63.
([27]) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 1: 85.
([28]) صحيح البخاري: 211 و1328 و1350.
([29]) الصدوق، التوحيد: 248 ـ 249.
([31]) أبو الحسن الأشعري، (كتاب) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع: 72.
([33]) الصدوق، التوحيد: 249 ـ 250.
([34]) الكليني، الكافي 1: 392.
([35]) أبو الحسن الأشعري، (كتاب) اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع: 92.
([36]) المجلسي، بحار الأنوار 5: 43.
([37]) الكليني، الكافي 8: 221.
([38]) أبو الحسن الأشعري، (كتاب) اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع: 104.
([39]) ابن تيميّة الحرّاني، منهاج السنّة النبوية 3: 41.
([40]) الفخر الرازي، القضاء والقَدَر: 219؛ المطالب العالية 9: 250.
([41]) سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد 3: 198.
([42]) ابن جزي الكلبي، التسهيل لعلوم التنـزيل (تفسير ابن جزي) 1: 88.
([43]) ابن قيِّم الجوزية، التفسير القيِّم: 71.
([44]) الفخر الرازي، المطالب العالية 1: 244.
([45]) الفخر الرازي، القضاء والقَدَر: 93؛ المطالب العالية 9: 98.
([46]) أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل: 134.
([47]) أبو الفتح الشهرستاني، نهاية الإقدام: 148.
([48]) ابن تيميّة الحرّاني، منهاج السنّة النبوية 3: 168 ـ 169.
([50]) أبو بكر البيهقي، مناقب الشافعي 1: 416؛ ابن عساكر الدمشقي، تأريخ مدينة دمشق 51: 182 ـ 183.
([51]) أبو الحسن البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 4: 73.
([52]) المتّقي الهندي، كنـز العمال في سنن الأقوال والأفعال 1: 348 ـ 349.
([53]) الصدوق، التوحيد: 103 ـ 104؛ الأمالي: 335؛ عيون أخبار الرضا× 1: 138.
([54]) المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية: 42 ـ 44.
([56]) ابن تيميّة الحرّاني، منهاج السنّة النبوية 3: 138 ـ 140.
([58]) البرقي، المحاسن 2: 452 ـ 453.
([59]) أبو بكر البيهقي، السنن الصغير 1: 305.
([60]) الطوسي، تهذيب الأحكام 1: 459 ـ 461.
([61]) السجستاني، سنن أبي داود: 363؛ صحيح ابن حِبّان: 693؛ صحيح مسلم: 375.
([62]) مالك بن أنس الأصبحي، الموطّأ 2: 326.
([63]) الزرقاني، شرح الزرقاني على «موطّأ» الإمام مالك 2: 101.
([64]) ابن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 258.
([65]) الكليني، الكافي 14: 233، 237 ـ 238.
([67]) ابن قتيبة الدينوري، تأويل مختلف الحديث: 125.
([68]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 8: 119 ـ 120.
([69]) المقدسي، البدء والتأريخ 5: 125.
([70]) ابن عساكر الدمشقي، تأريخ مدينة دمشق 29: 10.
([72]) ابن تيميّة الحرّاني، منهاج السنّة النبوية 1: 306 ـ 307.
([73]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 3: 619.
([74]) أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل: 122 ـ 123.
([75]) أبو محمد النوبختي، فِرَق الشيعة: 34.
([76]) الثعلبي، الكشف والبيان (تفسير الثعلبي) 3: 34.
([77]) ابن الجوزي، زاد المسير: 183.
([78]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1 (المجلد الثاني): 313.
([79]) ابن تيميّة الحرّاني، مجموع الفتاوى 14: 84.
([80]) ابن قيِّم الجوزية، التفسير القيِّم: 184.
([81]) ابن قيِّم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل «إيّاك نعبد وإياك نستعين» 3: 427.
([82]) أبو الحسن الشيحي المعروف بـ «الخازن»، لباب التأويل في معاني التنـزيل (تفسير الخازن) 1: 234.
([83]) أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة 2: 904.
([84]) ابن الجوزي، أخبار الأذكياء: 128؛ أخبار الظراف والمتماجنين: 54.
([85]) أبو طالب المكّي، قوت القلوب في معاملة المحبوب 2: 603.
([86]) الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 2: 150.
([87]) أبو البركات النسفي، مدارك التنـزيل (تفسير النسفي): 383.
([88]) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب 22: 105.
([89]) ابن عادل الحنبلي، اللباب في علوم الكتاب 13: 360.
([90]) الحسن بن محمد نظام الدين النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان 3: 310.
([91]) عبد الله بن أسعد اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان 1: 95 ـ 96.
([92]) ابن العماد العكْري، شذرات الذهب 1: 226؛ عبد الله بن أسعد اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان 1: 95.
([94]) ابن تيميّة الحرّاني، مجموع الفتاوى 11: 28.
([97]) الثعلبي، الكشف والبيان (تفسير الثعلبي) 9: 120؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 3 (المجلد التاسع): 37.
([98]) أبو منصور الماتريدي، تأويلات أهل السنّة (تفسير الماتريدي) 10: 591.
([99]) أبو القاسم الطبراني، التفسير الكبير (تفسير القرآن العظيم) 6: 119.
([100]) أبو الحسن الواحدي النيسابوري، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 1032.
([101]) أحمد بن محمد ابن عجيبة، البحر المديد 7: 216.
([102]) ابن كثير الدمشقي، تفسير ابن كثير 6: 48.
([103]) أحمد بن محمد شهاب الدين الخفاجي، حاشية الشهاب على «تفسير البيضاوي» 8: 385.
([104]) ابن تيميّة الحرّاني، درء تعارض العقل والنقل 4: 322.
([106]) محمد باقر البهبودي، صحيح الكافي 1: 17.
([111]) أبو القاسم الطبراني، كتاب الدعاء: 316.
([112]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 16: 119.
([113]) أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 8: 158 ـ 159.
([114]) أبو حامد الغزالي، سرّ العالمين وكشف ما في الدارين: 59.
([115]) ضياء الدين المقدسي، العدّة للكرب والشدّة: 86.
([116]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 392 ـ 393؛ الأمالي: 15؛ الخصال 1: 218.
([117]) ابن بشكوال الخزرجي، المستغيثين بالله ـ تعالى ـ: 44.
([118]) ابن الجوزي، مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن: 164.
([119]) ابن الجوزي، صفة الصفوة 1: 342 ـ 343.
([122]) المصدر السابق 2: 101 ـ 102.
([124]) الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد أو مدينة السلام 13: 27؛ المزّي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال 18: 453؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء 6: 271.
([129]) أبو بكر الدينوري، المجالسة وجواهر العلم 5: 395؛ ابن عساكر الدمشقي، تأريخ مدينة دمشق 54: 282؛ أسامة بن مرشد أبو المظفّر ابن منقذ، لباب الآداب: 347.
([130]) الكليني، الكافي 3: 35؛ محمد بن مسعود العياشي، التفسير 2: 173 ـ 174؛ الصدوق، التوحيد: 363.
([131]) الصدوق، التوحيد: 166 ـ 167.
([132]) المصدر السابق: 131 ـ 132.
([133]) البرقي، المحاسن 1: 371.
([134]) تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1: 25 ـ 26.
([135]) صاعد بن محمد النيسابوري، (كتاب) الاعتقاد: 122 ـ 124.
([136]) المصدر السابق: 199 ـ 200.
([137]) المصدر السابق: 200 ـ 201.
([139]) أبو إسماعيل الهروي، ذمّ الكلام وأهله 4: 135 ـ 136.
([140]) أبو القاسم التيمي الأصبهاني، الحجّة في بيان المحجّة 2: 66.
([141]) أبو بكر الآجري، الشريعة: 211، 253 ـ 254؛ ابن بطة العكبري، الإبانة 1: 520.
([142]) أبو بكر الآجري، الشريعة: 211.
([143]) أبو بكر البيهقي، مناقب الشافعي 1: 416؛ ابن عساكر الدمشقي، تأريخ مدينة دمشق 51: 182.
([144]) أحمد بن حنبل، الورع: 200. لهذا الكتاب طبعتين أخريين، لا يوجد هذا الكلام فيهما؛ لِمَ؟!
([145]) أبو جعفر الطحاوي، العقيدة الطحاوية: 41.
([146]) أبو المظفّر السمعاني، الانتصار لأصحاب الحديث: 19.
([147]) أبو الحسين العمراني، الانتصار في الردّ على المعتزلة القدرية الأشرار 2: 537
([148]) ابن عبد البرّ، التمهيد لما في «الموطأ» من المعاني والأسانيد 2: 86.
([149]) صاعد بن محمد النيسابوري، (كتاب) الاعتقاد: 150؛ أبو المؤيّد المكّي، مناقب أبي حنيفة: 363.
([150]) أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل: 134.
([151]) أبو عبد الله الحكيم الترمذي، نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول 2: 93.
([152]) أبو إسحاق الثعلبي، الكشف والبيان (تفسير الثعلبي) 7: 267 ـ 268.
([154]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 3 (المجلد السابع): 214.