الشيخ عثمان ويندي انجاي(*)
تمهيدٌ
قد تكون المقولة المعنويّة، أيّ مقولةٍ كانت، التي يعتنقها إنسانٌ وينافح عنها، وسيلة نجاةٍ ونشاطٍ وحيويّةٍ، وجسراً نحو الحضارة والتمدّن والتقدّم والعمران، كما يمكن أن تلعب في حياة المعتقد بها دَوْراً معاكساً تماماً، فمن هذه الجهة نرى ضرورة تقديم إضاءاتٍ حاسمة حول ماهيتها وإطارها الواقعي. وإضافةً إلى ذلك يجب انتقاد جميع منازعها وتلويناتها المتجلّية في مختلف مرافق حياتنا، حتّى نعرف من خلاله الحجم اللازم منها لصالح حياتنا الحضارية ولسعادتنا في الآخرة. فما قام به الجابري الناقد الموقّر حول العرفان يجب حمله على هذا المحمل الطبيعي، ونحن لا ننتقده هنا لنبطل إشكاليته على العرفان في الحقيقة، بل نقف معه لإرباك النتيجة القطعية والجزميّة التي أخذها في نهاية بحثه، ولنقول: إنّ شواهده، لو أفادت علماً، فهي غير كافيةٍ، ولنبين أيضاً مُجمل مستندات العرفاء والمتصوّفة التي غفل عنها، فسلبَتْه صفةَ الموضوعية والعلمية، وحتّى الإنصاف أحياناً.
رتّبنا البحث على أساس الغاية التي نريد الوصول إليها وفق الترتيب التالي: مدخل نشرح فيه شيئاً من المبادئ التصوّرية والمفاهيم الضرورية للبحث. ثمّ نشرح العناصر المشكّلة للاجتهاد العرفاني تحت عنوان عناصر الاجتهاد العرفاني ومكوّنات شرعيته ومستنداته، ثم نعرض صورةً موجزة وواضحة في نفس الوقت عن إشكاليّة الجابري، المحقِّق المحترم، وبعده علَّقنا على فكرته بوقفاتٍ ومداخلات، ثمّ نختم البحث بالإشارة إلى شطرٍ من النتائج التي قد توصَّلنا إليها.
مدخلٌ
1ـ يمكن تقسيم آراء الجابري حول العرفان والتصوّف إلى قسمين: قسمٍ يهدف به هدم آليات العرفاء المعرفية في فهم النصوص الدينية، وما يسمّونه بالمنهج التأويلي؛ وقسمٍ آخر يقوم فيه بدراسة البنية العرفانية وعناصرها الداخلية والخارجية الصالحة لتكون مصدراً لها، ليدّعي في نهاية المطاف أنّها مادةٌ مقتبسة من الثقافة الهرمسية اليونانيّة، تسرّبت من خلال بعض العرفاء والمتصوّفة في القرون الأولى الهجرية، وبواسطة خصوص فلاسفة إخوان الصفا الباطنيين، وعموم الشيعة، إلى تراثنا الإسلامي العقلاني.
2ـ إننا نناقش في هذه المقالة مستندات الناقد الغالي حول اقتباس التصوّف الإسلامي من الثقافة الهرمسية، ولا نتدخل في ما قاله حول المنهجية المعرفية التمثيلية، حَسْب زعمه، التي يتَّبعها العرفاء في استظهار النصوص أو للوصول إلى الكشف والإلهام.
قد نفى نعت الاجتهاد والمشروعية والعقلانية عن العمليّة التأويليّة، واعتبرها تضميناً، العملية التي مارسها العرفاء لمدّةٍ مديدة ولقرونٍ متمادية، وكوَّنوا بواسطتها وَعْياً ورؤية كونية، تخصّ الإنسان والكون والغيب وما لازمهم، كما رسموا على أساسها خطةً سلوكيّة يرَوْنها طريقةً نموذجية للإنسان السعيد والموفَّق في الحياة:
إن التأويل العرفاني للقرآني هو تضمينٌ، وليس استنباطاً، ولا إلهاماً، ولا كشفاً، تضمين ألفاظ القرآن أفكاراً مستقاةً من الموروث العرفاني القديم السابق على الإسلام([1]).
والسؤال المشروع تجاه هذا الموقف الخطير هو: كيف نميِّز الاجتهاد الصحيح لنقبله عن غير الصحيح حتّى نرفضه، كما فعل الجابري؟ وكأننا نريد الوقوف من خلال الانشغال بهذا السؤال على مدى إسلاميّة التصوّف والعرفان من حيث المنشأ والمصدر، فإذا ثبت كون ما يمارسه العارف من التأويل اجتهاداً فحينئذٍ يمكن المنافحة عن إسلاميته، وإلاّ نقول، كما قال الناقد: هو ظاهرةٌ مستوردة من الثقافات الأخرى.
وفي الوقت نفسه نكون قد وقفنا مع الجابري، وإنْ كانت وقفةً غير مباشرة، في تحليله ودراسته لأصل البنية الصوفيّة؛ إذ ليست تلك البيِّنة بزعم العرفاء والصوفية إلاّ نتيجة شهودٍ وكشف قلبيّ أو إلهامٍ رحمانيّ موافق للكشف النبويّ الأتمّ، كما يبدي ابن عربي ذلك في هذا المتن: فالخليفة عن الرسول مَنْ يأخذ الحكم عنه|، بالنقل أو بالاجتهاد المنقول عنه|، ففينا مَنْ يأخذ عن الله فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم، فكون المادة له من حيث المادة لرسول الله|، فهو في الظاهر متَّبع لعدم مخالفته في الحكم([2]).
وقد نحاول المقارنة ولو بشكلٍ خاطف موقفَ الجابري وموقفَ أكثر النقّاد الخبراء بالأساليب الاجتهادية، وعلى رأسهم: ابن الجوزي وابن تيمية، الذين قبلوا في الجملة إسلامية العرفان، وإنْ رفضوا بعض مناهج العرفاء التأويلية، واتّهموهم بالتأثُّر، بشكلٍ مفرطٍ، بالروايات الضعيفة.
3ـ إنّ هذا البحث ليس له علاقة بالبحث حول تأثُّر التصوّف الإسلامي بالثقافات الأخرى: الهندوسيّة والفارسيّة واليونانيّة، بعد قبول أصل صدوره من النصوص الدينية، وإمضاء بعض اجتهاداتهم.
فقد أكَّد أكثر الباحثين على تأثّر التصوّف، بل أكثر العلوم، بالفلسفة اليونانية وبرؤيتها الكونية، وهو كلامُ التفتازاني: نحن لا ننكر الأثر اليوناني على التصوّف الإسلامي، فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامّةً، والأفلاطونية خاصّةً، إلى الصوفيّة الإسلامية عن طريق الترجمة والنقل([3]).
وكذلك قال عبد الرحمن بدوي: إن الصوفية بدأ تأثُّرهم بكتاب (أثولوجيا أرسطوطاليس) منذ القرن الخامس الهجري، ظهر تأثُّرهم بما في أثولوجيا من نظريات الفيض([4]).
هذا لا يعني أننا نوافق هؤلاء على ادّعائهم، بل نريد فقط التفريق بين الفرضيتين؛ فإنّ فرضية الجابري هي نفي كون العرفان ذا هويةٍ إسلامية أساساً، فالصوفية من وجهة نظره مادّة دخيلة من الثقافة الهرمسية، وبعد ذلك حاولوا تبريرها من خلال النصوص الدينية، الشيء الذي سمّاه بالتضمين، دون الاستنباط والاجتهاد. فيما يدّعي عبد الرحمن بدوي أو يظهر من فرضيته أنّ التصوّف من حيث المحتوى إسلاميٌّ، وإنْ دخلَتْه أثناء سير تكامله وتطوّره في أوساط المسلمين عناصر أجنبيّة.
وهناك شيءٌ يجب الالتفات إليه أيضاً، وهو أن نفس ابن عربي يعتبر الكشف ذا هويّةٍ خياليّة، فيربطه بالقوة الخيالية من طرف الإنسان وباسم المصوِّر من طرف الله سبحانه وتعالى، لكنّ الخيال هناك بمعنىً يباين ما ذهب إليه المحقّق الغالي، ننقل منه ـ كنموذج ـ نصّاً واحداً: فالخيال أحقّ باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورية، فنوره لا يشبه الأنوار، وبه تدرك التجلّيات، وهو عين الخيال، لا عين الحسّ([5]).
رأيت البعض ينتقدون التصوّف والعرفان انطلاقاً من اهتمام العرفاء بعالم الخيال، والتخييل والتمثيل الناشئ من الخيال. لكنه خلطٌ فادح بين المصطلحات، حيث إن مفهوم الخيال عند العرفاء يقاطع اللغة والعُرْف والمنطق، وحتّى الفلسفة.
أهمّية البحث وضرورته
إذا فهمنا حجم الإشكالية التي طرحها المحقِّق الجليل نفهم ضرورة هذا البحث والبحوث الأخرى التي سيقت لإلقاء الضوء على إشكاليته على العرفان والتصوّف، وأعتقد بأنّ إشكاليّة الجابري على الصوفية والعرفان، إذا تأمَّلناها جيّداً، نجدها عُملةً ذات سهمين: سهمٍ قد أراد به تقويض النتاج الصوفي؛ وسهمٍ آخر فلت من يده نحو بعض النصوص الإسلاميّة، وخصوصاً النصوص المتكاثرة التي تذرَّع بها العرفاء لتبرير اتجاهاتهم المعنوية والهرمسية، حَسْب تعبيره.
وهذا ما يحتاج إلى شيءٍ من التبيين والشرح: إنّنا عندما نحفر في التراث العرفاني نفاجأ بنصوصٍ جمّة، من قرآنٍ وروايات، قد أوردها العرفاء والمحقِّقون أدلةً وشواهد على مقاصدهم ومراداتهم في ما ذهبوا واتَّجهوا إليه، وهذا يعني أن هناك نصوصاً قرآنيّة وروائيّة هي موضوع اجتهاد العرفاء والصوفيّة، ومن خلالها أيضاً أرادوا تبرير مشروعية علمهم ومنازعهم، مؤكِّدين على انتمائهم إلى الإسلام والولاء له.
يستهلّ أبو السرّاج حديثه في موسوعته العرفانية بالتأكيد على أن التصوّف، كالفقه وعلم الحديث، ظاهرةٌ مقتبسة من الكتاب والسنّة([6]). وكذلك فعل الكلاباذي([7])، وأبو طالب المكّي في قوت القلوب، وأبو القاسم القشيري في رسالته.
تُعَدّ هذه المصادر من أوثق المصادر الصوفيّة التي تطلعنا على حال الرعيل الأوّل من العرفاء والصوفية، وفي قرونها الثلاثة: الأوّل والثاني والثالث، مما يتّصل بعصر النصّ. هكذا يستمرّ الوضع حتّى يأتي الغزالي، ثمّ أكّد في إحيائه، كسابقيه، على قضية الانتماء والاجتهاد في فهم النصوص الدينية([8])، وسانده الفيض الكاشاني([9]) بتوثيق مباحثه بالروايات الصحيحة من المصادر الشيعيّة.
ولا يرتاب الإنسان ـ خصوصاً إذا وقف على أحوال مثل: الغزالي لدى السنّيين، والفيض لدى الشيعة ـ في إمكان صحّة بعض النصوص التي استند إليها هؤلاء، فيستنتج من ذلك بأن العرفان من وجهة نظر بعض العلماء، سنّةً وشيعةً، من إلقاءات هذه النصوص التي يشكِّلها الكتاب والسنّة. وهذه النتيجة التي تبدو واضحةً وجليّة، وحتّى بديهية، تكون على طول الخطّ مع الأطروحة الجابرية، حيث إنّه رفض بإلحاحٍ وحسم إسلاميّة المادة الصوفية بأيّ وجهٍ من الوجوه.
بل هذه هي حال أكثر النقّاد؛ حيث إنهم قد وثَّقوا بعض الروايات التي استند إليها العرفاء، وقبلوا صحّتها، كما ضعَّفوا أكثر مستنداتهم أيضاً([10]).
لنذكر ـ على سبيل المثال ـ كلام ابن خلدون وهو في صدد تحليل أحوال المتصوّفة: وأما الصوفية فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة. وإنما يقصدون جمع الهمّة والإقبال على الله بالكلّية، ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد… فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه. وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصودٍ لهم. وكثيرٌ منهم يفرّ منه إذا عرض له، ولا يحفل به، إنما يريد الله لذاته، لا لغيره… وحصول ذلك لهم معروفٌ، ويسمّون ما يقف لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسةً وكشفاً، وما يقع لهم من تصرُّف كرامةً، وليس شيءٌ من ذلك بنكيرٍ في حقِّهم([11]).
فإذا سألنا ابن خلدون: لماذا لا ينبغي أن يُنْكَر عليهم شيءٌ من ذلك؟ أمكننا العثور على جوابه من قوله: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله| قال: إنّ فيكم محدَّثين([12]).
وابن تيمية أيضاً يسرد في هذا السياق عباراتٍ مطوَّلة، ثم يلخّص فكرته في نهاية المطاف، بضرورة قبول حقيقة الكشف والإلهام في حقّ الأولياء. وها هي خلاصة كلامه: ينقل كلاماً عن عمر: قد قال عمر بن الخطّاب رحمة الله عليه: اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تتجلّى لهم أمورٌ صادقة. وبعد كلام عمر ينقل كلام الداراني بقوله: إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت، ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد. وبعد هذا الكلام يأتي ليدَّعي أنه ورد في الحديث الصحيح: لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وبعد هذا يعلِّق شيخ الإسلام قائلاً: ومَنْ كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون له ذلك؟ ويضيف قوله أيضاً: فإنّ الله فطر عباده على الحقّ، فإذا لم تستحل الفطرة شاهدت الأشياء على ما هي عليه. وقال أيضاً: وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت، بخلف القلب الخرب، قال حذيفة بن اليمان رحمة الله عليه: إن في قلب المؤمن سراجاً يزهر. وهكذا يمضي ينقل أقوالاً وشواهد ورواياتٍ، حتّى استشعر كفايتها لمَنْ يبغي الحقّ، فيخرج بالنتيجة التالية، قائلاً: فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حقّ أولياء الله المؤمنين المتقين([13]).
والجابري لم يلتفت إلى هذه النصوص، وموقف أهل الحديث بالنسبة إليها، لكنّ بحثه لم يكن محايداً بالنسبة إليها، ويمكننا في ما يخصّ هذه النصوص استخراج أحد الأمرين من كلامه: أوّلهما: إما أن يكون، كما قال علي حرب، نافياً لمعقوليتها، وبالتالي نفي إسلاميتها، ونسبتها هي الأخيرة إلى الهرمسية والأسطورة والسحر وما شابه. وثانيهما: أن ينفي ظهور هذه النصوص في شيءٍ ممّا يدّعي هؤلاء المتصوّفة، وهذا هو الاتجاه الذي يفضِّله بالنسبة إلى هذه النصوص القرآنيّة والروائيّة، لكنْ لم يمارس في سبيل إثبات هذا الادّعاء بحثاً علميّاً واجتهاديّاً، وقد اكتفى بالبحث عن هذه المسألة خارج الدين من ناحيةٍ فلسفية مَحْضة، مما يدلّ على شوبٍ من النقص.
بعد وضوح موقف العرفاء والصوفية، بل موقف بعض النقّاد من مصدر التصوّف، وإمكان صحّة بعض اجتهاداتهم لصحّة بعض النصوص التي اعتمدوها، لننتقل إلى المباحث الأساسية للمقال التي سبقت الإشارة إليها في التمهيد.
عناصر الاجتهاد العرفاني
إن للعرفاء في تبرير أسلوبهم في الاجتهاد واستنباط معاني النصوص قضايا، هي: ادّعاء الفراغ النصّي؛ عدم اعتناء الفقهاء لجميع النصوص من جميع الجهات؛ ضرورة الاجتهاد في هذا المجال لحاجة الإنسان إليه.
1ـ ادّعاء الفراغ التشريعي: قد ادّعى العرفاء والصوفية فراغاً تشريعيّاً على مستويين: على مستوى النصّ؛ وعلى مستوى المنهج. إنهم حَسْب ادّعائهم لاحظوا أعمال الفقهاء وأعمال غيرهم فرأَوْا فيها نقصاً؛ حيث إنهم لم يخضعوا تحت الدراسة والبحث كل نصٍّ دينيّ، ولم يهتمّوا بجميع الملفّات والنصوص، بل ثمّة نصوص وقعت مغفولاً عنها، ومعزولةً عن فعاليتهم. قد فهم العرفاء ذلك من خلال المواقف التالية التي شاهدوها من العمليّة الاجتهاديّة الفقهيّة:
أـ حصر آيات الأحكام في عددٍ دون الآخر: قد قام بعض الباحثين والمحقِّقين من العلماء المسلمين بحصر آيات الأحكام في أعدادٍ مختلفة، والأشهر منها هو عدد 500 آية، التحديد الذي ورد عند الغزالي([14])، وعند الحلّي([15]).
وهذا الموقف من الفقيه جعل العارف يسأل عن وظيفتنا بالنسبة إلى الآيات الأخرى، وخصوصاً الأخلاقية منها، التي لم تندرج تحت هذا العدد القليل، وهذا السؤال هو المنعكس في كلام السراج بصورة إخبارٍ، ومطالبةٍ حاسمة: للصوفية أيضاً تخصيصٌ من طبقات أهل العلم باستعمال آياتٍ من كتاب الله تعالى متلوّةٍ، وأخبارٍ عن رسول الله| مرويّةٍ، وما نسختها آيةٌ، وما رفع حكمها خبرٌ ولا أثرٌ([16]).
وحتّى لو قلنا بمقولة بعض المتأخِّرين في إيصال آيات الأحكام إلى 2000 آية قرآنية([17]) قد يبقى عددٌ من الآيات يسوّغ للعارف أن يسأل عن الموقف الذي يجب اتّخاذه تجاه هذا العدد الباقي! وهذا فراغٌ لم يملأه الفقيه، فتصدّى العارف لإملائه، وتقديم مساهماتٍ تنظيرية وتطبيقية في خصوصه.
وستكون النتيجة لو خُضْنا معهم بحثاً حول الروايات نفس الشيء؛ لأنه يمكننا إسقاط الخصوصية التي أخذوها في الآيات على الروايات، وبالتالي سيبقى كمٌّ هائل من النصوص الروائية خارج إطار اهتماماتهم.
ب ـ قصور الزوايا الفقهية عن شمول كلّ جهات آيات أحكام الأساسية المؤثِّرة في سعادة الإنسان: فإننا إذا تصفَّحنا أعمال الفقيه في ما يخصّ نفس آيات الأحكام نراهم غير مهتمّين بجميع الجهات، فهم يقصرون نظرهم على ما يصلح ظاهر الأعمال! فيما هناك وراء هذا الظاهر المهمّ والأساسي جوانح لا تقلّ أهمّية وخطورةً في تأمين سعادة الإنسان عن الجوارح.
ومن هنا خطرت برَوْع العارف فكرةُ التفريق بين الشريعة والحقيقة، وإنْ هاجمه النقّاد من كلّ صوبٍ وحدب ليستنكروا عليهم ذلك. لكن العارف وهو يفرِّق بينهما قد حاول صيانة الشريعة، واعتبرها تارةً حافظةً للحقيقة([18])؛ وأخرى المنفصل عن الشريعة ضالاًّ ومنحرفاً عن الجادّة، بل غير مستحقٍّ لاسم الصوفي الحقيقي([19]).
وإضافةً إلى ذلك قد قاموا بأعمالٍ جبّارة لملء هذا الفراغ، وهي التي تجلّت في أعمالهم حول بيان أسرار العبادات والمعاملات وآدابها. وفي الحقيقة قد أغنوا المكتبة الإسلاميّة في هذا السياق بمصادر قيِّمة، ابتداءً من قوت القلوب لأبي طالب المكّي، أو من بعض أعمال حارث المحاسبي، مروراً بإحياء العلوم للغزالي، وبالفتوحات المكّية لابن عربي، وانتهاءً ببعض المصادر المهمّة التي قد تمّ تأليفها بجهود العلماء المعاصرين، ومنها: المصدران المهمّان للسيد الإمام الخميني، أعني: أسرار الصلاة؛ وآداب الصلاة.
ونستنتج من هذا البحث أن الهدف من التفريق بين الشريعة والحقيقة باعتبار ما قام به العرفاء في هذا المجال هو صيانة الشريعة والحثّ على ضرورة وَعْيها والنفاذ إلى أعماقها، عن طريق بيان أسرارها وآدابها، والهدف الكامن وراء الالتزام بها. وكان هناك فراغٌ تشريعيّ واقعيّ قبل قيام العرفاء بهذه الأعمال.
ج ـ الأحكام السلوكيّة: من قناعة العارف أن الفقيه لا يهتمّ بنصٍّ تمحَّض في الجهة الأخلاقيّة والعرفانيّة، فلا يحكم مثلاً بوجوب أمرٍ لكونه يوجد في الإنسان حالة اليقظة مثلاً. ولم يكتفوا بادّعاء ذلك فقط، بل قاموا بأعمالٍ مهمة من ناحية الكمّ والنوع؛ لسدّ هذا الفراغ، فقاموا بتدوين كتبٍ أخلاقيّة وعرفانيّة فريدة بنوعها.
إنّنا لا ندافع عن كلّ ما في هذه المصادر من طرحٍ ورأي وبحث ونتيجة، بل الهدف هو الإشارة إلى ما قاموا كأعمالٍ تنظيرية وتطبيقية؛ لنفتح فيما بعد مع الناقد المحترم حواراً علميّاً.
وليست أعمال أبي السراج في لمعه، والقشيري في رسالته، والهجويري في كشفه، وعين القضاة الهمداني في تمهيداته، والخواجة في منازله، وابن عربي في مجموعة رسائله، وابن فارض في تائيّته، والفرغاني في منتهى مداركه، والقيصري في رسائله، إلا تلبية لنداء الضمير والوجدان والضرورة الملحّة في مجال السلوك، حَسْب ادّعاء العارف، وقد قاموا في الجملة بعملٍ مشكور.
د ـ التركيز على عُرْفٍ دون عُرْفٍ: قد ناقش العارف فرضيّة الفقيه في تركيزه على القرائن العُرْفية والأصول اللفظيّة فقط، دون غيرها من المناهج الاستنباطية، والقرائن المهمّة الأخرى حَسْب قناعة العارف، كمنهج السلوك من المعنى إلى اللفظ مثلاً، وهو ما يسمّى بنظرية روح المعنى.
إن روح الاستظهار عند الفقيه تتلخّص في أمرين: أـ تقييد المعنى باللفظ؛ ب ـ تحديد مساحة القصد وإرادة المرسل بالنسبة إلى كلامه، فلا يمكنه أن يقصد من كلامٍ واحدٍ إلاّ قصداً واحداً.
وروح المعنى يكسر كلتا القاعدتين، أي يمكننا أن نوسِّع معنى اللفظ من خلال المعنى الممتدّ في مراتب الوجود أو في مراتب بطون الإنسان وحاجاته الواقعية، هذا يكون في إزاء القاعدة الأولى، وهو قول الغزالي: والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلاً والألفاظ تَبَعاً، وأمر الضعيف بالعكس؛ إذ يطلب الحقائق من الألفاظ([20]).
وفي إزاء القاعدة الثانية يعتقد العارف بأنّ الشارع يمكن أن يقصد من لفظ واحدٍ كلّ ما يمكن استنباطه من اللفظ، وهو قول ابن عربي: إن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحقّ بما نطقت به إنما جاءت في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كلّ مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ([21]).
والعارف بعد القيام بهذه الخطوة قد ادّعى، في قوالب عباراتٍ قاصرة، الخصوصيّةَ في توظيف هذا المنهج الجديد لاستنباط الأحكام الأخلاقيّة والعرفانيّة، وفهم النصوص الدينيّة بواسطتها. ويجب قبول أن أكثر العرفاء والصوفيّة قد قصّروا في أداء مرادهم، فبَدَل أن يستخدموا آلياتٍ عقلائية وعقلانية، وتعابير علمية ورصينة، تراهم يستخدمون العبارات الساقطة والخطابية، التي لا يمكن قبولها في أوساط العلم والبحث والنقد والاقتراح، بل يجب أن تبيِّن للناس ما هي الخصوصيات والمزايا الكامنة في هذا المنهج، دون غيره. وقد أشار صدر الدين الشيرازي إلى هذه المشكلة الأساسية التي طالما عانى منها الصوفية والعرفاء عموماً تقريباً، بقوله: إنهم؛ لاستغراقهم بما هم عليه من الرياضات والمجاهدات، وعدم تمرُّنهم في التعاليم البحثية والمناظرات العلمية، رُبَما لم يقدروا على تبيين مقاصدهم وتقرير مكاشفاتهم على وجه التعليم، أو تساهلوا ولم يبالوا عدم المحافظة على أسلوب البراهين؛ لاشتغالهم بما هوى لهم من ذلك، ولهذا قلّ من عباراتهم ما خلَتْ عن مواضع النقوض والإيرادات، ولا يمكن إصلاحها وتهذيبها إلاّ لمَنْ وقف على مقاصدهم([22]).
إذا أردنا مقاربة كلامهم ـ مع صرف النظر عن أننا نوافقهم فعلاً ـ نقوم بالتفريق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية، فنقول: إنّ هناك عمليتين يقوم بهما الأصولي والفقيه: أولاهما: يقوم بتدشين وتنقيح القاعدة الفقهية ليقدِّمها إلى المكلَّف حتّى يستعين بها ليفهم أسرة الأحكام الجزئية التي تعترض سبيله، نحو: أصالة الطهارة التي تعيننا على فهم الطاهر الموضعي عن غير الطاهر حين الشكّ والحيرة. ثانيتهما: يقوم، إضافةً إلى العملية الأولى، بتأسيس وتمهيد القواعد الأصولية، لكنه لا يقدِّمها للمكلَّف، بل ليوظِّفها هو نفسه حين الاستنباط والاجتهاد.
هنا يجب أن نسأل: لماذا يقدم للمكلِّف قاعدةً، ويُمسك أخرى؟! أليست القاعدة قاعدةً فقط؟! فالأصولي التفت إلى ميزةٍ يختصّ بها النوع الثاني من القواعد، فيما أنهم وجدوا النوع الأول من القواعد سهل التناول والاستيعاب وسهل التطبيق أيضاً، فلا نحتاج مع هذه القواعد، حَسْب الفرض، إلى خبرةٍ ووَعْي فقهيّ متفوِّق.
وقد سمّوا العملية التي يقوم بها الفقيه من خلال القاعدة الأصولية بالاجتهاد والاستنباط،، فيما سمّوا العملية التي يقوم بها الفقيه أو غيره من المقلِّدين من خلال القاعدة الفقهية بالتطبيق([23]). والباقر الصدر فرَّق بينهما عن طريق التمييز بين الحكم الكلّي والحكم الجزئي([24]).
فكلام العرفاء يشبه هذا الكلام، وهو أن القواعد الشهودية متعالية، وليست في متناول عامّة الناس، فشأنها شأن سائر القواعد الأصولية. فإذا كانت هذه القواعد الأصولية عموميةً وقابلةً للفهم لدى سائر الناس لِمَ يستخلصها الأصوليّون، دون غيرهم من العلماء والمتخصِّصين؟
إن قول العرفاء: إنّ فهم هذا المنهج للخواصّ، أو مختصٌّ بفريقٍ دون فريقٍ، يشبه ادّعاء الأصوليين في التفريق بين القاعدتين. نعم، في عباراتهم طعنٌ وكلمات جارحة وتعييب وانتقاص ومحاولةُ حطٍّ من منزلة المناهج العقلائية والعقلانية في مقابل المنهج الذوقي، الشيء الذي لا نوافقهم عليه.
فهذا الذي سمّيناه تحت هذا العنوان بتعدُّد الأعراف، وعدم انحصارها في عُرْف واحدٍ؛ فإن سنخ القواعد الفقهية تعبر عن عُرْفٍ معيَّن، وكذلك القواعد الأصولية هي أيضا تعبِّر عن عُرْفٍ آخر رُبَما يكون أعلى مستوىً من العُرْف السابق، وهكذا أتى العارف وادّعى لنفسه عُرْفاً آخر، هو فوق العُرْف المعهود والمعروف لدى أكثر الناس.
والإشكالية التي سجّلت على العارف والصوفي هنا هي أن هذا النحو من الاستنباط ليس عقلائيّاً، ولا يمكن ضبطه تحت قواعد ومعايير بحيث يفهم ويوظّف. وهو إشكالٌ وجيهٌ إلى حدٍّ ما، وخصوصاً إذا التفتنا إلى العُرْف الحاكم لدى أكثر الناس، ويجب على العارف أن يحترمه ويأخذه بجِدّ. هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ أخرى يمكن القول: إن المستشكل قد غفل، في الواقع، عن هواجس العارف، وعن الفضاء الخاصّ الذي يحوم فيه؛ فإنه يشبه فضاء الوجوديين اليوم في مقابل التحليليين. فالتحليلي يصرّ على ضرورة إحكام العقلانية المَحْضَة التي أساسها الحسّ والتجربة في الحقيقة؛ فيما يؤكِّد الوجودي على أن الإنسان ليس عنصراً عقلانيّا مَحْضاً، حتّى نقدِّم الجهة العقلانية على سائر أبعاده؛ فالإنسان يعرف الجمال، ويحكم على الشيء الجميل بأنه جميلٌ، من دون حاجةٍ في ذلك إلى قانونٍ مدوَّن، أو قواعد كلّية يحفظها. وعليه يجب تفهُّم هواجس العارف، فهو في صدد إبداع عصرٍ جديد، حتّى يتمّ من خلاله إعادة قراءة النصّ والواقع والوجود. نعم، هناك سؤالٌ آخر، وهو أكثر جدّيةً من الأوّل، حَسْب تقديري، هو: هل يبغي العارف أن يلغي ببحثه ضرورة المباحث الأخرى، من أصولٍ وفقه وفلسفة وكلام، أم لا؟
هذا سؤالٌ لا يمكن الجَزْم بالنسبة إليه لطرفٍ دون طرفٍ. يجب القيام في ما يخصّه بالدراسات التاريخيّة وبالتحليلات الظاهراتيّة، مع ممارسة النقد البنّاء والموضوعيّ من خلال شرح المباني والأسس الفكريّة التي يعود إليها كلُّ عارفٍ؛ لنعرف في النهاية الموقف الذي يناسبه تجاه هذا السؤال.
والخلاصة التي تناسب هذا البحث هي: إنّ العارف رسم؛ لضرورةٍ قد اقتنع بها، هيكليةً جديدة للاستنباط وفهم النصّ، ثم طبّقها على بعض النصوص الدينيّة، وأنتج بواسطته مسائل وقضايا، إضافةً إلى ما لدى الفقهاء وعلماء الأخلاق. لكن الشيء الذي بقي في هذا البحث غامضاً، ولم نُرِدْ أن نجزم فيه، هو: هل أنه طرح هذه الهيكلية الجديدة بديلاً عن الهيكلية القديمة التي كان الأصوليون والفقهاء والفلاسفة والمتكلِّمون عليها، أم طرحها مكمِّلةً لها؟
2ـ ضرورة الاجتهاد في هذا المجال الفارغ: إنّ العارف تمسَّك بثلاثة أمور؛ للتأكيد على ضرورة منهجه وأسلوبه في فهم النصّ:
أوّلها: وجود نصوصٍ في الكتاب، أخلاقية وعقائدية، لم يجتهد فيها الفقيه ولا غيره؛ إمّا لأنها خارجة عن إطار اهتمامه بالدرجة الأولى؛ وإمّا أن منهجيته في البحث قاصرةٌ عن شمولها حقيقةً. وقد عبَّرنا عن هذه المسألة في البحث السابق بالفراغ النصّي. والأهمّ في هذا المقام هو أنه إذا لم يقُمْ باحثٌ بالاجتهاد في هذا الفراغ ستصبح هذه المتون خارجةً عن التداول، كالمنسوخة، كما أشار العرفاء إلى ذلك في متفرّقات كتبهم.
ثانيها: حاجة الإنسان إلى هذا النوع من المباحث. فالإنسان يحتاج إلى الكمال، ولا يصل إلى الهدف المنشود بالأحكام الظاهرية فقط، فيحتاج إلى هذه الأحكام التي قد نقَّح العارف قواعدها، ودوَّن الموضوعات المرتبطة بها، واستخرج لوازمها.
ثالثها: النصوص الدينية المرتبطة بالأخلاق ليست بديهيةً وواضحة من ناحية الدلالة، بحيث لا نحتاج إلى جهدٍ في فهمها. كما أنّها ليست قطعية الصدور، بحيث لا نحتاج إلى التأمُّل في أسنادها وفي مَدَيات دلالاتها. قد يدّعي بعض الناس أن النصوص الأخلاقية بمكانٍ من الوضوح، وبالتالي لا نحتاج فيها إلى بحثٍ ودراسة ونقد، أو يمكن التسامح فيها إلى درجةٍ ما، فيصبح الخلاف بينه وبين العارف اختلافاً مبنائيّاً.
3ـ بيَّنوا الأصول والمناهج الاجتهادية، وطبّقوها في النصوص الأخلاقيّة: لو ادّعى العارف ضرورة منهجٍ جديد للاجتهاد في هذه النصوص المتروكة، من دون أصولٍ ضبطها ومناهج دوَّنها، لقلنا: إنّ هذا مجرّد ادّعاءٍ، ولا ينبغي الاعتناء به، لكنَّهم بيَّنوا لمنهجهم في الاستنباط أصولاً وطرائق يمكن التوسُّل بها إلى أعماق المعاني المستورة وراء حجاب هذه النصوص. ويكفي أن نثبت للقارئ تنظيرهم وتطبيقهم:
أـ التأويل على مستوى التنظير: تتلخّص عملية العرفاء على مستوى التنظير في الأمور الثلاثة التالية: أوّلاً: بيان كيفية الانتقال في التأويل. ثانياً: بيان مساحة قصد المرسل للكلام. وقد مرَّت الإشارة إليهما. ثالثاً: اختصاص هذا المنهج بالنصوص الأخلاقية والأهداف التربوية والسلوكية، دون الجوانب الظاهرية للنصّ، حيث بيَّن أكثر العرفاء، تصريحاً وإشارةً، أن المنهج التأويلي يتحدَّد في حدودٍ خاصّة، ولا يتخطّاها، ولا يشمل مجال الفقه مثلاً، ما يعني أن العارف لا يمكنه أن يمارس الاجتهاد الفقهي الذي يُراد به كشف الحكم الشرعي أو الوظيفة العملية عن طريق التأويل، فكلّهم اتّفقوا على أن مَنْ لم يكن مجتهداً من العرفاء يجب أن يقلِّد المجتهدين([25]).
إذن حدود هذه النصوص تصبح من ناحية الحجّية واضحةً؛ فالتأويل حجّة في النصوص الأخلاقية، وتدور حجّيته بين العارف المؤوّل وبين مَنْ يرى ضرورة السلوك، فالعارف كالمجتهد بالنسبة إلى مريده في السلوك وتهذيب النفس، فمن هذا الباب يكون الحكم التربوي الذي يصدره العارف ملزماً.
وهذا يكفي ليقال: إن العارف قدَّم تنظيراً عن التأويل، وعن منهجيته في فهم النصّ، وإنْ كان ناقصاً ومبهماً من نواحٍ، بالنسبة إلى التنظيرات التي يقوم بها العلماء في مجالاتهم اليوم. لكنّ الإنصاف يقضي قبول أنهم خطَوْا خطوةً أساسية في هذا السياق.
ب ـ التأويل على مستوى التطبيق: نعم، لم يكتفِ العارف بالتنظير، بل قام بدراسة النصوص من خلال هذا المنهج الذي ابتدعه، ليخرج من عالم المثال إلى عالم الواقع الأفكار الممنهجة والمنظّرة، فقد قيل: إن الفيض الكاشاني قد وظّف هذا المنهج في تفسيره في الكثير من الموارد، كما فعل ذلك صدر الدين الشيرازي في تفسيره، والعلاّمة الطباطبائي في ميزانه، وذلك كلّه بعد تأثُّرهم بالغزالي، بل بعد تأثُّرهم بالعرفاء المؤلِّفين في القرن الثالث والرابع.
وهناك أيضا مصادر كثيرة قد اقتنع العارف بأنها وليدة هذا المنهج الاستنباطي، ولا يحقّ لأيّ باحثٍ أن ينفي عنهم الاجتهاد إلاّ بعد ممارسة نفس الاجتهاد فيها.
والخلاصة التي نستطيع أن نأخذها من هذه المباحث هي: إن الاجتهاد العرفاني يكون في الموارد التالية:
الأوّل: كشف مصداقٍ جديد للفظ من الألفاظ الدينية: أي إن العارف إذا وصل إلى معنىً من المعاني عن طريق كشفٍ ومشاهدة مثلاً فإنه يمشي وراء النصّ الموافق للمعنى الذي قد توصَّل إليه. ولهذا المسلك، كما لا يخفى، مخاطر ومهدّدات، حيث إنّه يمكن أن يوقعه في مغبّة التفسير بالرأي، وتبرير كشفه بأيّ وسيلةٍ ممكنة، ولو بليّ عنق اللفظ والمفردات الدينيّة إلى حدّ الإفراط واللاعقلانية، كما وقع أحياناً.
وهذا نظير ما يحدث للمفسِّرين الذين يشتغلون بالتفسير العلمي، فيحاولون أحياناً تبرير الاكتشافات الجديدة عن طريق الآيات التي فيها إشاراتٌ ضئيلة إلى تلك المطالب.
الثاني: إن المعنى المكشوف لدى العارف قد يشكِّل موضوعاً جديداً، بحيث يجب أن يفكّر فيه العارف المؤوّل ليصل إلى نتيجةٍ؛ لأن هذا أيضاً من مصاديق الانتقال من المعنى إلى اللفظ، بمعنىً من المعاني. ويشبه هذا المورد القضايا المستحدثة والنوازل في مجال الفقه، التي يجب أن يقدِّم الفقيه بالنسبة إليها أجوبةً وحلولاً؛ إمّا من خلال الألفاظ؛ وإمّا من خلال القواعد.
الثالثة: يمكن للعارف أن يبرِّر المعنى المكشوف من خلال قواعد اتّخذت من نفس الألفاظ الدينية، وإنْ لم تكن مذكورةً بشكلٍ حرفي في النصوص والمتون المقدّسة، فيصدق أنه انتقل من المعنى إلى اللفظ، ولو كان الانتقال مع وسائط.
وقد تكلّم الغزالي عن هذه المسألة، وعن التأويل الذي يمكن قبوله والمرفوض منه أيضاً، في إحيائه، بشكلٍ مفصّل([26]). يجب على كلّ مَنْ يريد تفنيد التأويل والانتقال من المعنى إلى اللفظ أن يحصي موارده مسبقاً، ثمّ يحاول الوقوف على المقصود منه في العرفان، ومن ثمّ يبطل ما يبطل أو يثبت ما يثبت، ولا يمكن القضاء على التأويل من دون هذه الممارسة العلمية.
عرض موقف الجابري حول إسلاميّة العرفان
إن بحث الجابري يقوم على مجموعةٍ من الركائز، منها: تعريفه لمفهوم العرفان. فمن خلال هذا التعريف يطلّ على تحليل بنية العرفان، ومكوِّناته، ومعطيات هذه الظاهرة الداخلية والتاريخية، ومن ثمّ يستنتج نتيجةً يراها ضروريّةً لا يشكّ فيها إلاّ المكابر المعاند. دعنا نستعرض الركائز واحدةً بعد الأخرى:
الركيزة الأولى: تعريف العرفان. يدّعي الجابري أنه يمكن تعريف العرفان بتعريفين: الأوّل: هو علمٌ بالحقائق عن طريق القلب. الثاني: هو علمٌ فوق العقل. وقد لخّصهما في العبارة التالية: قد ظهرت كلمة العرفان عند المتصوّفة الإسلاميين لتدلّ عندهم على نوعٍ أسمى من المعرفة، يلقى في القلب على صورة كشفٍ أو إلهام([27]).
الركيزة الثانية: لا تصلح النصوص الدينية منشأً للاجتهاد العرفاني: قد صرّح الجابري بأن العارف لا يمارس الاجتهاد، وإن ما يمارسه ليس إلا تضمينٌ، وهو قوله: إن التأويل العرفاني للقرآني هو تضمينٌ، وليس استنباطاً، ولا إلهاماً، ولا كشفاً، تضمين ألفاظ القرآن أفكاراً مستقاةً من الموروث العرفاني القديم السابق على الإسلام([28]).
الركيزة الثالثة: الدليل الدافع إلى نفي الاجتهاد العرفاني: اكتشاف وجوه شبه بين التصوّف الإسلامي والاتجاه الهرمسي: قام الباحث الجليل بالحفر في تاريخ الآراء ليرى هل هناك ما يشبه التصوّف الإسلامي أم أنه ظاهرةٌ إسلامية مائة في المائة؟ وبعد الحفر والتنقيب وقف على مقولاتٍ زعم أنها تشبه التصوّف الإسلامي، وهو قوله: والواقع أنّ هذا التمييز بين البرهان، أو بين النظر العقلي، والعرفان أو طريق الإلهام والكشف قد عُرف قبل الإسلام بعدّة قرونٍ. ومن ذلك: ما يذكره بعض المصادر من أن «أمليخ» ـ من بلدة كالخيس: عنجز ـ، الذي عاش بين القرنين الثاني والثالث للميلاد، كان من أبرز الفلاسفة «المشرقيّين»، الذين ميَّزوا تمييزاً واضحاً بين المنهج الأرسطي والمنهج الهرمسي؛ فقد قال في كتابٍ موجَّه إلى تلميذٍ له: «إذا طرحت مسألة فلسفية فإننا سنحكم فيها لك وفق نهج هرمس، الذي استعمله أفلاطون وفيثاغورس في الماضي؛ لضبط فلسفتهما». ومعلومٌ أنّ أمليخ هذا كان من الفلاسفة الهرمسيين، الذين قاموا بدَوْرٍ كبير في صياغة الفلسفة الهرمسية، وكان معروفاً عند التراجمة والمؤلِّفين العرب([29]).
الركيزة الرابعة: الجزم على المثلية والمطابقة: بعد الاطلاع على أحوال الهرمسيين يقفز الجابري قفزةً غير منطقيّةٍ، حَسْب تقديري، ليقول بالعينية والمثلية بين الظاهرتين، وذلك عن طريق تحليل بعض المفردات الواردة في كلَيْهما، وهو قوله في رؤيا هرمس: إن هذا النصّ الأساسي في الأبيات الهرمسية الغزيرة يضم أهمّ العناصر التي تشكِّل ما يمكن أن نطلق عليه اسم البنية ـ الأمّ للمذاهب العرفانية، التي قلنا عنها قبل: إنّها تقوم على التعدُّد، إلى درجةٍ يصعب معها على الباحث أن يجد في صفوف العرفانيين «اثنين أو ثلاثة يقولون نفس الشيء عن نفس الموضوع». وهذا مفهومٌ؛ فالعرفان كما رأينا موقفٌ فرديّ، أو نقل تجربة فردية. ولكنْ، مع ذلك، فإن جميع ما يقوله العرفانيون باختلاف مذاهبهم يمكن ردّه بصورةٍ أو بأخرى إلى فكرةٍ أو أكثر من الأفكار التي يتضمّنها هذا النصّ([30]).
من هنا يبدأ ليمارس نفس ما فعله البيروني، فيأخذ بعض المفاهيم الأساسية في التصوّف الإسلامي، ويقارنها بالمفاهيم الهرمسية، ويقول في مفهوم «عالم الذرّ» لدى العرفاء المسلمين، مثلاً: عالم الذرّ عند المتصوّفة الإسلاميين يجد مصدره في فكرة «القوى» التي تحمل في النصوص الهرمسية معاني تجعل منها نوعاً من المُثُل الأفلاطونيّة ذات الطبيعة الإلهيّة([31]).
ويقول في مقامات ومنازل الصوفية: إن ما يقوله المتصوّفة الإسلاميون عن أحوالهم ومقاماتهم يجد مصدره في معراج العارف عبر السماوات السبع، حيث يترك في كلٍّ منها ما كان قد علق به منها يوم كان جزءاً من الإنسان السماوي عند هبوط هذا الأخير. وهناك نصوص هرمسية أخرى تجعل المقامات اثني عشر، على عدد بروج الأفلاك، وتخصّ كلّ مقامٍ بصفةٍ مذمومة من صفات النفس، تقابلها صفةٌ محمودة([32]).
إذا أردنا تلخيص ما أفاد الناقد يمكننا القول: إنه رصد مصدراً للظاهرة الصوفية عند الثقافات الأجنبية القديمة، فوجد بزعمه ما يشبهه، ثم حلَّل الكثير من مفرداتهما، فوجدها متشابهة أيضاً، ثمّ قطع بأنه لا يمكن أن يكون هذا الشبه من صنع المصادفة والقسر، بل لا بُدَّ أن يكون الصوفي المسلم قد تأثَّر، بل أخذ واقتبس، من دون شكٍّ، كلَّ ما لديه من الصوفي الهرمسي، إنْ صحّ التعبير. وهذه هي النتيجة التي يأخذها في العبارة التالية: إذا نحن جرَّدنا العرفان الشيعي الاثني عشري والإسماعيلي من مضمونه السياسي، وجرّدنا العرفان الصوفي من الشكل البياني الذي ارتداه، فإننا سنجد أنفسنا هنا وهناك أمام مادّةٍ معرفيّة تنتمي كلّها إلى الموروث العرفاني القديم السابق على الإسلام، والهرمسي منه خاصّةً([33]).
ويقول أيضاً في نسبة التصوّف والعرفان إلى الموروث الهرمسي: بإمكاننا أن نقرِّر أنه ما من فكرةٍ عرفانيّة يدّعي العرفانيون الإسلاميون أنهم حصلوا عليها عن طريق الكشف، سواء بواسطة المجاهدات والرياضات أو بواسطة قراءة القرآن، إلاّ ونجد لها أصلاً مباشراً أو غير مباشرٍ في الموروث العرفاني السابق على الإسلام. من هنا يصدق المثل القائل: لا جديد تحت الشمس مائة في المائة([34]).
ثمّ بعد هذه النتيجة الكلّية والمطلقة يأخذ نتيجةً خاصّة بالتأويل العرفاني وبالكشف بالإلهام: إن هذا يعني أن التأويل العرفاني للقرآن هو تضمينٌ، وليس استنباطاً، ولا إلهاماً، ولا كشفاً([35]).
وقد بيَّن مقصوده أيضاً من التضمين، المصطلح البلاغي، حيث قال: إن دعوى العرفانيين الإسلاميين استنباط معارفهم من القرآن، وأنهم إنما يستعملون في ذلك لغةً مقتبسة من لغة القرآن، إن دعوى العرفانيين الإسلاميين هذه غير صحيحةٍ في نظرنا. بل الصحيح، في رأينا، أنهم أخذوا كلَّ ذلك من الموروث العرفاني القديم، وألبسوها لباساً إسلاميّاً([36]).
نتائج الوجهة الجابرية
1ـ العرفان ظاهرةٌ تشبه الظاهرة الهرمسية. ووجوه الشبه بين الظاهرتين بمكانٍ من السعة والشمول، حتّى على مستوى المفردات والمصطلحات.
2ـ هذه الوجوه، حَسْب قناعة الناقد، يمكن أن تبرِّر إمكان نسبة المتأخِّرة إلى المتقدِّمة، فتكون الثقافة الهرمسية هي المصدر الأوّل والأخير للتصوُّف الإسلامي، بكلّ منازعه وتلويناته.
3ـ الصوفي لا يمارس الاستنباط والاجتهاد حيث يدّعي أنه يستنبط ويجتهد، بل يمارس التضمين، بمعنى أنه يأخذ من الهرمسي مفهوماً، ثمّ يبحث في النصوص الإسلامية ما يشابهه، فيحمله عليه؛ حتّى يوهم أنه ذو مصدرٍ إسلاميّ.
فنحن كما أشرنا في مدخل البحث نستهدف هذه النتيجة الأخيرة بالدرجة الأولى، وقد يترتَّب على ذلك نفي النتيجتين السابقتين.
وقفاتٌ مع الإشكالية الجابرية
سنغضّ الطرف عن بعض الإشكاليات التي سجّلها بعض المحقِّقين على الأطروحة الجابرية نحو العرفان، صارفين النظر عن أننا نوافقهم عليها أم لا، كإشكالية علي حرب على أنه تمسّك بالتشابه لإثبات الاقتباس، في الوقت الذي نفى إمكان الوصول إلى الحقيقة عن طريق التشابه؛ أو إشكالية الطرابيسي، في كون الجابري قد اقتبس كلّ معلوماته من بعض الباحثين الغربيين، تقليداً من دون وَعْيٍ كافٍ، ولا تحقيقٍ لازم على مدى صحّتها أو عدم صحتها، وأيضاً دون تأكيدٍ على الاتجاهات المتباينة فيها، ونكتفي بالإشارة إلى عدّة إشكاليات تتناسب مع شكل هذه الدراسة الموجزة:
الأولى: الخلط بين التأثُّر والاستيراد: إن الحجم الواقعي لشواهد الجابري وأدلته هو تأثُّر العرفان بالثقافة الهرمسية، وليس استيراده منها. وهو الأمر الذي قد أكَّد عليه نقّاد العرفان القدامى.
إن التصوّف كان يشكِّل في صدر ولادته وفي باكورته، وقتئذٍ، بِدْعةً مزعجةً لأكثر الفقهاء والمتكلِّمين، وبالتالي فإنهم قد انتقدوه من كلّ صَوْبٍ، ومن كلّ زاويةٍ، ولم يلتفتوا إلى إشكالية الاستيراد. لو كان بيدهم مثل هذه الإشكالية لأكَّدوا عليها، وأصرّوا كلّ الإصرار على أجنبيّة أصل الصوفيّة عن الإسلام وعن متونه المعتبرة. ومن هذا الباب أخمِّن أن رجلنا الناقد الماهر والموقَّر قد خلط بين التأثُّر والاستيراد. وهذا منّا ليس إلاّ مجرّد ظنٍّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
وما نريد أن نقوله هنا هو أن الجابري كان يجب عليه أن يستنتج التأثُّر، وليس الاستيراد؛ لأن شواهده لا تسمح له أكثر من ذلك. فإذا أراد النتيجة الثانية يجب أن يحفر أكثر؛ حتّى يزوِّدنا بشواهد ومعطيات أقوى.
الثانية: ترجيح الظنّ المقرون بالقرائن على الظنّ الخالي منها أمرٌ عقلائيّ: إنّ أطروحة الجابري تتنافى مع الكثير من الأطروحات، مثل: أطروحات ابن تيمية وعبد الرحمن بدوي والكثير من الباحثين؛ فإن من هؤلاء مَنْ يعيد الظاهرة إلى أهل الصفّة، ومنهم مَنْ يعيدها إلى الصوفة الغوث بن مرّ، ومنهم مَنْ يقول: إنّها تعود إلى أحوال بعض البصريين العاطفيين.
وما قدَّمه بعض هؤلاء من شواهد أقوى، حَسْب تقديرنا، من شواهد الناقد المحترم. وكلُّهم قد توصَّلوا في نهاية بحثهم إلى تأثُّر التصوّف بالثقافات الأخرى، وليس إلى الاستيراد؛ لأن أكثرهم قد التفتوا إلى معطياتٍ تاريخية تفيد اطمئناناً أو ظنّاً يمكن الركون إليه عقلائياً، من دون حَرَجٍ عقلانيّ، وهو كون الصوفية من المسلمين، وكونهم مرتبطين بسيرة الرسول| وبسِيَر الصحابة والتابعين، وكون الصوفية في الرعيل الأوّل، إضافةً إلى ذلك من أهل الحديث والرواية.
وهذه الشواهد تنقض الأطروحة الجابرية؛ فإنها لم تزوِّدنا بقرائن وشواهد تطال هذه من حيث القوة والمتانة؛ لأنه قد استند إلى معطىً تاريخيّ ضعيفٍ، أقصى ما يدلّ عليه هو التشابه بين الثقافتين، كما قد أشار إلى ذلك علي حرب، وإنْ أورثت أطروحته ـ هي الأخيرة ـ في الواقع ظنّاً، وأثارت شبهةً.
ولو أراد الجابري مراعاة الموضوعيّة والمنهجيّة في بحثه لأخضع هذه الأطروحات للبحث والتحليل والنقد؛ ليعرف القارئ له في النهاية أنه يأخذ بهذا الطرف أو بذاك. وعدم طيّ هذه الخطوات يلقي في روعنا التشكيك والترديد في قيمة بحثه العلمية.
نعم، نريد أن نشير، كما أشرنا إلى ذلك مسبقاً، إلى أن القارئ للجابري لا يصل أو لا ينبغي أن يصل مع مقدّماته وتحليلاته إلى نتيجةٍ قطعية وجزمية، ما لم يخُضْ هو بنفسه مع هذه الأطروحات بحثاً ونقاشاً، ويقدِّم إلينا أدلةً وشواهد في إبطالها، إضافةً إلى الشواهد التي قدَّمها الجابري، حَسْب زعمه، لإثبات أنّ العرفان منهجاً ومحتوىً مقتبسٌ من الهرمسية، وليس له في النصوص الدينية عينٌ ولا أثرٌ.
الثالثة: ضرورة اتّخاذ موقفٍ حاسم تجاه النصوص الدينية الأخلاقية: إن الجابري يجب أن يتَّخذ موقفاً معلوماً بالنسبة إلى النصوص الدينية، الأخلاقية والعرفانيّة منها، التي يستند إليها العرفاء والصوفية في تبرير قضاياهم، فلا يعقل أن يصف كلّ التراث الإسلامي، بما فيه النصوص الأخلاقية، بالعقلانية والمعقولية، فيما يحسب كلّ المنظومة العرفانية من مصاديق اللاعقلانية والهرمسية.
ولعلّه يمكن استخراج ما رمزنا إليه من كلام علي حرب، حيث يعترض على كلام الجابري، ويقول: اللامعقول يتمثَّل أيضاً في الخطاب الديني وفي الخطاب العرفاني سواءً بسواءٍ؛ إذ كلاهما وجهان لعملةٍ معرفية واحدة، من حيث جانبهما الغيبي اللاهوتي أو الماورائي… إذا كان للوحي معقوليته فللعرفان أيضاً، وفي المقابل إذا كان للعرفان لا معقوليته فللوحي أيضاً لا معقوليته، فما يصدق على أحدهما يصدق أيضاً على الآخر([37]).
نعم، يمكننا هنا أن نجيب، نيابةً عن الجابري، بادّعاء التحميل والإسقاط، أي لو أننا قرأنا النصوص المذكورة، من دون إسقاط المفاهيم والمصطلحات التي نحتتها الصوفية والعرفاء وأسقطوها عليها، لرأيناها في صورةٍ أخرى وفي لباسٍ آخر، فالمشكلة تعود إلى أننا نقرأها إما دائماً أو عادةً بواسطة المصطلحات التي أسقطها العرفاء عليها.
وهذا يمكن الموافقة عليه بصورة قضيّةٍ جزئيّة، حيث إننا نشاهد فريقاً من العرفاء والمحقِّقين يفرط في نحت المصطلح، وفي إسقاطه على كافّة تحليلاته، كما نشاهد مثل ذلك عند جميع المجتهدين في كلّ المجالات أحياناً، وهو عين إشكالية الأخباريين على الأصوليين، من أنه يجب قراءة النصوص الدينية عَفْواً من دون كلفة المصطلحات والمواضعات التي ما أنزل الله بها من سلطانٍ. أما مشكلتنا مع الجابري هنا فتعود إلى نفيه الاجتهاد العرفاني بصورةٍ كلّية ومطلقة، بحيث يبقى العارف دائماً يحوم في ورطة الإسقاط والتطبيق والتضمين.
ومضافاً إلى ذلك، نلاحظ بكلّ وضوحٍ مشابهة بين المتن الهرمسي الذي تشبَّث به الجابري وبين هذه النصوص الدينيّة الأخلاقيّة، بحيث ينبغي الجَزْم هنا أيضاً بأن هذه النصوص هي أيضاً، وفق القراءة الجابرية للعرفان، نصوصٌ مقتبسة من الثقافة الهرمسية!
الرابعة: إهمال زوايا البحث المؤثِّرة في الاستنتاجات: إن المحقِّق المحترم قد غفل عن دراسة المتن الهرمسي المستند، الذي على أساسه نفى إسلامية التصوّف والعرفان، أعني رؤيا هرمس. فما هو الدليل على صحّة هذا المتن؟! ولعلّه من صنع خيال بعض الناس! فما هي مصادره؟! وما هي النسخ الأساسية التي اقتبس منها هذا المتن؟! مَنْ ترجم هذا المتن من لغته الأولى إلى هذه اللغات المتداولة اليوم؟!
الخامسة: احتمال أن الجابري قد أسقط المفاهيم الصوفيّة على المتن الهرمسي: إن ثمّة قضيةً ضرورية، هي أن الكثير من المترجمين قد يتأثَّرون ببيئتهم، وينطلقون منها لشرح ما يسمعونه من الثقافات الأخرى. ويمكن ذكر مثالٍ قد التفت إليه بعض مؤرِّخي الفلسفة؛ فإن بعض المترجمين لفلسفة أرسطو قد زعم المحرّك الأوّل مساوياً لمفهوم «الله» في المنظومة الإسلامية، فيما أن أرسطو لا يرى أن هناك خالقاً لعالم المادّة حتّى يساوي هذا ذاك.
والمترجم لذلك المتن، لو ثبت متنٌ، الذي يشكِّل «رؤيا هرمس» قد يكون متأثِّراً بثقافته، وانطلاقاً منها يقوم بترجمة المتن المذكور. وكما يقول الكثير من قرّاء الفلسفة اليوم: إن قراءتنا لأرسطو تمَّتْ من خلال الذهنية الإسلامية التي اكتسبناها، فحمَّلنا وأسقطنا على نصوص أرسطو مفاهيم وتصوّراتٍ من صنع بيئتنا وأحوالنا الزمكانية.
وهو نفس ما حدث مع بعض الشرّاح والمترجمين؛ فإنهم بعد خروجهم من رحم ثقافةٍ خاصّة يقومون بترجمة المتون الأجنبية وفق هذه الثقافة، وهو أمرٌ لا يخلو من تعقيدٍ، لكنّ علماء التفسير والهرمنوطيقية، وخصوصاً الاتّجاه الفلسفيّ منها، لدى هايدغر، وغادمر، قد أكَّدوا على دَوْر الثقافة والبيئة في فهم الخطابات وكلام الآخرين. والمُنْصِف أيضاً يذعن بهذه الحقيقة.
نحن لا ندَّعي وقوع مثل هذا الأمر عند مفسِّري المتن الهرمسي الذي اعتمده الجابري، قَهْراً وبالضرورة، لكننا لا نستبعد بالضرورة وقهراً أيضاً وقوع الجابري في ورطة التطبيق والإسقاط والتضمين، فيحدث عكس ما أراده الجابري، أي إنّه بَدَل أن يثبت لنا تأثُّر العرفان بالفكر الهرمسي قد انطلق من أُنْسه بالمصطلحات العرفانية وتأثُّره به في شرح هذا المتن المنسوب إلى الهرمس. لكن يجب الإحاطة بقرائن المتن وبأحواله، بعد إحراز صدوره، قبل الغَوْص في فروع هذه المسألة.
فالقضية تشبه قضية الضفدع الذي كان يعيش في البحر، ويوماً من الأيام وصلته سمكةٌ من البحر، فدار حوارٌ بينهما، فحدَّثته السمكة عن سعة البحر ومساحته، لكنّ الضفدع المسكين عجز، حتّى الساعة، عن تخيُّل مصداقٍ للسعة والمساحة تطال مساحة الحوض؛ وذلك لكون المرء ابن بيئته، أو ابن ثقافته وتصوُّراته الأوّلية، حَسْب تعبير بعض الهرمنوطيقيين.
السادسة: الغفلة عن دراسة مستندات العرفاء القرآنيّة والروائية: كان يجب على المحقِّق والناقد الموقَّر أن يدرس الروايات والآيات التي تمسَّك بها العرفاء، وأسندوا موضوعاتهم ومسائلهم إليها، من الناحيتين السندية والدلالية، فلا نصل إلى نتيجةٍ قطعية في هذا المجال ما لم نُلْقِ نظرةً، ولو خاطفةً، إلى الآيات والروايات المعنية، ولا يمكن سلب صفة الاجتهاد والاستنباط عن ممارسات العرفاء، كما فعل الجابري، من دون إلقاء نظرةٍ إلى هذه الروايات.
نتائج البحث
توصَّلنا بعد هذه الجولة السريعة في ذكر الاجتهاد العرفاني، وفي عرض الموقف الجابري بالنسبة إلى هذا النحو من الاجتهاد، إلى النتائج التالية:
الأولى: إن ضرورة المحافظة على جميع النصوص الدينية، والاهتمام بجميع الأبعاد الإنسانية والوجودية، هي التي دفعت العرفاء والصوفية نحو التفكير في إبداع وتدشين منهجيةٍ جديدة يعيدون بها قراءة النصّ والوجود والواقع.
الثانية: إنّ الإشكالية التي طرحها المحقِّق المحترم ـ كون التصوّف الإسلامي مقتبساً من الثقافة الهرمسية ـ تستبطن إشكاليةً أخرى، تجرّنا إلى ضرورة فتح ملفٍّ آخر، هو ضرورة التثبُّت من إسلامية بعض النصوص الدينية، سواء كانت آيةً قرآنية أو سنّةً ثابتة وقاطعة، تلك النصوص التي تحمل طابعاً معنويّاً، أخلاقياً كان أو عرفانياً، لنرى هل هي مقتبسةٌ أيضاً من الهرمسية أم لا؟
الثالثة: نوافق الجابري في أن العارف لم يقُمْ بالتنظير الوافي والكافي بالنسبة إلى منهجه في التأويل؛ لذلك قد تترتَّب على مناهجهم النسبية والفوضوية، لكننا لا نوافقه في نفي التنظير من قِبَل العارف بصورةٍ مطلقة، وفي ممارسته الاجتهاد، ولو بصورةٍ فوضويّة أحياناً.
الرابعة: لم تتمّ على المتن الهرمسي الذي نقله الجابري من المصادر الغربية الدراسةُ اللازمة من الناحيتين السندية والدلالية، ويجب القيام بهذه الأعمال قبل الانتقال عن طريق وجوه الشبه بين الثقافتين للقول بأن الثانية نشأت بالضرورة وقهراً عن الأولى.
الخامسة: إن المحقِّق الغالي لم يصبح في الطرف المقابل للعرفاء فقط، بل أصبح في مقابل بعض نقّاد العرفاء، كأهل الحديث مثلاً، الذين ادَّعوا إمكان الكشف والشهود؛ استناداً إلى بعض النصوص الدينية الثابتة من وجهة نظرهم بالضرورة. فيجب على الجابري أو على الناصر لرأيه أن يدلي برأيه بالنسبة إلى هذه النصوص.
السادسة: قد يقال: إن المحقِّق المحترم لم يسلم من إسقاطٍ وتضمين، بمعنى أنه قد أسقط بعض المصطلحات الصوفية على المتن الهرمسي الذي اعتمده في ادّعاء المماثلة بين الثقافتين، فأدى ذلك إلى مناقضة نفسه.
السابعة: أبرز هذه النتائج التي أردْتُ التأكيد عليه هو أننا لم نُبْطِل إشكاليّة الجابري بالضرورة المنطقيّة، بل بدَّلناها إلى شكٍّ، وأربكنا منهجه في نقد التصوّف والعرفان، حيث إنه غفل عن كثيرٍ من الأمور التي كان يجب عليه كباحثٍ ذي فكرٍ مُمنْهَج أن يقوم بها، ولم يُشِرْ حتّى إلى شيءٍ منها، وهذا سيلزم الناصر لآرائه، لو كان منصفاً وباحثاً متعهّداً بالموضوعية والإنصاف، أن يخوض ـ قبل الجَزْم بنتائج محقَّقة ـ هذه المعارك الفكرية.
الهوامش
(*) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في جامعة المصطفى| العالميّة في قم. من السنغال.
([1]) بنية العقل العربي، ط 2013م.
([2]) داوود القيصري، شرح فصوص الحكم 1: 1052.
([3]) التفتازاني، مدخل إلى التصوّف الإسلامي: 39.
([4]) بدوي، تاريخ التصوّف الإسلامي: 41.
([5]) الفتوحات المكّية 7: 462.
([6]) اللمع في التصوّف: 11 ـ 12.
([8]) راجع: الإحياء 3: 32 ـ 36.
([9]) راجع: المحجة البيضاء 3: 31 ـ 36.
([10]) انظر على سبيل المثال: تلبيس إبليس: 178 ـ 179.
([11]) مقدّمة ابن خلدون 1: 222 ـ 223.
([13]) راجع: الفتاوى الكبرى 20: 42 ـ 47، نقلاً عن: كتاب موقف ابن تيمية من التصوّف 1: 349 ـ 355.
([16]) أبو السراج الطوسي، اللمع: 31.
([17]) حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 5: 19.
([18]) انظر على سبيل المثال: لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام: 338.
([19]) راجع: الإمام الخميني، تعليقاتٌ على شرح الفصوص ومصباح الأنس: 201.
([20]) الغزالي، مشكاة الأنوار: 65.
([21]) شرح فصوص الحکم 1: 410، 411.
([22]) الشيرازي، الأسفار 6: 284.
([23]) راجع: المظفَّر، أصول الفقه 1: 9.
([24]) راجع: الحلقة الثالثة: 15 ـ 16.
([25]) انظر على سبيل المثال: اللمع: 16؛ والتعرُّف: 95؛ ولبّ اللباب: 16.
([26]) انظر الإحياء 1: 31 ـ 38.
([27]) بنية العقل العربي: 251.