أحدث المقالات

د. محمد علي عبد اللهي(*)

إن من بين الأبحاث الفلسفية المفيدة بحث الاختلاف بين الأمور الحقيقية والاعتبارية. فقد عمد الفلاسفة المسلمون في مختلف مواضع منظومتهم الفلسفية إلى الاستفادة من مفهوم «الاعتبار» كثيراً، وأشاروا إلى إمكانيّته البيانية، ومع ذلك لم يُفردوا له مجالاً مستقلاًّ. كما يتمّ تناول هذا المفهوم في علم الأصول ـ ضمن المنظومة التعليمية لدينا نحن المسلمون ـ أيضاً، إلاّ أن علماء الأصول ـ كما هو حال الفلاسفة ـ على الرغم من كثرة استخدامهم لهذا المفهوم وبسطه وتطويره، لم يفتحوا له باباً خاصّاً به. غير أن «العلاّمة الطباطبائي» يُعَدّ استثناءً في ذلك؛ إذ كتب رسالةً مستقلة في مجال الأمور الاعتبارية (باللغة العربية)، كما عقد المقالة السادسة من كتابه القيِّم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) لهذا البحث. كما اهتمّ أيضاً بمسألة الاعتبار وأنواعه ـ وإنْ بشكلٍ مختصر ـ في كتابه (نهاية الحكمة) ضمن بحث العلم. وهناك من العلماء مَنْ قال بحقٍّ: إن العلاّمة الطباطبائي هو أوّل فيلسوف ـ من بين الفلاسفة المسلمين ـ يهتمّ بتحليل مسألة الاعتباريات. إن رأي العلاّمة حول الأمور الاعتبارية جديد، وقد أثار الكثير من الأبحاث بين أنصار الفلسفة، ولا يزال البحث في هذا الشأن مستمرّاً.

كما تحظى الأمور التابعة لاعتبار الإنسان والأمور الاعتبارية ـ التي يتمّ التواضع عليها من قِبَل الناس ـ في التراث الفلسفي للغرب بأهمّيةٍ خاصّة. وإن لـ (جون روجر سيرل) إسهاماتٍ كبيرةً في مجال بيان ماهية الأمور الاعتبارية وشرحها وتفصيلها في نسيج الدراسات الفلسفية في الغرب. وقد بذل (سيرل)، في كتابه: بناء الواقع الاجتماعي (1995م)، جهوداً كبيرة في بيان ماهية وكيفية تبلور الحقائق الاجتماعية. وقد حظي هذا الكتاب باهتمام الفلاسفة ـ ولا سيَّما منهم فلاسفة العلوم الاجتماعية ـ، وأثار الكثير من الأبحاث والجَدَل. وفي عام 2010م أصدر (سيرل) كتاباً آخر بعنوان: (تأصيل العالم الاجتماعي، بنية الحضارة الاجتماعية). وقد تناول فيه مختلف التفسيرات والعبارات الناقدة التي تمّ توجيهها إلى كتابه الأوّل، وعمل على بسط نظريته من خلال إصلاح بعض الأدوات المفهومية.

يذهب كاتب هذا المقال إلى الاعتقاد بأن نسبة ما قام به (سيرل) في هذا الشأن إلى ما قام به (العلامة الطباطبائي) وإنْ كانت هي نسبة الخاصّ إلى العامّ؛ لأن جهود سيرل تتعلّق بقسمٍ خاصّ من الأمور الاعتبارية، ونعني به الاعتباريّات الاجتماعية، وعلى الرغم من أن اختلاف الرصيد اللغويّ لكلٍّ منهما يجعل من عملية التقييم والمقارنة بينهما عملية شاقّة، إلاّ أن تقييم رؤية العلاّمة ورؤية سيرل من شأنه أن يقدِّم الكثير من الإضاءات للمهتمّين في الشأن الفلسفي، وأن يُساعد على تطوير مسألة «الاعتبار» في نسيج دراساتنا الفلسفية. إن هذا البحث مترامي الأطراف، ومع ذلك نسعى في هذا المقال إلى بيان رؤية هذين الفيلسوفين حول ماهية الاعتبار خاصّة، وطريقة تبلورها، وربط الأمور الاعتبارية بالأمور الحقيقية، وارتباط كلّ واحدٍ منهما بالآخر، مع بيان نقاط الاشتراك والافتراق بينهما.

التحليل المفهومي

يستخدم العلاّمة الطباطبائي مفهوم «الاعتباري» في مقابل مفهوم «الحقيقي»، ويجعل من «العلم» مقسماً لهذا التقسيم. إن التصوّر ـ (والتصديق تَبَعاً له) ـ ينقسم إلى: حقيقي؛ واعتباري. إن التصوّر الحقيقي هو التصوّر الذي يعبّر عن انكشاف الواقع، ويحكي عن أمرٍ حادث في الواقع: «[التصوّر] الحقيقي هو المفهوم الذي يوجد تارةً في الخارج؛ فتترتّب عليه آثاره؛ وتارةً في الذهن، فلا تترتّب عليه آثاره الخارجية، كمفهوم الإنسان».

وعلى هذا الأساس فإن التصوّر، وكذلك التصديق الحقيقي، إنما هو نتيجة أفعالنا وانفعالاتنا الإدراكية وأفعال وانفعالات العالم الخارجي، وإنّ تحقّقهما ليس مرتبطاً أبداً بإرادة ونمط فهم الإنسان. ومن هنا فإن الأمور الحقيقية ـ سواء من الناحية الأبستيمولوجية أو الأنطولوجية ـ ليست مرتبطةً بالإنسان. إن مفهوم «الحقيقي» ـ طبقاً لهذا التعريف ـ ينحصر بالمفاهيم الماهوية، وينحصر في المقولات التي لها ما بإزائها في العالم الحقيقي.

إن التصوُّر الاعتباري ـ خلافاً للتصوُّر الحقيقي ـ لا يُعبّر عن الأمور الخارجية والمستقلّة عن الإنسان، بل هو مرتبطٌ بإدراك وطريقة فهم الإنسان. وعلى الرغم من أن العلاّمة الطباطبائي يذكر مختلف الأنواع والمصاديق لمفهوم «الاعتباري»، إلاّ أنه يرى أن جميع أنواع الاعتبار تشترك في هذه النقطة، وهي أنها تربط بنوع من أنواع العقل أو العقلاء.

ويرى الفيلسوف التحليلي الأمريكي (جون سيرل) أن العالم الذي نعيش فيه يشتمل على نوعين من الحقائق، وهي: الحقائق الطبيعية؛ والحقائق التأسيسية. إن الحقائق الطبيعية هي الحقائق التي لا تتوقّف في حدوثها وبقائها على الإنسان وأنماط فهمه وإدراكه، من قبيل: الجبال. إلاّ أن الحقائق التأسيسية ترتبط بالإنسان وطريقة فهمه. وقد ذهب (سيرل) إلى القول بأن الاختلاف بين الحقائق الطبيعية والحقائق التأسيسية أمرٌ في غاية الأهمّية، واعتبره من المبادئ والمباني النظرية للأفعال الكلامية. لقد سبق [للفيلسوفة البريطانية] (إليزابيث إنسكومب) ـ قبل (سيرل) ـ أن أشارت إلى هذا التمايز والاختلاف في مقالةٍ لها، وما قام به (سيرل) إنما يمثِّل بسطاً وتفصيلاً لرؤيتها. وقد تحدَّث (سيرل) حول التمايز والاختلاف بين هذين النوعين من الحقيقة، قائلاً: «إن لبعض الأمور وجوداً مستقلاًّ عن أيّ مؤسّسةٍ إنسانية، وأنا أطلق على هذا النوع من الأمور مصطلح (الحقائق الطبيعية). إلاّ أن بعضها الآخر يسلتزم في وجوده وجود مؤسّسة إنسانية. إن الحقيقة القائلة بأن الأرض تبعد عن الشمس بمسافة 93 مليون ميل من مصاديق ونماذج الحقائق التأسيسية، وإن الحقيقة القائلة: إن (باراك أوباما) رئيس جمهورية الولايات المتحدة نموذجٌ للحقيقة التأسيسية. إن الحقائق التأسيسية هي في الأساس حقائق عينية وخارجية، ولكنّها إنما تكون حقائق بشكل عجيب لمجرّد كونها موضع اتّفاق أو قبول الناس بذلك».

عندما نقارن بين كلام (سيرل) بشأن تحليل معنى ومفهوم الحقيقة، وتقسيمها إلى الحقائق الطبيعية والحقائق التأسيسية، وبين كلام العلاّمة الطباطبائي في باب تقسيم الإدراكات إلى: اعتبارية؛ وحقيقية، تتّضح لنا الأمور التالية:

أـ على الرغم من أن العلاّمة قد جعل الإدراك والتصوّر هو المقسم بينهما، ذهب سيرل إلى جعل المقسم هو الحقيقة، إلاّ أن هذا لا يشكّل فرقاً كبيراً في جوهر المسألة. إن العلاّمة نسب الاختلاف إلى الناحية الأبستيمولوجية من الأمور الاعتبارية، إلاّ أن سيرل نسبه إلى الناحية الأنطولوجية من الأمور الاعتبارية. وبطبيعة الحال فإن كلا الفيلسوفين لاحظ في تحليله كلتا الناحيتين الأنطولوجية والأبستيمولوجية من الأمور الاعتبارية.

ب ـ إن الوجود الاعتباري وإنْ كان رَهْناً بالاعتبار، وليس له في العالم الخارجي وجودٌ مستقلّ، إلاّ أن هذا لا يعني أن الأمور الاعتبارية غير واقعية، بل الأمور الاعتبارية واقعية. وكما يقول العلاّمة الطباطبائي فإن الأمور الاعتبارية ليست لَغْواً، بل تترتب عليها آثار واقعية، رغم أنه في العالم الخارجي ليس لها وجودٌ مستقلّ من الناحية الأنطولوجية. ومن الواضح أن الاعتبار في بحثنا أيّاً كان معناه ليس من سنخ الفرضيات والأمور الوَهْمية.

ج ـ قد يتبادر إلى الذهن في الوهلة الأولى أن تقسيم الإدراك إلى: الاعتباري؛ والحقيقي، يمكن أن يندرج ضمن التقسيم المشهور والتقليدي، وهو تقسيم الأمور إلى: (الذهني؛ والخارجي). والقول بأن الأمور الاعتبارية ـ بحَسَب التعريف ـ ذهنيّة، والأمور الحقيقية خارجيّة. إلاّ أن التمايز التقليدي بين الذهني والخارجي ـ كما ذكر (سيرل) ـ ليس كافياً لبيان الأمور الاعتبارية والتأسيسية، بل يجب إضافة تقسيمٍ آخر إلى التقسيم التقليدي السائد، أو على حدّ تعبير سيرل: يجب أخذ التمايز التقليدي (الذهني ـ الخارجي) من الزاويتين الأنطولوجية والأبستيمولوجية بنظر الاعتبار؛ كي تندرج في التقسيم ظواهر من قبيل: النقود والملكية والزوجية وما إلى ذلك. لو أخذنا التقسيم الذهني/الخارجي بنظر الاعتبار ضمن الإطار الأنطولوجي والأبستيمولوجي سوف نحصل على أربعة تمايزات مختلفة، ومرتبطة ببعضها في الوقت نفسه، وهي:

التعيُّن الأنطولوجي، من قبيل: الجبال والصخور وما إلى ذلك. إن للجبل تعيُّناً من الناحية الوجودية؛ لأن وجود الجبل غير مرتبط بالتجربة الذهنية لأيّ شخص.

التعيّن الأبستيمولوجي، إن صدق الكثير من القضايا قابلٌ للتعيُّن بشكل مستقلّ عن نمط فهم وشعور الأشخاص. إن القضية القائلة: «توفي ابن سينا في مدينة همدان» من الناحية الأبستيمولوجية قضية خارجية، وليست ذهنية.

الذهنية الأنطولوجية: إن وجود الألم والشعور بالحرقة والعواطف وما إلى ذلك رَهْنٌ بالذهن.

الذهنية الأبستيمولوجية: إن القضية القائلة: «إن فلسفة ابن سينا أقوى من فلسفة الفارابي» تعتبر من الناحية الأبستيمولوجية ذهنية.

وهنا، بالالتفات إلى التقسيم المتقدِّم، يمكن القول: إن الأمور الاعتبارية ـ أو الحقائق التأسيسية، على حدّ تعبير (سيرل) ـ وإنْ كانت ذهنيةً من الناحية الأنطولوجية ومتوقِّفةً على اعتبار الذهن، إلاّ أنها من الناحية الأبستيمولوجية عينية وخارجية. وقد عمد سيرل إلى توظيف مثال النقود لتوضيح مراده، فقال: إن الورقة الموجودة في محفظتي، والتي نسميها: نقود، شيءٌ عيني وخارجي، وتترتَّب عليها آثار خارجية، بمعنى أنه يمكن لي أن أشتري بها شيئاً من الحانوت، ومع ذلك فإن هذه القطعة الورقية إنما تكون من النقود؛ لأن الناس يعتبرونها كذلك، بمعنى أن وجودها رَهْنٌ باعتبار الإنسان.

إن وجود حقائق من قبيل: النقود يستدعي السؤال القائل: كيف يمكن لشيء أن يكون ذهنياً وخارجياً في الوقت ذاته؟ لو اكتفينا بمجرّد الاختلاف بين الذهني والخارجي، فإن هذا السؤال سيضعنا أمام مفارقة لا يمكن حلُّها بحَسَب الظاهر. وأما إذا أخذنا هذا الاختلاف الذهني/الخارجي بالنظر إلى الناحية الأنطولوجية والأبستيمولوجية لن تكون هناك مفارقةٌ في البين، وإنما نواجه مجرَّد السؤال القائل: كيف يمكن لسلسلةٍ من القضايا، التي هي خارجيةٌ من الناحية الأبستيمولوجية، أن تكون صادقةً بشأن حقيقة هي ذهنية من الناحية الأنطولوجية؟ إن هذا السؤال لم يعُدْ يعكس تناقضاً. كيف يمكن تحليل حقيقة وماهية الأمور الاعتباريّة؟ كيف يمكن لأمرٍ أن يكون رَهْناً باعتبار الإنسان ـ بمعنى أن يكون وجوده ذهنياً ـ ومع ذلك تترتَّب عليه جميع هذه الآثار؟ إن الحضارة البشرية والمؤسّسات الحالية المعقّدة كلّها من نتاج وحصيلة بناء الحقائق الاجتماعية والمؤسّساتية، فكيف أمكن لهذه الأمور أن توجد؟

ماهيّة الأمور الاعتباريّة

قبل أن نوضِّح كيف أمكن للأمور التأسيسية والاعتبارية أن أصبحت ممكنةً يجب أن نلفت الانتباه إلى هذه النقطة، وهي أن العلاّمة الطباطبائي يقسّم الأمور الاعتبارية إلى قسمين:

أـ الاعتباريات بالمعنى الأعمّ.

ب ـ الاعتباريات بالمعنى الأخصّ.

وقال العلاّمة في هذا الشأن: «لو تذكرنا ما تقدّم في المقالة الخامسة يتضح أن الاعتباريات تنقسم إلى قسمين، وهما:

1ـ الاعتباريات في مقابل الماهيات، والتي نصطلح عليها: الاعتباريات بالمعنى الأعمّ.

2ـ الاعتباريات التي هي من لوازم القوى الفعّالة للإنسان (أو أيّ كائنٍ حيّ)، والتي نسمّيها بـ (الاعتباريات بالمعنى الأخصّ)».

لا مندوحة لدينا هنا إلى البحث عن مختلف أنواع وأقسام الاعتبار. لقد تمّ تقديم طيف واسع من التقسيمات بأشكال مختلفة. وقد ذكر العلاّمة الطباطبائي تقسيماً في المقالة السادسة من كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي)، وذكر في (نهاية الحكمة) تقسيماً آخر. كما أشار علماء الأصول في الأبحاث المتعلقة بالاعتبار إلى تقسيمات أخرى ومعانٍ مختلفة. وقد سبق لنا أن أشَرْنا إلى أن قوام الأمر الاعتباري ـ سواء أكان من النوع الأوّل أو من النوع الثاني أو أيّ نوعٍ آخر يؤخذ بنظر الاعتبار ـ بأن يكون في وجوده رَهْناً باعتبار المعتبر. وقد قال العلاّمة الطباطبائي في هذا الشأن: «إن الضابطة العامة في اعتبارية مفهومٍ ما هو أن يكون متعلّقاً بالقوى الفعالة بوجهٍ من الوجوه، وأن يكون بالإمكان افتراض نسبة (الوجوب) فيه. فإذا قلنا: «إن التفاحة فاكهةٌ تنمو على الشجرة» سيكون ذلك مفهوماً حقيقياً، وإذا قلنا: «يجب أكل هذه التفاحة»، أو «إن هذا الرداء لي»، سيكون ذلك مفهوماً اعتبارياً».

والحاصل أن جميع أنواع الاعتباريات تشترك في هذه الخصوصية، وهي أنها تتوقّف على اعتبار وطريقة تفكير الإنسان، وإنْ كانت مختلفة في سائر الخصائص الأخرى. وفي تحليلنا لماهية الأمور الاعتبارية سنركّز اهتمامنا على النوع الثاني، أي الاعتباريات بالمعنى الأخصّ، أو الحقائق الاجتماعية، على حدّ تعبير (سيرل). وقد بذل العلاّمة الطباطبائي جهوداً كبيرة من أجل بيان وتحليل ماهية كلا نوعَيْ الاعتبار. إلا أن سيرل اكتفى بتحليل النوع الثاني فقط. إن العلاّمة الطباطبائي يميل في الغالب إلى اعتبار بحث الاعتباريات بحثاً أبستيمولوجياً ومعرفياً، وقال بتعلّقه وارتباطه بمجال علم النفس أو علم النفس الفلسفي، أو فلسفة الذهن بحَسَب التعبير الجديد. إلاّ أن (سيرل) يركز على الناحية الأنطولوجية من الأمور الاعتبارية، وأدرج هذا البحث ضمن مجال (فلسفة المجتمع).

ويبدو أن كلاًّ من العلاّمة وسيرل يسعيان ـ بعد تعداد خصائص الأمور الاعتبارية ـ إلى بيان ماهية الاعتبار، وطريقة تبلورهما.

خصائص الأمور الاعتباريّة عند العلاّمة الطباطبائي

إن خصائص الأمور الاعتبارية من وجهة نظر العلامة الطباطبائي كما يلي:

أـ إن الأمور الاعتبارية رَهْنٌ بغرض واعتبار الإنسان. وعليه مع زوال غرض واعتبار المعتبرين تزول الأمور الاعتبارية. إن قطعة الورق في يدي نقودٌ ما دام العقلاء يعتبرونها كذلك، وبمجرّد أن ينكروا هذا الاعتبار ـ لأيّ سببٍ من الأسباب ـ لا تعود هذه الورقة نقوداً، وإنما مجرّد ورقةٍ فاقدة للقيمة.

ب ـ إن الأمور الاعتبارية ليس لها ما بإزاء في العالم الخارجي، ولكنها تحتوي في وعائها على ما يطابقها. فعندما يعتبر الذهن الشخص الشجاع في وعاء الخيال أسداً صحيحٌ أننا لن نشاهد أسداً حقيقياً في الخارج وفي ظرف الواقع، ولكنّ الرجل الشجاع سيشكِّل مصداقاً له في وعاء الاعتبار. وعلى هذا الأساس فإن الاعتبار أوّلاً: يختلف عن الكذب؛ وثانياً: حيث إن الاعتبار ـ طبقاً لبيان العلاّمة ـ ليس كذباً تترتَّب عليه الآثار الواقعية المتناسبة مع أسبابه وعلله.

ج ـ إن كلّ اعتبارٍ يستند إلى حقيقةٍ. يمكن للذهن من خلال حصوله على نموذج من الأمور الحقيقية أن يعمل على اعتبار أمرٍ ما، وبحَسَب تعبير العلاّمة: إن الذهن يهب حدّ الأمر الحقيقي إلى أمرٍ آخر، ويعتبره مصداقاً للأمر الحقيقي.

«إنّ الأمور غير الحقيقية يجب أن تنتهي إلى الأمور الحقيقية، سواء التصورية منها أو التصديقية؛ لأن النفس لا تستطيع أن تعمل على إيجادها دون الاستعانة بالخارج، وإلاّ لن يكون صدقها على الخارج ثابتاً، فإن الكلام يحمل دائماً على الأصوات بشرطٍ خاصّ. إذن هناك نسبة بين الأمور الحقيقية والأمور غير الحقيقية، وحيث لا توجد هذه النسبة في الخارج فهي موجودةٌ في الذهن. إن هذه النسبة لا توجدها النفس دون منشأ، وإنما توجدها بمشاركة المعاني الحقيقية؛ إذ من دون المعاني الحقيقية لا يوجد أيّ ارتباطٍ».

إن هذه النقطة تمثِّل أساساً لتحليل العلاّمة الطباطبائي في مجال الاعتباريات. إن الذهن ـ طبقاً لتحليل العلاّمة ـ لا يمكنه أن يوجد شيئاً من عنده. وإذا أمكن للعقل أن يوجد شيئاً بشكلٍ مستقلّ، ودون الاستعانة بالحسّ، فإن نتيجته إما أن تصدق على كلّ شيء، أو لا تصدق على شيء. وقد عبَّر العلامة الطباطبائي عن هذه المسألة قائلاً ما مضمونه: «إن هذه المعاني غير الحقيقية؛ حيث لا تكون لها واقعية في الخارج، يجب أن يكون موطنها الذهن، ولكنّ الذهن لا يخلق هذه المعاني من تلقائه، ودون الاستعانة بالخارج؛ وذلك لأن الذهن يعمل على تطبيق هذه المعاني على الأمور الخارجية بتوهُّم وجودها في الخارج، ويقع هذا التطبيق على الخارجيات بشكلٍ واحد».

د ـ إن أساس نشاط الذهن في إيجاد المفاهيم الاعتبارية واقتباسها من الأمور الحقيقية يقوم على وجود بعض الاحتياجات التي تجعل الاعتبار أمراً ضروريّاً. وقد بيّن الأستاذ المطهَّري هذه المسألة بقوله: «إن العلاقة بين محمول القضية وموضوعها في الأمور الاعتبارية فرضية واعتبارية دائماً. وإن المعتبر يتّخذ من هذه العلاقة وسيلة للوصول إلى الهدف والغاية التي ينشدها، وبذلك فإنه يعتبر ما يكون هو الأجدى والأفضل في إيصاله إلى الغاية والمصلحة المنشودة. والمعيار العقلي الوحيد الذي يتمّ استعماله في الاعتبارات هو لَغْويّة وعدم لَغْويّة الاعتبار. وهنا لا بُدَّ من أخذ خصوصية المعتبر بطبيعة الحال؛ فإذا كان الاعتبار ـ مثلاً ـ اعتباراً خيالياً ووَهْمياً وجب أخذ مصالح وأهداف القوّة الخيالية بنظر الاعتبار؛ وإذا كان الاعتبار عقلياً وجب أخذ مصالح وأهداف القوّة العقلية بنظر الاعتبار. كما هناك فرقٌ بين الاعتبارات القانونية للإنسان والاعتبارات القانونية التي يتمّ تعيينها بواسطة الوحي الإلهي… ولكنْ لا فرق من هذه الجهة في أن يعمد كلّ شخصٍ وكلّ شيءٍ وكلّ فردٍ أو جماعة بأن تعتبر شيئاً، ويكون لها غايةٌ وهدف من وراء اعتبارها، وتجعل من الوصول إلى تلك الغاية مطمحاً لها. وإذا اعتبرت شيئاً لغايةٍ خاصّة فمن المحال أن تعمد ذات هذه الجهة المعتبرة إلى اعتبار شيءٍ آخر يصدّها عن الوصول إلى تلك الغاية. إذن فالمعيار الوحيد في السير والسلوك الفكري في الاعتبارات هو معيار اللَّغْوية وعدم اللَّغْوية».

إن التأمُّل في الخصائص المذكورة آنفاً يبيِّن لنا أموراً ثلاثة، وهي:

1ـ ماهيّة الأمور الاعتبارية.

2ـ طريقة تبلور الأمور الاعتبارية.

3ـ نسبة الأمور الاعتبارية إلى الأمور الحقيقية.

وقد عرّف العلاّمة الطباطبائي الاعتبار بما مضمونه: «إن الاعتبار هو الذي يعطي حدَّ أو حكمَ شيءٍ إلى شيء آخر، من خلال الاستعانة بقوّة الوَهْم والخيال».

يرى العلاّمة الطباطبائي أن جميع الاعتبارات التي يعتبرها الإنسان بكافّة أنواعها المختلفة إنما تقوم على أساس الاحتياجات والضرورات التي يحتاج إليها الإنسان في مقام العمل. ولا فرق بين ما إذا كانت هذه الحاجة العملية مرتبطةً بعملية التفكير أو مرتبطة بالعمل الاجتماعي.

إن طريقة تبلور الاعتباريات ـ من وجهة نظر العلاّمة الطباطبائي ـ تابعةٌ لأصلٍ يضع أمامنا من دون شكٍّ نوعاً خاصاً من الرؤية الكونية العامة. إن هذا الأصل يقول: إننا نعيش في عالمٍ واحد، وإن كلّ شيء في هذا العالم ـ الأعمّ من أن يكون حيّاً أو غير حيّ ـ يشكِّل واحداً طبيعياً، نعبِّر عنه بـ «الذات». فإن ذات وجوهر الشجرة ـ على سبيل المثال ـ يُصدر بالتدريج بعض الأفعال والآثار؛ كي تحافظ على وجودها، من ذلك أنها تمتصّ بواسطة جذورها الماء والطعام، وتوصله إلى هيكلها وجميع أجزائها وعناصرها. إن هذا النشاط ضروريٌّ بمقتضى جوهر الشجرة وذاتها.

كما يذهب العلاّمة الطباطبائي إلى القول بأن الكائنات الحيّة تتبع هذه المعادلة أيضاً. فالإنسان بدَوْره يمثِّل واحداً طبيعياً يقوم بسلسلةٍ من الأفعال الطبيعية غير المقصودة، من قبيل: التغذية والنموّ والتناسل، بحَسَب تكوينه قهراً، ويبادر إلى التفكير والاعتبار من أجل الوصول إلى أهدافه وغاياته التكوينية. وبذلك فإن عالم الطبيعة ـ حيث يمارس كلّ شيء فيه نشاطه الخاصّ بحَسَب الضرورة التكوينية ـ يعمل على وتيرةٍ واحدة. بَيْدَ أن الإنسان في الوصول إلى أهدافه ومقاصده التكوينية يقوم بأفعالٍ إرادية مقصودة، ويبادر إلى الاعتبار وإضفاء المعاني على الأشياء.

إن الإنسان يقيم نشاطه التكويني والطبيعي على أساس الإدراك والعلم، ويجب أن تعتمل في نفسه؛ من أجل تعيين الفعل الذي يروم القيام به، والوصول إلى مراده وغايته التكوينية، سلسلةٌ من المشاعر والأحاسيس، من قبيل: الحبّ والبغض؛ كي يعمل على تشخيص الفعل والقيام به. وبذلك تكون الأمور الاعتبارية تابعةً لسلسلة من المشاعر الداخلية للإنسان. وإن بقاءها وزوالها وتغيُّرها تابعٌ لبقاء وزوال وتغيُّر تلك المشاعر والأحاسيس. ولكنْ يجب أن لا يُفهم من ذلك أن الأمور الاعتبارية لا تقوم على ضابطةٍ أو نظامٍ، وأنها أمورٌ شخصية تتغيَّر من شخصٍ إلى شخصٍ آخر. ولدفع هذا التوهُّم قال العلاّمة الطباطبائي: «الاعتبارات العملية وليدٌ طفيلي للإحساسات، وتناسب القوى الفعّالة، وتتبع الإحساسات من زاوية الثبات والتغيُّر والبقاء والزوال. والإحساسات على نوعين:

1ـ الاعتبارات العامّة الثابتة وغير المتغيِّرة، من قبيل: اعتبار التبعية للعلم، واعتبار الاجتماع والاختصاص.

2ـ الاعتبارات الخاصّة التي تخضع للتغيير، من قبيل: القُبْح والجمال الخاصّ والأشكال المتنوّعة في المجتمعات… إذن فالاعتبارات العملية على قسمين: اعتبارات ثابتة لا محيص للإنسان عن إنشائها؛ واعتبارات متغيِّرة».

وعليه فإن الأمور الاعتبارية تابعةٌ للاعتبار، ولكنّها ليست أموراً لا تقوم على قاعدةٍ وغير منضبطة. إن الاعتبار في أساس ظهوره تابعٌ لأصلٍ أو أصول حاكمة على الاعتبارات، وإنْ كان هناك اعتباراتٌ ترتبط بالشخص أو الآداب والتقاليد السائدة في مجتمعٍ خاصّ، فتكون متغيّرةً وتابعةً لمشاعر ذلك الشخص أو أفراد ذلك المجتمع.

خصائص الحقائق التأسيسيّة في نظر «سيرل»

سعى (جون سيرل)، في كتابه «بناء الحقائق الاجتماعية»، من أجل الوصول إلى خصائص الحقائق التأسيسية. وقد أشار في بيان الخصيصة الأولى للحقائق التأسيسية إلى مسألة يجب الالتفات إليها قبل بيان الخصائص الأخرى.

قال سيرل: «من أجل بيان هذه المسألة بشكلٍ دقيق يجب التمييز بين المؤسسات والخطوط العريضة من جهةٍ، والمصاديق الخاصة من جهةٍ أخرى، بمعنى أنه يجب التفريق بين الأنواع والمصاديق».

إن مراد (جون سيرل) هو أن خصائص الحقائق التأسيسية والأمور الاعتبارية، ترتبط بنوع المؤسّسات، وليس مصاديقها. إن المصاديق التي سنأتي على ذكرها فيما يلي إنما تصدق بشكلٍ عام بشأن نوع الأمور الاعتبارية، وإنْ كان بعض المصاديق لا يحتوي عليها. وقد ذكر (سيرل) هذه الخصائص في كتابه على النحو التالي:

1ـ الإحالة الذاتيّة للكثير من المفاهيم الاجتماعيّة

إن مراد سيرل من «الإحالة الذاتية» هو أن هناك اختلافاً بين المفاهيم الطبيعية والحقيقية وبين المفاهيم الاعتبارية والتأسيسية؛ وذلك من حيث إن مفهوم الجبل ـ على سبيل المثال ـ هو مفهوم الجبل حتّى إذا رفض شخصٌ ذلك أو لم يعتقد أنه جبلٌ. أما المفاهيم الاجتماعية والاعتبارية فهي تابعةٌ لطريقة فهمنا. فلكي تكون الورقة في محفظتي نقوداً يجب أن يعتبرها العقلاء نقوداً، فإنْ لم يعتبروها كذلك؛ لأيّ سببٍ من الأسباب، أو تخلُّوا عن اعتبارهم السابق، لن تعود هذه الورقة عملةً نقدية. وعلى هذا الأساس فإن القضية القائلة: «إن هذه الورقة عملةٌ نقدية» تعني من الناحية المنطقية: «إن العقلاء قد اعتبروا هذه الورقة عملةً نقدية». إذن النقود ليست مفهوماً طبيعياً نحصل عليه بالتجربة، أو بحَسَب تعبير العلامة الطباطبائي: إن النقود ليست مفهوماً ماهوياً وحقيقياً، بحيث يكون لها حدٌّ وتعريفٌ حقيقي، بل النقود إنما تكون نقوداً لأننا نحن مَنْ اعتبرها نقوداً. إن مفهوم النقود يشتمل على نوعٍ من الإحالة الذاتية، ولكي نعمل على تعريفها يجب علينا الرجوع إلى ذاتها.

2ـ استعمال العبارات الإنشائيّة لإيجاد الحقائق التأسيسيّة

إن «العبارات الإنشائية» مصطلحٌ استعمله فيلسوف الأخلاق الإنجليزي (جون أوستن)؛ تمييزاً لها من «العبارات الإخبارية». ولكنْ سرعان ما تخلى أوستن عن الاختلاف الإخباري والإنشائي، بعد أن أدرك أن جميع التعبيرات اللغوية هي بحيث نعمل على توظيفها من أجل القيام بعمل، وبعبارةٍ أخرى: إن جميع التعبيرات اللغوية إنشائية. يرى سيرل أن من بين خصائص الحقائق التأسيسية هو أنها توجد بواسطة الأفعال الكلامية التي هي من نوع التصريحات. لقد ذهب سيرل، في كتابه بناء الحقائق الاجتماعية (1995م)، إلى الاستفادة من تعبير «الإظهارات الإنشائية»، ولكنه في كتاب بناء العالم الاجتماعي (2010م) آثر الاستفادة من عبارة «التصريحات».

«إن جميع الحقائق تأسيسية، وبذلك فإن جميع الآليات والأنشطة الوضعية/الشأنية إنما توجد بواسطة الأفعال الكلامية من النوع الذي أطلقت عليه سنة 1975م تسمية (التصريحات)».

إن التصريحات تمثِّل نوعاً خاصاً من الأفعال الكلامية. إن المتكلِّم يروم في هذا النوع من الأفعال إحداث تغيير في العالم الخارجي، إلاّ أنه يقوم بهذا التغيير من خلال التصريح نفسه. فالأب الذي يصرّح بأن اسم ابنه «علي»، ويقول: «لقد أسمَيْتُ ابني عليّاً»، إنما يعمل على إيجاد وإنشاء أمر، إلاّ أنه إنما يقوم بهذا الإنشاء من خلال هذه العبارة ذاتها. وفي الحقيقة فإن الإنسان من خلال تصريحه بأن الأمر على هذه الشاكلة إنما يقول بفعل شيء. إن التصريح يوجد مضمونه ومحتواه من خلال هذا التصريح بذاته.

3ـ قيام الحقائق التأسيسيّة على الحقائق الطبيعيّة

لا يمكن لأيّ واقعيةٍ تأسيسية أن يُكتب لها التحقُّق دون الواقعية المادية. وقد بيّن (جون سيرل) مراده بالقول: إن حقائق من قبيل: النقود، والانتخابات، ومؤسّسة الجامعة، وما إلى ذلك، لا يكتب لها التحقُّق إلاّ إذا كانت هناك أمور مادّية كي تتحقق هذه الأمور على أساسها. إن الحقائق الاجتماعية بشكلٍ عام، والحقائق التأسيسية بشكلٍ خاص، تحتوي على هيكلية تراتبية، بمعنى أن الحقائق التأسيسية تقوم على الحقائق المادية.

ما هو مراد (جون سيرل) من هذا الكلام؟ إنه لم يقدّم مزيداً من التوضيح حول ذلك في كتابه «بناء الحقائق الاجتماعية». ولكنْ يمكن تفسير كلامه على النحو الآتي: إن تحقُّق الاعتبارات الاجتماعية يقوم على الأمور المادية الخارجية في الكثير من الموارد إذا لم نقُلْ: في كلّها. ويبدو أن كلام العلاّمة الطباطبائي في هذا الشأن أكثر دقّةً وجوهرية من كلام (سيرل)؛ إذ ليس تحقُّق الحقائق التأسيسية والاعتبارية وحده هو الذي يكون رَهْناً بالأمور الحقيقية فحَسْب، بل كلّ اعتبار رَهْنٌ بحقيقةٍ من حيث الوجود، ومن حيث الاعتبار ذاته أيضاً.

4ـ ترابط الحقائق التأسيسيّة ببعضها بشكلٍ منتظم

وهذه الخصيصة واضحةٌ، ولا تحتوي على أهمّيةٍ كبيرة في فهم الحقائق التأسيسية. من الواضح أن المجتمعات الإنسانية ـ ولا سيَّما المتطوّرة منها ـ تحتوي على شبكةٍ معقَّدة من العلاقات.

5ـ تقدّم الأفعال الاجتماعيّة على الأشياء الاجتماعيّة

إن مراد (جون سيرل) هو أن الأمور الاجتماعية والمؤسّسات المتحقّقة في العالم الخارجي ليست أموراً مستقلّة من الناحية الوجودية. إن العملة النقدية أو المؤسسة الزوجية والملكية أمورٌ وضعية واعتبارية، وهي رَهْنٌ بالاعتبار. وبعبارةٍ أدقّ: إن الأعيان والأشياء الاجتماعية مرتبطة بالحقائق التأسيسية، وإن الحقائق التأسيسية رَهْنٌ باعتبارات العقلاء.

6ـ لُغَويّة الكثير من الحقائق التأسيسيّة

ما لم يتمّ إظهار وإبراز اعتبار العقلاء لا يكتب الوجود للحقائق التأسيسية، وإن الطريق الوحيد أمام العقلاء لإظهار اعتباراتهم ومقاصدهم هي اللغة. إن دَوْر اللغة في إيجاد الحقائق التأسيسية بحثٌ طويل وهامّ، يجب التعرُّض له في محلِّه.

إن ما ذكرناه آنفاً من خصائص الحقائق التأسيسية نقاطٌ ذكرها (جون سيرل) في كتابه «بناء الحقائق الاجتماعية». يشير بعض هذه الخصائص إلى كيفية ظهور الحقائق الاجتماعية، ويرتبط بعضها الآخر بماهية الحقائق التأسيسية. ولكنْ هذا ليس هو تمام الشيء الذي يتعيَّن على سيرل أن يقوله بشأن المسائل الثلاثة الأساسية التي ننشدها في هذا المقال؛ فإنْ أراد القارئ الكريم العثور على بيانٍ متناغم وسهل المتناول حول رؤية (جون سيرل) بشأن ماهيّة وكيفية وجود وارتباط الحقائق التأسيسية بالحقائق الطبيعية وجب عليه الرجوع إلى كتابه «بناء العالم الاجتماعي» (2010م).

إن ما قاله (جون سيرل) في كتاب «بناء العالم الاجتماعي» أنسب بالذي قاله العلاّمة الطباطبائي في مجال الأمور الاعتبارية. لقد شرح سيرل إطاره العامّ ومنظومته المفهومية في مستهلّ هذا الكتاب بشكلٍ مختصر. إن جوهر بيان سيرل في كلا كتابَيْه واحدٌ، إلاّ أن أسلوب الاقتراب من المسألة وبيانها مختلفٌ. وفي ما يلي نشير إلى بعض النقاط التي ذكرها (جون سيرل) في كتابه «بناء العالم الاجتماعي»:

7ـ الآليّات الشأنيّة ـ الوضعيّة

إن من بين الجوانب الخاصة للحقائق الاجتماعية هي أننا نحن البشر نعمل على إضفاء شأنيات وأوضاع إلى الأشخاص والأشياء، وإن أولئك الأشخاص وتلك الأشياء وحدها، وبحَسَب طبيعتها الفيزيائية، لا تكتسب تلك الأوضاع والشأنيات دون اعتبار المعتبرين. وإن هذه الآليات إنما يتمّ إضفاؤها على الأشياء والأشخاص إذا كان هناك تشخيصٌ وإدراك وقبول جماعي. إن رئيس الجمهورية، والعملة النقدية، وأستاذ الجامعة، وجميع الأشخاص والأشياء التي تحمل هذه الآليّات والعناوين، إنما تحملها بسبب وجود القبول الجماعي، وإن إجماع العقلاء هو الذي يضفي هذه الشأنيات والأوضاع والآليات على الأشخاص والأشياء.

8ـ حيثيّة الالتفات الجماعيّ

إن الآليّات الشأنية إنما يُكتب لها التحقُّق إذا حظيَتْ بالقبول الجماعي. إننا نحن البشر وبعض العجماوات لدينا القدرة على المشاركة الجماعية. إننا لا نتشارك في الأعمال التي نقوم بها فقط، بل نتشارك حتّى في الآراء والمعتقدات والأذواق وأساليب الفهم أيضاً. ونعبِّر عن هذه الظاهرة الخاصّة بـ «الحيثية الالتفاتية الجماعية».

 

9ـ القوى المُلْزِمة

إن الآليات الشأنية معلولةٌ للحيثية الالتفاتية الجماعية. بَيْدَ أن الآليات الشأنية تنطوي بدَوْرها على واجبات وإلزامات ومسؤوليات وحقوق. إن القوى المُلزمة تعمل على ربط أفراد المجتمع الإنساني ببعضهم. فعندما أعلم أن هذا الشيء ملكٌ لشخص، عندها أرى نفسي مُلزماً بعدم التصرُّف به من دون إذن صاحبه. وعليه فإن الاعتبارات الجماعية للناس تعمل على إيجاد الآليات الشأنية، والآليات الشأنية تعمل بدورها على إيجاد المُلْزِمات والواجبات والحقوق. وعلينا أن نعمل على طبق هذه الإلزامات رغم كونها على خلاف رغبتنا الشخصية. إن القوى المُلْزِمة أدلّة تلزم الإنسان بالعمل على خلاف رغبته.

10ـ القواعد المقوِّمة

إن القواعد على قسمين، وهما: القواعد المقوّمة؛ والقواعد المنظّمة. إن القواعد المنظّمة تعمل على مجرّد تنظيم أفعال الأشخاص في المجتمع، مع أن قوام الفعل لا يرتبط بتلك القاعدة، من قبيل: القواعد الثقافية والأعراف والتقاليد أو القواعد المرورية. إن قاعدة «قيادة السيارة على الجانب الأيمن من الشارع» إنما تعمل على تنظيم قيادتنا للسيارة، إلاّ أن وجود هذه القيادة لا يتوقّف على هذه القاعدة، بمعنى أن قيادة السيارة موجودةٌ بشكلٍ مستقلّ عن هذه القاعدة. أما القواعد المقوِّمة فإنها لا تقوم بالتنظيم فقط، وإنما توفِّر إمكانية للفعل أيضاً، بحيث يكون وجود الفعل مرتبطاً بالقاعدة، من قبيل: قواعد لعبة الشطرنج، فإن قواعد لعبة الشطرنج لا تقتصر على تنظيم حركات الأحجار والبيادق فقط، بل إن لعبة الشطرنج ليست سوى تلك المجموعة من القواعد الخاصّة بهذه اللعبة، والتي لولاها لما كانت هذه اللعبة. إن الصورة المنطقية للقواعد المقوّمة هي أن «أ» يُعتبر «د» في نسيج «ج». فعلى سبيل المثال: إن زيداً (أ) الذي حصل في الانتخابات البرلمانية عبر آليّة خاصّة (ج) على الأصوات الكافية يعتبر عضواً في البرلمان (د).

يذهب (جون سيرل) إلى الاعتقاد بضرورة وجود الأمور المذكورة أعلاه من أجل إيجاد وبقاء الحقائق التأسيسية. إن الخصائص المتقدّمة تعمل على إيضاح طريقة إيجاد وبقاء الحقائق التأسيسية.

النتيجة

عمدنا في هذا المقال إلى شرح وبسط آراء فيلسوفين معاصرين بشأن مسألة الاعتباريات والحقائق التأسيسية. والآن، بعد عرض هاتين الرؤيتين، يمكن إظهار نقاط الاشتراك والاختلاف بينهما، وذلك على النحو التالي:

1ـ يقوم المبنى والفرضية عند كلا هذين الفيلسوفين على القول بأننا نعيش في عالمٍ واحد، وليس في عالمين أو عوالم متعدِّدة. وإن قوانين الاعتبار واحدةٌ بشأن جميع الأشياء في هذا العالم.

2ـ لقد ركّز (جون سيرل) في مشروعه الفلسفي على مجرّد الحقائق الاجتماعية، بل اختار من بينها خصوص الحقائق الاجتماعية، واختار من بين الحقائق الاجتماعية التأكيد على الحقائق التأسيسية فقط.

وأما بحث العلاّمة الطباطبائي فيشمل جميع الأنواع الاعتبارية ـ الأعمّ من الاعتبارات الاجتماعية وغير الاجتماعية، والنظرية والعملية ـ.

وعليه تكون النسبة بين بحث (جون سيرل) وبحث (العلاّمة الطباطبائي) هي نسبة العموم والخصوص المطلق.

3ـ أن الأسئلة التي يثيرها كلا الفيلسوفين حول الحقائق الاعتبارية مشتركة، بمعنى أن كلَيْهما يسعى للإجابة عن هذين السؤالين، وهما:

أـ ما هي الحقيقة الاعتبارية؟

ب ـ ما هي طريقة وكيفية تبلور وظهور الحقيقة الاعتبارية؟

يمكن تسمية مشروع (جون سيرل) ـ كما أشار بنفسه إلى ذلك ـ بـ «أنطولوجيا الحقائق الاجتماعية».

يؤكّد سيرل على الأبعاد الأنطولوجية والوجودية في بحثه كثيراً؛ في حين أن العلامة الطباطبائي ينظر في الغالب إلى الناحية الأبستيمولوجية والمعرفية من الأمور الاعتبارية.

وقد جعل سيرل الواقعية هي المقسم في بحثه؛ أما العلاّمة فقد جعل المقسم هو الإدراك.

4ـ إن من نقاط الاشتراك الهامّة بين هذين الفيلسوفين قولهما: إن المفاهيم الاعتبارية ليست من المفاهيم الماهوية، ومن الدرجة الأولى. وعلى حدّ تعبير سيرل: إن لديها ما تعود إليه، بمعنى أنه لا يجب البحث عن معناها خارجها. فنحن مَنْ منحها المعنى. فالنقود نقودٌ؛ لأننا نحن الذين اعتبرناها نقوداً. وهذا ما يقوله العلاّمة الطباطبائي أيضاً، بمعنى أنه لا يرى الأمور الاعتبارية منتزعةً من التجربة. بَيْدَ أن العلاّمة يذهب في تحليله إلى أبعد من ذلك بخطوةٍ؛ ويثبت كيفية قيامنا ـ فرادى وجماعات ـ بإضفاء تعريف وآلية منتزعة من الأمور الحقيقية على شيءٍ لا وجود له في العالم الخارجي. في حين أن (سيرل) لا يبيِّن كيف يقوم الإنسان وعلى أيّ أساسٍ ومعيار بإضفاء الآليات الشأنية والوضعية على الأشياء والأشخاص؟ وكلّ ما يبيِّنه هو أن هذه الآليات الخاصة تقوم على أساس التوافق الجماعي. ولا يوضِّح سيرل ما هو الأساس الذي تقوم عليه الحيثية الالتفاتية الجماعية والقبول الجماعي، فهل يعمل مجموع الناس على اعتبار الآليّات لمجرّد الرغبة الاعتباطية؟ يرى العلاّمة الطباطبائي أن الاعتبار الجماعي ـ كما هو الاعتبار الفردي ـ يجب أن يستند إلى معيارٍ، ومعياره هو انتهاء الاعتبار إلى الحقيقة، وإعطاء حدّ شيءٍ إلى شيء آخر.

5ـ إن النقطة السابقة تكشف عن اختلافٍ هامٍّ جداً بين هذين الفيلسوفين؛ فإن جوهر ولبّ نظرية العلاّمة في مجال الاعتباريات يكمن في القول بأن كلّ اعتبارٍ يستند بالضرورة إلى حقيقةٍ؛ في حين أن سيرل لم يصِلْ إلى هذه النقطة، وإنما التفت إلى ناحية أخرى. إن جميع أو أكثر الحقائق التأسيسية ـ من وجهة نظر سيرل ـ يحتاج في تحقُّقه إلى الأمر الطبيعي والحقيقي. لا شأن لـ (سيرل) بذات مسار الاعتبار، وإنما ينظر إلى تحقُّقه الخارجي فقط.

6ـ إن من نقاط الاشتراك الأخرى بين الفيلسوفين أن الأمور الاعتبارية تقوم على قواعد. غاية ما هنالك أن الاعتبارات الشخصية ـ كما أشار العلاّمة الطباطبائي ـ تتغيَّر من شخصٍ إلى آخر، إلاّ أن لذات الاعتبار جَذْراً وأساساً ثابتاً وراسخاً في كلّ اعتبارٍ. وقد عمد (جون سيرل) إلى توضيح الصورة المنطقية لذلك ضمن الإطار الصوري.

7ـ لقد تحدَّث سيرل حول دور اللغة في الحقائق التأسيسية بالتفصيل، وأثبت بشكلٍ جيّد أن الاعتبار لا أثر له من دون الإظهار بواسطة اللغة. أما العلاّمة الطباطبائي فلم يقدِّم توضيحاً بشأن إظهار الاعتبار بواسطة اللغة، وإنّما ركز جهوده في الغالب على تحليل ذات الاعتبار، دون البحث عن شرائط وظروف تحقُّقه في الخارج.

8ـ على الرغم من المشتركات الكثيرة بين هذين الفيلسوفين، إلاّ أن العلاّمة الطباطبائي قد ركّز في تحليله بشأن الأمور الاعتبارية على بيان وتفسير ذات الاعتبار وطريقة تبلوره، ولم يبحث في شرائط تحقُّقه وتأثيره في العالم الخارجي؛ وأما (جون سيرل) فقد وجّه أكثر تفكيره حول شرائط تحقُّق الاعتبار ونتائجه.

ونختم هذا المقال بالتذكير بهذه النقطة، وهي: إن رؤية العلاّمة الطباطبائي حول ماهية الأمور الاعتبارية وكيفية تبلورها قد تعرَّضت للكثير من البحث والجَدَل، كما أن مشروع جون سيرل قد تلقّى الكثير من النقد من قِبَل الناقدين أيضاً، إلاّ أن الخوض في هذه الانتقادات يحتاج إلى فرصةٍ أخرى.

(*) أستاذٌ، وعضو الهيئة العلميّة، في جامعة طهران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً