د. محمد بهرامي(*)
المقدّمة
يمارس الأنبياء في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية والحكومية الدعوة وتبليغ الدِّين، ويصدرون الأحكام الشرعيّة، وتصدر عنهم بعض الأعمال والتصرُّفات الخاصّة، مع توجيه مجموعةٍ من الانتقادات إلى الآخرين. فهل يكون الأنبياء في جميع هذه المراحل معصومين من الأخطاء، أم يكونون معصومين في بعضها؛ ولا يكون لهم نصيبٌ من العصمة في بعضها الآخر؟
هناك الكثير من الإجابات المتنوِّعة عن هذا السؤال، والتي تمّ تقديمها من قِبَل الفِرَق والشخصيات الدينيّة والمذهبيّة:
تعتبر جميع الفِرَق الإسلامية الأنبياء معصومين من حيث الاعتقاد، إلاّ أن جماعةً من الخوارج؛ حيث يعتبرون كلّ ذنبٍ كُفْراً وشِرْكاً، لا يؤمنون بهذه العصمة([1])، ولا يقولون لذلك بعصمة الأنبياء.
وهناك مَنْ قال بعصمة الأنبياء في التبليغ، ويرى أن الكذب والتحريف عن عَمْدٍ أو سَهْوٍ لا ينسجم مع العصمة. وهناك مَنْ لم يَرَ في الكذب والتحريف سَهْواً ما ينافي العصمة.
كما تمّ القبول بالعصمة في الفتوى من قِبَل جميع الفِرَق الإسلامية، باستثناء بعضٍ؛ حيث أجاز الخطأ سَهْواً في الفتوى.
وقد تعرَّض بحث العصمة في الأفعال والسلوك للبحث والنقاش أكثر من أقسام العصمة الأخرى:
فالحَشْوية يجيزون ارتكاب الكبائر على الأنبياء.
والكثير من المعتزلة لا يجيزون للأنبياء ارتكاب الكبائر، ولا يرَوْن ارتكاب الصغائر منافياً للعصمة.
والجبائي لا يرتضي ارتكاب الصغائر والكبائر، عن عَمْدٍ و…
أما الإماميّة فقد خالفوا بعض الفِرَق الإسلامية، وقالوا بأن الأنبياء معصومون في العقيدة والدعوة والفتوى وجميع الأفعال والتصرُّفات. وهم يرَوْن أن المستَنْبَط من العقل والآيات والروايات هو عصمة الأنبياء، وأن هذه الأدلة تثبت خطأ ما قاله المخالفون للعصمة بداهةً.
وقد ذهب أبو الفتوح الرازي ـ وهو أحد المفسِّرين الشيعة البارزين ـ في جميع مواطن تفسيره إلى بحث ومناقشة عصمة الأنبياء. وقد تحدَّث عن العقل والشرع والآيات والروايات كمستنداتٍ لإثبات العصمة، وعمد إلى نقد وتحليل المستندات القرآنيّة والروائيّة للمخالفين.
وعليه، لكي نحصل على نظرية الشيعة في هذا الشأن يجدر بنا أن نلقي نظرةً على التفسير القيِّم لأبي الفتوح الرازي، وهو بعنوان: «روض الجنان»([2])، وأن نستخرج من جميع مظانّ هذا التفسير إجابة أبي الفتوح عن المستندات القرآنيّة للمخالفين، وأن نبيِّن قدرة علماء الشيعة في الإجابة عن شبهات المخالفين للعصمة.
الأدلّة المتنوِّعة لعصمة الأنبياء
يرى أبو الفتوح الرازي أن الأنبياء معصومون من الأخطاء والذنوب؛ ويرى أن ارتكاب الذنوب، الكبيرة والصغيرة، والعقائد الخاطئة لا ينسجم مع القول بعصمتهم.
ولكي يُثبت هذا الاعتقاد عمد إلى توظيف مجموعةٍ من الأدلة، وهي:
1ـ العقل
يمثِّل العقل أهمَّ أدلّة أبي الفتوح الرازي على عصمة الأنبياء. وعلى الرغم من احتمال امتلاك مؤلِّف تفسير «روض الجنان» مختلف الأدلّة العقليّة على عصمة الأنبياء، إلاّ أنه لم يذكر سوى دليلٍ عقليّ واحد في هذا الشأن، وهو قوله: إن صدور الذنب عن الأنبياء ـ سواء أكان كبيرةً أم صغيرة ـ يؤدّي إلى حدوث استياءٍ ونفورٍ لدى المخاطَبين، ويخلق لديهم حالةً من الامتناع عن قبول كلام الأنبياء وإطاعة تعاليمهم، وهذا الأمر يُبطل الحكمة من إرسال الرُّسُل. يقول: «ممّا تقرَّر في العقل أن تجويز الصغائر والكبائر عليهم يؤدّي إلى نفور المكلَّفين عن قبول قولهم، والاستماع لوَعْظهم، وإن غرض القديم تعالى من البعثة هو قبول قولهم»([3])، كما يقول أيضاً: «وأن لا يرتكب الأنبياء^ القبائح، ولا يخلّوا بالواجب؛ حتّى لا يحدث نفورٌ لدى الآخرين من قبول قولهم. ويجب أن يكون الأنبياء منزَّهين عن كلّ ما يوجب النفور منهم؛ كي لا ينتقض غرض القديم تعالى من بعثهم؛ إذ الغرض من البعثة هو القبول والامتثال»([4]).
يرى أبو الفتوح الرازي أن الملاك في النفور هو العادة، وليس الثواب والعقاب، فيقول: «والمرجع في باب المنفِّرات هو العادات، دون الثواب والعقاب، فلا يليق بهم كلّ ما كان منفِّراً بحَسَب العادة، سواء أكان معصيةً أو من الأمراض والأخلاق الشأنيّة أو كان من المباحات، من قبيل: السخف والمجون والخلاعة».
وبالنظر إلى هذا الملاك والمعيار، لا يرى أبو الفتوح في عمى النبيّ يعقوب ما ينفِّر. ويخضع رأي المعتزلة في هذا الشأن للتساؤل، ويرى عدم صحّة تفصيلهم بين الصغائر والكبائر، ويقول: «إن المرجع في ما ينفِّر أو لا ينفِّر هو العادة، ولم يكن العمى في تلك الحقبة منفِّراً»([5])، ويقول أيضاً: «…واعتذار المعتزلة في باب جواز الصغائر بإحباط الذمّ والعقاب؛ إذ الاعتبار في هذا الباب ليس بالثواب والعقاب، بل بالتنفير، والتنفير موقوفٌ على العادة»([6]).
يذهب الإماميّة إلى الاعتقاد بعصمة الأنبياء من الذنوب، الكبيرة والصغيرة، قبل النبوّة وبعدها. قال الشريف المرتضى ـ من علماء الشيعة البارزين ـ في هذا الشأن: «قالت الشيعة الإمامية: لا يجوز عليهم [الأنبياء^] شيءٌ من المعاصي والذنوب، كبيراً كان أو صغيراً، لا قبل النبوّة ولا بعدها»([7]).
وعلى هذا الأساس، فإن الدليل العقليّ لأبي الفتوح الرازي يختلف عن رأي الإمامية من بعض الجهات:
1ـ إن هذا الدليل إنما ينتج عنه مجرّد العصمة من الذنوب التي تستوجب النفور، وأما الذنوب التي تندرج ضمن عداد الصغائر، ولا يؤدّي ارتكابها من قِبَل النبيّ إلى إيجاد النفور لدى المخاطَبين، فلا تكون مشمولةً لهذا الدليل العقليّ. كما قال مؤلِّف تفسير «روض الجنان» نفسه في الدليل العقليّ: «يجب أن يكون الأنبياء منزَّهين عن كلّ ما يوجب النفور منهم»([8]).
2ـ في العبارة الأولى تمّ اعتبار تجويز الصغائر منفِّراً: «إن تجويز الصغائر والكبائر عليهم [الأنبياء^] يؤدّي إلى نفور المكلَّفين»، في حين أن الذي يمنع المخاطَب من القبول بكلام النبيّ هو ارتكاب النبيّ للمعصية.
3ـ إذا كان ملاك النفور هو العُرْف والعادة فإن هذا المعيار سوف يتغيَّر في الأزمنة المختلفة والمتنوِّعة. ففي عصرٍ قد لا يكون تناول الشراب منفِّراً، وحيث يكون منفِّراً في بعض المراحل الزمنية قد يكون منفِّراً في بيئةٍ؛ ولا يكون منفِّراً في بيئةٍ أخرى. ونتيجة هذا الملاك هي أنه يجب على الأنبياء^ أن يعملوا على طبق رغبة الآخرين، وأن ينسجموا ويتماهَوْا مع أعراف الناس وعاداتهم، بحيث لو كان الفعل محرَّماً في الشرع، ولم يكن منفِّراً في عُرْف الناس وعاداتهم، سوف يكون ارتكابه من قِبَل النبيّ جائزاً([9]).
4ـ يرى الإمامية أن السَّهْو في ارتكاب الذنب مثل العَمْد، ويرَوْنه غير متناغمٍ مع القول بالعصمة؛ في حين أن الدليل العقليّ لأبي الفتوح لا يؤدّي إلى هذه النتيجة.
2ـ القرآن الكريم
إن الدليل الآخر الذي يقيمه أبو الفتوح الرازي على عصمة الأنبياء^ هو آيات القرآن الكريم. على الرغم من أن الرازي يرى في جميع مواطن تفسير روض الجنان عدم انسجام نظريّة المخالفين للعصمة مع آيات القرآن الكريم، إلاّ أنه لا يشير إلى الآيات التي تنتج العصمة لجميع الأنبياء، ولا تكون ناظرةً إلى عصمة نبيٍّ على وجه الخصوص.
والمورد الوحيد الذي تحدَّث فيه أبو الفتوح الرازي عن دلالة الآيات على العصمة هو بحث عصمة النبيّ يوسف×؛ حيث استفاد مؤلِّف روض الجنان من الآيات الخاصة بالنبيّ يوسف× لإثبات عصمته، حيث يقول: «أما أدلّة القرآن الكريم التي تدلّ على عصمة النبيّ يوسف×، وتبرِّئه من الذنب، ومن اتِّهام زليخا له، فهي عدّة آياتٍ، منها:
قوله تعالى: ﴿قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (يوسف: 30).
وقوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (يوسف: 23).
وقوله تعالى، حكايةً عن امرأة العزيز: ﴿الآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف: 51).
وقوله تعالى: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: 32 ـ 33)، مضافاً إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ…﴾ (يوسف: 24).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ…﴾ (يوسف: 52).
ومنها: قوله تعالى، حكايةً عن قول العزيز: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ (يوسف: 28 ـ 29).
فعلى قوله لم يكُنْ كيدهُنَّ مصروفاً عنه، ولم يكن مدفوعاً عن السوء والفحشاء، وهو خائنٌ، ويقعد مقعد الخائنين؛ وحيث طلب من زوجته الاستغفار فإنه لو علم بالذنب من النبيّ يوسف لطالبه بالاستغفار أيضاً. وهذه الآيات بجملتها تدلّ على براءة ساحة النبيّ يوسف×، وتؤكِّد اتّهام زليخا».
3ـ الحديث الشريف
الدليل الثالث الذي يذكره أبو الفتوح الرازي على عصمة الأنبياء هو الروايات. إن مؤلِّف تفسير روض الجنان قد تحدَّث مراراً عن الروايات بوصفها دليلاً على العصمة، ويرى أن نظريّة المخالفين للعصمة لا تنسجم مع الروايات. ولكنّه مع ذلك لا يذكر سوى روايةٍ واحدة في سياق عصمة الأنبياء في الاعتقاد فقط. إنه يتحدَّث عن آزر بوصفه جَدّاً لإبراهيم× من أمّه، أو أنه عمُّه، ويوجِّه سهام النقد إلى نظريّة المخالفين، بالقول: «إن هذا المعنى [أن يكون آزر والد النبيّ إبراهيم×] يُعَدُّ منفِّراً في حقِّه، ويؤدّي إلى عدم إجابة دعوته وقبول قوله وامتثال أمره»([10]).
وبعد هذا النقد يستفيد من الرواية المأثورة ضمن الأخبار المتواترة عن النبيّ الأكرم|، والتي يقول فيها: «نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، لم يدنِّسني بدَنَس الجاهلية»([11]).
مقاربةٌ نقديّة للمستندات القرآنيّة والروائيّة لمُنْكِري العصمة
لقد استند المخالفون لنظريّة العصمة إلى عددٍ من الآيات والروايات التفسيرية في إثبات معتقدهم.
إلاّ أن هذه المستندات لا تتنافى من وجهة نظر أبي الفتوح الرازي مع العصمة، ولا تؤدّي إلى نفي العصمة عن الأنبياء؛ وذلك لأن العقل والآيات والروايات والشريعة إنما تعبِّر عن عصمة الأنبياء.
وفي خضمّ عدم الانسجام بين هذه الأدلّة ومستندات المخالفين لا مندوحة لنا من تأويل أدلّة المخالفين: «إذن يجب العمل على نَفْي كلّ ما يوجب القَدْح فيهم؛ كي لا يؤدّي ذلك إلى نَقْض غرض الحكيم جلَّ جلالُه»([12]).
تنقسم مستندات المخالفين للعصمة إلى عدّة أقسام؛ فمنها: ما يتحدَّث عن عدم عصمة النبيّ آدم×؛ ومنها: ما يتحدَّث عن عدم عصمة النبيّ إبراهيم×؛ ومنها: ما يتحدَّث عن عدم عصمة النبيّ نوح×؛ وما إلى ذلك.
وعليه من المناسب في البداية أن نذكر أدلّة المخالفين في كلٍّ من هذه الأقسام، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى بيان رأي مؤلِّف تفسير روض الجنان، ونقده لتلك الأدلّة.
1ـ عصمة النبيّ آدم (عليه السلام)
يذهب الحَشْويّون إلى اعتبار النبيّ آدم× مذنباً، ويرَوْن ذنبه من الكبائر.
وأما المعتزلة وأصحاب الحديث فقد اعتبروا أن الذنب الذي ارتكبه النبيّ آدم× إنما كان من الصغائر.
وذهب النظّام وجعفر بن المبشّر إلى القول بأن معصية النبيّ آدم إنما كانت عن سَهْوٍ وغفلةٍ.
وتنقسم المستندات القرآنية لهؤلاء إلى عدّة أقسام:
أـ مخالفة النهي الإلهيّ
ـ ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 35؛ الأعراف: 19).
ـ ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ (الأعراف: 22).
إن النهي الوارد في عبارة «لا تقربا» نَهْيٌ تحريميّ، وليس نَهْياً تنزيهيّاً، وإن النبيّ آدم×؛ بمخالفته لهذا النَّهْي، يدخل ضمن عداد المذنبين. كما أن النَّهْي في كلمة «أنهكما» بدَوْره نَهْيٌ تحريميّ، وليس نَهْياً تنزيهيّاً أيضاً.
ب ـ المعصية والغواية
ـ ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: 121).
قال الفخر الرازي، في طريقة استدلال المخالفين بهذه الآية: «فمن الناس من تمسَّك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين:
[الوجه] الأوّل: إن العاصي اسمٌ للذمّ، فلا ينطبق إلاّ على صاحب الكبيرة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا﴾ (النساء: 14)، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلاَّ مَنْ فعل فعلاً يعاقَب عليه.
الوجه الثاني: إن الغواية والضلالة اسمان مترادفان. والغَيّ ضدّ الرُّشْد. ومثل هذا الاسم لا يتناول إلاّ الفاسق المنهمك في فسقه»([13]).
ج ـ التوبة والهداية
ـ ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ (طه: 122).
ـ ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ (البقرة: 37).
إن النبيّ آدم× تائبٌ، وكلُّ تائبٍ مذنبٌ؛ لأن التائب هو الذي يندم؛ بسبب اقترافه للذنب، والنادم يحكي عن ذنبه. وعلى هذا الأساس، إذا كان النادم صادقاً دخل في عداد المذنبين، وإنْ كان كاذباً ثبت عليه الذنب أيضاً؛ بكذبه.
د ـ ظلم النَّفْس
ـ ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ (الأعراف: 23).
ـ ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 35؛ الأعراف: 19).
يقول الحَشْويّة: إن الله يصف آدم بأنه ظالمٌ؛ كما يُسمّي النبيّ آدم نفسه ظالماً أيضاً، والظالم ملعونٌ، والملعون هو الذي يرتكب المعصية الكبيرة.
ويذهب المعتزلة إلى الاعتقاد بأن النبيّ آدم× قد ارتكب معصيةً صغيرة، وأنه بذلك قد ظلم نفسه، أي إنه قد اضطرّ نفسه لتحمُّل أعباء التوبة وتَبِعَاتها.
وذهب أبو هاشم المعتزلي إلى الاعتقاد بأن ظلم النبيّ آدم× يكمن في أنه قد أحبط بعضَ الثواب على نفسه([14]).
هـ ـ الطَّرْد من الجنّة
ـ ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ (البقرة: 36).
لو كان النبيّ آدم× معصوماً، ولم يكن تناوله من ثمار الشجرة ذنباً، فما هو سبب طرده من الجنّة؟!
و ـ الشرك بالله عزَّ وجلَّ
ـ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِي مَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الأعراف: 189 ـ 190).
إن عبارة: «جعلا له شركاء…» تثبت شرك النبيّ آدم×، وتخرجه من دائرة المعصومين.
نقدٌ وتحقيقٌ
أـ تداخل الأمر والنهي
يرى مؤلِّف تفسير روض الجنان أن عبارة: «لا تقربا» أمرٌ، بمعنى «اتركا» و«اهجرا»، ولا يرتضي دلالتها على النَّهْي؛ فهو يرى أن الأمر ينقسم إلى: واجبٍ؛ ومندوبٍ، وأن عبارة «لا تقربا» أمرٌ بالمندوب؛ إذ «لا يناسب حملها على الظاهر، والقول: إنها تدلّ على النَّهْي؛ وذلك لأن النهي عن الكراهة منهيٌّ عنه، والحكيم لا ينهى إلاّ عن القبيح، والقبيح لا يصحّ على الأنبياء. وعليه فإنما ذكَرْنا هذا الوجه لأن هذا اللفظ إنما هو بمعنى الأمر، ليمكن حمله على النَّدْب، وهو يليق بالنبيّ آدم×»([15]).
يرى أبو الفتوح الرازي أن قوله تعالى: ﴿فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ (الأعراف: 19) أمرٌ بالإباحة، دون الوجوب، وهو يرى «أن الأمر والنهي متداخلان، وليس لهما صيغةٌ خاصّة يشتركان فيها على نحو الاحتمال، بل قد يأمرون بلفظ النَّهْي، وقد ينهَوْن بلفظ الأمر؛ لتداخل معانيهما؛ وذلك لأن هناك في الأمر ترغيباً بالفعل وتزهيداً في الترك، وفي النهي يحدث العكس، حيث التزهيد في الفعل والترغيب في الترك. وفي المعنى فإن الأمر إنما يكون بشيءٍ إذا كان النَّهْي ضدّه على سبيل المجاز»([16]).
وعلى هذا الأساس، «يقرب إلى أذهاننا أن الله تعالى قد ندب النبيّ آدم× إلى ترك التناول، ولو أنه لم يتناول لحصل على الكثير من الثواب، ولكنْ في الوقت نفسه ليس هناك ذمٌّ وعقابٌ على التناول»([17]).
لقد استفاد مؤلِّف تفسير روض الجنان كثيراً من كتاب «تنزيه الأنبياء»، للشريف المرتضى، في الجواب عن شبهات المُنْكِرين؛ حيث إن بعض إجابته تبدو وكأنّها ترجمةٌ حرفية لعبارة كتاب تنزيه الأنبياء. ومن ذلك، على سبيل المثال: قوله: «إن الأمر والنهي متداخلان…»؛ حيث هي مقتَبَسةٌ من عبارة الشريف المرتضى، التي يقول فيها: «أما النهي والأمر معاً فليسا يختصّان عندنا بصيغةٍ ليس فيها احتمالٌ ولا اشتراكٌ، وقد يُؤْمَر عندنا بصيغةٍ ليس فيها احتمالٌ ولا اشتراك، وقد يُؤْمَر عندنا بلفظ النَّهْي، ويُنْهَى بلفظ الأمر»([18]). كما نشاهد في الجواب الأصلي لأبي الفتوح الرازي عباراتٍ شبيهةً بعبارات كتاب تنزيه الأنبياء.
يُضاف إلى ذلك أن طريقة استدلال أبي الفتوح الرازي لا تضطرّ المخالفين إلى التسليم؛ وذلك لما يلي:
1ـ إن أبا الفتوح الرازي يعتبر عبارة «لا تقربا» أمراً، وليست نَهْياً، في حين أن المخالفين يعتبرون «لا تقربا» نَهْياً. وبعبارةٍ أخرى: إن أبا الفتوح الرازي، طبقاً لمتبنَّياته السابقة، والتي لم تضطرّ المخالف إلى التسليم، يرى عبارة «لا تقرباً» أمراً، والمخالف بدَوْره، طبقاً لفرضيّته السابقة، يعتبر «لا تقربا» نَهْياً.
2ـ إن جواب المؤلِّف لا ينسجم مع قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ (الأعراف: 22)؛ لأن هذه الآية صريحةٌ في النَّهْي، وقد وردَتْ بمادّة النَّهْي؛ كي لا يذهب بعضٌ إلى تصوُّر الأمر منها.
3ـ فيما لو قبلنا بأن «لا تقربا» أمرٌ فإن إثبات أن هذا الأمر يُراد منه النَّدْب، وأن الواجب ليس هو مراد الله، يحتاج إلى دليلٍ، ولا يمكن إجبار المخالف على التسليم بمجرَّد الادّعاء.
وعلى هذا الأساس، فإن رفع عنوان النَّهْي عن «لا تقربا» ليس مناسباً، ويجب علينا، مثل الشيخ الطبرسي والكثير من المفسِّرين، أن نعتبر «لا تقربا» نَهْياً، وأن يكون النَّهْي هنا نَهْياً تنزيهيّاً، وليس نَهْياً تحريميّاً. وهذا هو الذي يدَّعيه المخالفون للعصمة.
ب ـ معصية الأمر المندوب
قال أبو الفتوح الرازي في نَقْد هذا المستند: «إن العصيان هو مخالفة الأمر بالإرادة. وإن الأمر والإرادة تتعلَّق من الحكيم بالواجب والمندوب على السواء. وحيث علمنا بالأدلّة العقليّة أن مخالفة الأمر الواجب لا يمكن أن تصحّ من النبيّ آدم× وجب حمل مخالفته على الأمر المندوب. وعلى هذا الأساس، فإن إطلاق لفظ العاصي على النبيّ آدم× إنما يكون من جهة ترك المندوب، دون ترك الواجب».
وبعد هذا النقد عمد أبو الفتوح الرازي إلى تقرير سؤال المخالفين، قائلاً: «لو قيل: يلزم على هذه القاعدة أن يكون أنبياء الله من العُصاة أبداً؛ إذ لا يَخْلُون من ترك المندوبات»، نقول في الجواب: «لا يمكن إطلاق ذلك في حقّ الأنبياء؛ إذ تمّ تخصيص هذا اللفظ عُرْفاً بفاعل القبيح وتارك الواجب. ومن هنا كان العاصي اسماً للذمّ، ولكننا نقيِّده ونقول: إذا كان المراد من معصية الأنبياء هو ترك المندوب فهو، وإنْ كان المراد منه فعل القبيح أو ترك الواجب فلا»([19]).
إن المخالف لعصمة الأنبياء لا يستسيغ هذا الجواب؛ إذ يرى أن العاصي في آيات القرآن الكريم هو الذي يستحقّ العقاب، وهو في العُرْف اسمٌ للذمّ. وعلى هذا الأساس، فإن الاسم إنما يليق بالمذنبين، دون الذين يتركون الأَوْلى.
يُضاف إلى ذلك أن العاصي إذا كان في العُرْف اسمَ ذمٍّ، وهو يُطلق على فاعل القبيح وتارك الواجب، وهو في آيات القرآن الكريم عنوانٌ يُطْلَق على الذي يستحقّ العقاب، فما هو الدليل الذي يدفع أبي الفتوح الرازي إلى عدم الاهتمام بالعُرْف، ويغضّ الطرف عن آيات القرآن، ويرى أن العاصي صفةُ الشخص الذي يترك المندوب، بحَسَب اعتقاده؟!
ج ـ التوبة طاعةٌ وخضوع
يرى أبو الفتوح الرازي أن توبة النبيّ آدم× وقبولها لا تدلّ على كونه مذنباً، ولا يمكن أن نستنتج من هذه الآيات أنه لم يكن معصوماً؛ وذلك لما يلي: «إن التوبة عندنا طاعةٌ من الطاعات، وحظّ النبيّ منها هو حصول الثواب، وليس لها أثرٌ في إسقاط العقاب عنه؛ إذ سوف يعني ذلك القول بالإحباط. وإن الذي يُسقط العقاب هو الله، عند تحقُّق التوبة، تفضُّلاً. إذن معنى قبول التوبة ـ على هذه القاعدة ـ هو ضمان الثواب عليها. وتوبة الأنبياء^ تكون على سبيل الخشوع والخضوع والإخبات والانقطاع إلى الله، والغرض منها تحصيل الثواب»([20]).
د ـ الظلم نقصٌ في الحظّ
لا يرى مؤلِّف تفسير روض الجنان في إطلاق الظلم في الآية الكريمة دليلاً على عدم عصمة النبيّ آدم×؛ لأن الظلم يُطْلَق في اللغة العربية على النقصان، كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ (الكهف: 33). إن معنى «لم تظلم» في هذه الآية هو «لم تنقص». وعليه يكون معنى «فتكونا من الظالمين» أي «فتكونا من الناقص حظُّهم من الثواب»([21]).
وفي هذا الجواب كان أبو الفتوح الرازي مَديناً للشريف المرتضى في كتاب تنزيه الأنبياء أيضاً، حيث نقرأ هناك ما يلي: «معناه أنا نقصنا أنفسنا وبَخَسْناها ما كنا نستحقُّه من الثواب بفعل ما أُريد من الطاعة».
يُضاف إلى ذلك أن الأصل عدم نقل المعنى. ويمكن لمؤلِّف روض الجنان، مثل جميع الذين يرفضون القول بصدور أيّ ذنبٍ عن النبيّ آدم×، أن يحمل الظلم على معنى ارتكاب ما كان تركه أَوْلى، أو أن يذهب مذهب أبي هاشم المعتزليّ في تفسير الظلم بمعنى ظلم النَّفْس. إن النبيّ آدم×؛ حيث حَرَم نفسه من جزءٍ من الثواب، وأوجد نقصاً في استحقاقه، وصف نفسه بـ «الظالم».
هـ ـ الإخراج من الجنّة مصلحةٌ مستجدّة
لا يرى أبو الفتوح الرازي في إخراج آدم وحواء من الجنّة دليلاً على معصية آدم×؛ وذلك لقوله: «إن الإخراج من الجنّة ليس عقوبةً؛ لأن العقاب مضرّةٌ مستَحَقّةٌ، ومقرونةٌ بالاستخفاف والإهانة وفَوْت المنافع بالعقاب؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان الأنبياء والأولياء معاقَبين دائماً، عاجلاً أو آجلاً. وعليه فإن إخراج النبيّ آدم× من الجنّة، وإهباطه إلى الأرض، إنما كان على سبيل المصلحة. وإن ما يتعلَّق بالمصلحة يعود إلى الأوقات والأشخاص والأسباب. فما دام النبيّ آدم لم يتناول من الشجرة كانت مصلحته في التكليف أن يبقى في الجنّة؛ وحيث تناول منها فقد اختلفت المصلحة، وتحوَّلت إلى تكليفٍ في الأرض. وإن الله سبحانه وتعالى قد خلق آدم ليكون خليفته في الأرض»([22]).
و ـ شرك الأبناء، دون الآباء
يرى أبو الفتوح الرازي أن الشرك منسوبٌ إلى أولاد النبيّ آدم×، ولا يؤمن بنسبة الشرك إليه، ويقول: «إن الشرك مضافٌ إلى أولاد آدم× بوصفهم جنسين أو قبيلين، وهو منهم، أو مع الذكور والإناث، ولا يكون منسوباً بحالٍ من الأحوال إلى آدم وحوّاء.
فإنْ قيل: لم يَرِدْ في الآية ذِكْرٌ لأولاد آدم؛ ليحمل الأمر عليهم كنايةً، بل ورد ذكر آدم وحوّاء.
قلنا: يسوغ ذكر الضمير مع عدم تقدُّم الحديث عن صاحبه. وهذه هي طريقة العَرَب؛ حيث يذكرون الضمير قبل ذكر مرجعه، من قبيل: قول الله تعالى: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ (ص: 32)، يعني بذلك الشمس، رغم عدم تقدُّم ذكرها؛ وقول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1)، أي القرآن، ولم يتقدَّم ذكرُه؛ إذ إن هذه الآية قد وردَتْ في مستهلّ السورة.
والجواب الآخر عن هذا السؤال هو: لقد تقدَّم ذكر أولاد آدم× في الآية بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (الأعراف: 189). والضمير «كم» في هذه الآية خطابٌ لجملة أولاد آدم، من الذكور والإناث. وقد ورد ذكرهم في موضعٍ آخر بقوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً﴾ (الأعراف: 190)، والمعنى: ولداً صالحاً، والولد جنسٌ، يشمل الواحد والجمع. وحيث يتقدَّم في الكلام ذكر أمرَيْن، ثمّ ورد عقيب ذلك شيءٌ يليق بأحدهما، دون الآخر، وجب حمل ذلك الشيء على الذي يليق به. وحيث ورد في الكلام ذكر آدم وحوّاء وذكر أولادهما، ولا يليق الكفر والشرك بآدم وحوّاء، وإنما يليقان بأولادهما، فيجب حملهما عليهم، دون آدم وحوّاء»([23]).
إن جواب أبي الفتوح عن هذه الآية، مع شيءٍ من التصرُّف في الألفاظ والعبارات، هو ذات جواب الشريف المرتضى.
يُضاف إلى ذلك ما قاله العلاّمة الطباطبائي: ليس هناك دليلٌ على حذف المضاف [الأولاد]، واستبداله المضاف إليه بَدَلاً منه([24]).
2ـ عصمة النبيّ إبراهيم (عليه السلام)
لقد استدلّ المخالفون لعصمة الأنبياء بالآيات التالية؛ لإثبات عدم عصمة النبيّ إبراهيم×:
أـ قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 76 ـ 78).
إن الحديث عن ربوبيّة النجوم كُفْرٌ، والكفر لا يليق بالأنبياء إجماعاً. وعلى هذا الأساس، فإن النبيّ إبراهيم× عندما يتحدَّث عن تأليه النجوم لا يكون متَّصفاً بالعصمة في الاعتقاد، ولن يكون في عداد المعصومين.
ب ـ قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (التوبة: 113).
إن الاستغفار للكفّار لا يجوز، وعليه عندما يستغفر النبيّ إبراهيم× لآزر يندرج ضمن المذنبين.
ج ـ قوله تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ (الصافّات: 88 ـ 89).
لقد وصف إبراهيم نفسه بأنه سقيمٌ ومريضٌ كَذِباً؛ إذ إنه لم يكن سقيماً في واقع الأمر.
د ـ قوله تعالى: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ (الأنبياء: 63).
لقد نسب النبيّ إبراهيم× تحطيم الأصنام إلى الصنم الكبير، في حين أنه هو الذي حطَّم الأصنام. وعلى هذا الأساس، فإن النبيّ إبراهيم× ـ في ضوء هذه الآية ـ لم يكن حائزاً على مقام العصمة.
بحثٌ وتقييمٌ
أـ كلامٌ على تقديرٍ
لقد أجاب أبو الفتوح عن هذه الشبهة، التي أثارها المخالفون للعصمة، بقوله:
أـ إن هذا الكلام من النبيّ إبراهيم× إنما كان قبل البلوغ، وليس بعده، كما يقول المخالفون: «إن النبيّ إبراهيم× إنما قال هذا الكلام في زمن إمهال النَّظَر؛ وحيث لم يتعرَّف على الله، وكان قد نظر؛ إذ ليس من الممكن القول: إن الله تعالى قد خلق النبيّ إبراهيم عارفاً لذاته بالعلم الضروريّ بذاته وصفاته. وعليه يجب أن يكون قد اكتسب العلم بالنظر. وإن حال الناظرين حال المجوِّزين والشاكّين. وعليه فإن ما قاله النبيّ إبراهيم× لم يكن على سبيل الإخبار، وإنما على سبيل الافتراض والتقدير، كما يحصل ذلك لأحدنا عند النظر في حدوث الأجسام، فيفترض ويقدِّر أنها قديمةٌ، ويقول: «هَبْ أنها قديمةٌ»، حتّى يرى إلى ماذا يؤدّي هذا التقدير منه؟ وحيث يؤدّي به نظره في قدمه إلى الفساد فإنه سوف يرجع عنه إلى الدليل؛ ليعلم من طريق القسمة [الثنائية] أنه حيث لا يكون قديماً يجب أن يكون مُحْدَثاً».
«إن النبيّ إبراهيم× قال على سبيل الافتراض: «هذا ربّي»؛ ليرى إلى ماذا يؤدِّي به هذا الافتراض؟ وحيث أفل، وعرض له الغروب، وغاب عن الأنظار، علم أن الذي يعتريه الحضور والغياب لا يستحقّ أن يكون إلهاً؛ لأن الحضور والغياب من علامات الحدوث، والمُحْدَث يحتاج إلى مُحْدِثٍ، وهذا الآخر يحتاج إلى مُحْدِثٍ. وحيث طلع القمر، والقمر أكبر من النَّجْم، وأشدّ سطوعاً، قال: «هذا ربّي»، على سبيل الافتراض، دون الإخبار القاطع»([25]).
لقد ذكر المفسِّرون الكثير من الإجابات عن هذه الشبهة. وقد أشار أبو الفتوح إلى جوابين من بينها فقط. ومن بين هذَيْن الجوابين، اللَّذَيْن يُشير إليهما أبو الفتوح الرازي، يبدو الجواب الأوّل متناغماً بشكلٍ أكبر مع قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ (الأنعام: 83)؛ إذ إن هذه الآية تثبت أن النبيّ إبراهيم× كان يأتي بالنظريّة المخالفة بشأن الكواكب، ثمّ يعمل على نقدها.
ب ـ الاستغفار المشروط
يقدِّم أبو الفتوح الرازي عدّة إجاباتٍ عن هذا الدليل:
1ـ إن استغفار النبيّ إبراهيم× لآزر مشروطٌ بالإيمان: «اللهمّ اغفِرْ لأبي إذا آمن».
2ـ إن الاستغفار قد تحقَّق بعد إظهار الإيمان.
يرى مؤلِّف تفسير روض الجنان أن توجيه استغفار النبيّ إبراهيم× بالوَعْد على الاستغفار ليس مناسباً؛ وذلك لعدم انسجامه مع ظاهر القرآن الكريم.
ج ـ السَّقَم فعليٌّ أو متوقَّعٌ بعلمٍ
يجيب مؤلِّف تفسير روض الجنان عن المستند الثالث للمخالفين بأربع إجابات، وفي ضوء تلك الإجابات لن يكون النبيّ إبراهيم× كاذباً، ولن يبدو غير معصوماً.
1ـ لقد كان النبيّ إبراهيم× يعاني من حمّىً دَوْريّةٍ، وإنه كان يعلم بحلول وقت سَقَمه من خلال النَّظَر في النجوم.
2ـ لقد أخبر الله النبيَّ إبراهيم بمَرَضه، وإن مراد النبيّ إبراهيم× من قوله: «إنّي سقيم»: إني سوف أُصاب بالمَرَض.
3ـ قال النبيّ إبراهيم على أساس ما يعتقده المنجِّمون: «إن هذا النَّجْم يمرِّضني بزعمكم».
4ـ إن مراد النبيّ إبراهيم×: إنّي سقيمٌ؛ بسبب إصراركم على الكفر.
د ـ الإخبار بين الافتراض والشرط
يرى أبو الفتوح الرازي أن هذه الآية لا تخبر عن عدم عصمة النبيّ إبراهيم×، وذلك للأسباب التالية:
1ـ إن كلام النبيّ إبراهيم× خَبَرٌ، إلاّ أنه خَبَرٌ يُعطي معنى الافتراض والتقدير: «المعنى: هَبْ أن فاعلاً فعل هذا الفعل، واعتلّ بمثل هذه العلّة، فهل تقبلون منه هذا التصوُّر، بأن يأتي شخصٌ ويفعل ذلك، فإنْ قيل له: لماذا فعلْتَ ذلك؟ قال: أنا لم أفعل ذلك، بل فعله كبيرهم؟! فهل تقبلون منه مثل هذا الكلام؟! فإنْ قالوا: لا سوف يقول: لماذا؟ وسيكون جوابهم: لأن هذا الصنم لا يمتلك حياةً وقدرة، وأن صدور الأفعال عنه من المحال؛ وإذا قال: فاسألوه إنْ كان من الناطقين سيقولون: كيف نسأل جماداً ولا يمتلك أداةً للسمع؟! لكي تتوجَّه الحجّة بذلك عليهم؛ لينظروا ويفكِّروا ويتدبَّروا، ويؤمنوا به ويقبلوا قوله».
2ـ إن هذا الكلام من النبيّ إبراهيم× خبرٌ مشروط، وليس خبراً مطلقاً؛ وذلك بقرينة قوله: «إنْ كانوا ينطقون». وبعبارةٍ أخرى: إن جملة «إنْ كانوا ينطقون» قَيْدٌ لعبارة «بل فعله كبيرهم». والنتيجة هي: «إنْ كانوا ينطقون فعله كبيرهم»، أي «إنْ كان ينطق كان هو الذي فعل ذلك؛ بمعنى أنه إذا كان قادراً على النطق كان قادراً على الفعل أيضاً، وإنْ لم يكن قادراً على النطق لم يكن قادراً على الفعل بطريقٍ أَوْلى وأَحْرى، وحيث لا يكون قادراً، وكان عاجزاً عن التدبير، فلا يكون مستحقّاً للعبادة. وإنْ قيل: إن هذا شرطٌ في النطق، وليس في الفعل، قال: سَلْهُمْ إنْ كانوا ينطقون. نقول: يمتنع أن يكون الشرط لكلا الأمرَيْن، وأن يكون الشرط شرطاً في الكثير من الأشياء، فالشرط واحدٌ، والمشروط كثيرٌ».
3ـ كان عليّ بن حمزة الكسائي يختار الوَقْف بعد عبارة: «بل فعله»، ويعتبر عبارة: «كبيرهم» بدايةً لجملةٍ أخرى([26]).
يرى مؤلِّف تفسر روض الجنان أن استناد المخالفين إلى رواية أبي هريرة، القائل: «ما كذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات، كلّها يجادل بهنَّ عن دينه»، لا يُثْبِت مدَّعاهم؛ وذلك للأسباب التالية:
أوّلاً: إن هذه الرواية خبرُ واحدٍ، وخبر الواحد لا يورث العلم.
ثانياً: لا يمكن القبول بأخبار الآحاد في مثل هذه المسألة.
ثالثاً: إن كلام النبيّ إبراهيم× وإنْ كان يبدو في ظاهره كَذِباً، ولكنّه ليس بكَذِبٍ([27]).
إن إجابات أبي الفتوح الرازي مثل إجابات سائر المفسِّرين، وإنْ كان هناك الكثير من أوجه الشبه بين نظريّاته وبين نصّ كتاب تنزيه الأنبياء، للشريف المرتضى.
3ـ عصمة النبيّ يوسف (عليه السلام)
يذهب المخالفون لعصمة الأنبياء إلى القول بأن الآيات التالية تثبت أن النبيّ يوسف× كان مذنباً:
أـ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف: 24).
إن هذه الآية؛ بمساعدة بعض الروايات المأثورة عن الصحابة والتابعين، تنتج معصية النبيّ يوسف×.
ب ـ قوله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ (يوسف: 42).
«مسألةٌ: فإنْ قيل: كيف يجوز على يوسف×، وهو نبيٌّ مرسل، أن يعوِّل في إخراجه من السجن على غير الله تعالى، ويتَّخذ سواه وكيلاً على ذلك؟»([28]).
تحليلٌ وتعليقٌ
أـ اختلاف متعلَّق الهمّ
في نقد هذا الدليل يعمد أبو الفتوح الرازي، قبل كلّ شيءٍ، إلى نَقْد المستندات الروائية للمخالفين، فيقول: «وقد نزَّه العقلُ والشرعُ والقرآنُ والأخبارُ الأنبياءَ من هذه التُّرَّهات والمحالات؛ فهذه الأمور لا تصحّ على الأنبياء عندنا أبداً؛ وذلك لأن الله قد عصمهم وطهَّرهم من الصغائر والكبائر؛ وذلك لدلالة العقل على عصمتهم؛ إذ تقدَّم أن العقل قد قرَّر أن تسويغ صدور الصغائر والكبائر عنهم يوجب نفور المكلَّفين عن قبول قولهم، واستماع مواعظهم، وإن غرض القديم تعالى من بعثهم هو قبول قولهم وامتثال أمرهم، والاستجابة لدعوتهم، وإن ما يوجب القَدْح فيهم يجب على الحقّ تعالى أن يعصمهم وينزِّههم منه، وإنه يجب على الله أن ينزِّههم من الزِّنى، الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الخطايا وأمَّهات الذنوب؛ لما فيه من النصيب الأكبر من تنفير الناس منه».
وبعد نَقْد الروايات، ينتقل مؤلِّف تفسير روض الجنان إلى البحث حول الآية، ويذكر لمفردة «هَمَّ» ثلاثةَ معانٍ مختلفةً، وهي:
1ـ العَزْم على الفعل.
2ـ خطور الشيء بالبال، دون العَزْم على الفعل.
3ـ الشَّهْوة.
يذهب أبو الفتوح الرازي إلى الاعتقاد بأن المعنيين الثاني والثالث من بين هذه المعاني الثلاثة هما وحدهما المتناغمان مع مقام النبيّ يوسف×، وأما المعنى الأوّل فلا يتناسب معه، ويقول: «وحيث تختلف معاني الهَمّ فيجب الحَمْل، كما ترى، على تلك المعاني التي تتناسب مع مقام النبيّ يوسف×. ومن بين هذه الوجوه تتناسب الشهوة ومَيْل الطباع والخطور بالبال، كما تكون المقاربة مقبولةً على بعض الوجوه، ما دام لا يكون ذلك مقروناً بالعَزْم، فيجب عندها تفسير الآية على وجهٍ بحيث لا يكون الهمّ والعَزْم متعلِّقاً بالمعصية، وذلك بالقول: «ولقد همَّتْ به وهَمَّ بها» أي بضربها ودفعها عن نفسه، فقد همَّتْ به أي بالتعلُّق به، كما هَمَّ يوسف× بها بمعنى هَمَّ بضربها ودفعها»([29]).
يرى أبو الفتوح الرازي أن متعلّق «همَّتْ» و«هَمَّ»، بغضّ النظر عن حكم العقل والآيات والآثار، شيءٌ واحد. بَيْدَ أن هذه الأمور الثلاثة تحملنا على صياغة متعلَّقين لكلٍّ واحدٍ منهما، متعلّق «همَّتْ» هو الزِّنى، ومتعلَّق «هَمَّ» هو الضرب والدفع.
«لو قيل: إن كلا موردَيْ الهَمّ واردٌ في موردٍ وسياقٍ واحد، فكيف حملْتَ أحدهما على وجهٍ حَسَنٍ، وهو الضرب والدفع، وحملْتَ الآخر على الزنى والقبيح؟! قلتُ: إنما قُمْنا بذلك؛ بسبب الدليل؛ فقد دلَّتْ أدلّة العقل والقرآن والآثار على ذلك، وإلاّ فقد حملوا كلا الأمرَيْن على وجهٍ واحد»([30]).
ب ـ جواز ترك الأَوْلى
قال صاحب تفسير روض الجنان في تقييم هذا المستند: «اعلَمْ أنه لا اعتراض على النبيّ يوسف× من هذه الناحية؛ وذلك لأن حَبْسه كان في سجن المعصية، وكان عليه أن يتمسَّك بكلّ الطرق التي يظنّ أن بها خلاصه. وأما معاتبة الله تعالى له في هذا المعنى فقد كان بسبب ترك الأَوْلى، وكثيراً ما يرتكب الأنبياء ترك الأَوْلى والإخلال بالمندوبات، وإن معاصيهم محمولةٌ على هذا، ومؤوّلةٌ بهذه المعنى»([31]).
نشاهد في هذا الجواب نوعاً من عدم الانسجام؛ فإن أبا الفتوح الرازي يحكم من جهةٍ بصوابيّة فعل النبيّ يوسف×؛ ويذهب من جهةٍ أخرى إلى استحقاقه للمؤاخذة؛ بسبب ترك الأَوْلى، فلو كان بمقدور النبيّ يوسف× أن يخلِّص نفسه بشتّى الوسائل والطرق فعندها لن تكون مؤاخذتُه مناسبةً ـ وقد تمَّتْ مؤاخذتُه ـ، إلاّ إذا فسَّرنا المؤاخذة من باب حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.
4ـ عصمة النبيّ أيّوب (عليه السلام)
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (ص: 41).
لقد كانت الأمراض والمصائب التي حلَّتْ بالنبيّ أيّوب× من عذاب الله؛ وذلك لأن الأمراض إذا كانت من جهة الابتلاء والاختبار لما سُمِّيَتْ بالعذاب والعقاب([32]).
إيرادٌ ونقاشٌ
يعتبر أبو الفتوح الرازي أن الصعاب والمشاكل التي تعرَّض لها النبيّ أيّوب× إنما كانت ابتلاءً واختباراً إلهيّاً، ولم تكن عقوبةً. وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن جميعَ الروايات الدالّة على سلطة الشياطين على النبيّ أيّوب× غيرُ مقبولةٍ بحالٍ، فيقول: «لا يصحّ أبداً أن يسلِّط الله تعالى إبليس على الأنبياء والأولياء»([33]).
ويُضاف إلى ذلك أن أبا الفتوح الرازي لا يرى أمراض أيّوب في عداد المنفِّرات؛ وذلك «لأن الأنبياء لا يصحّ أن يتَّصفوا بأيّ شيءٍ من المنفِّرات، لا من قِبَل الله ولا من قِبَل أنفسهم؛ لأن ذلك يؤدّي إلى نَقْض غرض القديم تعالى، وهو منزَّهٌ عن ذلك»([34]).
5ـ عصمة النبيّ داوود (عليه السلام)
قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (ص: 21 ـ 25).
إن عباراتٍ من قبيل: «وظنّ داوود أنّما فتناه» و«فاستغفر ربَّه» و«وأناب» و«فغفَرْنا له» تدلّ على صدور الذنب عن النبيّ داوود×، وهي المعصية التي تجلَّتْ وظهرَتْ في عشقه لزوجة أوريا: «لقد عشق داوود زوجة أوريا، ولكي يتمكَّن من الظَّفَر بها أرسل زوجها إلى الحرب، ووضعه أمام التابوت؛ لكي يضمن أنه سيُقْتَل حَتْماً».
تامُّلٌ وبيانٌ
يذهب أبو الفتوح الرازي إلى الاعتقاد بأن هذه الآية الكريمة لا تتنافى مع عصمة النبيّ داوود، وأن المستندات الروائية التي يستند إليها المخالفون قبيحةٌ ومنفِّرة، وغير منسجمةٍ مع العقل والشرع. يقول: «وحديث عشق النبيّ داوود× وحبّه لزوجة أوريا، وإرساله أمام التابوت؛ بقصد قتله؛ كي يخلو له الجوّ، فيتزوَّج من أرملته، قبيحٌ ومنفِّرٌ، ولا يليق بساحة الأنبياء».
يرى كاتب تفسير روض الجنان أن الروايات التي يمكن الاعتماد عليها في هذا الخصوص عبارةٌ عن: «كان أوريا بن حيّان يريد أن يخطب امرأةً في غاية الجمال، وكان للنبيّ داوود تسعة وتسعون زوجة، وكان ذلك جائزاً في شرعه. وقد خطب النبيّ داوود ذات المرأة التي خطبها أوريا، فوافق أهلها على تزويجها من داوود، ورفضوا طلب أوريا؛ رعايةً لمكانة النبيّ داوود× من النبوّة، وكان ذلك سائغاً في الشرع والعقل، وليس هناك ما يدعو إلى منعه. وحتّى إذا كان هذا المعنى خافياً لم يكن منفِّراً أيضاً. وهذا هو الأقرب من الوجوه التي ذكروها. ولقد كان استغفار وتوبة النبيّ داوود× من هذه الناحية. وأسوأ من ذلك أن يقال: إن ما صدر عن النبيّ كان من قبيل: ترك المندوب، وكثيراً ما كان الأنبياء^ يتركون المندوب»([35]).
وعلى هذا الأساس، فإن ألفاظ الآية يتمّ تأويلها وتحليلها في ضوء هذه الرواية أيضاً.
إن هذا التحليل يثبت أن أبا الفتوح الرازي كان في مواجهة رأيين آخرين:
الرأي الذي ينقل صيغة القصة بشكلٍ يجعل من النبيّ داوود× مرتكباً للكبيرة.
والرأي الذي يصوغ القصة بحيث يجعل من النبيّ داوود مرتكباً للمعصية الصغيرة فقط.
وفي نظر تفسير روض الجنان: إن شبهة معصية داوود هي في عشقه لمحبوبة أوريا، لا في شكل قضائه وحكمه. ولذلك قال: «وأما قول ذلك الشخص الذي قال: إن خطيئة داوود تكمن في أنه قد حكم دون أن يسأل، ولذلك كان الاستغفار، فهو خطأٌ؛ لأن هذا يُعَدُّ جهلاً من الحاكم، وهو أن لا يعلم هذا المقدار من إدارة الحكم والقضاء، ولا يمكن قبول مثل هذا الجهل من أوساط الناس، ناهيك عن النبيّ المُرْسَل. عندها أخذ النبيّ داوود× يتدبَّر، وأدرك وعلم أن ذلك إنما كان اختباراً وابتلاءً له من الله»([36]).
يُضاف إلى ذلك أن سياق قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (ص: 20) يبدو أيضاً غير منسجمٍ مع نظرية عجز النبيّ داوود× عن ممارسة القضاء بشكلٍ صحيح.
6ـ عصمة النبيّ سليمان (عليه السلام)
أـ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص: 34). تشير الروايات التفسيرية إلى أن مارداً اسمه «صخراً» تحوَّل إلى شكل النبيّ سليمان×، وجلس على عرشه، وسرق خاتم ملكه، وألقاه في الماء، وقضى بذلك على ملك سليمان. وكان هذا كلّه عذاباً لسليمان، والعذاب دليلٌ على أن النبيّ سليمان× كان مذنباً. كما أن سياق قوله تعالى، حكايةً عن النبيّ سليمان: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ يؤكِّد أيضاً صحّة هذا الفَهْم أيضاً.
ب ـ قال الله تعالى، حكايةً عن النبيّ سليمان×: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (ص: 35).
تتحدَّث هذه الآية عن صفة الحَسَد والطمع لدى النبيّ سليمان، والطمع والحَسَد لا ينسجمان مع القول بعصمته.
تنقيحٌ وتقييمٌ
أـ إشكاليّة الروايات المختلقة
يذهب كاتب تفسير روض الجنان إلى القول بأن الروايات التفسيرية للآية الأولى هي من اختلاق القصّاص الجهّال، وأنها بديهيّة البطلان. ويرى أن هذا الاعتقاد من المخالفين لا ينسجم مع العقل والشرع؛ فإن النبوّة في رأيه لا تكون في خاتمٍ، ولا يمكن سلب النبوّة من النبيّ سليمان×. والتوبة ليست دليلاً على معصية التائب دائماً، بل هي طاعةٌ من الطاعات([37]).
ب ـ طلب المُلْك بأمرٍ من الله
يرى أبو الفتوح الرازي أن هذه الآية لا تثبت عدم عصمة النبيّ سليمان×. وذكر ثلاثة تأويلات في سياق الدفاع عن نظريته، وارتضى منها الجواب الأوّل فقط:
1ـ إن النبيّ سليمان× لم يطلب هذا الشيء إلاّ بأمر من الله سبحانه وتعالى وإذنه. وإن الله هو الذي أمره بهذا الدعاء؛ لما كان في سابق علمه أن كلّ مَنْ كان مثل النبيّ سليمان فإن المُلْك يفسده، فأمره الله بهذا الدعاء؛ لما يمتلكه من مَلَكة العصمة، وبذلك فقد كان النبيّ سليمان× مأمونَ الجانب من الخطأ والزَّلَل.
2ـ إن النبيّ سليمان× إنما طلب من الله الملك ليكون آيةً ومعجزةً على نبوّته، وإن ذلك لو كان لغيره لصحّ أن يكون معجزةً خارقة للعادة. وقد كان ملك سليمان متّصفاً بهذه الصفة؛ حيث خضعَتْ لطاعته الجنّ والإنس والسباع والوحوش والبهائم وكلّ العقلاء، وقد سُخِّرت له الرياح وما إلى ذلك. وعليه فإن ما طلبه النبيّ سليمان× من الله إنما كان على سبيل المصلحة، وليس على وجه البخل والطمع. والمراد «من بعدي» أنه لا ينبغي لأحدٍ غيري؛ كما في قول أحدنا: «أنا أطيعك ثمّ لا أطيع أحداً بعدك»، أي لا أطيع غيرك. قال عطاء بن أبي رباح: «يعني ملكاً تستوفيه في حياتي».
3ـ الوجه الآخر [الثالث] في تأويل هذه الآية أن يُقال: إنه أراد الآخرة بهذا الملك وثواب الجنّة. والتقدير: ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي، أي بعد وصولي إليه؛ إذ لا يمكن لشيءٍ أن يكون ثواباً على الإيمان والطاعة سوى نعيم الآخرة؛ لأن الآخرة مكانٌ للنعيم، وليست مكاناً للتكليف. والذي يقوّي هذا الوجه قوله: «ربِّ اغفر لي»، وهذا من جملة أحكام الآخرة. وقال بعضهم: إن النبيّ سليمان× قد طلب من الله مُلْكاً يقهر به هوى نفسه، وإن قوله: «لا ينبغي لأحدٍ بعدي» أي في زماني؛ بمعنى: امنُنْ عليّ بألطافك، حتّى أختار الطاعة، وتكون لي العصمة، وأن لا يكون اختيار العصمة لأحدٍ غيري في هذا العصر. والله أعلمُ بمراده.
ولا يخفى أن الوجهين الأخيرين يحملان الكثير من التعسُّف، والمعتمد هو الوجه الأوّل.
إن سؤال وطلب النبيّ سليمان× لا يتنافى مع القول بعصمته أبداً؛ وذلك «أن فيه سؤال مُلْكٍ يختصّ به، لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما آتاه ويحرمه؛ ففَرْقٌ بين أن يسأل مُلْكاً اختصاصيّاً وأن يسأل الاختصاص بمُلْك أوتيه»([38]).
7ـ عصمة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
أـ قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ (البقرة: 120).
إن توجيه الخطاب بهذه الآية إلى النبيّ الأكرم| يثبت أنه لم يكن معصوماً.
ب ـ قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ (النساء: 105 ـ 106).
قال الطاعنون في عصمة الأنبياء: دلَّتْ هذه الآية على صدور الذنب من الرسول، فلولا أن الرسول أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذبّ عنه لما ورد النَّهْي عنه»([39]).
ج ـ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ (التوبة: 43).
إن عَفْوَ الله دليلٌ على وقوع الذنب، وإن عبارة: «لِمَ أذنْتَ لهم» استفهامٌ استنكاري.
دـ قال تعالى: ﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ﴾ (الإسراء: 22، 39).
تشير هذه الآية إلى أن النبيّ الأكرم| لم يكن متّصفاً بالعصمة في الاعتقاد.
هـ ـ قال تعالى: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ (الأحزاب: 37).
لقد كان النبيّ الأكرم| يخشى الناس، ولم يكن يخشى الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا الأساس فإن النبيّ الأكرم| لم يكن متّصفاً بالعصمة.
و ـ قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (الفتح: 1 ـ 2).
إن العَفْو عن النبيّ الأكرم| وغفران ذنوبه إنما يصحّ إذا كان مذنباً.
ز ـ قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى﴾ (الضحى: 6 ـ 7).
إن هذه الآية الكريمة تدلّ على كُفْر النبيّ الأكرم| قبل النبوّة، وعليه لا يكون النبيّ معصوماً في العقيدة.
ح ـ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الحجّ: 52).
لقد أخطأ النبيّ الأكرم| في استلام الوَحْي، وامتدح آلهة قريش؛ وعلى هذا الأساس فإنه لم يكن يتّصف بالعصمة في الاعتقاد والتبليغ والدعوة. يروى أن النبيّ الأكرم| عندما رأى قومه يصدّون عنه، ويبرأون منه، تألَّم كثيراً، وتمنّى لو أنزل الله تعالى آيةً تصلح بينه وبين قريش. وعندما أنزل الله تعالى آية: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ (النجم: 1)، وتلاها النبيّ على قريش، تدخَّل الشيطان ووضع على لسان النبيّ الأكرم| عبارةً تقول: «تلك الغرانيق العُلَى، وإن شفاعتهُنَّ لتُرتجى». وعندما سمعَتْ قريش بهذه العبارات ينطق بها النبيّ الأكرم نالهم العَجَب، وفي الوقت نفسه سَجَدوا مع المسلمين([40]).
اعتراضٌ ورفضٌ
أـ الخطاب للأمّة، لا للنبيّ (صلى الله عليه وآله)
قال أبو الفتوح الرازي في نَقْد المستند الأوّل للمخالفين: رغم توجيه الخطاب في هذه الآية الكريمة إلى النبيّ الأكرم|، إلاّ أن المراد بها هو توجيه الخطاب إلى أمّته. وعلى هذا الأساس، لا تشتمل هذه الآية على ما يتنافى مع عصمة النبيّ الأكرم|([41]).
ب ـ الاستغفار طاعةٌ، والنهي لغير المُخالِف
«إن هذه الآية لا تنهض دليلاً على أن النبيّ الأكرم| قد عصى الله؛ بعد أن ثبت بالدليل العقليّ الصحيح ـ الذي لا يحتمل التأويل ـ أنه معصومٌ، وأنه لا يجوز عليه ارتكاب الذنوب، صغيرها وكبيرها. وإن نَهْي الله سبحانه وتعالى له بقوله: ﴿وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ (النساء: 105) لا يصحّ دليلاً على أنه قد كان خصيماً [ومعيناً]؛ إذ ما أكثر النهي الذي يَرِدُ بحقّ الأشخاص دون أن يصدر عنهم ارتكاب المَنْهيّ عنه، ومثل ذلك في العُرف والقرآن الكريم كثيرٌ؛ قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر: 65)؛ ويقول أحدُنا لوَلَده: «لا تفعل كذا وكذا»، وإنْ لم يكن قد فعل ذلك أبداً.
لا يرى أبو الفتوح الرازي في عبارة: «واستغفِرِ الله…» دليلاً على وقوع الذنب والمعصية من النبيّ الأكرم|؛ وذلك لأن الاستغفار في حدّ ذاته طاعةٌ، والفائدة منه تحصيل الثواب لدينا، دون إسقاط العقاب؛ إذ إن إسقاط العقاب يقوم به الله سبحانه وتعالى عنه؛ توبةً واستغفاراً، من باب التفضُّل»([42]).
كما يمكن لمؤلِّف تفسير روض الجنان أن يعيد جواب المستند الأوّل هنا أيضاً، وأن يفرِّق بين المخاطَب والمُراد. ولكنه لم يستفِدْ من ذلك الجواب هنا، وعرَّف بالنبيّ الأكرم| أنه هو المخاطَب والمراد في هذه الآية الكريمة، ولم يجِدْ تنافياً بين هذه الآية وبين عصمة النبيّ الأكرم|.
ج ـ العفو عطفٌ ولطفٌ في دعاءٍ
يذهب أبو الفتوح الرازي إلى اعتبار هذه الآية دعاءً، لا خبراً، وأنها لا تصحّ دليلاً على إثبات عدم عصمة النبيّ الأكرم|، فقال: «يقول الله تعالى لنبيِّه: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾، والصحيح أن هذا الكلام واردٌ في مورد العطف واللطف والافتتاح بالدعاء، كما يقول أحدُنا لغيره: «عفا الله عنك، أو عافاك الله، وغفر الله لك، ورحمك الله، لِمَ فعلْتَ كذا، ولِمَ لم تفعَلْ كذا»، دون أن يكون شيءٌ من ذلك خَبَراً، وإنما هو على سبيل الدعاء حين قول ذلك، عسى أن لا يخطر في قلب المخاطَب فعل مثل هذه الأمور المنهيّ عنها، والتي ورد ذكرها في الخطاب؛ والغرض من ذلك ليس سوى الإكرام واللطف، على ما تقدَّم منا ذكره»([43]).
د ـ الخطاب للأمّة، لا للنبيّ (صلى الله عليه وآله)
يذهب صاحب تفسير روض الجنان إلى القول بأن المراد من الخطاب في هذه الآية أمّة النبيّ الأكرم|، وليس النبيّ الأكرم نفسه.
ويبدو من المناسب هنا جدّاً تكرار جواب المستند الثاني: إن نَهْي النبيّ الأكرم| لا يمثِّل دليلاً على عدم عصمته؛ لأن النهي لا يدلّ على أن النبيّ قد جعل شريكاً لله سبحانه وتعالى؛ فما أكثر النهي الذي يَرِدُ بحقّ الأشخاص دون أن يصدر عنهم ارتكاب المَنْهيّ عنه.
هـ ـ تكذيب القصّة المتداولة
لا يصدِّق أبو الفتوح الرازي بصحّة قصّة ربيب رسول الله|، ولا يراها منسجمةً مع المذهب، ولذلك يقول: «لا يليق برسول الله| أن يشبع عينَيْه بالنظر إلى امرأةٍ أجنبيّة عنه؛ بحيث يعشقها قلبه. وعلى الرغم من أن العشق إنما يأتي من قِبَل الله، والعشق شهوةٌ طاغية على مشتهىً بخصوصه، ولكنّه أمرٌ منفِّرٌ. وقد سبق أن ذكَرْنا أن الله سبحانه وتعالى يحفظ الأنبياء من جميع المنفِّرات؛ كي لا يؤدّي ذلك إلى نقض الغَرَض، ويحول دون إجابة دعوتهم»([44]).
وقال مفسِّر روض الجنان، في تأويل ذيل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾: «لا يدلّ ذلك على أنه لا يخشى من الله؛ إذ لا يصحّ في حقّ النبيّ الأكرم| أنه لا يخاف الله. وقد قال الله سبحانه وتعالى في حقِّه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾ (الأحزاب: 1)، و﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (الزمر: 65)، وهذا لا يدلّ على أنه قد أشرك بالله عزَّ وجلَّ([45]).
و ـ مغفرة ذنب الأمّة بحقّ نفسها أو بحقّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)
لا يرتضي أبو الفتوح الرازي دلالة الآية على عدم عصمة النبيّ الأكرم|. وبعد تقريره لبعض التوجيهات يعمد إلى نَقْدها بأجمعها، وقد قال في هذا الشأن: «وهذه الأقوال باطلةٌ بأجمعها؛ وذلك لتسويغها ارتكاب الذنوب على الأنبياء، وقد ذكَرْنا أن الذنوب لا تجوز على الأنبياء، سواء أكانت من الصغائر أو الكبائر. ولا يجدي المعتزلة قولهم بجواز ارتكاب الصغائر على الأنبياء؛ لأن الصغيرة عندهم مكفِّرةٌ ومحبطةٌ مع اختيار الكبائر، والذي يكون محبطاً كيف يمكن لله أن يمنّ على صاحبه؟! وكيف يكون غفران ذنوب رسول الله| على سبيل المَدْح؟!»([46]).
وبعد نَقْد نظرية المعتزلة، استحسن مؤلِّف تفسير روض الجنان تأويل أبي عليّ الرودباري، في قوله: «لو كان لك ذنبٌ قديم أو حديث لغفرناه لك». ولكنه يراه على خلاف ظاهر الآية. وقال في بيان النتيجة: «إن المعتمد في تأويل هذه الآية وجهان: أحدهما: إن المراد من الذنب هو ذنب الأمّة، ما تقدَّم منه وما تأخَّر. وقد نزلت الآية على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه… وقوله: «لك» لا يعني غفر الله لك، وإنما المعنى: لأجلك ولحرمتك وبسببك…؛ والقول الآخر: ليغفر لك الله ما تقدَّم وما تأخَّر من ذنوب أمّتك بحقِّك. و«الذنب» مصدرٌ يضاف إلى الفاعل تارةً؛ ويضاف إلى المفعول تارةً أخرى… والآية من قسم إضافة المصدر إلى المفعول، بمعنى: ما اقترفته أمّتك من الذنوب في حقّك، من الجفاء والإيذاء والظلم والصدّ والإعراض وما إلى ذلك».
وعلى هذا التأويل فإن معنى المغفرة هنا ليس هو المعنى الاصطلاحيّ أيضاً، وإنما «المراد على هذا التأويل هو فسخ ونسخ وإزالة أحكام الأعداء عليه»([47]). وهذا التأويل هو المطابق للظاهر، والموافق لأدلّة العقل في تنزيه الأنبياء من الذنوب، كبيرها وصغيرها».
إن الذنب في جميع هذه الإجابات هو الذنب الاصطلاحيّ. وعلى هذا الأساس تتنافى في اعتقادهم مع عصمة الأنبياء؛ وأما إذا لم يكن الذنب بالمعنى الاصطلاحيّ، وكان المراد؛ بمناسبة ارتباط الفتح بغفران الذنوب، هو المعنى اللغويّ، أي كلّ عملٍ تترتَّب عليه آثارٌ وتَبِعاتٌ سيّئة، عندها لن يكون تنافٍ بين الآية ونظريّة العصمة؛ وذلك لأن هذا العمل [الذنب] هو ذات قيام رسول الله| ودعوته الناس إلى القتال والجهاد و…؛ حيث ترتَّب على ذلك آثارٌ سيّئةٌ في نظر المشركين.
ز ـ الضلال في معالم النبوّة وأحكام الشريعة
ذكر مؤلِّف تفسر روض الجنان نظريّتين في تفسير قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى﴾: النظرية الأولى: تتحدَّث عن تماهي النبيّ مع أمّته: «لقد كان رسول الله| على ملّة وطريقة قومه مدّة أربعين يوماً، ثمّ هداه الله بعد ذلك».
وأما النظرية الثانية فترى ضلال النبيّ الأكرم في ما يتعلَّق بمعالم النبوّة وأحكام الشريعة.
ومن بين هاتين النظريتين يعمد أبو الفتوح الرازي إلى نَقْد النظرية الأولى؛ حيث يراها باطلةً وخاطئة؛ إذ يقول: «لا يليق بالنبيّ أبداً، ولا لساعةٍ واحدة، [أن يشارك قومه في ضلالهم]([48])». وأما في ما يتعلَّق بالنظريّة الثانية فإنه يختار الصَّمْت، وعليه لا يبعد أن يكون أبو الفتوح معتقداً بالنظرية الثانية.
ح ـ بشارةٌ وتسليةٌ
يرى كاتب تفسير روض الجنان أن الآية من باب تطمين النبيّ الأكرم| وتبشيره وتسلية خاطره: «﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾»([49]).
وعلى هذا الأساس يرى تأويل المخالفين جديراً بالإشكال من عدّة جهاتٍ([50]):
1ـ إن هذا المعنى لا يصحّ على النبيّ الأكرم|، بحيث يمكِّن الله سبحانه الشيطان من التلبيس على رسول الله، حتّى ترتفع الثقة بكلامه؛ فيمدحه تارةً؛ ويذمّه تارةً أخرى.
2ـ لا يمكن للشيطان أن يتكلَّم على لسان شخصٍ. ولو قيل: إن هذا ما قاله رسول الله| على سبيل السَّهْو؛ إذ ما يَرِدُ سَهْواً لا يأتي متطابقاً مع اللفظ والمعنى، من قبيل: أن يقال: إن شخصاً يقرأ قصيدةً لشاعرٍ معروف، ثم يضيف إليها من عنده بيتين على ذات الوزن والقافية، دون قصدٍ أو علم منه، فهذا محالٌ بالوجدان، كما نعلم.
3ـ لقد أحال الله تعالى هذا الإلقاء إلى الشيطان، فكيف يقال: إن رسول الله| هو الذي أضاف هذا من عنده على سبيل السَّهْو؟
4ـ لا يصحّ مثل هذا السَّهْو على رسول الله؛ لأن هذا منه منفِّرٌ غاية التنفير.
5ـ إن في ذلك إضلالاً وتغريراً، والله تعالى لا يمكِّن الشيطان من ذلك.
الهوامش
(*) باحثٌ في علم الاجتماع والفكر الإسلاميّ، وأستاذٌ مساعِدٌ في معهد بحوث الحضارة الإسلاميّة ومعهد العلوم والثقافة الإسلاميّة في قم ـ إيران.
([1]) انظر: التفتازاني، شرح المقاصد 5: 49؛ عبد الجبّار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة: 573.
([2]) روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، من تأليف المفسِّر والفقيه والواعظ الحسين بن عليّ بن محمد الخزاعي النيسابوري، المشهور بـ (أبي الفتوح الرازي) (من أعلام القرن السادس الهجريّ). وهو من أجلّة علماء الإمامية، ومن ذرِّية الصحابي نافع بن بديل بن ورقاء، من قبيلة خزاعة. ويُعَدّ تفسيره هذا من أفضل تفاسير الشيعة المدوَّنة باللغة الفارسيّة. (المعرِّب).
([3]) أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 11: 48.
([7]) انظر: الشريف المرتضى (علم الهدى)، تنـزيه الأنبياء والأئمّة: 27، تحقيق: فارس حسّون كريم، انتشارات بوستان كتاب.
([8]) الرازي، أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 11: 53.
([9]) انظر: المصدر السابق 7: 340.
([10]) انظر: المصدر السابق 7: 341.
([11]) انظر: المصدر السابق 1: 220.
([12]) انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير 22: 127.
([13]) انظر: المصدر السابق 22: 108.
([14]) انظر: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 1: 221.
([15]) انظر: المصدر السابق 8: 149.
([16]) انظر: المصدر السابق 8: 150.
([17]) انظر: الشريف المرتضى، تنـزيه الأنبياء والأئمّة: 36.
([18]) انظر: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 13: 193.
([19]) انظر: المصدر السابق 13: 194.
([20]) انظر: المصدر السابق 1: 220.
([21]) انظر: المصدر السابق 16: 195.
([22]) انظر: المصدر السابق 9: 39.
([23]) انظر: العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 8: 377.
([24]) انظر: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 7: 348 ـ 349.
([25]) انظر: المصدر السابق 16: 203.
([26]) انظر: المصدر السابق 13: 241 ـ 242.
([27]) انظر: المصدر السابق 16: 204 ـ 205.
([28]) انظر: الشريف المرتضى، تنـزيه الأنبياء والأئمّة: 107.
([29]) انظر: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 11: 47 ـ 50.
([30]) انظر: المصدر السابق 11: 52.
([31]) انظر: المصدر السابق 11: 82.
([32]) انظر: الشريف المرتضى، تنـزيه الأنبياء والأئمّة: 93.
([33]) انظر: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 16: 260.
([35]) انظر: المصدر السابق 16: 263 ـ 264.
([36]) انظر: المصدر السابق 16: 268.
([37]) انظر: المصدر السابق 16: 278.
([38]) انظر: المصدر السابق 13: 194.
([39]) انظر: العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 17: 205.
([40]) انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير 11: 34.
([41]) انظر: الشريف المرتضى، تنـزيه الأنبياء والأئمّة: 150.
([42]) انظر: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان 2: 134.
([43]) انظر: المصدر السابق 6: 104 ـ 105.
([44]) انظر: المصدر السابق 9: 258.
([45]) انظر: المصدر السابق 15: 426.
([46]) انظر: المصدر السابق 15: 427.
([47]) انظر: المصدر السابق 17: 323 ـ 324.
([48]) ما بين المعقوفتين إضافةٌ توضيحيّة من عندنا. (المعرِّب).