أحدث المقالات

الشيخ محمد رضا الأحمدي البهسودي(*)

يتمّ تصوير الولاية التكوينية ـ بمعنى الوساطة في الفَيْض الإلهيّ ـ على نحوين:

النحو الأوّل: الوساطة بالتفويض

وبيانه يتوقَّف على عدّة نقاط:

النقطة الأولى: إنّ المتكلِّمين لا يؤمنون بوجود العقل بمعنى الموجود المفارق عن المادّة ذاتاً وفعلاً؛ لعدم قيام دليلٍ عليه.

النقطة الثانية: إنّ المعتزلة من المتكلِّمين قد ذهبوا إلى أنّ الله قد فوَّض العباد في أفعالهم إلى إرادتهم على نحو الاستقلال، بلا دَخْلٍ لإرادة الغير فيها. وقد استدلّوا على هذه النظرية بأنّ الممكن يحتاج في حدوثه إلى العلّة؛ لأنّ ملاك الحاجة هو الحدوث، فيستغني في بقائه عن المؤثِّر. وعليه، فالإنسان بعد خلقه من قِبَل الله لا يحتاج في بقائه إلى إفاضة الوجود منه، فإذن يستند صدور الأفعال إليه استناداً مستقلاًّ، لا إلى العلّة المُحْدِثة.

النقطة الثالثة: التفويض هو إرجاع الأمر إلى الغير.

 وبناءً على ما تقدَّم من نقاطٍ لو فرضنا أنّ الله خلق نفس النبيّ والوليّ قادرةً على إفاضة الوجود على المخلوقات فعلى أساس النقطة الأولى لا توجد السلسلة المجرَّدة بين عالم الطبيعة والخالق، فتكون هذه النفوس القُدْسية موجودةً بإيجاد الله لحدوثه؛ وعلى أساس النقطة الثانية الممكن في حدوثه يحتاج إلى الخالق، وفي بقائه لا يحتاج إليه، فتكون هذه النفوس القُدْسية موجودةً بإيجاد الله، بحيث تكون قادرةً على إفاضة الوجود على المخلوقات وإدارتها، فهم يعملون ما يشاؤون، ويفعلون ما يريدون، والله لا دَخْلَ له في إفاضة الوجود للمخلوقات، فينطبق عليهم التفويض، وهو إرجاع أمر التدبير إليهم.

نقدٌ وردّ

وهذا التصوير للتوسيط في الإفاضة الإلهيّة ثبوتاً ممنوعٌ؛ وذلك لأسباب:

أوّلاً: إنّ النقطة الأولى ممنوعةٌ؛ فهناك وجوداتٌ مجرّدة تامّة وناقصة بين الخالق وعالم الطبيعة على أساس قاعدة إمكان الأشرف، كما يؤمن بها الفلاسفة.

ثانياً: النقطة الثانية ـ أيضاً ـ ممنوعةٌ؛ لأنّ الإيجاد فرع الوجود؛ إذ الفاعل وأثره هو الوجود. فبالنظر إلى أنّ أصل وجود الفاعل وجهٌ للخالق تعالى، كما أنّ أصل وجود الأثر وجهٌ له، فإيجاده إيجادُ الله، فيكون الله فاعلاً بمعنى ما منه الوجود. وبالنظر إلى أنّ وجود الفاعل محدودٌ مرتبةً، وحدُّه هو فقدانيّته للمراتب الأخرى من الوجود، كما أنّ وجود الأثر محدودٌ بحدٍّ، فالإيجاد من الفاعل المحدود يُضاف إليه، فيكون الفاعل فاعلاً بمعنى ما به الوجود. فالإيجاد من العبد باعتبار أصل وجود الأَثَر إيجاد الله، وباعتبار محدوديّة وجود الأَثَر إيجاد العبد. ولا يُعقل عزل الخالق من التأثير.

ثالثاً: إنه يستلزم الشرك في الربوبية، والربوبية من شؤون الألوهيّة، فكيف يمكن الفصل بين كونه تعالى إلهاً ـ بمعنى الخالق للكَوْن ـ وليس بربٍّ ـ بمعنى المدبِّر لنظام الكَوْن ـ؟!

وإضافةً إلى هذه الردود الثبوتية هناك ردٌّ إثباتي، بأنّه لا دليل على أنّ الله خلق هذه النفوس قادرةً على إفاضة الوجود على المخلوقات. وهذه الوجوه ردٌّ على هذا التصوير.

النحو الثاني: الوساطة بالفَيْض

وبيانه يتوقَّف على عدّة نقاط أيضاً:

النقطة الأولى: لعوالم الوجود بنظر الفلاسفة مراتب:

الأولى: عالم الجبروت. وهو عالم العقول المجرَّدة الكلِّيّة. والكلِّيّة هنا ليست بالمعنى المنطقي، الذي هو وصفٌ للمفهوم، بل بالمعنى العرفاني، وهو سعة الوجود، بحيث يكون محيطاً بالإحاطة القيّوميّة لما دونه من العوالم الدنيا. ويسمِّيه أهل الشرع بـ (الملائكة المقرَّبين)، و(الملائكة الكرّوبيّين).

الثانية: عالم الملكوت. وهو عالم المثال. ويسمّيه أهل الشرع بـ (الملائكة البرزخيّين)، و(المدبِّرات أمراً).

الثالثة: عالم الناسوت. وهو عالم الطبيعة. ويسمِّيه أهل الشرع بـ (عالم الشهادة). والموجودات في هذا العالم مراتب متعدِّدة، فتبدأ من الهيولى الأولى، ثمّ الصورة الجسمية، ثمّ الصورة النوعية للعناصر البسيطة، ثمّ الصورة النوعية للمواليد الثلاثة ـ وهي: المعادن والنباتات والحيوانات ـ.

النقطة الثانية: إنّ للنفس الإنسانية بنظر العرفاء مراتب سبعة. ونحن نقتصر على بيان خمسٍ من تلك المراتب:

الأولى: الطبع. والنفس الإنسانية من حيث تدبيرها للبدن تُسمَّى بالطبع.

الثانية: النفس. والنفس الإنسانية من حيث كونها نفساً حيوانية تُسمَّى بالنفس.

الثالثة: القلب. والنفس الإنسانية من حيث إدراكها للجزئيّات والكلِّيّات تُسمّى بالقلب.

الرابعة: الروح. والنفس الإنسانية من حيث إدراكها للكلِّيّات تُسمّى بالروح.

الخامسة: السرّ. والنفس الإنسانية من حيث اتّحادها مع العقول المجرَّدة الكلِّيّة تُسمّى بالسرّ.

وقد بقيَتْ مرتبتان: الخفيّ؛ والأخفى. والحركة الاستكمالية للنفس تكون على نحو اللبس بعد اللبس، بمعنى تحصُّل صورةٍ فوق صورة، لا على نحو اللبس بعد الخلع، بمعنى تحصُّل صورةٍ بعد زوال صورةٍ، مثل: تحصّل صورة التراب لبدن الإنسان بعد الموت. فالصورة الترابية لا تحصل لبدن الإنسان إلاّ بعد خلع وزوال الصورة البدنية لجسم الإنسان.

النقطة الثالثة: هناك قاعدةٌ باسم قاعدة إمكان الأشرف، ومفادها: إنّه إذا أمكن وجود أشرف يجب أن يوجد حتّى يوجد الوجود الأخسّ. وعلى أساس هذه القاعدة لعالم الوجود نزولاً قوسٌ يبدأ من عالم الجبروت، ثمّ المَلَكوت، ثمّ الناسوت؛ وفي المقابل تكون قاعدةٌ أخرى، وهي قاعدة إمكان الأخسّ، ومفادُها: إنّه إذا أمكن وجود أخسٍّ يجب أن يوجد حتّى يوجد الأشرف. وعلى أساس هذه القاعدة لعالم الوجود صعوداً قوسٌ يبدأ من الهيولى الأولى، ثمّ الصورة الجسمية، ثمّ الصورة النوعية للبسائط، ثمّ الصورة النوعية للمركَّبات، حتّى النفس الإنسانيّة، التي لها مراتب خمسة، كما تقدَّمَتْ.

النقطة الرابعة: عندهم قاعدةٌ بأنّ العالي لا يطلب السافل؛ ولذلك الوجود من العالي لا يحصل للسافل، إلاّ بغرض الصعود إليه؛ ولذلك الوجود من عالم الجبروت لا يحصل لعالم الملكوت، إلاّ لصعوده إلى عالم الجبروت؛ ولا يحصل الوجود من عالم الملكوت إلى عالم الناسوت، إلاّ بغرض صعوده إلى عالم الملكوت. وعلى ذلك، فكلّ فاعلٍ في قوس النزول له غايةٌ في مرتبته في قوس الصعود؛ فغاية عالم الجبروت في قوس النزول هو النفس الإنسانيّة في مرتبة السرّ، وغاية عالم المَلَكوت في قوس النزول هو النفس الإنسانيّة في مرتبة الرُّوح.

النقطة الخامسة: إنّ الفاعل يأتي بمعنيين:

الأوّل: فاعل ما منه الوجود. وهذا المعنى يختصّ بالباري تبارك وتعالى؛ لأنّه هو المفيض للوجود؛ فلذلك العلّة الحقيقية للمخلوقات هو الله، على أساس قاعدة (لا مؤثِّر في الوجود إلاّ الله).

الثاني: فاعل ما به الوجود. وهذا المعنى يختصّ بالفواعل الإمكانية، فتكون تلك الفواعل من العِلَل المُعِدَّة، بالمعنى اللغويّ، وهو المهيِّىء. فالجبروت يهيِّئ المَلَكوت لإفاضة الوجود إليه من الباري تبارك وتعالى. وليس بالمعنى الاصطلاحي الذي يكون عدمه بعد وجوده موقوفاً عليه للمعلول.

وبعد هذه النقاط تتبيَّن الولاية التكوينية للنبيّ وآله المعصومين^؛ فقد رُوي: «إنّ أوّل ما خلق الله نور نبيّك، يا جابر»([1])؛ وأيضاً: «إنّ أوّل ما خلق الله العقل»([2])؛ وأيضاً: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم»([3]). ووجه الجمع بين هذه الأحاديث أنّ المعلول الأول من حيث إنّه مجرّدٌ يعقل ذاته ومبدأه يُسمّى عقلاً، ومن حيث إنّه واسطةٌ في صدور سائر الموجودات يُسمّى قلماً، ومن حيث توسّطه في إفاضة أنوار الأنبياء والأئمّة^ في هذا العالم يُسمّى نوراً محمّدياً. وبناءً على هذه الأحاديث يكون العقل الأوّل هو النور المحمّدي. فالنور المحمّدي هو من عالم الجبروت. وعلى أساس النقطتين الأولى والثالثة قوس النزول يبدأ من عالم الجبروت، وينتهي إلى عالم الناسوت. وعلى أساس النقطة الثالثة نهاية قوس الصعود هي النفس الإنسانيّة في مرتبة السرّ. وعلى أساس النقطة الرابعة كلّ فاعلٍ في قوس النزول له غايةٌ في قوس الصعود، ويتّحد ذو الغاية بالغاية عند انتهاء دائرة الوجود. وعلى أساس النقطة الخامسة المراتب العالية في قوس النزول لها فاعليّةٌ بمعنى ما به الوجود، فيسري هذا الحكم للغاية من جهة اتّحادها مع ذي الغاية، فتكون تلك النفوس القُدْسية في قوس الصعود من جهة روحانيتها ونورانيتها واسطةً في الإفاضة والإيجاد. فمَنْ يلتزم بعدم هذه الواسطة يلتزم بعدم ما يُبتدأ به عالم الوجود نزولاً، وهذا إنكارٌ للعوالم التي هي في طول هذا العالم. وقد ثبتت هذه العوالم بقاعدة إمكان الأشرف، كما تقدَّم في النقطة الثانية.

وعلى ضوء ما تقدَّم قال المحقِّق الأصفهاني&؛ لإثبات كونهم عللاً فاعليّة: «فالإنسان الكامل المحمّدي| في هذه الدائرة العظيمة، وغيره من النفوس القُدْسية في سائر الدوائر؛ بلحاظ اتّحاده بالفواعل العالية، واسطةٌ في الإفاضة بروحانيّتها ونورانيّتها. فالالتزام بعدم ما ينتهي إليه الدائرة التزامٌ بعدم ما تبتدئ به، والالتزام بعدمه التزامٌ بعدم فاعل ما به الوجود، فيوجب الالتزام بعدم سائر العوالم التي هي في طول هذا العالم»([4]).

مناقشاتٌ واعتراض

وقد نُوقش هذا المعنى للولاية التكوينية بعدّة وجوهٍ:

الوجه الأوّل: إنّها تستلزم التفويض، والتفويض يوجب الشرك في الربوبية، كما تقدَّم في التصوير الأوّل للولاية التكوينية.

وهذا الردّ مخدوشٌ؛ لأنّ التفويض هو إرجاع الأمر إلى الغير، وهذه الولاية لا تكون إرجاعاً لأمر التدبير إلى الغير من وجهة نظر الفلاسفة؛ لأنّ عالم الجبروت بنظرهم لازمُ وجود الباري تبارك وتعالى، فموجودٌ بوجوده، فيكون من الصقع الربوبيّ، فلا يكون موجوداً بخلقه ـ أي إيجاده من العدم ـ حتّى يكون توسيطه للإفاضة من قبيل: تسليم أمر التدبير إلى الغير، ويستلزم ذلك إذا كان الشيء موجوداً بخلقه كما كان هذا المعنى وارداً على تصوير الولاية القائم على قول المتكلِّمين؛ لأنّ النبيّ والأئمّة^ حادثٌ، على قولهم، فيكون وجودهم بإيجاد الله تبارك وتعالى من العدم. فإرجاع تدبير الخلق إليهم تفويضٌ لأمر التدبير إلى الغير، وهذا شركٌ في الربوبية.

الوجه الثاني: وهو للشيخ السبحاني([5])، وحاصله: إنّ هذه النفوس القُدْسيّة لو كانت في مرتبة العلّة الفاعليّة لعالم الطبيعة للزم تقدُّم الشيء على نفسه؛ لأنّ هذه النفوس في مرتبة المعلول للعلل الطبيعية، فإنّ حياتهم تتوقَّف على الهواء والماء والطعام والدواء، فتتوقَّف حياتهم على هذه الأسباب. فلو كانت هذه الذوات في مرتبة العلّة لهذه الأسباب يستلزم تقدُّم الشيء على نفسه، وهو محالٌ.

ولا يمكن المساعدة على هذه المناقشة؛ لأنّ لهذه الذوات القُدْسيّة في هذا العالم جهتين:

الأولى: الجهة الجسمانية.

الثانية: الجهة الروحانية، ولهذه الجهة مراتب، وهي: مرتبة الطبع إلى مرتبة السرّ، على قول العرفاء، فإذا وصلت نفوسهم إلى مرتبة السرّ فلا تحتاج إلى البدن، على قول العرفاء، فيكون البَدَن بمثابة الجلباب، متى شاء يدخل فيه، ومتى شاء يخرج منه. فيكون احتياجهم إلى الأسباب الطبيعية في حياتهم من الجانب الجسماني؛ فأجسامهم من حيث كونها تتغذّى وتنمو وتولد ـ ومنشأ هذه الأمور هو النفس النباتية ـ، ومن حيث كونها تحسّ وتتحرّك بالإرادة ـ ومنشؤهما هو النفس الحيوانية ـ، تحتاج إلى تلك الأسباب. وأمّا من جانب النفس الناطقة في المراتب الدنيا، مثل: مرتبة الطبع والنفس، فيحتاج ـ أيضاً ـ إلى تلك الأسباب. وأمّا النفس الناطقة في المراتب العليا، مثل: مرتبة الروح والسرّ والخفيّ والأخفى، فلا تحتاج إلى تلك الأسباب. والولاية التكوينية للذوات القُدْسيّة تكون من جهة النفس الناطقة بمراتبها العليا، لا بمراتبها الدنيا، فلا يَرِدُ عليها ما تقدَّم من الشيخ السبحاني.

 

الإشكال على مذهب الوساطة بالفَيْض

ولكنْ لا يمكن أن نقبل هذا التصوير للولاية التكوينية؛ وذلك لأجل عدم اتّحاد ذي الغاية بالغاية عندما تكون النفوس القُدْسية متعلِّقة بالأبدان الناسوتية. ويتوقَّف توضيح ذلك على مقدّمةٍ، وهي: إنّ للاتحاد سبعة معانٍ؛ ثلاثة منها معانٍ مجازيّة:

1ـ صيرورة شيءٍ ما شيئاً آخر بالاستحالة، سواءٌ كانت دفعيّةً، مثل: صيرورة الماء هواءً، فالصورة المائية تزول عن الهيولى الأولى فيه دفعةً، وتعرض عليها الصورة الهوائية، وهذا المعنى للاتّحاد مجازي؛ لأنّ الماء بنفسه ما صار هواءً، بل بجزئه صار هواءً ـ وهو الهيولى الأولى ـ، فاتَّحدت الهيولى مع الصورة الهوائية؛ أو كانت تدريجيّةً، مثل: صيرورة الطعام في المعدة كيموساً، وبعد ذلك كيلوساً، وهو سائلٌ أبيض مستخلص من الكيموس، وهذه الصيرورة تدريجيّةٌ، فزالت صورة الطعام عن الهيولى، وعرضَتْ عليها الكيموس والكيلوس.

2ـ صيرورة شيءٍ ما شيئاً آخر بالتركيب، مثل: صيرورة التراب طيناً؛ فإنّ التراب تحوَّل إلى الطين بانضمام الماء إليه. وهذه الصيرورة ـ أيضاً ـ معنىً مجازيٌّ للاتّحاد؛ لأنّ التراب ما صار بنفسه طيناً، بل صار طيناً بانضمام الماء إليه، فإنّه مركَّبٌ من التراب والماء.

3ـ صيرورة شيءٍ ما شيئاً آخر بالفناء فيه، كصيرورة القطرة بحراً؛ فإنّ القطرة تفقد حدَّها، وهذا يعني فناءها، وموجودةٌ بوجود البحر، وكفناء الضوء الخفيف في الضوء القويّ، مثل: ضوء الشمعة في ضوء الشمس؛ فإنّ ضوء الشمعة يفنى، بمعنى يفقد حدَّه، ويوجد بوجود ضوء الشمس. وهذا المعنى للاتّحاد أيضاً مجازيٌّ؛ لأنّ الضعيف بنفسه ما صار قويّاً، بل فقد حَدَّه. وهذا النحو من الاتّحاد يتحقَّق فيما لو كان وجود شيءٍ مرتبةً من وجود شيءٍ آخر، فيفقد رتبته، ويوجد بوجود القويّ. وهذه المعاني المجازية ممكنةُ الوجود.

وأمّا المعنى الحقيقيّ للاتّحاد فهو صيرورة شيءٍ بعينه شيئاً آخر، و«بعينه» الذي هو قيد الشيء يعني أنّ الشيء بدون زوال شيءٍ عنه ولا زيادة شيء عليه ـ أي بلا زيادةٍ ونقيصةٍ ـ صار شيئاً آخر، ولهذا المعنى الحقيقيّ ثلاث صور:

الصورة الأولى: صيرورة شيءٍ ما شيئاً آخر، مع بقاء وجودهما معاً بعد الاتّحاد. وهذه الصورة محالٌ؛ لاستلزامها وحدة المتعدِّد، ووحدة المتعدِّد محالٌ.

الصورة الثانية: صيرورة شيءٍ ما شيئاً آخر مع انعدام الشيء الصائر بالمرّة، وبقاء الشيء الثاني. وهذه الصورة ـ أيضاً ـ محالٌ؛ لأنّها تستلزم اجتماع النقيضين؛ إذ الاتّحاد بمعنى الصيرورة يقتضي أن يكون الشيء الصائر موجوداً، وفرضنا أنّه انعدم، فحصل اجتماع النقيضين، واجتماع النقيضين محالٌ.

الصورة الثالثة: صيرورة شيءٍ ما شيئاً متأخِّراً عن الشيء الأوّل. ولهذه الصورة فرضان:

الفرض الأوّل: أن يكون الشيء المتأخِّر كمالاً للشيء الأوّل، مثل: الحركة الجوهرية للمادّة إلى النفس النباتية، وحركة النفس النباتية إلى النفس الحيوانية، وحركة النفس الحيوانية إلى النفس الناطقة. فالمادّة صارت نفساً نباتيةً، والنفس النباتية المتأخِّرة كمالٌ لتلك المادّة. وهكذا النفس الحيوانية بالنسبة إلى النفس النباتية؛ والنفس الناطقة بالنسبة إلى النفس الحيوانية. وهذا الفرض ممكنُ الوجود، ومتحقِّقٌ في عالم الطبيعة.

الفرض الثاني: أن لا يكون الشيء المتأخِّر كمالاً للشيء الأوّل. وهذا الفرض محالٌ؛ لأنّ الشيء المتأخِّر لو صار عين الشيء الأوّل لاستلزم تقدُّم الشيء على نفسه، وتقدُّم الشيء على نفسه محالٌ.

وعلى ضوء هذه المعاني للاتّحاد فإنّ فرض اتّحاد نفس النبيّ والوليّ في نهايات قوس الصعود مع بدايات قوس النزول لا يخلو من احتمالات ثلاثة:

1ـ بطلان الاتّحاد مع العقل الأوّل، على فرض الغيريّة

الاحتمال الأوّل: إنّ نفس النبيّ والوليّ تصل إلى مرتبة العقل الأوّل، بحيث تكسب فَيْض الوجود من الباري ـ تبارك وتعالى ـ مباشرةً، في مقابل العقل الأوّل، وتتَّحد معه.

ويَرِدُ عليه:

أوّلاً: إنّ أصل الفرض في هذا الاحتمال باطلٌ؛ لأنّ العقل الأوّل واحدٌ لا يتعدَّد، بنظر الفلاسفة، من جهتين: الأولى: من جهة أنّ نوع كلّ عقلٍ منحصرٌ في شخصه، والثانية: من جهة قاعدة «أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد».

وثانياً: الاتّحاد بينهما محالٌ؛ لأنّه إمّا أن يكون الاتّحاد من قبيل: الاتّحاد في الصورة الأولى من الاتّحاد الحقيقي، فيستلزم وحدة المتعدِّد؛ وإمّا من قبيل: الاتّحاد في الصورة الثانية من الاتّحاد الحقيقيّ، فيستلزم اجتماع النقيضين.

2ـ بطلان الاتّحاد مع العقل الأوّل، على فرض العينيّة

الاحتمال الثاني: إن نفس النبيّ والوليّ صار نفس العقل الأوّل. وهذا الاحتمال يُستفاد من العلاّمة الطباطبائي، في الشمس الساطعة، في بحث «أول ما خلقه الله تبارك وتعالى». والاتحاد في هذا الاحتمال هو الفرض الثاني من الصورة الثالثة للاتّحاد الحقيقيّ.

ويَرِدُ عليه: إنّ هذا النحو من الاتّحاد محالٌ؛ لأنّ وجود العقل الأوّل محدودٌ؛ لفقدانه ذات واجب الوجود، فيكون له ماهيّةٌ، ولذلك تكون وحدته وحدةً عددية([6])، أي يمكن فرض ثانٍ له، وهذا الموجود المحدود يوجد قبل العوالم الأخرى التي هي أدنى منه؛ فإذا فرضنا أنّ المادة في جسم النبيّ والوليّ بحركته الجَوْهرية صارت العقل الأوّل في بداية قوس النزول فإنّه يستلزم تقدُّم الشيء على نفسه؛ لأنّ العقل الأوّل بحدّه كان موجوداً قبل العوالم الدنيا، فصار موجوداً بحدِّه بعد تلك العوالم، وهذا تقدُّم الشيء على نفسه، وهو محالٌ، فيستحيل أن يكون ذو الغاية عينَ الغاية.

 وأمّا ما قاله بعض أهل المعقول، المتشرِّب بالعرفان، من أنّ كلّ فاعلٍ في قوس النزول له غايةٌ في قوس الصعود، فغيرُ مقبولٍ؛ لأنّ الغاية إمّا أن تكون بمعنى ما ينتهي إليه الفعل، فهذا لا ينطبق في قوس النزول؛ إذ الفاعل في هذا القوس، مثل: عالم الملكوت، ينزل فيض الوجود منه إلى الهيولى الأولى في عالم الناسوت، ويصعد إلى الصورة الجسمية، ثم إلى صورة العناصر البسيطة، ولا ينتهي إلى النفس الإنسانية بمرتبة الروح، بل يتجاوزها إلى النفس الإنسانية بمرتبة السرّ، فلا يصدق أنّ النفس الإنسانية بمرتبة الروح هي ما ينتهي إليها فعل عالم المَلَكوت؛ أو تكون ـ أي الغاية ـ بمعنى ما لأجله أقدم الفاعل على فعله، وهذه الغاية تكون للفاعل المختار، والفواعل المجرّدة في قوس النزول، مثل: عالم الجبروت، وعالم الملكوت، ليست فواعل مختارة، بل هي فواعل بالتسخير، ولو أنّ الفلاسفة تخيّلوا أنّ النفوس الفَلَكيّة التي هي من عالم الملكوت الأعلى فواعل مختارة([7]). وبناءً عليه، إنّنا نرى أنّ الغاية هي ما ينتهي إليه الشيء. فالله هو الغاية بهذا المعنى؛ لأنّ كلّ شيءٍ ينتهي إليه في القيامة الكبرى؛ إذ يفنى كلّ شيءٍ فيه بالمعنى الثالث المجازيّ للاتّحاد. فوجوده تبارك وتعالى ليس محدوداً بحدٍّ، فيكون واجداً لكلّ شيءٍ بنحوٍ أعلى وأشرف. وتكون وحدته وحدةً حقّة حقيقيّة، فيفيض الوجود إلى المخلوقات على نحو الطولية، من عالم الجبروت إلى عالم الناسوت، ثمّ يرتقي من عالم الناسوت إلى عالم الملكوت، دون أن يكون في مرتبة ذلك العالم بحيث يتّحد معه؛ لأنّه من تجلِّياته وإشراقاته. وهكذا فيض الوجود يرتقي من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت، باستكمال النفس الإنسانيّة بالعقل المستفاد، دون أن تكون في مرتبة ذلك العالم بحيث يتّحد معه؛ لأنّها من تجلِّياته وإشراقاته. فلا تتّحد بذلك العالم، كما قال به العرفاء، بل يتّصل بتلك العوالم، وتستمرّ بالسير إلى الله بالقيامة الصغرى، بحيث تستغني من القيام الحلولي بالبَدَن، وتكون قائمةً بعالم الملكوت، ثمّ بالقيامة الكبرى تفنى بحدّه، وأصل وجودها يكتفي بالقيام الصدوري بالحقّ تبارك وتعالى، تَبَعاً لعالم الجبروت، فلا يكون لكلّ فاعلٍ في البدايات غايةٌ في النهايات، حتّى إذا أنكرنا هذه الغايات ننكر الفواعل في البدايات. فإذن ذو الغاية هو الله، الذي أفاض الوجود لكلّ العوالم النزوليّة والصعوديّة، والغاية هي الله أيضاً؛ لانتهاء كلّ هذه العوالم إليه. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وليس معناه اكتمال دائرة الوجود في حال وجود هذه العوالم، بحيث يبدأ النصف الأوّل لهذه الدائرة نزولاً من عالم الجبروت، وينتهي إلى عالم الناسوت، وهذا (إنّا لله)، ويبدأ النصف الثاني لهذه الدائرة صعوداً من عالم الناسوت، وينتهي إلى عالم الجبروت، وهذا (إنّا إليه راجعون).

نعم، عالم الجبروت؛ بما أنّه موجودٌ بوجود الله، يكون قديماً ـ بمعنى غير مسبوق بالعَدَم المقابل ـ، ولكنّه حادثٌ بالحدوث الذاتي، كما يقول به الفلاسفة، أو بالحدوث السَّرْمَديّ، كما يقول به المحقِّق الداماد&. وبما أنّه بسيطٌ، ليس بهالكٍ، فيكون أَبَديّاً ـ بمعنى غير ملحوقٍ بالعَدَم المقابل ـ. وعليه، عالم الجبروت ثابتٌ بثبوت ذاته المقدَّسة، هذا من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى وجهُ الشيء هو واجهته التي يظهر من خلالها، فتُعتبر المغايرة بين الشيء ووجهه. فمن هاتين الجهتين فُسِّر وجه الله في الآية الكريمة: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ بعالم الجبروت، لا بالذات المقدَّسة الإلهيّة. وبناءً عليه يكون عالم الجبروت ذا الغاية، وفي نفس الوقت الغاية، بمعنى ما تنتهي إليه العوالم الأخرى، وذلك في القيامة الكبرى؛ بفناء تلك العوالم فيه.

ولا يَرِدُ على هذا النحو من الغائيّة لعالم الجبروت ما تقدَّم من الإشكال على غائيّته على قول بعضٍ؛ لأنّ هذه الغائيّة تكون بمعنى ما تنتهي إليه العوالم الدنيا منه في القيامة الكبرى. ولا مشكلة في أن يكون مفيضاً للوجود لتلك العوالم، وفي نفس الوقت يكون ما تنتهي إليه تلك العوالم في القيامة الكبرى بالفناء فيه. وأمّا بحَسَب الغائيّة على قول بعضٍ يكون عالم الجبروت مفيضاً للوجود لتلك العوالم، وفي نفس الوقت يكون غايةً لوجوداتها في سَيْرها التكاملي، وهذا يستلزم تقدُّم الشيء على نفسه.

3ـ بطلان الاتّحاد مع العقل الأوّل، على فرض الفناء

الاحتمال الثالث: أن يفنى نفس النبيّ والوليّ في العقل الأوّل، بمعنى فناء حدّه، وبقاء وجوده بوجود العقل الأوّل. وهذا الاتحاد هو المعنى الثالث المجازيّ.

وتوضيح الردّ على هذا الاحتمال يتوقَّف على بيان عدّة نقاط:

الأولى: إنّ للعقل الأوّل وجوداً في نفسه، ووجوداً لغيره؛ فأمّا وجوده في نفسه فهو وجوده لذاته؛ وأما وجوده لغيره فهو وجودُه عند تجلِّيه في مادّةٍ، ويُسمّى هذا الوجود بالوجود الرابطي. وهذا الوجود لغيره شديدٌ وضعيف؛ بحَسَب المرتبة الوجودية لذلك التجلّي. كلّما كان التجلّي قويّاً كان وجوده الرابطي شديداً؛ وكلّما كان ضعيفاً كان وجوده الرابطي ضعيفاً. ومن باب تشبيه المعقول بالمحسوس يكون الوجود الرابطي كالكهرباء في الأشرطة الكهربائية؛ كلّما كان الشريط ثخيناً كانت الكهرباء فيه قويّةً؛ وكلّما كان نحيلاً كانت الكهرباء ضعيفةً.

الثانية: إنّ نفس النبيّ والوليّ هي تجلٍّ من العقل الأوّل، والعقل الأوّل يكون متجلِّياً، والتجلّي يكون مرتبةً نازلة من وجود المتجلِّي.

الثالثة: المعنى الثالث المجازيّ للاتّحاد لا يحصل إلاّ بفناء المرتبة النازلة في المتجلّي بوجوده في نفسه، مثل: فناء النور الضعيف في النور القويّ.

بعد أن عرفْتَ هذه النقاط نقول: إنّ فناء نفس النبيّ والوليّ في العقل الأوّل محالٌ؛ لأنّ فناءه في العقل الأوّل بوجوده في نفسه لا يخلو من فرضين: إمّا أن يكون العقل الأوّل أثناء الفناء متجلِّياً في بَدَن النبيّ أو الوليّ؛ أو لا.

فإن لم يكن متجلِّياً فيه فالنفس؛ من حيث إنّها مرتبةٌ نازلة من العقل الأوّل، قد فنيَتْ في العقل الأوّل، حتّى تكون نفس العقل الأوّل، فتفنى تلك المرتبة، وبالتالي تفنى النفس في مرتبة الطبع والروح. وبفنائها تفنى النفس النباتية والحيوانية؛ لأنّهما موجودتان بوجود النفس الناطقة. وبفناء هذه النفوس الثلاث تنتفي الحياة من بَدَن النبيّ والوليّ؛ لأنّها تنشأ من النفوس. فبالاتحاد بهذا المعنى يتحوَّل بَدَن النبيّ والوليّ إلى جثّةٍ هامدة، وبطلان ذلك من الواضحات.

وإنْ كان متجليّاً فيه يستلزم الخُلْف؛ فما فرضناه فانياً بحدِّه في وجود العقل الأوّل في نفسه لم يكن فانياً كذلك، بل يكون حافظاً لحدِّه.

وممّا تقدَّم يظهر وجه حَصْر الاحتمالات في الاتّحاد بالاحتمالات الثلاثة؛ إذ نفس النبيّ والوليّ إمّا تصل إلى مرتبة العقل الأوّل أو لا. وعلى فرض الوصول لا يخلو من فرضين؛ إمّا غيره؛ أو نفسه. وفي الفرض الأوّل يأتي الاحتمال الأوّل للاتّحاد؛ وفي الفرض الثاني يأتي الاحتمال الثاني. وعلى فرض عدم الوصول يأتي الاحتمال الثالث؛ إذ تكون نفس النبيّ والوليّ تجلِّياً وظهوراً له. وثبت بطلان الاتّحاد بكلّ احتمالاته.

ومقصود بعض أهل المعقول، من علماء الشيعة، الذين يؤمنون بالولاية التكوينية للنبيّ والوليّ، هو الاحتمال الثاني للاتّحاد من بين تلك الاحتمالات الثلاثة. فمن خلال هذا الاتّحاد بين ذي الغاية والغاية يسري حكم ذي الغاية إلى الغاية. وهذا يعني الولاية التكوينية بمعنى الواسطة في الفَيْض.

الاتصال بين النفوس القُدْسية والعقل الأوّل

وبعد بطلان الاتّحاد بكلّ احتمالاته نرى أنّ الصحيح هو الاتّصال. ويتوقَّف على الإيمان بنقطتين:

الأولى: أن نفسِّر الفناء بالمعنى العرفاني، لا بالمعنى الفلسفي، وهو فقدان الشيء حدَّه، كما تقدم في المعنى الثالث المجازي للاتّحاد. والفناء بالمعنى العرفاني هو عدم شعور الشخص بنفسه، ولا شيء من لوازم نفسه.

الثانية: أن نفسِّر الاتصال بالمعنى العرفاني، وهو الشهود، لا بالمعنى اللغوي، وهو اتّصال الذات بالذات؛ لأنّ هذا المعنى لا يُعْقَل في مقام البحث؛ إذ ذلك لا يكون إلاّ بين الجسمين. وبحَسَب هذا التفسير للفناء فنفس النبيّ والوليّ تكون فانيةً في العقل الأوّل بوجوده الرابطي، وبالتالي يشهد الوجود الرابطي للعقل الأوّل. وهذا المعنى للفناء يأتي على أساس أنّ نفوسهم تكون من تجلِّياته وإشراقاته في عالم الناسوت. ومراتب التجليّ مختلفةٌ؛ إذ تجلِّيه في نفس النبيّ أعظم من تجلِّيه في نفس الوليّ، على أساس أنّ النبيّ| أفضل من جميع الأئمّة^. فوجوده الرابطي في نفس النبيّ أقوى من وجوده الرابطي في نفس الوليّ. وهذا المعنى للفناء معقولٌ، إلاّ أنّه لا يوجب سَرَيان حكم العقل الأوّل إلى الجانب الروحي لوجودهم الناسوتيّ، وهو إفاضة الوجود إلى سائر المخلوقات؛ إذ الفناء حصل في الوجود الرابطيّ للعقل الأوّل، وهو فناءٌ عرفانيّ؛ فإذا كانت النفس فانيةً في العقل الأوّل ـ بمعنى عدم الشعور بإنّيتها ـ فتشهد العقل الأوّل، وبالتالي تشهد الله تبارك وتعالى؛ لأنّه باطنٌ للعقل الأوّل، فالله صار باطناً لباطن نفس النبيّ والوليّ. وهذا الشهود يكون بمقدار مقوِّمية العقل الأوّل لهذه النفوس. كما أنّ شهود الله ـ أيضاً ـ يكون بمقدار مقوِّميّة الله لهذه النفوس. وبالنتيجة نفس النبيّ والوليّ تتّصل بعالم الجبروت، ومن ثمّ بالله تبارك وتعالى، لا أنّها تتَّحد مع عالم الجبروت، كما يؤمن القائل بالولاية التكوينيّة بمعنى الوساطة في الفَيْض.

الفرق بين نفس النبيّ والوليّ ونفوس البشر

وبناءً على الاتصال بين النفوس القُدْسية والعقل الأوّل تكون نفس النبيّ والوليّ كباقي نفوس البشر. والفرق بينهما بأمرين:

الأوّل: إنّ نفوس بقية البشر تجلِّيات العقل الفعّال، الذي يسمِّيه أهل الشرع بـ (جبرائيل)؛ ونفس النبيّ والوليّ تجلّي العقل الأوّل، الذي يسمِّيه أهل الشرع بـ (النور المحمّدي|)، بحَسَب ما رُوي أنّه قال: «أوّل ما خلق الله نور نبيِّك، يا جابر»؛ وفي روايةٍ أخرى: «أوّل ما خلق الله العقل».

الثاني: إنّ نفوس بقيّة البشر تصل إلى مرتبة الفناء والاتّصال بالمجاهدة العلميّة والعملية؛ بينما نفس النبيّ والوليّ تصل إلى مرتبة الفناء والاتّصال بالعناية الإلهيّة.

والنفوس القُدْسيّة، التي لها قدرة الاتصال بالعالم العلويّ، يحصل لها كمالٌ في القوى الثلاث: 1ـ القوّة المُدْرِكة للكلِّيات، 2ـ القوّة المُدْرِكة للجزئيّات، 3ـ القوّة العمّالة.

فأمّا كمال القوّة المُدْرِكة للكلِّيات فبحصول صور حقائق الأشياء في نفوسهم بالحَدْس، لا بالفكر المكوَّن من حركتين: حركة من المجهول إلى المبادىء؛ وحركة من المبادىء إلى المطلوب. وفي الحَدْس تحصل المبادىء دفعةً واحدة، وبذلك ينكشف المجهول. وحصول الحَدْس لديهم ليس اكتسابياً، فيكون علمهم لَدُنيّاً، فيقف على كلّ ما يريد معرفته، وذلك من خلال الاتّصال بالعالم العلوي، فيكون علمه إراديّاً، لا علم ما كان وما يكون حضوريّاً؛ لأنّ هذا النحو من العلم يتوقَّف على الاتّحاد بالعالم العلويّ، وقد ثبت بطلانه.

وأمّا كمال القوّة المُدْرِكة للجزئيّات فإنّها إمّا قوّة باطنية، مثل: المتخيّلة، وكمالها قوّة تصوير الأشياء بالمتخيّلة. فمَنْ يرى في المنام الخضرة يصوِّرها بالحبّ، ومن يرى الحيّة يصوِّرها بالعداوة، ومَنْ رأى سبع بقرات عجاف يصوِّرها بسبع سنوات القحط؛ وإمّا قوّة ظاهريّة، مثل: الحواسّ الخمسة، وكمالها بقوّة الإحساس، بحيث تحسّ بعض الأشياء التي لا يحسّها الإنسان العادي، كما رُوي عن النبيّ|: «إنّي لأجد نفس الرحمن من قِبَل اليمن»([8])، و«زُويت لي الأرض، فأُرِيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْكُ أمّتي ما زُوي لي منها»([9])؛ وكما قال النبيّ يعقوب×: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُون﴾ (يوسف: 94). والنفوس القُدْسية ترى الأشياء المجرَّدة، وتسمع كلامهم. وهذه الأمور لا يمكن رؤيتها وسماعها للنفوس العادية؛ فالوجود الرابطي للعقل المجرّد ينزل من الباطن إلى الخيال، ومن الخيال إلى الباصرة، كما أنّ رسول الله| كان يرى جبرائيل بصورة دِحْيَة الكلبي، وكانت مريم÷ ترى جبرائيل بصورة شابٍّ أمرد([10]).

وأمّا كمال القوّة العمّالة فبأن تكون الهيولى الأولى في عالم الناسوت تحت إرادتهم، بحيث ينفي صورةً منها أو يفيض صورةً عليها في مقام إثبات حقٍّ، مثل: المعجزات؛ أو تثبيت موقع في النفوس، وإغاثة الملهوف، مثل: الكرامات. كما في النبيّ عيسى× الذي كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه؛ والنبيّ موسى× في العصا واليد البيضاء؛ والنبيّ إبراهيم× في قضيّة الطيور. فتكون في حالة الفناء والاتصال بالله إرادتهم إرادة الله، وقدرتهم قدرة الله؛ لاندكاكهم في الله.

وأمّا بقيّة النفوس فليس لهم هذه القدرة والإرادة؛ لاندكاكهم في الأنانيّة والإنِّية.

النتيجة

وهذه القدرة على التصرُّف في الأمور التكوينية ـ أثناء الاتّصال بالعقل الأوّل، وبالتالي الاتّصال بحقيقتهم النوريّة في الحضرة الأَحَديّة، التي هي التعيُّن الأوّل لذات الحقّ ـ هي الولاية التكوينية، التي تنشأ من الاتّصال بالعالم العلويّ. والولاية التكوينية بمعنى القدرة على التصرُّف هي ما نؤمن به([11])، لا الولاية التكوينية ـ بمعنى الواسطة في الفَيْض الإلهي ـ بالجانب الروحاني لوجودهم الناسوتي الجسماني. وأمّا وجودهم الدهري الروحاني، الذي يكون قبل عالم الناسوت، فلا مشكلة أن يكون له الولاية التكوينية بمعنى الواسطة في الفَيْض. وبذلك يمكن المصالحة بين المثبتين والنافين للولاية التكوينية ـ بمعنى الواسطة في الفيض الإلهيّ ـ؛ فالمثبتون قصدوا من الولاية التكوينية ولايتهم بوجودهم الدهري الروحاني، والنافون قصدوا منها ولايتهم بالجانب الروحاني لوجودهم الناسوتي الجسماني. وهذا هو التوفيق الصحيح بين المتنازعين.

الهوامش

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في لبنان (المعهد الشرعي الإسلامي). من أفغانستان.

([1]) عن جابر بن عبدالله قال: قلتُ لرسول الله|: أوّل شيءٍ خلقه الله تعالى ما هو؟ فقال: نور نبيِّك، يا جابر، خلقه الله، ثمّ خلق منه كلّ خير. (بحار الأنوار 15: 24).

([2]) بحار الأنوار 1: 97.

([3]) بحار الأنوار 54: 309.

([4]) نهاية الدراية 3: 418.

وقد صدر مثل هذا الكلام من السيد الخميني&، في التعليقة على الفوائد الرضوية: 56 ـ 57، حيث قال: «فمقام ولاية الله المطلقة مظهر اسم الله الأعظم، مفتتح سلسلة الوجود ومختتمها، وأوّلها وآخرها، فهي كنقطةٍ سيّالة في مراحل الوجود، منها البدوّ، وإليها الرجوع. وقوله×: «نحن صنائع الله، والخلق صنائع لنا» وإنْ كان يفيد الغاية؛ لمكان اللام، إلاّ أنّ الغاية والفاعل متّحدان، خصوصاً في الفواعل المقدّسة عن كدورة المادّة ولواحقها، كما هو المبيَّن في محلِّه، والمحقَّق عند أصحاب الحكمة المتعالية. فإذا كان لهم× مقام المشيئة المطلقة، وسائر الناس كتعيُّناتهم، كانت لهم القيّوميّة على الناس».

والسيد& استفاد من الرواية الشريفة الولاية المطلقة للأئمّة^ على أساس نقطتين:

الأولى: إنّ «صنائع» جمع صنيع، وهو مصدر صنَع بمعنى عمل. وهذا المصدر يكون بالمعنى المفعولي، وهو المصنوع، وعليه يكون معنى كلام الإمام×: نحن مصنوعون لله، والخلق ـ وهو عالم الخلق، أي عالم الشهادة ـ مصنوعٌ لنا.

الثانية: إنّ «لنا»؛ لمكان اللام، تدلّ على أنّهم علّةٌ غائية للخلق، لا علّةٌ فاعلية، فلا يثبت أنّهم علّة فاعلية لعالم الخلق. فيقول السيد&، ردّاً على هذا الكلام: إنّ العلّة الغائية هي عين العلّة الفاعلية؛ ولذلك قال صدر المتألِّهين&: «إنّك لو نظرْتَ حقّ النظر إلى العلّة الغائية وجَدْتَها في الحقيقة عين العلّة الفاعلية دائماً، إنّما التغاير بحَسَب الاعتبار». (الأسفار 2: 270). وبذلك استفاد السيد& من هذا النصّ أنّهم^ علّةٌ فاعلية لعالم الخلق، كما أنّهم علّةٌ غائيّة له.

ولا يمكن قبول هذا الدليل؛ لأنّ «صنائع» جمع صنيع أو صنيعة، والصنيع مصدر «صنع»، كما أنّ «الصُّنع» مصدرٌ له. وكلاهما يأتيان بالمعنى المفعولي، والصُّنع بالمعنى المفعولي هو كلُّ ما خُلق من شيءٍ، كقوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 88). وهذا المعنى المفعولي لهذا المصدر يثبت دعوى السيد&؛ لأنّه على هذا المعنى يكون مفاد الرواية: «نحن مخلوقون لله، والخلق مخلوقٌ لنا». إلاّ أنّ جمع هذا المصدر يكون «أصناع وصُنوع»، والرواية لم تقُلْ: «نحن أصناع الله أو صنوعه»، بل قالت: «نحن صنائع الله»، وصنائع جمع صنيع، والصنيع بالمعنى المفعولي هو كلّ ما عُمل من خيرٍ وجميل، كقولك: «لا أنسى صنيعك»، أي جميلك. وهذا المعنى فيما إذا كان الشيء صنيعاً للفاعل المختار؛ وأمّا إذا كان الشخص صنيعاً للفاعل المختار فمعناه المؤدّب بأدبه، كما قال صاحب محيط المحيط: «وهو صنيعي، أي الذي اصطنعته وربيَّته وخرَّجته»، وفي موضعٍ آخر قال: «اصطنع عنده صنيعة أي أحسن إليه وأدَّبه وربَّاه وخرَّجه». وذُكر في المعجم الوسيط: «ويُقال: فلانٌ صنيع فلانٍ: ثمرة تربيته، وربيب نعمته». ومن هنا يظهر أنّ فلاناً صنيع فلانٍ يعني المؤدّب بأدبه، والمربّى بتربيته. وعلى ضوء هذا المعنى عندما قال الإمام×: «نحن صنائع الله» يقصد أنّهم مؤدّبون بأدبه تعالى، ومُربَّون بتربيته. ولذلك رُوي عن النبيّ| أنّه قال: «أدَّبني ربّي فأحسن تأديبي». (بحار الأنوار 16: 212). وعندما قال: «والخلق صنائع لنا» يقصد من الخلق الناس؛ فإنّهم مؤدَّبون بأدبهم ومربَّون بتربيتهم. والرواية بهذا المعنى لا علاقة لها بالولاية المطلقة، بحَسَب تعبير السيد الخميني&، بل تدلّ على دَوْرهم التهذيبي للنفوس، وتربيتهم لها، وذلك بهدايتهم إلى الطريق الموصل إلى الله تبارك وتعالى. هذا هو المعنى الظاهر من النصّ فيما لو كان كما نُقل. وأمّا النصّ الموجود في نهج البلاغة فهو: «فإنّا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا». وفي هذا النصّ لا يُحتَمَل الولاية المطلقة؛ لأنّه لا يعقل أن تكون ذواتهم المقدّسة واسطةً في صنع الناس، دون بقية الموجودات في عالم الخلق؛ لأنّ الوساطة تكون من جهة كونهم في مرتبة العلّة لوجود هذا العالم، وهذه الجهة لا تقتصر على الناس، بل تكون بالنسبة إلى كلّ الموجودات في عالم الخلق. ومن قصر الصنائع لهم على الناس نكتشف أنّ هذه الرواية ليست بصدد إثبات كونهم عللاً فاعليّة للناس، بل بصدد بيان أمرٍ آخر يقتصر عليهم، وهو كونهم مؤدَّبين بأدبهم، فحينئذٍ لا يبقى في هذا النصّ مجالٌ للشكّ في ما استظهرناه من النصّ السابق.

وإضافةً إلى المعنى المتقدِّم، هناك معنىً آخر للصنيع، قد مرّ في كلام صاحب محيط المحيط: «اصطنع عنده صنيعةً أي أحسن إليه». كما أنّ المعجم الوسيط قال: «اصطنع عند فلانٍ صنيعةً: أحسن إليه». كما أنّ الشيخ الطريحي في مجمع البحرين قال: «واصطنعت عند فلانٍ صنيعةً: أحسنتُ إليه». وعلى ضوء هذا المعنى يمكن استفادة معنى آخر للنصّ المتقدِّم. ويتوقَّف بيانه على عدّة أمور:

الأمر الأوّل: إنّ الواسطة في الثبوت تأتي بمعنيين:

المعنى الأوّل: ما هو علّة لثبوت الوصف للموصوف في الواقع، كالنار بالنسبة للحرارة؛ فإنّها علّةٌ لثبوت الحرارة للماء.

المعنى الثاني: ما يتّصف بالوصف بالأصالة، وبواسطته يتّصف الشيء الآخر به بالتَّبَع، كالقدر على النار، فإنّه يتّصف بالحرارة بالأصالة، ويكون واسطةً في اتّصاف الطعام بها بالتَّبَع. والفرق بين المعنى الأوّل والثاني أنّ الوصف في المعنى الأوّل قائمٌ بالواسطة قياماً صدورياً، فتكون الواسطة علّةً له؛ بينما الوصف في المعنى الثاني قائمٌ بالواسطة قياماً حلوليّاً، كما أنّه قائمٌ بذي الواسطة قياماً حلوليّاً، غاية الأمر أنّ الواسطة تكون موصلةً الوصف إلى ذي الواسطة، فتتّصف به بالأصالة، وذو الواسطة يتّصف به بالتَّبَع.

الأمر الثاني: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ قال في حقّ موسى×: ﴿اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: 41)، أي اخترتُك لنفسي؛ للقيام بمهمّة هداية الناس.

الأمر الثالث: إنّ اللام تأتي بمعنى التعليل كقولك: «اعتراني الحزن لفراقك». وعليه، اللام في قول الإمام×: «الناس صنائع لنا» يعني بواسطتنا.

وبعد هذه الأمور، مع الالتفات إلى المعنى اللغويّ للصنيع ـ وهو مَنْ يُحسن إليه ـ، يظهر المعنى الآخر لقول الإمام×: «فإنّا صنائع الله»، يعني أنّ الله اصطنعهم لنفسه لأداء الرسالة الإلهيّة، فيُحسن إليهم برفع قَدْرهم ومنـزلتهم، ويتفضَّل عليهم بالكمالات المعنوية والفضائل، و«الناس صنائع لنا»، أي إنّ الله يتفضَّل عليهم بالإحسان إليهم برفع منـزلتهم، ويتفضَّل عليهم بالكمالات والفضائل بواسطتهم؛ لأنّ الناس بواسطتهم تصل إلى الخيرات، وأنّ طاعتهم يؤول إلى فعلها. وهذا المعنى يوافق الولاية المعنوية، التي آمن بها العلاّمة الطباطبائي&؛ إذ بحَسَب هذه الولاية للأئمّة× تكون لهم السلطة على الجهة المَلَكوتية في النفوس؛ من أجل اتّصالهم بعالم الأمر، فيُوصلون النفوس المستعدّة إلى غاياتها التكوينية من الدرجات المعنوية. وبالنتيجة يكون النبيّ| وآله الأطهار^ واسطةً بالمعنى الثاني للواسطة في الثبوت بالنسبة إلى الكمالات والفضائل للأمّة، لا الواسطة بالمعنى الأوّل بالنسبة إلى وجود عالم الخلق، حتّى تكون ذواتهم المطهَّرة عللاً فاعليّة، وبالتالي تكون واسطة في الثبوت للفيض، كما ذهب إليها السيد&. وعليه، فهذه المقولة لا تشير إلى وساطتهم الثبوتية لوجود هذا العالم، بل تدلّ على القدر والمنـزلة لهم عند الله، وتمتُّعهم بالكمالات المعنوية والفضائل، كما يُنبئ عن ذلك السياق؛ إذ قال×: «ولولا ما نهى الله عنه، من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكرٌ فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين»، ثمّ قال× هذه المقولة المشهورة.

هذا كلامنا بالنسبة إلى النقطة الأولى من بيان السيد الخميني&.

وأمّا كلامنا بالنسبة للنقطة الثانية فما قاله صدر المتألِّهين& من عينيّة العلّة الغائيّة للعلّة الفاعليّة دائماً غيرُ صحيحٍ؛ إذ هذه العينيّة ثابتة في الفاعل غير المستكمل بفعله، وسيأتي توضيحها في الهامش اللاحق.

([5]) كلِّيات علم الرجال: 420.

([6]) لا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ الواحد ينقسم إلى قسمين:

القسم الأوّل: الواحد الحقيقي، وهو ما اتّصف بالوحدة لذاته من دون واسطةٍ في العروض، كزيدٍ، فإنّه اتّصف بالوحدة لذاته.

القسم الثاني: الواحد غير الحقيقي، وهو ما اتّصف بالوحدة بواسطةٍ في العروض، كزيدٍ وعمرو المتحدين في الإنسان، الذي هو واحدٌ نوعيّ، وهما اتّصفا بالوحدة لأجل وحدة نوعهما، فصارا واحداً بالنوع. والوحدة في الواحد الحقيقي إمّا تكون صفةً للوجود أو صفةً للمفهوم.

أمّا الوحدة التي هي صفة الوجود فإمّا أن تكون صفةً لوجودٍ يمتنع فرض ثانٍ له، كالواجب تعالى، فتكون وحدته وحدةً حقيقية حقّة؛ وإمّا يمكن فرض ثانٍ له كبقيّة الموجودات، فتكون وحدته وحدةً حقيقيّة عددية. والواحد بالوحدة العددية إمّا يمتنع انقسامه، بحيث لا يمكن تبدُّله إلى الكثير، كما في المجرَّدات، فيمكن تسميتها بالوحدة الحقيقية الظلِّية، في مقابل الوحدة الحقيقية الأصلية للواجب تعالى، الذي تكون وحدته وحدةً حقيقيّة حقَّة، وإنْ كانت هذه التسمية على خلاف مصطلح العرفاء؛ فإنّهم يرَوْن أنّ الوجود المنبسط هو الواحد بالوحدة الحقيقية الظلّية؛ وإمّا لا يمتنع انقسامه، بل يمكن تبدُّله إلى الكثير، كما في المادّيات، فتسمّى بالوحدة الحقيقية الاتصالية.

وأمّا الوحدة التي هي صفةٌ للمفهوم فإمّا أن يكون المفهوم ماهويّاً، فإنْ كانت تامّةً، بحيث تمثِّل تمام الذات لأفرادها، تُسمّى بالوحدة النوعية؛ وإذا كانت غيرَ تامّةٍ، بحيث تمثِّل جزء الذات لأفرادها، تُسمى بالوحدة الجنسيّة. وأمّا الوحدة الفصلية فهي ملازمةٌ للوحدة النوعية، ولذلك لا تُعتبر قسماً برأسها. وإمّا أن يكون المفهوم عنوانياً، كمفهوم الوجود والإمكان، فتُسمّى بالوحدة العنوانية.

([7]) رُبَما يُقال: إنّ تلك العوالم العلوية فواعل بالتسخير، على قول المشائيين؛ وأمّا العرفاء فإنّهم يرَوْن أنّ عالم الجبروت فاعلٌ بالتجلّي. وعلى أساس هذه الرؤية ذهبوا إلى ما تقدَّم، من أنّ عالم الجبروت في بداية قوس النـزول له غاية في نهاية قوس الصعود، وهي النفس الإنسانية في مرتبة السرّ، فيتّحد ذو الغاية بالغاية عند انتهاء دائرة الوجود؛ لأنّ عالم الجبروت مجرّدٌ تامّ، ليس فاقداً لأيّ كمالٍ ممكنٍ له، فلا تُتصوَّر له غايةٌ زائدة على ذاته، فتكون الغاية عينُ ذاته؛ لأنّ الغاية الزائدة على ذات الفاعل تُتصوَّر في الفاعل المستكمل بفعله، كالنفس الناطقة المتعلِّقة بالأبدان.

وقبل الردّ على هذه المقولة لا بُدَّ من ذكر مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: إنّ الفعل الاختياري يصدر من الإنسان بمبادىء ثلاثة في القوى النفسانيّة، وهي: القوّة المدركة، والقوّة الباعثة، والقوّة الفاعلة.

الأوّل: المبدأ المتعلِّق بالقوّة المدركة هو العلم، من تصوُّر الفعل والتصديق بفائدته. وهذا هو المبدأ البعيد.

الثاني: المبدأ المتعلِّق بالقوّة الباعثة هو الشوق والإرادة. وهذا هو المبدأ المتوسِّط.

الثالث: المبدأ المتعلِّق بالقوّة الفاعلة هو القوّة المنبثَّة في العضلات. وهذا هو المبدأ القريب.

وإضافةً إلى هذه المبادىء الثلاثة في القوى النفسانية لا بُدَّ من فائدةٍ تترتَّب على الفعل؛ لأنّ النفس الإنسانية فاقدةٌ للكمال المتمثِّل بتلك الفائدة، فيحبّه، وبحبّه للكمال يحصل له شوقٌ إلى الفعل؛ لنيل ذلك الكمال المترتِّب عليه.

وبهذا يظهر أنّ الفعل الاختياري، إضافةً إلى المبادىء الثلاثة، يتقوَّم بالغاية التي تدعو الفاعل إلى الفعل. وفي الحقيقة الغاية ليست علّةً للفعل الاختياري؛ لأنّها بوجودها الخارجي مترتِّبةٌ على الفعل، والمتأخِّر لا يمكن أن يكون علّةً للمتقدِّم؛ وبوجودها الذهنيّ تؤثِّر في الفعل على نحو الشرطيّة، لا على نحو العلّة المؤثِّرة؛ فالعلّة المؤثِّرة هي حبّ الكمال المتمثِّل بالغاية. وبالنتيجة العلّة الغائية هي حبّ الكمال. فصارت المبادىء للفعل الاختياريّ أربعة: الأوّل: العلم، الثاني: الشوق والإرادة، الثالث: القوّة، الرابع: الحبّ للكمال المتمثِّل بالغاية، الذي يسري إلى الفعل. وهذه المبادىء يفترق بعضُها عن بعضٍ، ويفترق جميعها عن الفاعل في الفاعل المستكمل بفعله، مثل: النفس الناطقة المتعلِّقة بالبدن، ويتّحد الجميع مع الفاعل في الفاعل المجرّد التامّ؛ لمكان بساطة وجوده.

ولا بُدَّ من معنىً جامع لهذه المبادىء، غير ما هو موجودٌ في الفاعل المستكمل بفعله؛ حتّى تتحقَّق في الفاعل المجرّد. فالعلم هو حضور الفعل لدى الفاعل، أعمّ من أن يكون بصورته أو بنفسه. وهذا المعنى للعلم يشمل العلم الحصولي والعلم الحضوري، فيتحقَّق في الفاعل المستكمل بفعله، كالنفس الناطقة، وغير المستكمل بفعله، كالمجرّد التام. والشوق هو حبّ الفاعل لفعله، فيتحقَّق في الفاعلين. والإرادة هي اقتضاء الفاعل بما هو عالمٌ بفعله الملائم لذاته، فتتحقَّق في الفاعلين أيضاً. والقوّة هي المبدئيّة للفعل، فتتحقَّق في الفاعلين؛ إذ من الواضح أنّ أيّ فاعلٍ تكون له هذه المبدئيّة، وإلاّ لما صدر منه الفعل. وهذه المبدئية لا بُدَّ أن تكون عن إرادةٍ حتّى يكون الفعل اختياريّاً. والإرادة تتوقَّف على وصفين، هما: العلم؛ والحبّ. فالعلم في الفاعل المستكمل بفعله حصوليّ، ويكون زائداً على ذاته، وفي الفاعل غير المستكمل حضوريّ، ويكون عين ذاته. والحبّ في الفاعل الأوّل يتمثَّل بالشوق، والحبّ المتمثِّل به يكون زائداً على ذات الفاعل؛ وفي الفاعل الثاني لا يتمثَّل به، بل بنفسه يوجب اقتضاء الفاعل لفعله. والحبّ يكون عين ذاته، والإرادة في الفاعل الأوّل تتمثَّل بالشوق المؤكَّد أو القصد، والإرادة المتمثِّلة بأحدهما تكون زائدةً على ذات الفاعل؛ وفي الفاعل الثاني لا تتمثَّل بذلك، بل بنفسها توجب صدور الفعل. وهذه الإرادة تكون عين ذات الفاعل، وبذلك يكون الفاعل مريداً بالإرادة الذاتية. وبوصف العلم والحب تتمّ الإرادة ـ وهي اقتضاء الفعل ـ، وبها يصدر الفعل. وبهذا البيان يظهر الفرق بين الفاعلين في مبادىء الاختيار.

المقدمة الثانية: ونتيجةً لما تقدَّم فإنّ العلّة الغائية للفعل هي حبّ الفاعل لما يراه كمالاً له، سواءٌ أكان كمالاً حاصلاً قبل الفعل، مثل: الفاعل العلمي غير المستكمل بفعله؛ فليس له غايةٌ زائدة على ذاته، والعلّة الغائية له هي حبُّه للكمال، الذي هو عين ذاته، فيحبّ الفعل بتَبَع حبّه لذاته؛ لكونه أثراً له؛ أو كان كمالاً حاصلاً بعد الفعل، مثل: الفاعل العلمي المستكمل بفعله، فإنّ له غايةً زائدةً تُعتبر كمالاً له، والذي يحصل بفعله، والعلّة الغائية هي حبُّه لذلك الكمال، ويحبّ الفعل لأجل الوصول إلى ذلك الكمال. فالفعل في الصورتين مقصودٌ بالتَّبَع، والمقصود بالذات هو كمال الفاعل.

وعلى أساس هذه المقدّمة نردّ على المقولة السابقة ـ بأنّ عالم الجبروت فاعلٌ بالتجلّي، فلا تكون له غايةٌ إلاّ ذاته، فلا بُدَّ أن تكون نهاية قوس الصعود هي ذات عالم الجبروت، حتّى تتّحد الغاية مع ذي الغاية ـ، ونقول: إنّ العلّة الغائيّة هي حبّ الكمال في المجرّد التامّ، فإنّه عندما يعقل ذاته تكون ذاته حاضرةً لديه، وليست بغائبةٍ عنه، وهذا يعني أنّه يعلم بذاته ويحبّها. وإنّ حبّ الشيء يستلزم حبّ لوازمه وآثاره، فيحب الفعل بتَبَع حبّ ذاته، وبذلك حبّه لذاته بالأصالة حبٌّ لفعله بالتَّبَع، فيقتضي صدوره من حيث كونه عالماً به ومحبّاً له، فيصدر منه. وهكذا يثبت أنّ كون الفاعل المجرّد فاعلاً لغايةٍ لا يقتضي أن تكون تلك الغاية بعد صدور الفعل، حتّى يُقال: إنّ هذه الغاية هي ذاتها بعد الحركة الاستكمالية للنفس الإنسانيّة، وبالتالي تتَّحد الغاية مع ذي الغاية؛ إذ الغاية ليست علّةً لصدور الفعل، بل حبّ الغاية هو العلّة لصدور الفعل؛ لأنّه يسري منها إلى الفعل، وهذه العلّة موجودةٌ في الفاعل غير المستكمل بالنسبة إلى فعله في مرتبة ذاته، كما أوضَحْنا.

وبالنتيجة إمّا يكون عالم الجبروت فاعلاً بالتسخير، كما يقول به المشّاء؛ وتدلّ عليه الآيات الكريمة أيضاً، كقوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 27)، وكقوله تعالى: ﴿لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ (التحريم: 6)، إذ يُستفاد من هاتين الآيتين أنّهم فواعل بالتسخير ـ بمعنى الفاعل الذي يريد ما يريده الحقّ، ولا يمكن له مخالفته أصلاً ـ، أو فاعلاً بالتجلّي، كما يقول به العرفاء. وعلى كلا الفرضين لا يتمّ ما قالوه. إضافةً إلى إشكال الاستحالة العقليّة، الذي تقدَّم.

([8]) الحديث المشهور في ألسنة العرفاء. مسند أحمد 2: 154.

([9]) بحار الأنوار 18: 136.

([10]) وقيل: إنّها كانت تقيم في المسجد حتّى إذا حاضَتْ خرجَتْ منها، وأقامت في بيت زكريّا حتّى إذا طهُرَتْ عادَتْ إلى المسجد. فبينما هي في مشرفةٍ لها في ناحية الدار، وقد ضربَتْ بينها وبين أهلها حجاباً؛ لتغتسل، إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شابٍّ أمرد، سويّ الخَلْق، فاستعاذَتْ بالله منه. (الميزان في تفسير القرآن 14: 35).

([11]) إنّ المعجزات الصادرة من الأنبياء^ هي من الولاية التكوينية بالمعنى المتقدِّم. وتوضيح ذلك: يتمّ من خلال مرحلتين:

المرحلة الأولى: أنّ إذن الله هو بمعنى إرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ. ويثبت ذلك بعد بيان نقطتين:

النقطة الأولى: إنّ للعلّة التامّة المركَّبة ثلاثة أجزاء:

الأوّل: المقتضي، وهو ما يقتضي الوجود للمعلول. فمثلاً: النار مقتضٍ للإحراق؛ لأنّ الإحراق يتولَّد منها.

الثاني: الشرط، وهو متمِّم فاعلية الفاعل، الذي هو المقتضي، كالمماسّة للنار؛ فإنّ النار لا تؤثِّر بالفعل إلاّ بالمماسّة، فتكون متمِّمةً لفاعلية النار.

الثالث: عدم المانع، هو العدم المتمِّم لقابليّة القابل؛ إذ وجود المانع يمنع عن تأثير المقتضي في القابل. مثل: رطوبة الحطب، فالحطب وإنْ كان في حدّ ذاته قابلاً للاحتراق، إلاّ أنّ هذه القابليّة الذاتيّة لا بُدَّ أن ينضمّ إليها أمرٌ آخر؛ حتّى يتأثَّر الحطب بالفعل، ويقبل الإحراق، وهو عدم الرطوبة.

ومن هنا يظهر أن تأثير كلّ جزءٍ من أجزاء العلّة في المعلول يختلف عن تأثير الجزء الآخر؛ فالمقتضي يفيض الوجود، ويكون فاعلاً بمعنى ما به الوجود؛ والشرط يؤثِّر في فعلية التأثير للمقتضي؛ وعدم المانع يؤثِّر في فعلية القبول. فالشرط وعدم المانع يكونان مصحِّحين لفاعليّة الفاعل، فلا بُدَّ من افتراض المقتضي في رتبةٍ سابقة؛ حتّى يكون الشرط وعدم المانع مصحِّحين لفاعليته.

النقطة الثانية: الإذن هو الترخيص. وينقسم إلى قسمين:

1ـ إذن تشريعي: وهو ترخيصٌ ناشئ من عدم المنع الشرعي، كإذن الشارع بشرب التتن، بمعنى أنّه رخَّص بفعله. وهذا الترخيص نشأ من عدم الحكم بحرمته. وهذا الإذن تشريعيٌّ.

2ـ إذن تكويني: وهو ترخيص في تأثير السبب في المسبَّب، وذلك بعدم المانع التكويني، مثل: تأثير النار في الإحراق من جهة عدم المانع من تأثيرها في الإحراق. وهذا إذنٌ تكوينيّ لتأثيرها. وهذا المعنى يُستفاد من العلاّمة الطباطبائي& في (الميزان في تفسير القرآن 1: 79)، حيث قال: «فالأسباب تملكت السببيّة بتمليكه تعالى، وهي غير مستقلّةٍ في عين أنّها مالكةٌ. وهذا المعنى هو الذي يعبِّر سبحانه عنه بالشفاعة والإذن. فمن المعلوم أنّ الإذن إنّما يستقيم معناه إذا كان هناك مانعٌ من تصرُّف المأذون فيه. والمانع ـ أيضاً ـ يُتصوَّر فيما كان هناك مقتضٍ موجودٌ يمنع المانع عن تأثيره، ويحول بينه وبين تصرُّفه». وتوضيح هذا الكلام: إنّ في كلّ سببٍ مبدأً مؤثِّراً يقتضي التأثير في مسبَّبه. وهذا التأثير أعطاه الله ـ تبارك وتعالى ـ إيّاه، ومع ذلك لا يكون مستقلاًّ في التأثير، رغم كونه مالكاً له بتمليكٍ من الله؛ إذ يتوقَّف على إذنٍ منه بعدم حصول مانعٍ يمنع عن هذا التأثير، وبالتالي يحول بين السبب وحصول المسبَّب. وعليه، المسبَّب في حصوله يحتاج إلى أمرين: أوّلاً: إلى إرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ لتأثير السبب فيه؛ وثانياً: إلى الإذن في هذا التأثير. وعلى ضوء ذلك حمل العلاّمة الطباطبائي& الإذن في الآية الكريمة: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ على الإذن التكويني.

وإنّنا لا نوافقه على هذا التفسير؛ إذ القرآن الكريم يستخدم الإذن بمعنى الإرادة في حصول الأمور التكوينية. وأذكر نماذج من الآيات الكريمة في هذا المجال، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ (آل عمران: 166). وهذه الآية تتحدَّث عن إصابة المسلمين في أُحُد بإذن الله، أي بإرادته؛ وقوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ (سبأ: 12). هذه الآية تتحدَّث عمّا سُخِّر لسليمان بإذن ربّه، أي بإرادته؛ وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (آل عمران: 145). وهذه الآية تتحدَّث عن أنّ أيّ نفسٍ لا تموت إلاّ بإذن الله، أي بإرادته؛ وقوله تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ (إبراهيم: 23). وهذه الآية تتحدَّث عن نعيم الجنّة للصالحين بأنّه خالدٌ بإذن ربّهم، أي بإرادته.

والآيات التي تتحدَّث عن حصول الوقائع بإذن الله كثيرةٌ. والإذن في هذه الآيات بمعنى الإرادة؛ لأنّ هذه الآيات ليست ناظرةً إلى أسباب هذه الوقائع؛ حتى يُفسَّر الإذن بالترخيص في التأثير من جهة عدم المانع التكويني.

وأحياناً يُستخدم الإذن بمعنى الأمر في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾ (النبأ: 38). وهذه الآية تتحدَّث عن الملائكة بأنّهم يقومون بطاعة أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم بأمره يعملون. فالإذن يكون بمعنى الأمر.

وأحياناً يُستخدم الإذن بمعنى الترخيص فيه، كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59). وهذه الآية تتحدَّث عن التحليل والتحريم لرزق الله ـ تبارك وتعالى ـ، أنّ الله أذن لكم بذلك ـ أي رخّصكم في التحليل والتحريم ـ، أم على الله تفترون؟

هذه هي المعاني الثلاثة للإذن في القرآن الكريم. وبعد هذه المعاني نأتي إلى الأمور التي يتحدَّث عنها القرآن باعتبار حصولها من أسبابها. وهذه الآيات كثيرةٌ، ونحن نقتصر على آيةٍ واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: 102). وهذه الآية تقول: إنّ السحر لا يضرّ أحداً إلاّ بإذن الله. والسحر سببٌ خارق للعادة فيؤثِّر في الضَّرَر للناس؛ ولذلك المقطع السابق على هذا المقطع يتحدَّث عن تأثير السحر بقوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾. فإذْنُ الله في هذه الآية يمكن أن يكون باعتبار أنّ الله رخَّص في تأثير السحر في الضَّرَر؛ بعدم جَعْل مانعٍ تكويني يمنع من تأثيره، وبهذا الاعتبار يكون تأثير السحر بإذن الله ـ تبارك وتعالى ـ. وهذا هو المعنى الذي ذكره العلاّمة الطباطبائي& في تفسير الإِذْن. ويمكن أن يكون باعتبار أنّ تأثير أيّ شيءٍ في شيءٍ لا يكون إلاّ بإرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ؛ لأنّ كلّ ما نراه من آثار وخواصٍ للأشياء إنّما هي لمبادىء أودَعَها الله ـ تبارك وتعالى ـ في باطن الأشياء، ممّا يساهم في حدوث الظواهر في حركة الوجود في الكَوْن؛ فالنار إذ تحرق إنّما تحرق بالحرارة التي أودَعَها الله فيها، والسكِّين إذ تقطع إنّما تقطع بالحِدَّة التي أودَعَها الله فيها. وهذه المبادئ تؤثِّر في المسبَّب بإرادةٍ منه ـ تبارك وتعالى ـ. ولولا هذه الإرادة لما كانت مؤثِّرةً في المسبَّب. والشاهد على ذلك: نار إبراهيم×؛ فإنّها لم تؤثِّر في إحراقه؛ لعدم إرادة الله ذلك؛ والسكين في يده×؛ فإنّها لم تؤثِّر في القطع؛ لعدم إرادة الله ذلك. هذا بالنسبة إلى الأسباب الطبيعية الجارية على وفق العادة. ونفس الكلام يجري في الأسباب غير الطبيعية الخارجة عن العادة، سواءٌ كانت من الشرور، كالسحر والكهانة، أو من الخيرات، كالكرامات والمعجزات. ففي هذه الأسباب ـ أيضاً ـ مبدأٌ في نفوس مَنْ صدرت منهم هذه الخوارق للعادة؛ فمبدأ تأثير السحر في الشرّ يكون في نفس الساحر، ولذلك قالت الآية الكريمة: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾؛ ومبدأ المعجزات والكرامات يكون في نفوس الأنبياء والأولياء. ومجمل القول: إنّ تأثير أيّ سببٍ في مسبَّبه يكون بإذن الله، أي بإرادته. ومن بين هذين الاحتمالين نحن نستظهر الاحتمال الثاني للإِذْن في الآية الكريمة؛ لأنّ الآية تنظر إلى حصول الضَّرَر من حيث تأثير السحر فيه، فيكون التأثير ملحوظاً بنظرٍ إجماليّ، لا بنظرٍ تفصيليّ، حتى يُفكَّك تأثير السبب إلى تأثير مقتضٍ لوجود المسبَّب، وإلى تأثير عدم مانعٍ في فعلية تأثير المقتضي ـ الذي اعتبر ترخيصاً لتأثيره ـ. فإذا كان النظر إلى التأثير من حيث حصول المسبَّب منه فيكون المنظور هو التأثير الفعليّ الحاصل باجتماع جميع عناصر السبب. وهذا التأثير الفعليّ يكون بإذنه تبارك وتعالى، أي بإرادته ومشيئته، وبالتالي يؤثِّر السحر في الضَّرَر بإرادة الله تبارك وتعالى، كما أنّ عمل الأنبياء يؤثِّر في حصول المعجزة بإذن الله، أي بإرادته، ولذلك يُحْمَل الإِذْن في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (الرعد: 38) على نفس المعنى. ويتبيَّن ذلك في المرحلة التالية.

فتحصَّل مما تقدَّم أنّ إِذْن الله عادةً يعني إرادة الله تبارك وتعالى، سواءٌ كان بالنسبة إلى حصول الوقائع أو بالنسبة إلى تأثير السبب.

المرحلة الثانية: إنّ للأنبياء الولاية التكوينية بمعنى القدرة على التصرُّف في الأمور التكوينية؛ فإنّ الآية الكريمة قالت: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾. وقد استُعمل في هذه الآية أفعالٌ، مثل: «أبرئ» و«أحيي»، بضمير المتكلِّم، والأفعال بضمير المتكلِّم تدلّ على أنّها من عمل الأنبياء أنفسهم. وهنا يُطرح سؤالٌ: كيف تكون تلك الأفعال الخارقة عملاً لهم؟، فقد بيَّنت الآية بمقطعها الأوّل ذلك، حيث قال: ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ﴾. ففي هذا المقطع كون الطين طيراً ترتَّب على النفخ بقصد أن يكون طيراً، وهذا الترتُّب يدلّ على تأثير النفخ بذلك القصد في صيرورته طيراً. والكلام نفسه يجري في إبراء الأكمه، مسحُ عيسى× يده على عينَيْ الأكمه بقصد الإبراء يُبرئ الأكمه، وترتُّب الإبراء على مسح اليد بقصده يعني أنّه مؤثِّرٌ فيه. وهكذا إبراء الأبرص، وضعُ عيسى× يده على جلد الأبرص بقصد الإبراء يُبرئه، وترتُّب الإبراء على وضع اليد بقصده يعني أنّه مؤثِّرٌ فيه. وهكذا في قصّة إبراهيم×، فالآية الكريمة تقول: ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً﴾ (البقرة: 260)، ففي هذا المقطع الإتيان سعياً ترتَّب على دعائهنّ بقصد الإحياء، وهذا يدلّ على أنّ الدعاء بهذا القصد مؤثِّرٌ في الإحياء. وباعتبار ترتُّب هذه الأفعال الخارقة للعادة على أعمالهم المقترنة بالقصود صارت تلك الخوارق عملاً لهم.

وأمّا ما قيل في تفسير الآية السابقة بأنّ النبيّ عيسى× استُخدم في هذه المعاجز كأداةٍ ووسيلةٍ لتنفيذ الإرادة الإلهية فغيرُ مقبولٍ؛ أوّلاً: لأنّه على خلاف ظاهر الآية؛ وثانياً: لأنّه لو كانت المعجزة حاصلةً بإرادة الله تبارك وتعالى مباشرةً، والنبيّ يكون مجرّد أداةٍ له من دون تأثيرٍ في حصولها للزم أن يكون فيه سبحانه جهةٌ وجهةٌ؛ فمن جهةٍ يكون علّةً لهذه المعجزة، ومن جهةٍ أخرى يكون علّةً لتلك المعجزة؛ للسنخية بين العلّة والمعلول، والحال أنّه تبارك وتعالى بسيطٌ، من دون تكثُّر جهةٍ، ولا تعدُّد اعتبارٍ، كما ثبت في محلّه، فراجِعْ.

وفي المحصّلة، من خلال الآيات الكريمة عرَفْنا أنّ النفخ بقصد صيرورة الطين طيراً يؤثِّر فيها، والمسح بقصد الإبراء يؤثِّر فيه، والدعاء بقصد الإحياء يؤثِّر فيه. وبما أنّ النفس الإنسانية بتلك القصود المقترنة بالأعمال في حدّ ذاتها لم تكن مبدأً للتأثير في تلك الآثار فلا بُدَّ من القول بأنّ الله أودع في نفس عيسى× خاصّيةً، بحيث متى نفخ في الطين بقصد أن يكون طيراً كان نفخه بهذا القصد موجباً لصيرورته طيراً؛ وهكذا متى مسح يده على عينَيْ الأكمه بقصد الإبراء كان مسحه بهذا القصد موجباً لأن يبرأ؛ وهكذا إبراهيم× قد أودع الله في نفسه خاصّيةً، بحيث متى دعا المَيْت المقطوع بقصد الإحياء كان دعاؤه بهذا القصد موجباً لصيرورته حيّاً. وقد فُسِّرت هذه الخاصّية بالكمال الذي منحه الله تبارك وتعالى لنفوس الأنبياء^، بحيث تصدر منهم كثيرٌ من الخوارق. وهذا التفسير يُستفاد من الشهيد مطهَّري& في (ولاء وولايتها: 84). وعليه، تكون نفس النبيّ× تتوفَّر على المقتضي ـ وهو القدرة ـ، وعلى الشرط ـ وهو الإرادة المقترنة ببعض الأعمال ـ، وحينئذٍ يكون صدور المعجزة منه بإذنٍ من الله بالمعنى الذي تقدَّم من العلاّمة الطباطبائي&؛ إذ لا يتحصَّل له معنىً إلاّ إذا افترَضْنا أنّ الشخص المأذون يتوفَّر على المقتضي والشرط لإتيان المعجزة، ولم يبْقَ سوى الإذن الإلهيّ.

ولكنّنا لا نوافق على هذا التفسير للخاصّية؛ أوّلاً: من جهة تفسير الإذن بالترخيص التكويني. وقد تقدَّم الردّ عليه آنفاً؛ وثانياً: إنّ المقصود من الكمال الممنوح لنفوس الأنبياء^ هو القدرة الخارقة للعادة التي وَهَبها الله تبارك وتعالى لنفوسهم، مثل أيّ شيءٍ آخر في الوجود له قدرةٌ مستمدّة من عند الله؛ فتكون مؤثِّرة في تلك الخوارق بإذنه تعالى، أي بإرادته. فحينئذٍ يَرِدُ عليه أنّ هذه الآثار الخارقة المعدودة في الآيات الكريمة لا تدلّ على أنّ الله تبارك وتعالى منحهم القدرة الخارقة، بحيث يستطيعون أن يُنْجِزوا بها ما يريدون إذا اقتضى الأمر، حتّى تثبت لهم الولاية التكوينية؛ إذ يمكن أن يُقال: إنّ الله وَهَبهم القدرة الخارقة على هذه الأمور المعدودة فقط؛ لتقوّي واقع الرسالة، كما في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لدى عيسى×؛ أو لتردّ كيد الكفار وتهدم كيانهم، كما في فَلْق البحر بعصا موسى×؛ أو لتؤدّي إلى الاطمئنان، كما في إحياء دعاء إبراهيم× للطيور المقطَّعة، فتنتهي القدرة إلى هذا الحدّ، فتكون بمثابة قضيّةٍ في واقعة. ومع هذا الاحتمال لا تثبت القدرة على تغيير ما يريدونه في الكون، التي هي الولاية التكوينية.

وأمّا من وجهة نظرنا فهذه الخاصّية في نفوس الأنبياء^ هي حالة الاتّصال بعالَم الأمر؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى أودع في نفوس رُسُله قابليّة الاتّصال بذلك العالَم؛ والدليلُ على ذلك الآيةُ الكريمة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً﴾ (الفرقان: 21)؛ إذ هذه الآية تدلّ مطابقةً على أنّ المنكرين للمعاد ـ وهم المشركون ـ يتذرَّعون بأنّه لماذا النبيّ وحده تنـزل عليه الملائكة أو يرى الله، ولا تنـزل علينا الملائكة؛ لنراهم رأي العين؛ ليخبرونا بأنّ محمّداً| نبيٌّ؛ أو أن نرى ربَّنا بأعيننا حتّى لا يبقى شكٌّ ولا شبهةٌ في وجوده؟ وتدل إشارةً على أنّ نزول الملائكة ورؤيتهم، أو رؤية الله تعالى بالمعنى الذي يدَّعيه الأنبياء^ ـ وهو الرؤية القلبية التي هي الشهود ـ، لا يتأتّى إلاّ لبعض الأفراد؛ إذ النفوس ليست كلّها بمستوىً واحدٍ، بل توجد نفوسٌ خاصّة، أهّلها الله تعالى لهذه الدرجة الرفيعة، بحيث ترى الله، وتتّصل بالملائكة المقربين وعالَم الأمر، وهي نفوس الأنبياء. فثبت أنّ لهم أهليّة الاتّصال بعالَم الأمر. وهذا العالَم كما كان مصدراً للقوّة في «قوّتهم المُدْرِكة»، كما تقدَّم في المتن، كذلك يكون مصدراً للقوّة في «قوّتهم العاملة»، بحيث إذا اقتضى الأمر أن يتدخَّلوا في عالم الطبيعة يمكنهم التصرُّف فيه بأيّ نحوٍ شاؤوا، وهذا يعني الولاية التكوينية. وفي حال الاتصال قصودهم المقترنة بتلك الأعمال تُحْدِث ما يُعتَبَر خارقاً للقوانين الطبيعية، بالاستعانة بعالَم الأمر. وهذا يعني أنّ نفوسهم القُدْسيّة ليست مؤثِّرةً إلاّ بتأثيرٍ من عالَم الأمر، فتكون نفوسهم مجرى تأثير ذلك العالَم، إلا أنّ تأثيره يكون بإرادتهم المقترنة ببعض الأعمال، فيتوقَّف حصول الأمور الخارقة على إرادتهم، المقترنة ببعض الأعمال. كما أنّه يتوقَّف على قدرة عالَم الأمر. وبالنتيجة لا تكون نفوسهم القُدْسيّة بالقدرة المعطاة لهم مؤثِّرةً في الأمور الخارقة للعادة بإذنٍ من الله، كما كان على التفسير الأوّل للخاصّية، بل تؤثِّر فيها بعونٍ من عالَم الأمر، الذي هو أمر الله، بحَسَب تفسير بعضٍ كلمة (الأمر) به في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82). وأمره هو إرادته الفعلية. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ﴾، أي بأمره وإرادته. وبذلك يمكن القول بأنّ المعجزة من عمل الأنبياء؛ لقيامها بإرادتهم المقترنة ببعض الأعمال، كما هي من عمل الله تبارك وتعالى؛ لأنّها تتمّ بأمره وإرادته الفعلية، التي هي عالَم الأمر. ومن هنا يظهر أنّ إضافة النقطة الأخيرة ـ وهي تفسير الخاصِّية بالاتّصال ـ، على ما استفَدْناه من الآيات الكريمة، ضروريّةٌ؛ لإثبات الولاية التكوينية للأنبياء. وهذه الخاصِّية موجودةٌ في نفوس الأولياء أيضاً؛ بدليل الإنّ، وهو الكرامات الصادرة منهم. وبالنتيجة: كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء تكون من هذا العالَم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً