الشيخ حسنين الجمّال(*)
الخلاصة
الهَدَف من هذا المقال هو بيان الأُسُس التي يُبْنَى عليها فهم النصّ، على طبق رؤية السيد محمد باقر الصدر. لذا، كان من المناسب البحث في إشكالية فهم النصّ عند علماء الأصول الشيعة، وعند الهرمنيوطيقيين الغرب؛ لاستكشاف المباني التي قدّموها، والإشكالات التي واجهوها؛ ثمّ نقف بين يدي الشهيد الصدر، لنرى المباني التي قدّمها كمفتاحٍ لحل إشكالية فهم النصّ. وقد تجنّبْتُ الإطالة والتفصيل وبيان الأمثلة، لا سيَّما في بيان إشكالية فهم النصّ، فكتبتُها بأسلوبٍ مكثَّف، مُرجِعاً إلى المصادر التي اعتمَدْتُ عليها، بحيث يمكن للباحث أن يتابعَ ما شاء من تفصيلات أجمَلْتُها، ويعثرَ على الأمثلة التي اختزَلْتُها؛ ولم أعقد فصلاً لبيان مباني الغرب في المقام، بل أشَرْتُ إليها في طيّات البحث بشكلٍ مختصر جدّاً؛ لأن المراد في هذا المقال تسليط الضوء على مباني الشهيد الصدر.
وقد خلصْتُ إلى ستّة مبانٍ عند السيد الصدر، أشَرْتُ في الهوامش إلى بعض تطبيقاتها المذكورة في كلماته.
مقدّمةٌ
يُعدّ النصّ الديني عند المسلمين مصدراً من مصادر المعرفة، وله دائرته الخاصة، حيث يمكن الاستفادة منه في إنتاج المعرفة. ولمّا كان من الواضح عدم صحّة فهم هذا النصّ بشكلٍ فوضوي، كان لا بُدَّ من آليّةٍ لهذا الفهم. ولا يخفى أن أيّ آليّةٍ لفهم النصّ الديني سوف تستند في مرحلةٍ سابقة على مبانٍ أساسية لا بُدَّ من تنقيحها.
والبحث في هذه المباني له ارتباطٌ وثيق بعلم الأصول؛ إذ المدَّعى أن علم الأصول منطقٌ لفهم النصّ الديني، وباحثٌ عن القواعد اللازمة في فهم هذا النصّ. ولمّا كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر أحد أبرز أعلام هذا العلم في الحقبة الأخيرة لعلم الأصول ارتأَيْنا أن نخوض غمار هذا البحث بين يدي هذا المفكِّر العظيم، لنرى ما اشتمل عليه من أفكار ومبانٍ في عملية فهم النصّ.
ومرادنا من المبنى في هذا البحث هو: كلّ ما يقوم عليه فهم النصّ؛ وبعبارةٍ أخرى: هي اللبنات الأولى التي يعتمد عليها كلّ مَنْ يواجه نصّاً بهدف فهمه وتفسيره.
وعلى هذا الأساس، يخرج من دائرة بحثنا القضايا المرتبطة بآليات فهم النصّ، كالعلاقة بين اللفظ والمعنى، وأنواع الاستعمال، ودلالات الكلام التصوُّرية والتصديقية، وأبحاث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، وما شاكل.
ومرادنا من النصّ هو خصوص النصّ الديني عند الشيعة الإماميّة، المتمثِّل بالقرآن الكريم وروايات المعصومين^.
وقد بحثْتُ في كلمات الأصوليين الشيعة والهرمنيوطيقيين الغرب لأتابع سَيْر تطوُّر إشكالية فهم النصّ عندهم، حتى أستكشف أهمّ الأسئلة والإشكاليات التي واجهوها، ثمّ أقرأ كتابات الشهيد الصدر بخلفيّة الباحث عن آثار هذه الأسئلة وأجوبتها وما يحوم حولها. لذا، رتَّبْتُ هذه المقالة على أربعة مباحث:
1ـ إشكالية فهم النصّ عند علماء الأصول الشيعة.
2ـ إشكالية فهم النصّ عند الهرمنيوطيقيين الغربيين.
3ـ مباني الشهيد الصدر كمفتاحٍ لحلّ إشكاليّة فهم النصّ.
4ـ وقفةٌ تحليلية مع مباني الشهيد الصدر.
1ـ إشكاليّة فهم النصّ عند الأصوليّين الشيعة
من خلال ملاحظة أهمّ الكتب الأصوليّة عند الشيعة([1])، منذ الشيخ المفيد(413هـ) إلى الآخوند الخراساني(1329هـ)، يمكن الوقوف على النتائج التالية:
1ـ اتّفق أصوليو الشيعة على إمكان فهم النصوص الشرعية؛ بينما فصَّل الإسترآبادي ـ وهو من الأخباريين([2]) ـ بين إمكان فهم بعض السنّة وبين عدم إمكان فهم القرآن الكريم دون الرجوع إلى السنّة، التي يمكن فهمها([3]).
2ـ ذهب الشيخ الإسترآبادي إلى قطعية دلالة أكثر النصوص الدينية([4])، بينما مال أغلب الأصوليين ـ الذين تتبَّعنا كتبهم ـ إلى كونها ظنيّةً.
3ـ وقفوا عند بحث ظواهر القرآن الكريم؛ فذهب بعضهم إلى اختصاص فهم بعض آياته بالمخاطَبين في ذلك الزمان؛ بينما تجاوز بعضٌ آخر هذه المعضلة([5]).
4ـ التفتوا في أواخر القرن الحادي عشر الهجريّ إلى مسألة تغيُّر العُرْف، وعدّوا مباحث الألفاظ حلاًّ لها([6]).
5ـ بيَّن بعض الأصوليين([7]) سبب قطعية الدلالة عند القدماء ـ بحَسَب رأيه؛ إذ خالفه في هذه النسبة بعضٌ آخر من الأصوليين([8]) ـ، فعزاها إلى قربهم من عصر صدور النصّ، وكثرة القرائن الموجِبة لهذا القطع.
6ـ توجد مسألةٌ مُلفتةٌ، وهي أن الأصوليين بشكلٍ عامّ لمّا واجهوا مشكلة ظنية دلالة النصوص لم يقعوا في حَيْصَ بَيْصَ، بل حلّوها مباشرةً. والسرُّ في ذلك أنهم يعلمون قطعاً بتوجُّه تكاليف شرعية نحوهم، ولا يجوز لهم ترك العمل بها، فإنْ لم يتيسَّر لهم اليقين والقطع فعليهم باتّباع الظنّ ـ مع تفصيلٍ بين الظنّ الذي دلّ الدليل على اعتباره أو لا ـ. وبعبارةٍ أخرى: نظرُ الأصوليين إلى مسألة المنجِّزية والمعذِّرية، أي مسألة الثواب والعقاب، فجُلُّ همِّهم ـ حَسْب ما يبدو لنا ـ هو ملاحظة النصوص لأجل معرفة التكليف الشرعيّ والأمر الإلهيّ المتوجِّه نحوهم([9]). وعلى هذا الأساس، لم يلتفتوا إلى هذه الإشكالية في النصوص التي لا معنى للحجِّية فيها، كالنصوص الحاكية عن حقائق تكوينيّة ـ مثلاً ـ، والتي لا تشتمل على تكاليف إلهيّة؛ أي التي لا تشتمل على ما يجب أن يُعمَل. فالنصوص الحاكية عن الحقائق التكوينية والقصص التاريخية والقضايا الاعتقادية غيرُ داخلةٍ تحت هذا الحلّ، إلاّ إنْ كان لها جهةٌ يترتَّب عليها عملٌ. وبالتالي لا بُدَّ من معالجة هذه المشكلة في مثل هذه النصوص.
إذن، يتّضح أن الأصوليين الشيعة، في هذه الحقبة التاريخية، بين مَنْ يعتقد بإمكان فهم النصّ الديني فَهْماً قطعيّاً ومَنْ يعتقد بأن أغلب النصوص الدينية ظنّية الدلالة، فلا يمكن القطع بمراد المتكلِّم. وهذا أيضاً لم يشكِّل أزمةً عندهم؛ لأن الهمّ عندهم كان التنجيز والتعذير، الذي لا تضرّه ظنّية الدلالة.
وبالتالي، إلى هذه الفترة الزمنية، أي قبيل: السيد محمد باقر الصدر، لم يُلتَفَت إلى كثيرٍ من الأسئلة التي تعرَّض لها الغرب في مباحث فهم النصّ، التي تعرّضوا لها في المباحث الهرمنيوطيقية.
وسوف نشير في ما يلي إلى أهمّ هذه الأسئلة، ثمّ ندخل إلى البحث الأساس في هذه المقالة، وهو بيان المباني التي تُستَنْبَط من كلمات الشهيد الصدر كمفتاحٍ لحلّ إشكاليّة فهم النصّ.
2ـ إشكاليّة فهم النصّ عند الهرمنيوطيقيّين الغربيّين
من خلال الاطّلاع على أهمّ مدارس الهرمنيوطيقا في العالم الغربي([10]) يمكن الوقوف على تساؤلاتٍ مهمّةٍ مرتبطة بإشكالية النصّ الديني ـ وإنْ كان بعضها أعمّ من النصّ الديني ـ، ورتَّبوا عليها بعض المباني في فهم النصّ.
وبيانه بشكلٍ مفصَّل يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ، لكنْ سأشير بنحوٍ مكثَّفٍ لهذه المباني ضمن عرضي لتلك التساؤلات، فهي التي يهمُّنا ذكرها تمهيداً للمبحث الآتي، حتّى نرى هل تعرّض السيد محمد باقر الصدر لها، وقدّم إجاباته، أم لا؟
ومن جهةٍ أخرى، إن عَرْضَ هذه التساؤلات نفسَه أمرٌ مهمّ؛ إذ يحرِّك عجلة البحث الأصولي الشيعي، فيتصدّى الباحثون للإجابة عنها، أو لبيان عدم أهمّية التعرُّض لها.
وكيفما كان فهذه التساؤلات هي:
1ـ هل يمكن الوصول إلى فهمٍ للنصّ مطابق لمراد المؤلِّف أم أن غاية ما يمكن فعله هو الاقتراب من مقصود المؤلِّف؟ وهذا ما اختلف الباحثون الغربيّون في الجواب عنه بين مؤيِّدٍ([11]) ومعارضٍ.
2ـ هل الأصل في كلّ فهمٍ هو سوء الفهم؛ وبعبارةٍ أخرى: هل المفسِّر دائماً في معرض سوء الفهم؟([12]).
3ـ هل يجب النفوذ إلى ذهنية المؤلِّف ونفسيّته حتى نصل إلى فهمٍ وتفسيرٍ صحيحَين؟([13]).
4ـ هل النصّ أمرٌ تاريخي، بالمعنى المصطلح للتاريخية أو التاريخانية؟([14]).
5ـ لو كان النصّ تاريخيّاً فهل يمكن العبور عن هذا المانع والتخلُّص منه؟ هذا أيضاً محلّ جَدَلٍ بين علماء الغرب، بين مؤيِّدٍ ومعارضٍ.
6ـ هل يمكننا تفريغ الفهم أو التفسير من كلّ الأحكام المسبقة والقبليات المعرفية؟([15]). وهل عدم إمكان ذلك أمرٌ مضرّ بعملية الفَهْم والتفسير، بحيث لا يمكننا الوصول إلى مراد المؤلِّف؟
7ـ تتفرَّع عن الأحكام المُسْبَقة والقبليات المعرفية عمليةُ انصهار الآفاق([16])، حيث يكون الفهم عبارةً عن دَمْج أُفُق المفسِّر والمؤلِّف. لكنْ هل الفهم عبارةٌ عن حوارٍ بين النصّ والقارئ؟([17]). وهل هذا يعني أنه لا يكون الفهم كاشفاً عن مراد المؤلِّف؟
8ـ هل الحوار بين النصّ والقارئ، على نحو الدَّوْر الهرمنيوطيقي الذي بيَّنه غادامر([18])، يستمرّ إلى ما لا نهاية؟
3ـ مباني الشهيد الصدر مفتاحٌ لحلّ إشكاليّة فهم النصّ
أشَرْنا فيما سبق إلى إشكالية فهم النصّ عند الأصوليين الشيعة، كما ذكَرْنا أهمّ الأسئلة الهرمنيوطيقية ـ المرتبطة بفهم النصّ ـ عند الغربيين، وسنحاول في هذا المبحث أن نرى هل التفت السيد الشهيد محمد باقر الصدر إليها، كلاًّ أو بعضاً، أم لم يلتفت إليها أساساً، أو أغفلها كغيره من الأصوليين، أم أنه ـ مضافاً إلى ذلك ـ التفت إلى أسئلةٍ جديدة؟ وما هي المعالجات التي قدَّمها؟
وفي سبيل معرفة ذلك كانت لي جولةُ مطالعةٍ في كتابات الشهيد الصدر، فعثَرْتُ على المباني التالية، التي يمكن تقديمها كمفاتيح لحلّ إشكاليات فهم النصّ الديني، وهي:
1ـ إمكان فهم النصّ.
2ـ الظهور الذاتي والظهور الموضوعي.
3ـ ملاحظة المعصومين^ على أنهم واحدٌ.
4ـ القبليات الضرورية لفهم النصّ.
5ـ القبليات المضرّة في فهم النصّ.
6ـ الحوار بين المفسِّر والنصّ.
أـ إمكان فهم النصّ
النصّ الديني الإسلامي مكوَّنٌ من أمرَيْن: القرآن الكريم؛ وروايات المعصومين^. أما بالنسبة إلى الروايات فقد اتفق العلماء، ومنهم: الشهيد الصدر، على وجود المقتضي لفهمها([19]). وأما بالنسبة إلى إمكان فهم القرآن الكريم فقد اختلفت كلمات علماء الشيعة؛ فذهب بعضهم إلى عدم إمكان الاستناد إلى الآيات القرآنية؛ لعدّة أسبابٍ ذكروها ـ كعدم انعقاد ظهور للآيات القرآنية، أو عدم حجِّيتها ـ؛ بينما ذهب بعضٌ آخر إلى إمكان ذلك.
والشهيد الصدر هو من العلماء الذين قبلوا إمكان الاستناد إلى الآيات القرآنية وفهمها، بل استخراج النظريات منها. فمضافاً إلى استشهاده بالآيات القرآنية في كتاباته وأبحاثه([20])، تراه قد استدلّ على ذلك بعددٍ من الأدلّة، نذكر منها:
1ـ روايات التدبُّر([21]): فالتدبُّر في القرآن فرع فهمه، كما هو واضحٌ.
2ـ هدف القرآن: يعتقد الشهيد الصدر أن التأمُّل في أهداف القرآن الكريم ورسالته يُفضي إلى ضرورة أن يكون هذا الكتابُ السماويّ ممكنَ الفهم([22]).
3ـ إعجاب البلغاء العرب بالقرآن الكريم([23]): وهذا فرع فهمهم للقرآن الكريم، ولو في الجملة.
4ـ روايات العرض على القرآن الكريم([24]): فعرضُ الرواية على القرآن الكريم؛ للأخذ بما يوافقه وردّ ما يخالفه، فرعُ إمكان فهم القرآن الكريم.
نعم، قد يُدَّعى وجود مانعين في المقام، يمنعاننا من فهم الروايات ـ بل بعض الآيات القرآنية أيضاً ـ، وهما: اختصاص الفهم بمَنْ قُصد إفهامه؛ واختصاص الفهم بالمعاصر لزمن صدور النصّ.
أمّا المانع الأوّل فقد تجاوزه الشهيد الصدر من خلال استعراض مناشئ الشكّ بالنسبة إلى غير المقصود بالإفهام في مراد المتكلِّم. فبعد أن استعرض الشهيد خمسة مناشئ للشكّ، ذهب إلى أن حجِّية الظهور بالنسبة إلى غير السامع ممَّنْ لم يقصد إفهامه متوقِّفةٌ على إبراز حيثيات كشفٍ مبرَّرة عند العقلاء؛ لنفي تلك الاحتمالات الخمسة بشأنه، ولا يكفي مجرّد القول بالرجوع إلى أصالة عدم القرينة، من دون إبراز تلك الحيثيّات؛ وهذه الحيثيّات موجودةٌ فعلاً في كلّ واحدٍ من تلك الاحتمالات الخمسة. وقد بيَّن ذلك مفصَّلاً في بحوثه الأصولية([25]).
وأما المانع الثاني([26]) فلمّا كان الهدف هو استكشاف معنى النصّ في عصر صدور الخطاب، لا في عصر الوصول، حاول الأصوليون التوسُّل بأصالة عدم النقل؛ للإجابة عن هذا المانع. لكنّ الشهيد الصدر طرح «أصالة عدم التغيُّر في اللغة» و«أصالة ثبات اللغة» بَدَلاً منها؛ فهي أنسب؛ لأنّ المتغيِّر في اللغة ليس فقط خصوص الظواهر الأفراديّة التي تنقل من معنىً إلى معنىً آخر، بل قد تتغيَّر ظواهر الجمل التركيبيّة، من باب تغيُّر السياق، لا من باب النقل المخصوص بباب الوضع والظهورات التصوُّرية. والدليل على هذه الأصالة هو بناء العقلاء بناءً عامّاً ارتكازيّاً على أصالة الثبات في اللغة، وأنّ التغيير حالةٌ استثنائيّة لا يُعتَنَى باحتمالها. وهذا الارتكاز حصل لهم كنتيجةٍ خاطئة للتجربة، حيث إنّ كلّ فردٍ منهم رأى بحَسَب تجربته في الفترة القصيرة من الزمن عدم تغيُّر اللغة عادةً، وكون تغيُّرها حالةً استثنائيّة، ممّا أوحى إليه ارتكاز أنّ هذا مقتضى طبيعة اللغة بحَسَب عمود الزمان الطويل. وهذا تعميمٌ عُرْفي لا منطقيٌّ لتجربةٍ عاشها كلّ فردٍ من أفراد العُرْف. ومظاهر هذا الارتكاز العامّ، أي ارتكاز عدم تغيُّر اللغة عادةً، وإنْ كانت لا تظهر في باب الحجِّية بالنسبة إلى المَوالي الآخرين غير الشارع؛ لعدم وجود مَوالٍ وعبيد يتحقَّق بين زمانهما فصلٌ طويل، لكنّها تظهر في مجال أغراضهم ومقاصدهم. فمثلاً: لو كان بين أيديهم وصيّةٌ مات موصيها، فإنهم يعملون بما يستظهرون منها، ولو كان ثمّة مسافةٌ تاريخيّةٌ طويلة بين موت الموصي وبين قراءتهم للوصيّة وعملهم بها.
وبما أنّ هذا البناء من قِبَل العقلاء يشكِّل خطراً على أغراض الشارع يكون عدمُ ردعه عنه دليلاً على إمضائه. وفعليّة هذه السيرة وخَطَرها على أغراض الشارع إنْ كانت متأخِّرةً عن زمن الشارع فهذا لا يمنع عن لزوم الردع عنها على تقدير عدم رضاه بها؛ فإنّ الالتفاتَ إلى أنّه سيكون أمرٌ من هذا القبيل، أو على الأقلّ احتماله، أمرٌ طبيعيّ.
هذا، مضافاً إلى أنّه قد تحقَّقَتْ هذه السيرة، وتحقَّق الخطر بالفعل في زمن المعصوم×؛ إذ إنّ المتشرِّعة كانوا يعملون بظواهر النصوص المأثورة عن المعصومين الأوائل^، مع أنّ الفاصل الزمنيّ بين رسول الله| والهادي والعسكريّ’ فاصلٌ طويل، وتلك الفترة الزمنيّة فترةٌ متطوِّرة من النواحي الاجتماعيّة والفكريّة والمادّية، ولم يكن ثمّة رادعٌ أو مانعٌ من قِبَل الأئمّة^، وعدمُ الردع دليلُ الإمضاء.
وليس هذا إمضاءً لأصالة الثبات في المقدار الثابت في زمن المعصوم من احتمال التطوّر فقط، حتّى يقال: إنّ التطوّر في اللغة قد اشتدّ في زماننا بطول المدّة، بل هذه السيرة سنخُ سيرةٍ يكون السكوتُ عنها إمضاءً لنكتتها. ولا يُراد بإمضاء النكتة إمضاءُ خطأ العقلاء في تخيُّلهم أنّ المدّة الطويلة كالمدّة القصيرة في الثبات النسبيّ للّغة، كي يقال: إنّه لا يعقل من الشارع إمضاء الخطأ، وإنّما المراد بإمضائها البناء على أصالة عدم التغيُّر التي هي النكتة لعملهم، وإمضاؤها لا يلزم إمضاء مبانيها، فمبانيها وإنْ كانت خاطئةً، لكنّ الشارع رأى بحكمته البالغة أنّ إرجاع الناس إلى أصالة عدم التغيُّر أصلح من إرجاعهم إلى مرجعٍ آخر، فأمضى الأصل.
ب ـ الظهور الذاتي والظهور الموضوعي
ميَّز الشهيد الصدر بين نوعين من أنواع الظهور، وهما: الظهور الذاتي؛ والظهور الموضوعي([27]).
فالظهور الذاتي هو الظهور الحاصل في ذهن إنسانٍ معيّن، والمتأثِّر بالظروف الشخصية للذهن، التي تختلف من فردٍ إلى آخر، بحَسَب أُنْسه الذهني. فهذه الظروف الخاصة بإنسانٍ ما، والتي لا يشترك فيها مع أبناء نوعه، قد توجب في بعض الأحيان علاقةً خاصة بمعنىً محدَّدٍ غير المعنى الذي يفهمه أبناء العُرْف العامّ من اللفظ، فيحصل عنده ظهورٌ لمعنىً من لفظٍ ما، على خلاف الظهور الحاصل عند أبناء العُرْف.
أما الظهور الموضوعي فهو الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العامّ. ويُسمّى هذا الظهور بالظهور الموضوعيّ؛ بسبب وجود واقعٍ موضوعيّ محدَّدٍ يكون مبرِّراً لهذا الظهور؛ وهذا الواقع هو الوَضْع([28]). كما أن هذا الظهور يُسمّى بالظهور النوعيّ؛ لأن أبناء النوع، أي أبناء العُرْف والمحاورة، يفهمونه؛ فهو ظهورٌ مشترك بينهم، بل مشتركٌ أيضاً بينهم وبين كلّ مَنْ يجري على وفق الأساليب العامّة في التعبير.
ويعتقد الشهيد الصدر أن موضوع الحجِّية في بحث حجِّية الظهور هو الظهور الموضوعي، دون الظهور الذاتي.
إشكالٌ وجواب
وهنا يرِدُ إشكالٌ إلى الذهن، التفت إليه الشهيد الصدر، ومفادُه: إنْ كان الظهور الذاتي هو ما يتبادر إلى ذهن الفرد وينسبق إليه، ويتأثَّر بما سبق، فكيف لنا أن نصل إلى الظهور الموضوعي؟
ويجيب الشهيد الصدر بأنه لو لاحظنا العقلاء لوجَدْناهم يجعلون ما يتبادر وينسبق إلى ذهن كلّ شخصٍ أمارةً وكاشفاً عن الظهور الموضوعي المشترك عند أبناء العُرْف؛ لأن هذا الانسباق مسبَّبٌ عن أحد أمرَيْن:
ـ إما أن يكون بسبب الوَضْع([29])؛
ـ وإما أن يكون بسبب عوامل خاصّة به أدَّتْ إلى حصول أُنْسٍ ذهني عنده بين اللفظ وبين معنىً خاصّ تابعٍ لهذه العوامل.
وعلى هذا الأساس، لو فحص الإنسان، ولم يجد عوامل خاصّة يفسِّر بها ذلك الانسباق، انتفى السبب الثاني، فيتعيَّن السبب الأوّل. وبالتالي يكون الظهور الذاتي، بعد الفحص، أمارةً على الظهور الموضوعي([30]).
شبهةٌ وردّ
لكنّ هذا لا يحلّ تمام المشكلة؛ إذ ثمّة إشكالٌ آخر مفادُه: سلَّمْنا أن الظهور الذاتي كاشفٌ عقلائي عن الظهور الموضوعي، لكنّ الظهور الذاتي للمفسِّر في زمنه كاشفٌ عن الظهور الموضوعي في نفس الزمن، لا عن الظهور الموضوعي في زمن صدور النصّ؛ طبعاً مع فرض اختلاف الزمنين، كما هو الحال في عصرنا.
وقد أجاب الشهيد الصدر عن هذا الإشكال([31]) من خلال الاستفادة من أصلٍ عقلائيّ يُسمّى بـ «أصالة عدم النقل»([32])، والشهيد الصدر يُسمّيه بـ «أصالة الثبات في اللغة». فهذا الأصل العقلائيّ يحكي عن استقرار اللغة وثباتها بنظر الأفراد، فيعمد العقلاء بناءً على هذا الأصل إلى إلغاء احتمال تغيُّر الظهور بين زمنٍ وزمنٍ؛ لأنه احتمالٌ ضئيلٌ وحالةٌ استثنائيّة.
وهذا الأصل العقلائي ليس تعبُّدياً، بل هو كاشفٌ عند العقلاء عن ثبات اللغة عند احتمال التغيُّر والتبدُّل. وهذا الجواب قد تقدَّم بشكلٍ أكثر تفصيلاً في المانع الثاني.
ج ـ ملاحظة المعصومين(عليهم السلام) على أنهم واحدٌ
هذا المبنى مهمٌّ جدّاً في قراءة النصّ الديني الروائي عند الشهيد الصدر. وله بُعْدان:
1ـ عصمة النبيّ| والأئمّة^([33]): وهذا ما يترتَّب عليه أثرٌ مهمّ في فهم الروايات، وهو استحالة وقوع التعارض بين كلماتهم. ففي هذه الحالة لا بُدَّ أن يُحْمَل التعارض على أنه تعارضٌ بدوي، ثم يُصار إلى حلِّه بإحدى طرق علاج التعارض.
2ـ اشتراك الأئمّة^ في الهدف: يعتقد الشهيد الصدر أنه يجب أن ندرس حياة الأئمّة^ بنحوٍ مجزّأ ومستقلّ، وهذا مهمٌّ لإنجاز دراسةٍ كاملة وقراءةٍ كلِّية عنهم^. فلا بُدَّ من دراسة حياة كلّ إمامٍ على حدة، وبنحوٍ مجتزأ، وإلى أوسع حدٍّ ممكن، ونلاحظ أهدافه ونشاطاته، حتّى نتمكَّن بعد ذلك من دراستهم^ ككلٍّ، فنستخلص الدَّوْر المشترك([34]) للأئمّة^([35]).
ولا يخفى ضرورة هذا الاتجاه ـ بنظر السيد الشهيد ـ لفهم النصوص الدينية وما تحكي عنه، بل لولاه قد نقع في اشتباهاتٍ وأخطاء في الفهم([36]).
د ـ القَبْليات الضروريّة لفهم النصّ
المراد من القبليات الضرورية هو العلوم والميول التي نحتاج إليها لفهم النصّ. ولن نفرِّق هنا بين القبليات التي يتوقَّف عليها الفهم الصحيح والقبليات التي يتوقَّف عليها الفهم الأعمق والأكمل([37]).
ومن خلال مطالعة آثار الشهيد الصدر يمكننا العثور على جملةٍ من هذه القبليات، أهمّها:
1ـ الفهم اللغويّ.
2ـ إطار النصّ التاريخيّ والفكريّ.
3ـ الارتكاز الاجتماعيّ.
4ـ المستوى المعرفي للمفسِّر.
1ـ الفهم اللغويّ
وهذه من القبليات الضرورية لفهم النصّ، أيّ نصٍّ كان. ففي مثل النصّ القرآنيّ لا بُدَّ من الإلمام باللغة العربية؛ فالقرآن نزل بها([38]).
والاطّلاع على قواعد المحاورة العُرْفية مندرجٌ ضمن هذه القبلية، فهو ضروريٌّ أيضاً في مقام فهم النصّ. ولا أرى حاجةً للتفصيل في هذه القبلية؛ إذ قد فصّل الشهيد الصدر ـ كغيره من الأصوليين ـ هذا البحث في مباحث الألفاظ من علم أصول الفقه، كما صرَّح بأهمِّيتها في بعض كتبه([39]).
2ـ إطار النصّ التاريخيّ والفكريّ
يجب على المفسِّر أن يفهم النصّ ضمن الظرف الذي صدر فيه، ومع ملاحظة إطاره الخاصّ، فيجب أن لا يُخْرِج النصّ عن إطاره وظرف صدوره، ثم يفسِّره.
وهذا الإطار للنصّ قد يكون تاريخيّاً؛ وقد يكون فكريّاً:
الإطار التاريخيّ للنصّ
ينفع الإطار التاريخي للنصّ في فهم الكلمات والعبارات المستَخْدَمة في النصّ؛ إذ لا بُدَّ من فهمها على ضوء الإطار التاريخي الذي صدرَتْ فيه، وعلى أساس القرائن التاريخية الحافّة بصدور النصّ. وهذا ما يشير إليه الشهيد الصدر، حيث يذكر عدّة نماذج لهذا الإطار، نذكر منها:
1ـ أسباب صدور النصّ.
2ـ العادات والتقاليد.
3ـ الجوّ الفكريّ السائد.
أـ أسباب صدور النصّ
تُعدّ أسباب صدور النصّ، أو المعروفة بـ (أسباب النزول)، من القبليات التي من الضروريّ الاطّلاع عليها؛ حتّى يُفهم النصّ ضمن إطاره الصحيح. وهذا غير مختصٍّ بالنصّ القرآني، بل يمكن سريانه في العديد من النصوص. وقد أشار الشهيد الصدر إلى هذا النموذج، بوصفه مُعِيناً على الفهم الإجماليّ للنصّ القرآني([40]).
كما يوضِّح الشهيد الصدر في موضعٍ آخر الفائدةَ من التعرُّف على أسباب النزول؛ حيث يعتقد بأهمّيتها في فهم مدلول الآية ومفادها، ومساهمتها في الاطلاع على نكات بعض العبارات والأساليب المستَخْدَمة في الآية؛ إذ ثمّة ارتباطٌ وثيق بين الآية وبين ظرف نزولها([41])([42]).
قد يُتَوهَّم([43]) أنه إذا عرَفْنا سببَ النزول فإن الآية تقيَّد به فقط. وبعبارةٍ أخرى: قد يُقال: إذا نزلت الآية بسببٍ خاصّ فإن هذه الآية ستختصّ بهذا المورد، ولا يصحّ فَهْمها بشكلٍ أوسع من هذا السبب.
لكنه مدفوعٌ بأنه لو كان اللفظ المذكور في الآية عامّاً فالعبرة هي بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وعلى هذا الأساس، لا يصحّ تقييد المدلول القرآني بسبب النزول الخاصّ، بل يُؤخَذ بعموم لفظه. والسرُّ في ذلك برأي الشهيد الصدر أن دَوْر سبب النزول هو الإشارة إلى محلّ الكلام، لا أنه يخصِّص الكلام بهذا المورد. ويضيف الشهيد الصدر بأن عادةَ القرآن الكريم هي إنزالُ الأحكام والتعاليم بسبب الوقائع والأحداث، حتى يكون البيان القرآنيّ أشد تأثيراً في نفوس المسلمين، وأكثر أهمِّية بنظرهم، وإنْ كان مضمونه عامّاً شاملاً لموارد أخرى.
ب ـ العادات والتقاليد
أما النموذج الثاني من نماذج القبليات المرتبطة بالإطار التاريخيّ فهو العادات والتقاليد السائدة في زمن صدور النصّ. فقد لا تكون هذه العادات هي السبب في صدور النصّ، لكنْ قد يكون المتكلِّم ناظراً إليها، أو مستفيداً من بعض المفردات التي لا يمكن فهمها إلاّ بعد الاطلاع على العادات والتقاليد.
وفي ما يرتبط بفهم النصّ القرآنيّ يشير الشهيد الصدر إلى أن فهم العادات والتقاليد العربية يساعد على فهم القرآن أيضاً، ولو على مستوى الفهم الإجماليّ؛ إذ يوجد بعض المفردات التي يمكن فهمها من الناحية اللغوية، لكنْ لمّا كانت مشيرةً إلى عاداتٍ وتقاليد فإنه لا يمكن الوصول إلى دَرْك معنى هذه المفردات بشكلٍ صحيح؛ بسبب تشبُّعها بمعانٍ مرتبطة بهذه العادات، فلا يفهمها إلاّ مَنْ كان يعيشها أو المطَّلع عليها([44]).
ج ـ الجوّ الفكريّ السائد
وأما النموذج الثالث من قبلية الإطار التاريخيّ للنصّ فهو عبارةٌ عن الجوّ الفكري السائد أثناء صدور النصّ. ويجب على المفسِّر الاطّلاع عليه؛ حتّى يستطيع أن يفهم مفردات النصّ بشكلٍ صحيح. وهذا ما ذكره الشهيد الصدر عندما تعرَّض للطائفة الثالثة من الروايات التي ادُّعي دلالتها على عدم حجِّية القرآن، وهي التي نهَتْ عن تفسير القرآن بالرأي، فأبدى الشهيد الصدر احتمالاً لمعنى الرأي، قوّى أن يكون هو المراد. وهذا المعنى استفاده من خلال ملاحظة الإطار التاريخي للنصّ([45]).
وقد أكَّد الشهيد الصدر على هذه الملاحظة في موردٍ آخر؛ حيث ذكر أن بعض الصحابة كانوا لا يستوعبون النصّ القرآنيّ؛ بسبب عدم اطّلاعهم على الملابسات والأمور التي يجب أن يُقْرَن بها النصّ القرآني([46]).
الإطار الفكريّ للنصّ
هذا في ما يرتبط بالإطار التاريخي. أما الإطار الفكري للنصّ فالمراد به النظام الفكري الحاكم عند المؤلِّف أو المتكلِّم، والذي ينعكس في خطابه ونصِّه. فلو كان النصّ المدروس والمراد تفسيره نصّاً إسلاميّاً فلا يحقّ للمفسِّر أن يدرسه على ضوء أُطُر فكرية غير إسلامية، بحيث يؤوّل النصّ إذا كان لا ينسجم مع أُطُره الفكرية. وقد عبَّر الشهيد الصدر عن تفسير النصّ من خلال إخراجه عن إطاره الفكري بـ «دمج النصّ ضمن إطار خاصّ»([47]). ولذا يؤكِّد الشهيد الصدر على ضرورة فهم النصّ القرآني ودراسته ضمن إطاره الفكريّ الإسلاميّ([48]).
ثمّ يبيِّن الشهيد الصدر المبرِّر العلمي لضرورة هذه القبلية، فيرى أن الموقف العلميّ يقتضيها؛ لأن هذا الإطار الفكري ينعكس سلباً وإيجاباً على فهم التفاصيل. فلا بُدَّ من فهم الإطار الفكريّ للنصّ بشكلٍ صحيح حتّى تنجح عمليّة فهم النصّ وتفسيره([49]).
وهذا النحو من القبليات قد يتقاطع مع فكرة النفوذ إلى ذهنية المؤلِّف، التي ذهبت إليها الهرمنيوطيقا الرومانسية مع شلايرماخر؛ ولا سيَّما أنّ الشهيد الصدر صرَّح بأنه عبارةٌ عن اندماجٍ في القرآن([50]). وهذا ما سنشير إليه مرّةً أخرى في الوقفة التحليلية في آخر هذا المقال.
3ـ الارتكاز الاجتماعيّ
ثمّة فرقٌ بين المدلول اللغوي ـ أو اللفظي ـ للنصّ ومدلوله الاجتماعيّ. وصحيحٌ أن الفقهاء، أثناء ممارستهم لعملية الاستنباط الفقهية، يعتمدون على عنصر الفهم الاجتماعي، إلى جانب اعتمادهم على الجانب اللفظي للدلالة، إلاّ أنهم غالباً ما لا يفكِّكون بينهما، ولا يبيِّنون حدود كلّ عنصرٍ منهما.
وقد سعى الشهيد الصدر، تَبَعاً للشيخ محمد جواد مغنيّة([51])، إلى أن يسلِّط الضوء على الجانب الاجتماعيّ، ويبيِّن دَوْره في فهم النصّ.
بيان الارتكاز الاجتماعيّ
الشخص الذي يحاول فهم النصّ لا يمكنه أن يصل إلى معناه النهائيّ اعتماداً على الدلالات اللفظية فقط ـ سواء كانت وضعيّةً أو سياقيّةً ـ؛ لأنه شخصٌ عاش الحياة الاجتماعية مع سائر العقلاء، وبالتالي له ذهنيّةٌ موحَّدة معهم، مضافاً إلى ذهنيّته الخاصّة. وهذه الذهنية المشتركة بينه وبين سائر العقلاء في مجتمعه تشكِّل أساساً لمرتكزاتٍ عامّة في مجالاتٍ عديدة، منها: المجال التشريعي والتقنيني. وهذه المرتكزات العامّة تُسمّى عند الفقهاء بـ «مناسبات الحكم والموضوع».
وهي في الحقيقة تُعبِّر عن ذهنية مشتركة وارتكازٍ تشريعي عامّ، تُفْهَم على ضوئه النصوص بنحوٍ أوسع أو أضيق من الدلالة اللغويّة. وهذا هو المراد بالفهم الاجتماعي للنصّ([52]).
مبرِّر الاعتماد على الارتكاز الاجتماعيّ في فهم النصّ
يعتقد الشهيد الصدر أن المبرِّر للاعتماد على الارتكاز الاجتماعيّ في فهم النصّ هو مبدأ أو قاعدة «حجِّية الظهور»([53]).
وعلى هذا الأساس، يكون الارتكاز الاجتماعيّ للنصّ مساهماً في تكوُّن ظهور النصّ في معنىً محدَّد؛ فيصبح هذا الظهور حجّةً.
وإنْ قلتَ: إنه ثمة فرقٌ بين الظهور اللغوي والظهور الاجتماعي للنصّ، فسيرة العقلاء تدلّ على حجِّية الظهور اللغويّ، دون الظهور الاجتماعيّ، أو لا أقلّ من الشكّ، فنقتصر على القدر المتيقَّن؛ لأنها دليلٌ لبِّي.
حينئذٍ يقول لك الشهيد الصدر: المتكلِّم بوصفه فرداً لُغَويّاً يُفْهَم كلامه فهماً لُغَويّاً؛ فيصبح الظهور اللغويّ حجّةً عند العقلاء. وكذلك الأمر، فهذا المتكلِّم نفسه، بوصفه فرداً اجتماعيّاً، يُفْهَم كلامه فهماً اجتماعيّاً. وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم([54]).
ثم إنه لا يُشْكَل على الشهيد الصدر بأن مبناك في الفهم الاجتماعي للنصّ هو نفس القياس الذي ثبتَتْ حرمته في الفقه الجعفري؛ إذ الجواب واضحٌ؛ فالفهم الاجتماعي الذي بيَّنه الشهيد الصدر لا يعدو أن يكون عملاً بظهور النصّ، وحين تُعمَّم الفكرة المذكورة في النصّ إلى فكرةٍ أخرى لم تُذْكَر فيه فإنه لا يكون من باب القياس، بل من باب الاعتماد على الارتكاز الاجتماعيّ؛ وبعبارةٍ أخرى: هذا الارتكاز الاجتماعي شكَّل قرينةً لظهور النصّ في الحكم العامّ، الذي ينطبق على المورد المذكور في النصّ وعلى ما لم يُذْكَر فيه([55]).
نتيجة هذا المبنى
يعتقد الشهيد الصدر أنه توجد مشكلةٌ كبيرة في الفقه، تُحَلّ اعتماداً على هذا المبنى. أما المشكلة فهي كون الكثير من الأحكام قد بُيِّنَتْ على طريقة السؤال والجواب؛ فالراوي يسأل الإمام× عن مسألةٍ، والإمام× يجيبه؛ وغالباً ما يسأل الرواة عن حالاتٍ خاصّة يحتاجون إلى معرفة حكمها، فيأتيهم جواب الإمام× وفقاً لحدود سؤالهم، فيبيِّن الحكم ضمن الحالة المسؤول عنها. فلم تُبيَّن أغلب الأحكام ابتداءً، وبشكلٍ دستوريّ مقنَّن.
فإذا اقتصَرْنا في استنباط الحكم من النصّ على الفهم اللغويّ فحَسْب كانت النتيجة أن الحكم الذي نستفيده هو حكمٌ خاصّ بتلك الحالات الخاصّة بالسائل. مع أننا قد نكون واثقين من أن الإمام× قد بيَّن الحكم بنحوٍ أوسع وأشمل من تلك الحالة الخاصّة، غايته أن ظرف بيان هذا الحكم الواسع كان حين السؤال عن حالةٍ خاصة. وبالتالي لو فهمنا النصّ فهماً اجتماعيّاً حينئذٍ سنكون أقرب إلى واقع الحدود المحتَمَلة لتلك الأحكام التي بيَّنها الإمام×([56]).
4ـ المستوى المعرفيّ للمفسِّر
ذهبت بعض الاتجاهات الفكرية([57]) إلى كفاية الإلمام بالقواعد اللغوية؛ لأجل الوصول إلى فهمٍ صحيح للنصّ. ويبدو أن الشهيد الصدر لا يكتفي بهذا المقدار؛ بمعنى أنه يعتبر الإلمامَ بالقواعد اللغويّة فقط غيرَ كافٍ للوصول إلى فهمٍ صحيح للنصّ، وإنْ كان أمراً ضروريّاً ولازماً.
فصحيحٌ أن القرآن الكريم تميَّز بلغته العربية الفصيحة البليغة، بل وصل فيها إلى حدّ الإعجاز، ولم يخرج عن الإطار اللغويّ العامّ للغة العربية في ذلك العصر، ممّا أثار إعجاب البلغاء والفصحاء في ذلك الوقت؛ لكنّ هذا لا يعني أن المعاصرين للوَحْي كانوا يفهمون النصّ القرآني بتمامه وكماله. نعم، كانوا يفهمونه بنحوٍ عامّ وإجمالي، لكنْ لم يَرْقَ فهمه إلى مستوى الفهم التامّ والكامل، بحيث يستوعبون كلّ مفرداته وتراكيبه، ويدركون ما يدلّ عليه اللفظ القرآني من أحكام ومفاهيم.
والسرّ في ذلك أمور:
الأمر الأوّل: إن مجرّد كون الشخص من أبناء اللغة، ومُلمّاً بها، لا يعني أنه مطّلعٌ عليها اطّلاعاً شاملاً، بل هذا يعني فَهْمه للغة بالقَدْر الذي يدخل في حياته الاعتيادية. وهذا الأمر فعلاً ليس داخلاً بقوّةٍ في هذا المبحث، بل اللبّ في الأمر الثاني.
الأمر الثاني: لا يتوقَّف فهم الكلام القرآني على الاطلاع على اللغة، واستيعاب المعلومات اللغوية، بل لا بُدَّ ـ مضافاً إلى ذلك ـ من وجود استعدادٍ فكريّ خاصّ عند المفسِّر والقارئ، ولا بُدَّ من أن يتمتَّع المفسِّر بمستوىً عقليٍّ يتناسب مع مستوى الكلام والمعاني الملقاة في هذا النصّ القرآني. وعلى هذا الأساس، صحيحٌ أن العرب في ذلك الوقت كان لديهم القدرة اللغويّة التي تمكِّنهم من فهم الأساليب اللغويّة، واستيعاب المدلولات اللغويّة للفظ القرآني، لكنّ ذهنيَّتهم لم تكن بالمستوى الذي يؤهِّلهم لاستيعاب المعاني القرآنية بنحوٍ تامّ([58]).
ومن هنا يتَّضح لنا التفات الشهيد إلى أمرٍ في غاية الأهمِّية في عملية فهم النصوص، وهو المستوى الفكريّ والمعرفي للمخاطَب([59]).
الأمر الثالث: إنه لا يكفي في عملية فهم النصّ القرآني ملاحظة جملةٍ قرآنية أو مقطعٍ قرآنيّ محدَّد، بل قد نحتاج إلى ملاحظة سائر الجُمَل والفقرات، والمقارنة بينها، وتحديد ظروف نزول الآية.
فانطلاقاً من هذه الأمور الثلاثة يتّضح أن عملية فهم النصّ القرآني دراسةٌ «لها قريحتها، وشروطها الفكريّة الخاصّة، وراء الفهم اللغويّ الساذج»([60]).
ويؤكِّد الشهيد الصدر على عدم كفاية الاطّلاع على اللغة لأجل فهم النصّ القرآني، من خلال الإشارة إلى أن طبيعة الأشياء تدلّ هذا الأمر، وتؤيِّده الوقائع التاريخية الكثيرة. فالكثير من الصحابة كانوا لا يستوعبون النصّ القرآنيّ، ولا يفهمون معناه؛ إما لجهلهم بالمعنى اللغوي للمفردة القرآنية؛ وإما لعدم وجود استعدادٍ فكريّ يتيح لهم فهم المدلول الكامل للآية؛ أو لفصل الآية عن القرائن الحافّة بها([61]).
إشارةٌ وتنبيه
في إطار هذا النوع من القبلية ـ أي المستوى المعرفي للمفسِّر ـ يندرج الإلمام بالتجارب البشرية؛ فهذا يجعل المفسِّر يفهم القرآن بشكلٍ أفضل. وهذا قد أشار إليه الشهيد الصدر أيضاً؛ فهو التفسير الموضوعي، حيث يجلس جلسة المُحاوِر للقرآن، وذهنُه مليءٌ بالتجارب البشرية([62]).
هـ ـ القبليات المضرّة في فهم النصّ
تقدَّم الحديث عن القبليات الضرورية في عمليّة فهم النصّ، لكنْ يوجد بعض القبليات المضرّة في فهم النصّ؛ وهي تلك الطائفة من المعارف والميول التي تؤثِّر بنحوٍ سلبي في فهم النصّ. فيعمد المفسِّر أو القارئ إلى إعمال هذا النوع من القبليات وإسقاطها على النصّ، دون الاعتماد على قرينةٍ أو دليلٍ يبرِّر له هذه العملية الفَهْمية.
والمطالعُ لكلمات الشهيد الصدر وكتبه يجده قد حذَّر من عددٍ من هذه القبليات المضرّة، أهمّها:
1ـ إسقاط الأفكار المُسبَقة على النصّ.
2ـ اتخاذ موقفٍ مُسبَق من النصّ.
3ـ الأُنْس بمطلبٍ علميّ.
1ـ إسقاط الأفكار المُسبَقة على النصّ
القبلية المضرّة الأولى التي أشار إليها الشهيد الصدر هي: إسقاط الأفكار المُسبَقة على النصّ المراد فهمه أو تفسيره. ويمكن التعبير عن هذه القبلية بـ (التفسير بالرأي) أيضاً([63]). وقد أبدى الشهيد الصدر موقفه السلبيّ تجاه هذا النوع من التفسير، حيث عدَّه من أشنع الأعمال، وأشار إلى أنه مساوقٌ لتحريف الحقائق([64]).
ولتتّضح هذه القبلية أكثر نشير إلى عددٍ من الأمثلة التي تعرَّض لها الشهيد الصدر، حيث يظهر منها خطورة إعمال هذا النوع من القبليات:
أـ مقاييس المستشرقين
في مقام بيان الشروط التي يجب توفُّرها في المفسِّر أشار الشهيد الصدر إلى نوعٍ من القبليّات المُضِرّة في عملية التفسير والفهم، بحيث تؤدّي إلى فهمٍ منحرف وخاطئ عن النصّ. ومثَّل بالمستشرقين الذي يعتمدون مقاييس محدَّدة لدراسة أيّ كتابٍ أو نتاج بشريّ، ثم يحكِّمون هذه المقاييس على القرآن الكريم، ممّا يؤدّي إلى وقوعهم في الاستنتاجات الخاطئة. وسبب هذه الأخطاء هو إسقاطهم تلك المقاييس على النصّ القرآنيّ، دون دليلٍ أو مبرِّر معرفي([65]).
ب ـ القبليات الذهنية عند بعض المسلمين في عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله)
وهو ما ذكره الشهيد الصدر عند حديثه عن التفسير في عصر الرسول|. فبعد أن بيَّن أن الفهم الإجمالي للقرآن لم يكن كافياً لكي يفهم الصحابة القرآن فهماً دقيقاً وشاملاً، كما لم يكن انتساب الصحابة غالباً إلى اللغة العربية ضماناً كافياً لاستيعاب النصّ القرآني، وإدراك معانيه، وضَّح المكانة العظمى للقرآن الكريم في حياة المسلمين، فلم يكن مجرَّد كتابٍ أدبيّ، أو كتابٍ مرتبط بالطقوس الدينيّة يُرتَّل فيها فحَسْب، بل كان كتابَ هدايةٍ وإخراجٍ من الظلمات إلى النور، وكتابَ تزكيةٍ وتثقيفٍ، ويهدف للارتفاع بكلّ مستوياتهم، وبناء الشخصية الإسلامية. وإذا كان كذلك فإذا تُرك القرآن بدون تفسيرٍ موجَّهٍ توجيهاً رسالياً فسوف يُفْهَم من قِبَل المسلمين على ضوء إطاراتهم الفكريّة والذهنيّة، وبحَسَب المستويات الفكريّة لكلٍّ منهم، فيضيع الفهم الكامل للقرآن. إذن، يظهر بوضوحٍ من الشهيد الصدر ضَرَرُ هكذا نوعٍ من الإطارات الذهنيّة والقبليات الفكريّة في فهم النصّ القرآني([66]).
ج ـ إسقاط المصطلح الأصولي على النصّ الروائي
وقد ذكره الشهيد الصدر عندما تعرَّض في الأصول للاعتراضات على أدلة البراءة، فنقل روايةً استدلّ بها المعترضون، وهي رواية أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر× أنه قال: «الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة».
فذكر الشهيد الصدر كيفية استدلالهم بالرواية؛ لأجل الاعتراض على أدلة البراءة، ثمّ أشكل عليهم بأنهم أسقطوا المصطلح الأصوليّ للشبهة على الرواية، ففهموها بنحوٍ خاطئ([67]).
د ـ إسقاط المعتقدات المذهبيّة
أشار الشهيد الصدر إلى أن بعضهم يذهب إلى تحكيم معتقداته المذهبيّة وآرائه على النصّ القرآني، فيحاول ليّ عنق النصّ؛ لأجل تحميله إيّاها([68]).
2ـ اتخاذ موقف مُسبَق من النصّ
من القبليات السلبية، التي حذَّر منها الشهيد الصدر أيضاً، هو اتخاذ موقفٍ مُسبَقٍ تجاه النصّ؛ إذ يؤثِّر سلباً على الفهم. فهذا من باب تأثير نفسية المفسِّر ـ وهي من القبليات ـ سَلْباً على الفهم. ولكي تتَّضح هذه الفكرة يمثِّل لنا الشهيد الصدر بمثالٍ، حيث يفرض شخصين يمارسان عملية دراسة النصوص الدينية واستنباط الأحكام الشرعية منها. فالأوّل منهما يميل نحو اكتشاف الجوانب الاجتماعية في النصّ؛ بينما ينجذب الثاني نحو الجوانب الفرديّة للأحكام. وهذا ما سوف يؤثِّر على فهمهما لهذه النصوص؛ إذ سوف يكشف لكلٍّ منهما عن معطياتٍ أكبر في مجال اهتمامه، لكنّه سيخفي عنه المعطيات المرتبطة بالجانب النفسيّ الذي لم يتَّجه إليه. وبحَسَب الميولات والاتجاهات النفسية قد تتفاقم الأزمة من مجرّد إخفاء معلوماتٍ إلى تضليلٍ في فهم النصّ الشرعيّ، والاستنباط بشكلٍ خاطئ([69])([70]).
ويعتبر الشهيد الصدر الحَذَرَ من هذه القبلية ـ التي هي تأثير نفسيّة المفسِّر ـ، وعدمَ الانحياز، فضيلةً، هي: النزاهة العلميّة([71]).
3ـ الأُنْس بمطلبٍ علمي
كما أن من القبليات المضرّة، التي يمكن أن نستشفّها من كلمات الشهيد الصدر، هو الأُنْس بمطالب علميّةٍ ما، بحيث لو ذهَبْنا نحو النصّ لنفهمه فهمناه خطأً على ضوء هذه المطالب. لكنّها ليست بالقبليات التي لا يمكن التخلُّص منها، بل يمكن ذلك للملتفت الموضوعي([72])([73]).
و ـ الحوار بين المفسِّر والنصّ
تحدَّث الشهيد الصدر عن هذه المسألة المنهجية أثناء بحثه في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وبيان كيفية العمل في هذا التفسير. ويصرِّح بأن المفسِّر لا يبدأ عمله من النصّ، بل من واقع الحياة، فيركِّز نظره على موضوعٍ من موضوعات الحياة، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنسانيّ، وما طرحه التطبيق التاريخيّ، من أسئلةٍ ونقاط فراغ، ثمّ يأخذ النصّ القرآني، لا ليتَّخذ من نفسه بالنسبة إلى النصّ دَوْر المستمع فحَسْب، بل ليطرح بين يدي النصّ موضوعاً جاهزاً مُشرَّباً بعددٍ كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النصّ القرآني حواراً: المفسِّر يسأل على ضوء ما حصَّله من التجارب البشرية، والقرآن يجيب. فيجلس المفسِّر سائلاً ومستفهماً ومتدبِّراً ومستنطقاً للقرآن. وبالتالي يلتحم القرآن مع الواقع والحياة. فتكون عملية التفسير قد بدأَتْ من الواقع، وانتهَتْ إلى القرآن، لا أنها بدأَتْ من القرآن، وانتهَتْ إليه، بحيث تكون عمليّةً منعزلةً عن الواقع، ومنفصلةً عن تراث التجربة الإنسانية([74]). ومن هنا يتّضح أنه يُستفاد من الواقع في عملية فهم النصّ وتفسيره على مستويين:
المستوى الأوّل: على مستوى اختيار الموضوع المراد معرفة رأي النصّ فيه.
المستوى الثاني: على مستوى التشبُّع بالتجارب البشرية الواقعية، ممّا يرفع من مستوى أهليّة الباحث لفهم النصّ القرآني. فهنا يظهر مدى العلاقة الوثيقة بين التطبيق الخارجي ـ وهو التجربة البشرية ـ وبين النظريّة ـ وهي فهم النصّ القرآني ـ. وقد بيَّن الشهيد الصدر أهمِّية العلاقة بين النظرية والتطبيق، ووجود ترابطٍ وثيقٍ بينهما، غاية الأمر أنه طبَّقه على العلاقة بين الفقه والأصول([75])، لكنْ يمكننا أن نأخذ روح الفكرة، ونطبِّقها هنا على المستوى الثاني المذكور.
ولعلّ اختيار الشهيد الصدر لبحث السنن التاريخية، ومعالجته معالجةً قرآنية، مصداقٌ لكلا المستويين؛ فكأنه رأى مشكلةً طرحها التيّار الماركسيّ الذي تحدَّث عن قواعد التاريخ وقوانينه، فكأنّ الشهيد الصدر استفاد من الواقع الذي عايشه، فأخذ هذا الموضوع، ثمّ حاول طرحه على النصّ القرآني؛ حتى يرى جواب القرآن عنه([76]).
وهذه النظرة في تفسير القرآن الكريم تُلْفِت نظر المفسِّر إلى أمور، منها:
الأمر الأوّل: أن لا ينظر المفسِّر إلى القرآن بنظرةٍ تجزيئية، بل يلاحظة كوحدةٍ متكاملة. ولأجل ذلك مَنْ يطالع كتابات الشهيد الصدر يجده في بعض الأحيان يستفيد من آياتٍ قرآنيّة متعدِّدة، ومن سورٍ مختلفة، لأجل معالجة موقفٍ محدَّد وقضيّةٍ خاصّة. فهذا ما يجعل المفسِّر يقدِّم فهماً متكاملاً للنصّ القرآني([77]).
الأمر الثاني: يجب على مَنْ يريد تفسير القرآن الكريم أن لا يكون منعزلاً عن الواقع؛ بل يجب أن يعايش الواقع بهمومه ومشكلاته، فيَعِيَها بشكلٍ صحيح، ثمّ يجلس أمام النصّ القرآني، فيطرح هذه المشكلة عليه، منتظراً الجواب القرآني. وبالتالي لا يكون هدف المفسِّر فهم النصّ بنحوٍ سطحيّ، وتفكيك كلماته وعباراته، بل يحاول أن يستفيد من النصّ القرآني لأجل حلّ المشكلات الواقعيّة. وبعبارةٍ أخرى: يجب أن لا يقف المفسِّر في فهم النصّ على فهم عباراته، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى الواقع؛ ليتَّخذ من القرآن وسيلةً لمعالجة المعضلات الواقعية([78]).
ولا بُدَّ من الالتفات أيضاً إلى أن الشهيد الصدر يعتقد بأن القرآن الكريم ذو معانٍ لا متناهية، لذا يمكننا أن نستنتج أن عملية الحوار هذه لا تنتهي؛ بمعنى أنه لا يمكن أن نصل إلى مرحلةٍ نكون قد استوعَبْنا فيها كلّ المعاني القرآنية([79]).
4ـ وقفةٌ تحليليّة مع مباني الشهيد الصدر
بعد بيان ما عثَرْنا عليه من مبانٍ لفهم النصّ عند الشهيد الصدر يمكن القول بأنه قد قام بخطواتٍ كبيرة في مجال فهم النصّ الديني والمباحث الهرمنيوطيقية. ويبدو أنه استطاع أن يتجاوز الملاحظة التي تُسجَّل على غيره من الأصوليين؛ حيث لم يخرجوا عن إطار بحث حجِّية النصّ الديني ـ بمعنى المنجِّزية والمعذِّرية ـ. وقد فعل ذلك أثناء ردّه على المانع الأول ـ اختصاص الفهم بمَنْ قُصد إفهامه ـ، وفي طيّات بعض المباني الأخرى.
وكيفما كان، فإنه يمكننا؛ انطلاقاً من مباني الشهيد الصدر، أن نجيب عن بعض الأسئلة الهرمنيوطيقية التي تقدَّم ذكرها:
في ما يرتبط بإمكان فهم النصّ، فقد ذهب الشهيد الصدر إلى إمكان ذلك، ويكون قد وافق بذلك بعض الاتجاهات الهرمنيوطيقية؛ لكنه كشف عن نكاتٍ مهمّةٍ جدّاً في عملية فهم النصّ، والوصول إلى مراد المؤلِّف، وهي الأصول النوعية العقلائية، التي لها حيثيّة كشف عن المراد.
وتعرَّض لمسألة تاريخيّة النصّ، بمعنى أن النصّ وُلد في ظرفٍ تاريخيّ محدَّد، فلا بُدَّ من ملاحظة ذلك الظرف؛ حتى نتمكَّن من فهمه بشكلٍ صحيح. وقد قدَّم الشهيد الصدر حلاًّ لتجاوز هذه المسافة التاريخية بين المفسِّر والنصّ. ويشترك في هذا الحلّ المباني التالية: الظهور الموضوعي في عصر النصّ، والقبليات الضرورية لفهم النصّ.
وفي ما يرتبط بالقبليات المعرفية، فإننا نعلم أن أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفية ذهبوا إلى القول:
أوّلاً: إن تحقُّق الفهم مرتبطٌ بهذه القبليات؛
وثانياً: لا يمكن لهذه القبليات أن تنفك عن المفسِّر، بل إنه يعتمد عليها بنحوٍ لا إراديّ في فهم النصّ؛
وثالثاً: إن كلّ هذه القبليات والأحكام المسبقة تمنع المفسِّر من الوصول إلى مراد المؤلِّف، فلا تنسجم دخالتها في الفهم مع كون القارئ موضوعيّاً حياديّاً.
لكنْ يبدو أن الشهيد الصدر قد فكَّك بين نوعين من هذه القبليات:
1ـ القبليات الضرورية لفهم النصّ؛
2ـ القبليات المضرّة في فهم النصّ.
وهذا ما تقدَّم بيانه، وبالتالي:
أوّلاً: ليس كلُّ فهمٍ مرتبطاً بالقبليات، وإلاّ يلزم التسلسل. مضافاً إلى أن العلم الحضوري هو سنخ فَهْمٍ ومعرفةٍ غير مبتنية على معارف سابقة. وهذا الردّ لم يُشِرْ إليه الشهيد الصدر، لكنه ردٌّ واضح.
وثانياً: بعض القبليات ضروريّةٌ لتحقُّق فهم النصّ، فلا يمكن التخلّي عن دخالتها في مقام فهم النصّ.
نعم، يبقى السؤال عن القبليات المضرّة: هل يمكن التخلُّص منها، أو المنع من تأثيرها، ولو مع بقائها، أم لا؟ وهذا لم يُجِب الشهيد الصدر عنه مباشرةً، لكنْ من خلال تحذيره من هذا النوع من القبليات نفهم أنه أمرٌ اختياريّ. وبيانُه منّا بأن نقول:
إن إيجاد بعض أنواع القبليات المضرّة أمرٌ اختياري، فبإمكاننا أن نعدِّل من ميولنا، فنتصرَّف حينئذٍ في بعض قبلياتنا المضرّة بنحوٍ اختياري. نعم، قد يكون تجنُّب الاعتماد على هذه القبليات المضرّة أمراً صعباً بالنسبة إلى بعض الأشخاص ـ بسبب ضعفهم في الجانب الأخلاقيّ مثلاً ـ، لكنْ يمكن التدرُّب؛ للتغلُّب على حاكميّتها القَهْرية.
هذا كلّه مع ملاحظة أنه لا يجب التخلّي عن كلّ القبليات المضرّة في مقام فَهْمنا لنصوص الآخرين، بل يكفي أن لا نعتمد عليها في فهم النصّ، دون قرينةٍ أو شاهدٍ. وهذا من قبيل: الشخص الذي لديه في حقيبته أدوات متنوعة، فعندما يواجه مشكلةً محدَّدة يستفيد من الأدوات المناسبة لها. فما يمكن أن يؤدّي إلى بعض المشاكل هو الاستفادة من الأدوات غير المناسبة، وليس وجودها ضمن تلك الحقيبة. وبالتالي لا يجب أثناء الفهم الصحيح أن نتخلّى عن دوافعنا الشخصية وميولنا ورغباتنا، بل المهمّ أن لا نعتمد عليها في مقام الفهم. وهذا أمرٌ اختياريّ، وممكنٌ، وهو مُشاهَد في كتب كثيرٍ من المفكِّرين، الذي يشرحون آراء مخالفيهم، ثم ينقدونها، فَهُمْ في العديد من الأحيان يضعون قبليّاتهم هذه جانباً، ثم يفهمون كلام الخَصْم بنحوٍ موضوعيّ محايد، ثم يعمدون إلى تحليله ونَقْده. فهذا دليلٌ على أن عدم الاعتماد على القبليات المضرّة أمرٌ اختياريّ، فالوقوع أدلُّ دليلٍ على الإمكان([80]).
وفي ما يرتبط بالحوار بين المفسِّر والنصّ، فقد تعرَّض الشهيد الصدر لهذه الفكرة في نظريته في التفسير الموضوعي، والتي أشَرْنا إليها في المبنى السادس، وذكرنا أهمِّية هذا المبنى في فهم النصّ القرآني. نعم، لا يقول الشهيد الصدر بمقالة غادامر، بأنه عندما يجري حوار بين المفسِّر والنصّ فإن المعنى الذي يصل إليه المفسِّر لا يكون منسوباً إلى النصّ، ولا إلى المفسِّر، بل هو عبارةٌ عن مزيجٍ بين الأفق المعنائي للنصّ مع الأفق المعنائي للمفسِّر، بل أكَّد الشهيد الصدر على أهمِّية الحوار مع النصّ، والانطلاق من الواقع إلى النصّ، كلّ ذلك لأجل الكشف عن المراد التام والكامل للمؤلِّف في هذا المجال.
نعم، بقي ثلاثة أسئلة لم يُجِبْ عنها الشهيد الصدر، وهي:
أـ هل المفسِّر دائماً في معرض سوء الفهم؟
لم يعالج الشهيد الصدر هذا السؤال مباشرةً، لكنْ من خلال ما ذكره يمكن الجواب عنه بالإيجاب. فالمفسِّر دائماً يواجه خطر سوء الفهم؛ بسبب القسم المضرّ من القبليات المعرفية، وبسبب التأثُّر النفسيّ المُسبَق، وغير ذلك مما تقدَّم ذكره. لكنّ هذا لا يعني أنه لا يمكن للمفسِّر أن يتجاوز هذه العقبات، بل يمكن للمفسِّر أن يتخلَّص من سوء الفهم؛ ليصل إلى مراد المؤلِّف.
ب ـ هل يجب النفوذ إلى ذهنيّة المؤلِّف ونفسيّته حتّى نصل إلى فَهْمٍ صحيح للنصّ؟
لم يُجِبْ الشهيد الصدر بشكلٍ مباشر عن هذا السؤال. ولعلّ ما تقدّم الحديث عنه من أهمّية الاندماج مع الإطار الفكري للنصّ والارتكاز الاجتماعي للنصّ قريبان جدّاً من فكرة النفوذ إلى ذهنيّة المؤلِّف، و إنْ كانا لا يوصلاننا إلى إعادة بناء ذهنيّة المؤلِّف تماماً.
ولو طرَحْنا هذا السؤال على الشهيد الصدر الآن لأمكن أن يفصِّل بين النصّ القرآني والنصّ الروائي؛ فليس مؤلِّف النصّ القرآني بشريّاً يمكن النفوذ إلى ذهنيّته؛ بخلاف النصّ الروائي. ومع ذلك فإن مُلقي النصّ الروائي معصومٌ، وله درجةٌ وجوديّةٌ أعلى وأكمل من سائر البشر.
لكنْ، قد يتجاوز الشهيد الصدر هذه المشكلة، من خلال القول بأن المُتَّبَع في النصوص الشرعية هو طريقة المحاورة العُرْفية والمتداولة بين أبناء العُرْف، وبناءً عليه يمكننا فهم النصّ دون النفوذ إلى أعماق ذهنيّة المؤلِّف والمتكلِّم. نعم، هذا لا يعني أنه يجب أن لا نُلاحظ المتكلِّم وإطاره الفكريّ، بل لا بُدَّ من ملاحظته. ثمّ إن هذا الكلام قد يجرُّنا إلى التفريق بين النصّ القرآني والنصّ الروائي؛ فمؤلِّف النصّ القرآني عالمٌ مطلق، يلقي كلامه لكلّ الناس إلى يوم القيامة، ولكلّ فئاتهم، من العامّي وراعي الإبل إلى العالم الفيلسوف المتألِّه والفقيه وعالم الاجتماع وما شاكل؛ أما النصّ الروائي فليس دائماً هكذا.
وكيفما كان، فهذا سؤالٌ مهمٌّ جدّاً، والجوابُ عنه ضروريٌّ، لكنْ لم يتعرَّض الشهيد الصدر له؛ وإنْ أمكن أن نحدس بأنه سيجيب بأن صاحب النصّ الدينيّ يتكلَّم بحَسَب الطريقة العُرْفية؛ لكنّ الكلام كلّ الكلام في فهم هذه الطريقة بنحوٍ دقيق، وهذا ما يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ.
ج ـ هل الحوار بين النصّ والقارئ هو على نحو الدَّوْر الهرمنيوطيقي، ويستمرّ إلى ما لا نهاية؟
هذا ـ حَسْب تتبُّعي ـ لم يتعرَّض له الشهيد الصدر. نعم، ثمّة وجهٌ للإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال، لكنْ لا على نحو الدَّوْر المبيَّن في الهرمنيوطيقا، بل على نحوٍ يُسمّى بـ «الدَّوْر الاستنباطي»([81]). وهذا ما قد نستشهد له بالتأمُّل في المتكلِّم في النصّ الديني وخصوصيّاته، كما يمكن أن نستخرج أُسُس هذا الدَّوْر الاستنباطي من النصّ الروائي، الذي يصرِّح بأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، وهو عند كلّ قومٍ غضٌّ، وما شاكل. وهذا أيضاً بحثٌ شريف، مرتبطٌ بفهم النصّ جدّاً، ويحتاج إلى تحقيقٍ مستقلٍّ أيضاً.
يبقى أن نسأل: هل التفت الشهيد الصدر إلى مبنىً لم يلتفت إليه الباحثون الغربيّون في مجال الهرمنيوطيقا؟
قد يبدو لنا أن كلامه عن دَوْر الارتكاز الاجتماعيّ في فهم النصّ المذكور في المبنى الرابع، وحيثيّات الكشف النوعيّة التي ألمَحْنا إليها في المبنى الأوّل، هو ممّا لم يلتفتوا إليه.
وبهذا يكون قد تمّ البحث عن مباني فهم النصّ عند الشهيد الصدر، ويمكن البناء عليه لتقديم أبحاث مقارنةٍ في هذا المجال، كالبحث المقارن بينه وبين هايدغر أو غادامر، أو الانطلاق منه لتأسيس بحثٍ مستقلّ في مباني فهم النصّ، مع الالتفات إلى الجهات التي لم يتعرَّض لها الشهيد الصدر، كحال الرواي للنصّ الدينيّ، وغير ذلك ممّا يُعْثَر عليه باستقراء الأسئلة والمباني التي طرحها الباحثون في هذا المجال، وبالتأمُّل في مباني فهم النصّ نفسِها.
هذا ما استطعْتُ استخراجه من خلال مطالعةِ كثيرٍ من كلمات الشهيد الصدر، ويُحتَمَل أن أكون قد غفلْتُ عن بعض المباني الأخرى المذكورة في طيّات كلماته، أو زلَّتْ قَدَمي في فَهْم بعض ما طالَعْتُه. لذا، أتمنّى من كلّ قارئٍ أو باحثٍ يجد خَلَلاً في هذا المقال، أو يعثر على ما يسدّ به نقصاً فيه، أن يُطْلعني عليه، وله جزيل الشكر وعظيم الأجر.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلميّة. من لبنان.
([1]) وقد أفرَدْتُ ذلك في مقالةٍ مستقلّة؛ وللاطلاع على بعض الشواهد انظر: مختصر التذكرة بأصول الفقه للشيخ المفيد(413هـ): 29، 42؛ الذريعة إلى أصول الشريعة للسيد المرتضى(436هـ) 1: 15، 25 ـ 26؛ العدّة في أصول الفقه للشيخ الطوسي(460هـ) 1: 409 ـ 410؛ معارج الأصول للمحقِّق الحلي(676هـ): 76، 82؛ تهذيب الوصول إلى علم الأصول للعلاّمة الحلّي(726هـ): 87 ـ 88؛ نهاية الوصول إلى علم الأصول للعلاّمة الحلّي أيضاً 1: 166، 172، 193؛ القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية للشهيد الأوّل(786هـ)، كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال لابن أبي جمهور الأحسائي(901هـ)، تمهيد القواعد للشهيد الثاني(966هـ)؛ معالم الدين وملاذ المجتهدين للشيخ حسن بن زين الدين(1011هـ): 102، 192؛ زبدة الأصول للشيخ البهائي(1031هـ): 53؛ الفوائد المدنية للشيخ محمد أمين الإسترآبادي(1033هـ): 104، 180، 269، 271، 314، 320؛ الوافية في أصول الفقه للفاضل التوني(1071هـ): 81، 119، 134، 136، 253، 255، 290؛ الرسائل الأصولية للوحيد البهبهاني(1205هـ): 28، 32، 34 ـ 35؛ القوانين المحكمة في الأصول للميرزا القمّي(1231هـ): 240، 421؛ عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام ومهمات مسائل الحلال والحرام للشيخ محمد مهدي النراقي(1245هـ): 357، 590، 593؛ مفتاح الأحكام للنراقي أيضاً: 93؛ فرائد الأصول للشيخ مرتضى الأنصاري(1281هـ): 135 ـ 136؛ كفاية الأصول للآخوند الخراساني(1281هـ): 281 ـ 286.
([2]) الشيخ محمد أمين الإسترآبادي(1033هـ) ليس من الأصوليين، لكنْ تعرَّضْتُ لكتابه الفوائد المدنية؛ لأهميته في الدراسات الأصولية.
([3]) انظر: محمد أمين الإسترآبادي، الفوائد المدنية والشواهد المكية: 104، 269 ـ 270، 271، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي الآراكي، ط3، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1429هـ.
([4]) انظر: محمد أمين الإسترآبادي، الفوائد المدنية والشواهد المكية: 104. وقد صرَّح ص 314 بسبب قطعية هذه الدلالة، فقال: «أكثر أحاديثنا المدوَّنة في كتبنا صارت دلالتها قطعيّة بمعونة القرائن الحالية أو المقالية، وأنواع القرائن كثيرة».
([5]) للاطلاع على بعض تفاصيل البحث انظر على سبيل المثال: الحسن بن يوسف الحلّي، نهاية الوصول إلى علم الأصول 1: 193 وما بعد، مؤسّسة الإمام الصادق×، قم، ط1، 1425هـ؛ عبد الله بن محمد التوني، الوافية في أصول الفقه: 119، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط2، 1415هـ.
([6]) انظر: التوني، الوافية في أصول الفقه: 253.
([7]) انظر: المصدر السابق: 255.
([8]) انظر: محمد باقر الوحيد البهبهاني، الرسائل الأصولية: 32 وما بعد، مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني، قم، ط1، 1416هـ.
([9]) على سبيل المثال: انظر: محمد كاظم الخراساني (الآخوند)، كفاية الأصول: 281 ـ 286 (بحث حجّية ظواهر الألفاظ)، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، ط7، 1431هـ.
([10]) وهي: الهرمنيوطيقا الكلاسيكية (وأهمّ أعلامها: دان هاور، ويوهانس رامباخ، ومارتن كلادينيوس)؛ والهرمنيوطيقا الرومانسية (وأهمّ أعلامها: فريدريك شلايرماخر، وفيلهلهم ديلتاي)؛ والهرمنيوطيقا الفلسفية (وأهمّ أعلامها: مارتن هايدغر، وجورج هانس غادامر).
([11]) وقد ذهب إلى إمكان فهم مراد المؤلِّف الفيلسوف واللاهوتي مارتن كلادينيوس (1710 ـ 1759م)، وهو من أتباع الهرمنيوطيقا الكلاسيكية، فانظر: بابك أحمدي، ساختار وتأويل متن 2: 523، نشر مركز، طهران، 1389.
([12]) وهذا ما ذهب إليه فريدرك شلايرماخر (1768 ـ 1834م)، فانظر:
kurt Mueller ـ Vollmer, The Hermeneutics Reader, p. 82.
([13]) وهذا ما ذهب إليه شلايرماخر، فانظر:
Schleiermacher, Friedrich, Hermeneutics And Criticism and other wtitings, translated and edited by AndrewBowie, Cambridge University Press, London, 1998, p. 10.
انظر: صفدر إلهي راد، الهيرمينوطيقا، منشأ المصطلح ومعناه واستعمالاته في الحضارات الإنسانية المختلفة: 122، 136 ـ 139، ترجمة: حسنين الجمال، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، ط1، 1440هـ.
([15]) يرى مارتن هايدغر عدم إمكان ذلك، ويؤكِّد بصراحةٍ على أنه لا وجود للتفسير الخالص والعاري عن كلّ الشوائب القبلية؛ بل كل تماسٍّ مع العالم لا بُدَّ أن يكون مبنيّاً على قبليات. ويذكر هايدغر ثلاثة عناصر أساسية دخيلة في تشكُّل القبليات عند المفسِّر، وهي: المعلومات المسبقة (Fore having)، وجهة النظر المسبقة (Fore sight)، والتصوُّر المسبق (Fore conception). فانظر: مارتن هايدغر، هستي وزمان: 371، ترجمة: سياوش جمادي، ققنوس، طهران، 1389.
([17]) انظر: بابك أحمدي، ساختار وتأويل متن: 571.
([18]) «هو عبارةٌ عن الحوار المتبادل بين النصّ وبين الفهم المسبق للقارئ. فالقارئ يذهب نحو النصّ انطلاقاً من أحكامه المسبقة وفهمه المسبق، فيصغي للكلام أو يقرأ النصّ، ثمّ يرجع مرّةً أخرى إلى هذه القبليات والأحكام المسبقة، وقد يُعدِّل عليها، ثم ينظر مرّةً أخرى إلى النص بنظرةٍ جديدة. فهذا الذهاب والإياب من وإلى النصّ يستمرّ حتّى ينتهي إلى توافقٍ وانسجامٍ بين النصّ وبين القارئ. ومن خلال الالتفات إلى المستقبل فإن هذا الأمر يستمرّ إلى ما لا نهاية. وبعبارةٍ أخرى: دائماً في قراءة النصّ يندمج أفق القارئ مع أفق النصّ، ويتشكَّل الفهم في الدَّوْر بين هذين الأفقين». صفدر إلهي راد، الهيرمينوطيقا، منشأ المصطلح ومعناه واستعمالاته في الحضارات الإنسانية المختلفة: 146.
([19]) وإنْ كان قد يتوقَّف بعضٌ في فهم بعض الروايات فيردّ علمها إلى أهلها.
([20]) على سبيل المثال: انظر: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 258 ـ 261، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، قم، ط5، 1435هـ.
([24]) محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 7: 333، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي في مذهب أهل البيت^، قم، ط3، 1417هـ.
([25]) انظر: كاظم الحائري، مباحث الأصول (تقريراً لأبحاث الشهيد السيد محمد باقر الصدر)، الجزء الأول من القسم الثاني: 178 ـ 186، دار البشير، قم، ط1، 1428هـ.
([26]) انظر: كاظم الحائري، مباحث الأصول، الجزء الأول من القسم الثاني: 188 ـ 191.
([27]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة) 2: 205 ـ 206 (بتصرُّف يسير)، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، ط1، 1421هـ.
([28]) بل لا بُدَّ من إضافة عنصر آخر إليه، وهو العنصر الاجتماعيّ، وهذه الإضافة بسبب حديث الشهيد عن دَوْر الارتكاز الاجتماعيّ في فهم النصّ. وهذا ما سوف نشير إليه لاحقاً.
([29]) يُلاحَظ الهامش السابق؛ إذ تأتي التعليقة السابقة نفسها.
([30]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة) 2: 206.
([31]) انظر: محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 4: 206 ـ 207.
([32]) وقد يُسمّى عند الأصوليين بـ «الاستصحاب القهقرائي»، حيث يكون زمن اليقين متأخِّراً عن زمن الشكّ. وقد سمّاه المحقِّق العراقي بـ «أصالة تشابه الأزمان»، فانظر: ضياء الدين العراقي، نهاية الأفكار 1: 67، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط3، 1417هـ.
وليس عدول الشهيد الصدر عن التسمية مجرّدَ بحثٍ لفظي، بل لأن الأصالة التي ذكرها الشهيد الصدر لا يُقتَصَر فيها على الأوضاع اللغوية، بل تشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعية أيضاً، انظر: محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 4: 293.
([33]) محمد باقر الصدر، أهل البيت^: تنوُّع أدوار ووحدة هدف: 143، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1426هـ.
([34]) والمراد من هذا الدَّوْر المشترك عند الأئمّة^ هو الموقف العامّ الذي وقفوه في خضمّ الأحداث والمشاكل التي اكتنفَتْ الرسالة بعد انحراف التجربة وإقصائهم عن مناصبهم، انظر: محمد باقر الصدر، أهل البيت^: تنوُّع أدوار ووحدة هدف: 143.
([36]) لملاحظة المثال على هذه الفكرة انظر: المصدر السابق: 141 ـ 142.
([37]) وهذا النوع من القبليات هي الأمور التي لا يتوقّف عليها فهم معاني الألفاظ، ولا فهم المراد الأصلي للمؤلِّف، لكنها تساعد على استخراج معانٍ جديدة وعميقة من النصّ. فمن هذا القبيل مثلاً: الأسئلة الجديدة التي يعرضها المفسِّر على النصّ، فيستفيد في أخذ الجواب منه، من دون الاعتماد على الأحكام المُسبَقة. وبالتالي يمكن أن نسأل عن علاقة المسائل القرآنية بالتعدُّدية والليبرالية والاشتراكية و…، ونسعى للحصول على الأجوبة المناسبة اعتماداً على أسلوب تفسيرٍ ممنهج. (انظر: مجتبى مصباح وعبد الله محمدي، معرفت شناسي (الدرس التاسع)، مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث، ط1، 1397هـ.ش.
([38]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 327.
([39]) المصدر السابق: 311 ـ 312.
([42]) وللاطلاع على بعض الأمثلة على أهمية معرفة أسباب صدور النصّ انظر: المصدر السابق: 230.
([43]) انظر: المصدر السابق: 232 ـ 233. وتجدر الإشارة إلى أن السيد الشهيد لم يذكره كوَهْمٍ ودَفْعٍ، بل ذكره ضمن فقرةٍ واحدة منسجمة، لكنْ رأَيْنا من الأنسب ببحثنا أن نبيِّنه على هذه الصورة.
([45]) محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 4: 287.
([46]) انظر: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 317. وقد ذكر مثالاً تاريخياً على هذا المسألة في المصدر السابق: 319.
([47]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 385، تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي فرع خراسان (لجنة الاقتصاد)، مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1417هـ.
([48]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 309.
وقد ذكر الشهيد الصدر بعض التطبيقات التي يتَّضح فيها الفَرْق بين فهم الآية على ضوء الإطار الفكريّ للقرآن وفهمها على ضوء إطارٍ فكريّ آخر. المصدر السابق: 310 ـ 311.
([51]) انظر: محمد باقر الصدر، ومضات: 185، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، ط1، 1428هـ.
([52]) المصدر السابق: 189 ـ 190.
([53]) انظر: المصدر السابق: 191.
([56]) انظر: المصدر السابق: 192.
([57]) الهرمنيوطيقا الكلاسيكية.
([58]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 316.
([59]) ولكي تتَّضح هذه المسألة أكثر، ونظراً لأهمِّيتها، نزيدها بياناً، أقول: لدينا تراثٌ قرآني وروائي ضخم وغنيّ جدّاً. ويمكن للفقيه أن يفهم هذا التراث بمستوىً معيَّن. لكنْ لو كان الفقيه متخصِّصاً في مسائل الحقوق، ومطّلعاً على القوانين العالمية، ومتمكِّناً من مداخل هذا العلم ومخارجه، فعندما يواجه روايةً أو مجموعةَ رواياتٍ حقوقية قانونية فإن بإمكانه أن يفهمها أكثر من غيره من الفقهاء غير الواردين في هذا المجال، كما لديه قدرةُ الالتفات إلى الكثير من الجوانب الخفيّة في هذه الروايات، أو إلى بعض النقاط التي ترمي إليها.
وهكذا لو كان الفقيه متخصّصاً في العلوم التربوية، فإنه سيلتفت إلى الكثير من الجوانب التربوية في الروايات أكثر من غيره من سائر الفقهاء.
ويمكننا تأييد هذه الفكرة بما جرى بين نبيّ الله موسى× والسحرة، حيث ظنّ عامّة الناس أن فعلَ موسى× سحرٌ، بينما أيقن السحرة ـ وهم أهل الفنّ والاختصاص ـ أنه ليس بسحرٍ، فهموا ذلك فهماً عميقاً، فآمنوا.
وهذه مسألةٌ عقلائية، لا تشذّ عنها الروايات الواردة في المجال العقلي والفلسفي أيضاً. وبالتالي مَنْ يبحث في المسائل العقلية الفلسفية، ويتأمَّل فيها، سيحصل عنده استعدادٌ أكثر من غيره ـ بلحاظ هذه الجهة ـ لفهم الروايات المرتبطة بهذا المجال. هذا على مستوى التنظير والثبوت، وأما على مستوى الإثبات فإن مَنْ يقرأ الأبحاث الفلسفية والعرفانية بتمعُّنٍ يجد فيها ما يساعد على الفهم الدقيق لبعض القضايا الدينية، من قبيل: ما ورد عن الإمام عليّ×: «هو في الأشياء كلّها، غير متمازجٍ بها، ولا بائنٍ عنها»، أو ما ورد عن الإمام الرضا× في خطبته: «أحدٌ لا بتأويل عددٍ، ظاهرٌ لا بتأويل المباشرة، متجلٍّ لا باستهلال رؤيةٍ، باطنٌ لا بمزايلة». والحديث في هذا المجال موكولٌ إلى محلِّه.
([61]) وقد ضرب الشهيد الصدر مثالين على عدم فهم الناس في عهد الرسول| للنصّ القرآني؛ بسبب عدم الارتفاع فكريّاً إلى مستوى أغراض القرآن ومعانيه. انظر: المصدر السابق: 318 ـ 319.
([63]) محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 4: 278.
([65]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 309؛ وذكر فيه أيضاً: 310 بعض الأمثلة على ذلك، فراجِعْ.
([67]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثانية): 382. فالسبب في هذا الإسقاط على النصّ هو عدم فهم الكلمة ضمن سياقها التاريخي. وقد أشار إلى أهمّية هذه النقطة أيضاً في كتابه اقتصادنا: 387.
([68]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 312.
([69]) قد يُقال: إنه لا يمكن للباحث أن يتخلّى عن اتجاهاته النفسية، وبالتالي لا مفرّ من أن يُخفيَ النص عنّا بعض المعطيات؛ بل هذا حتميٌّ، بناء على ما ذهب إليه الشهيد الصدر من كون المعطيات القرآنية لا متناهية. وبالتالي يجب أن لا نعدّ هذا الاتجاه النفسيّ قبليّة مضرّة إنْ كان بهذا المقدار. نعم، يُعَدّ مضرّاً عندما يصل إلى حدّ تحريف النصّ وفهمه بشكلٍ خاطئ.
([70]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 392.
([71]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 36. نعم، استثنى الشهيد الصدر مورداً من هذه القبلية المضرّة، وهو في الحقيقة ليس من باب التخصيص، بل من باب التخصُّص، فلا يضرّ في فهم النصّ. وقد اعتبر إعمال الذاتية في هذا المورد ضروريّاً، وطبّقه في مورد استنباط الاقتصاد الإسلاميّ، لكنْ يمكن تعميمها لأيّ موضوعٍ نصّي آخر. اقتصادنا: 394.
([72]) فانظر إليه يروي لنا قصّةً حدثَتْ معه في هذا المجال، حيث أثّر بحث التزاحم على فهمه للرواية، ثمّ احتمل أن يكون هذا الفهم بسبب هذا المبحث العلميّ، فجرَّد نفسه عنه، فتبدَّل فهمه. كاظم الحائري، مباحث الأصول، الجزء الثاني من القسم الثاني: 187 ـ 188.
([73]) قد يتوهَّم أن مبنى الشهيد الصدر في الحوار بين النصّ والواقع عبارةٌ عن إسقاط الواقع على النصّ، وبالتالي هذا قبليةٌ معرفية مضرّة في فهم النصّ على ما هو عليه. لكنّ الشهيد الصدر ملتفتٌ إلى هذه المسألة، فنبَّه عليها. المدرسة القرآنية: 35.
([74]) انظر: المصدر السابق: 29 ـ 30.
([75]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى): 53.
([76]) وللاطّلاع على بعض التطبيقات على فكرة الحوار بين المفسِّر والنصّ انظر: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 157 ـ 170؛ 158 ـ 159.
ويمكننا الإشارة إلى ما يمكن أن يكون تطبيقاً ثالثاً لهذه الفكرة، حيث أثّر الواقع الحياتي على اختيار الموضوع المُراد بحثه في القرآن الكريم. ففي زمن الشهيد الصدر راج الفكر الماركسي المتأثِّر بالفكر الهيجلي، والذي يهتمّ بفلسفة التاريخ. ولعلّ هذا ما أثّر على الشهيد الصدر، فدعاه ليبحث عن هذا الموضوع في القرآن الكريم. ولأجل ذلك عرض الأسئلة التالية على القرآن الكريم، وسعى لبيان الإجابة عنها، وهذه الأسئلة هي: هل للتاريخ البشري سننٌ في مفهوم القرآن؟ هل له قوانين تتحكّم في مسيرته وفي حركته وتطوّره؟ ما هي هذه السنن التي تتحكّم في التاريخ البشري؟ كيف نما؟ كيف تطوّر؟ ما هي العوامل الأساسية في نظرية التاريخ؟ ما هو دَوْر الإنسان في عملية التاريخ؟ ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة الاجتماعية؟
ففي هذا البحث يكون الشهيد الصدر متأثِّراً بالواقع الذي يعيشه في مقام اختيار الموضوع، وطرح الأسئلة على النصّ؛ لاستنطاقه. ولمزيدٍ من الاطلاع على هذا البحث انظر: المصدر السابق: 46 ـ 102.
([77]) انظر على سبيل المثال: المصدر السابق: 348 ـ 349.
([78]) المصدر السابق: 30 ـ 31.
([79]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 23، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، قم، 1426هـ.
([80]) انظر: مجتبى مصباح وعبد الله محمدي، معرفت شناسي (الدرس التاسع).
([81]) هذه التسمية ذكرها السيد يد الله يزدان پناه، وتلميذه الأستاذ الشيخ علي أميني نجاد (دامت إفاضاتهما) في دروسهما الفلسفية والعرفانية، ولا أدري إنْ ذُكرَت قبلهما.