أحدث المقالات

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: وسيم حيدر

توطئةٌ

إن صفات الله، وإمكان معرفة الله، وأسلوب معرفته، وتشابهه مع الخلق وامتيازه منهم، والعلاقة بين الله والخلق، وعقلانية المعتقدات الدينية أو النسبة بين العقل والإيمان، من بين المسائل والموضوعات الأساسيّة في الإلهيات.

وكما سنرى فإن حلّ وفصل جميع هذه المسائل يقوم على الفرضيات والخلفيات الأوّلية للشخص في تعريف الله.

1ـ مقدّمةٌ

قبل الدخول في البحث الأصلي من المناسب أن نقوم بجولةٍ حول الآراء الجوهرية المطروحة في مجال الفلسفة في باب العلاقة بين العقل والإيمان. إن هذه الآراء ذات الصبغة الإبستمولوجية والمعرفية تقوم في الحقيقة على مختلف تعاريف العقلانية. ومن بين أهمّ هذه الموارد الآراءُ والاتجاهات التالية: الأصولية التقليدية([1]) أو الإثباتية([2])، والإيمانية([3])، والمعرفية المستصلحة([4])، أو التجريبية([5]).

 

أـ الأصوليّة التقليدية أو الإثباتية

إن الأصولية التقليدية رؤيةٌ في باب البنية المعرفية، وتترتَّب على أساسها الأمور التالية:

1ـ في ضوئها تنقسم معتقداتنا إلى طائفتين: بديهية؛ ونظرية.

2ـ إن المعتقدات البديهية أو الأساسية غنيّةٌ عن التوجيه والتبرير، ولا تحتاج في إثبات حجِّيتها واعتبارها إلى سائر المعتقدات الأخرى.

3ـ إن المعتقدات النظرية تُستنتج من المعتقدات البديهية أو الأساسية، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها إلاّ بهذه الطريقة.

وإذا تجاوزنا هذه الأصول الثلاثة المشتركة نصل إلى الأصولية في الباب الرابع التالي:

4ـ تعريف أو معيار البداهة.

5ـ مصداق المعتقدات البديهية.

6ـ هناك اختلافٌ في طريقة قيام النظريات والبديهيات أو كيفيّة تفسير النظريّات وتوجيهها على أساس البديهيّات. ويذهب الأصوليون إلى الاعتقاد بـ:

7 ـ أن الأصولية من مقتضيات العقلانية النظرية، ومنبثقةٌ عن معايير ومستلزمات العقل النظري.

ب ـ الأصولية في باب المعرفة الدينية

يمكن تنسيقها في إطار القضايا التالية:

8ـ لا يمكن الإيمان بأيّ عقيدةٍ إلاّ إذا كانت معقولةً.

9ـ ليس هناك عقيدةٌ دينية معقولة إلاّ إذا أمكن إثباتها بـ «الدليل».

ومن هنا يسعى الأصوليّون المؤمنون بوجود الله إلى إثبات وجود الله من خلال الاستعانة بالاستدلال، وتوجيه إيمانهم واعتقادهم على هذا الأساس.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن الأصوليين الذين ينكرون وجود الله ـ أو الذين يشكُّون في وجوده ـ يسعَوْن إلى بيان ضعف هذه الأدلّة أو عدم تماميتها، أو يستدلّون على عدم وجود الله.

إلاّ أن كلا الفريقين متّفقٌ في القول بنظرية الإيمان والاعتقاد بوجود الله، وحاجتنا إلى الاستدلال على الإيمان به.

ومن بين الشخصيات الأصولية الشهيرة في المسيحية يمكن لنا الإشارة إلى القديس توما الأكويني (Aquinas)([6])؛ ومن بين الشخصيات البارزة في الأصولية الإلحادية يمكن الإشارة إلى كليفورد (Clifford)([7]).

إن النزعة الإيمانية والتجريبية (أو الإبستمولوجيا المستصلحة) تمثِّل في الحقيقة ردود فعلٍ على الأصولية التقليدية.

إن الإيمانية تنكر المدَّعى الأوّل للأصولية الدينية المتمثِّل بالقضية رقم (8) المتقدِّمة.

كما أن أصحاب النزعة التجريبية أو أنصار الإبستمولوجيا المستصلحة ينكرون المدّعى الثاني للأصولية، أي القضية رقم (9)، ويذهبون إلى الاعتقاد بأن المعتقدات الدينية معقولةٌ، ولكنّها بديهيةٌ ولا تحتاج إلى الاستدلال.

يذهب الإيمانيون إلى الادّعاء بأن المعتقدات الدينية تدين في حجِّيتها واعتبارها إلى الإيمان، ويذهب التجريبيون إلى الادّعاء بأن المعتقدات الدينية تحصل على حجِّيتها واعتبارها من التجربة الدينية.

إن اختلاف هذين الاتجاهين يكمن في أن الإيمانيّين يقبلون بالأصولية التقليدية بوصفها تفسيراً صحيحاً لبنية العقلانية، وفي الوقت نفسه يذهبون إلى الاعتقاد بأن المعتقدات الدينية لا تقوم على مبنى عقلاني. وأما التجريبيون فيذهبون إلى الادّعاء بأن المعتقدات الدينية لها مبنى عقلاني، إلاّ أن الأصولية التقليدية لا تقدِّم صورةً صحيحة عن البنية العقلانية، ولا تعطي معياراً صائباً لتشخيص مصداق المعتقدات البديهية، ولذلك فإنهم يعتبرون الإيمان بوجود الله اعتقاداً نظرياً ويحتاج إلى استدلالٍ.

وكلا النظريتين تدافع عن المعتقدات الدينية في مواجهة تحدِّيات الأصولية التقليدية، وإنْ كانتا تسلكان طرقاً مختلفة في هذا الدفاع.

 

ج ـ الإيمانية

إن الإيمانية عبارةٌ عن هذا الرأي القائل بأن المعتقدات الدينية غير قابلةٍ للتقييم العقلاني.

إن من بين الأدلة التي تُذْكَر بنحوٍ ما لصالح هذا المُدَّعى أن إذعان الإنسان وإيمانه بالله يجب أن يكون لاحقاً لهواجسه القلبيّة، وأن تعليق الإيمان على الاستدلال العقلي، واعتبار هذا الاستدلال شرطاً للإيمان، يثبت في الحقيقة أن العقل هو الذي يمثِّل الهاجس اللاحق الذي يشغل اهتمام الإنسان، وليس الله. وعلى هذا الأساس فإن تعليق مصير الإيمان بيد العقل، والانصياع لحكم العقل في دائرة الدين، لا ينسجم مع جوهر التديُّن. إن للإيمانية رواياتٍ متنوّعة. ويُعَدّ كارل بارث (Barth)([8])، وسورين كركيغارد (Kierkegaard)([9])، وعددٌ من أتباع لودفيغ فيتغنشتاين (Wittgenstein)([10])، من الوجوه الشاخصة في تيار الإيمانية.

وإن من بين الأدلة المعتدّ بها لصالح الإيمانية الدليل القائم على الاختلاف بين الإيمان والعقيدة؛ فإن الإيمان (Belief in) غير العقيدة (Belief that). إن الإيمان أبعد بكثيرٍ، ويفوق مجرّد الاعتقاد بصدق قضيّةٍ ما. إن الإيمان يتضمَّن نوعاً من الخضوع والتعهّد والتوكّل والتقييم الإيجابي؛ في حين أن العقيدة ليست كذلك. ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون الموضوع مورد الإيمان والعقيدة هو الله أو شيءٌ آخر. إن الإيمان بالله يعني الإيمان بحقيقة وحقّانية الله المتضمِّنة للخضوع والخشوع والتوكُّل؛ في حين أن الاعتقاد بقضية «الله موجود» يعني الاعتقاد بصدق هذه القضية، وكفى.

د ـ الإبستمولوجيا المستصلحة أو التجريبية

إن أنصار المعرفة أو الإبستمولوجيا المستصلحة أو التجريبيين، الذين يستلهمون تعاليمهم من أفكار جون كالفين (John Calvin)([11]) ـ الإصلاحي المسيحيّ الشهير ـ، يقومون في الحقيقة بثلاثة أمور، وهي:

1ـ بيان أن الأصولية التقليدية ناقصةٌ وغيرُ ناضجةٍ.

2ـ بيان أن المعتقدات الدينية، ومن بينها الإيمان بوجود الله، جزءٌ من المعتقدات البديهية والأساسية، وتستند إلى التجربة الدينية، ولذلك فإن التفسير والتوجيه العقلاني لهذه المعتقدات لا يحتاج إلى الاستدلال، ولا يقوم على القول بالمعتقدات غير الدينية. ونتيجةً لذلك:

3ـ إن الشكّ والترديد في المعتقدات الدينية، أو إنكار معقوليّتها، لا أساس له في ضوء فرضيات الأصولية التقليدية.

إن وليم ب. ألستون (William P. Aleston)([12])، وألفين بلانتينغا (Alvin Plantinga)([13])، من الشخصيات البارزة لهذا المدخل في فلسفة الدين المعاصرة([14]).

أـ يسعى ألستون ـ من خلال تأكيده على أن المعتقدات الحسيّة جزءٌ من معتقداتنا البديهية والمعقولة التي لا تتوقَّف حجِّيتها واعتبارها على الاستدلال، وإنما تتوقَّف على التجربة الحسِّية ـ إلى إثبات أن الاعتقاد بوجود الله هو بدَوْره أمرٌ بديهيّ ومستندٌ إلى التجربة الدينية. يذهب ألستون إلى الاعتقاد بأن التجربة الدينية لا تختلف بلحاظ الطبيعة والماهية عن التجربة الحسِّية أبداً؛ فنحن في كلا الموردين نقيم ارتباطاً مباشراً مع واقعيةٍ عينيّة، إنما الاختلاف الوحيد الموجود هنا يكمن في موضوع ومتعلّق هذين النوعين من التجارب، وهو لا يؤثِّر في حجِّية واعتبار التجربة والاعتقاد المستند إليهما. في التجربة الحسِّية نواجه موضوعات طبيعية ومادّية ومقيّدة، وفي التجربة الدينية نواجه موجوداً متعالياً ومطلقاً.

والنقد الذي يوجهه ألستون إلى الأصولية التقليدية يقوم بشكلٍ رئيس على هذه النقطة، وهي أن الأصوليين لا يقدِّمون أيّ تفسيرٍ معقول للقول باعتبار التجربة الحسِّية وإنكار اعتبار التجربة الدينية أبداً.

يذهب ألستون إلى الاعتقاد بعدم وجود أيّ دليلٍ يقتضي بداهة ومعقولية المعتقدات الحسّية، وعدم بداهة ومعقولية الاعتقاد بوجود الله؛ وإن الاعتقاد بوجود الله قابلٌ للإثبات والتوجيه في ظلّ التجربة الدينية بمقدار إثبات المعتقدات الحسّية في ظل التجربة الحسّية.

وعلى هذا الأساس، فقد كان ألستون في صدد إصلاح رؤية الأصولية التقليدية في باب ماهية واعتبار التجربة الدينية. كان ألستون في باب التفسير والتوجيه المعرفي والإبستمولوجي تعويليّاً([15])، بمعنى أنه يرى أن معتقداتنا إنما تكون موجّهة وتُعَدّ معرفة إذا وردَتْ من المجاري والقنوات الموثوقة والقابلة للتعويل والاعتماد. وعلى هذا الأساس، فإنه يذهب إلى الادعاء بأن الاعتقاد الحسّي والاعتقاد بوجود الله ـ الذي يأتي من قناة التجربة ـ صادقٌ وقابل للتفسير؛ لأن التجربة الحسّية والتجربة الدينية من القنوات المعرفية المعتمدة، والتي يمكن التعويل عليها([16]).

ب ـ لقد قدّم ألفين بلانتينغا روايةً أخرى عن التجربة الدينية أو الإبستمولوجيا المستصلحة. إن نقده للأصولية التقليدية قائمٌ على الادّعاء القائل بأن المعتقدات الأساسية لا تختزل بالمعتقدات الحسّية أو الاعتقادات التي لا تقبل الترديد، وإن المعتقدات القائمة على الحافظة، ومعتقداتنا في باب الأذهان الأخرى، والكثير من المعتقدات الأخرى في ذهننا، لا تقبل الاستنتاج من معتقداتنا الأخرى، وليس لدينا أيّ دليلٍ لصالحها، وفي الوقت نفسه يُعدَّ القول بتلك المعتقدات أمراً معقولاً، وإننا في القول بها لا نرتكب أيّ خطأ إبستمولوجي أو معرفي، ولا نتجاهل أيّ أصلٍ إبستمولوجي.

يذهب ألفين بلانتينغا إلى القول بأن اعتقادنا بوجود الله من هذا القبيل أيضاً؛ بمعنى أنه جزءٌ من المعتقدات الأساسية، وغير القابلة للاستنتاج من المعتقدات الأخرى، وليست مرتهنةً في تفسيرها إلى المعتقدات الأخرى، وهي في الوقت نفسه معقولةٌ.

يُعَدّ ألفين بلانتينغا في باب التوجيه والتفسير الإبستمولوجي والمعرفي شخصاً عملانيّاً([17])، ويذهب إلى الاعتقاد بأننا من الناحية الإبستمولوجية نعيش وضعاً مطلوباً؛ وذلك لأن أدواتنا المعرفية قد خلقت لتؤدّي وظيفة محدَّدة ومعيّنة، وهي عبارةٌ عن اكتشاف الحقيقة واكتساب المعرفة، وهي تقوم بواجبها على أفضل وجهٍ([18]).

هـ ـ خلاصاتٌ ونتائج

يذهب كاتب هذه السطور إلى الاعتقاد بأن النزاع بين العرفاء والفلاسفة المسلمين في باب معقولية المعتقدات الدينية ـ ولا سيَّما في حاجة أو عدم حاجة وجود الله إلى الاستدلال ـ قابلٌ للإدراك والتفسير بوضوحٍ في إطار رؤية الأصولية التقليدية ورؤية التجريبية الدينية أو الإبستمولوجيا المستصلحة. إن الأكثرية المتاخمة للإجماع بين الفلاسفة المسلمين في باب الإبستمولوجيا التقليدية تميل إلى الأصولية التقليدية، وفي الوقت نفسه لا يرَوْن أيّ قضيّةٍ دينية ـ بما في ذلك قضية «الله موجود» ـ بديهيّةً أو غنيّةً عن الاستدلال، ومن هنا فإنهم يسعَوْن إلى الاستدلال على وجود الله، ويُثبتون وجود الله من خلال الاستعانة بالمعتقدات غير الدينية. وكما سنرى فإن هذا المدخل يقوم على التعريف الذي يقدِّمه الفلاسفة المسلمون عن الله سبحانه وتعالى.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن العرفاء المسلمين يذهبون إلى الادّعاء بأن الاعتقاد بوجود الله أمرٌ بديهيّ وواضحٌ ولا يحتاج إلى استدلالٍ. وكما سنرى فإن هذا المدخل بدَوْره يقوم على التعريف الذي يقدِّمه العرفاء عن مفهوم الله وحقيقته.

ومن هنا يمكن لنا أن نستنتج بأن الفلاسفة المسلمين قد قبلوا بكلا الادّعاءَيْن لدى الأصولية التقليدية في باب المعرفة الدينية، أي القضيتين رقم (8) و(9)؛ في حين أن العرفاء المسلمين في الغالب ينكرون المدَّعى الثاني، القضية رقم (9)، وبعضهم ينكر المدَّعى الأول عند الأصولية التقليدية، القضية رقم (8).

وأما بيان أيٍّ من هاتين الرؤيتين هي الأقرب من نصوصنا الدينية، والتي تؤدّي إلى تفسيرٍ وبيانٍ أفضل من هذه النصوص؟ فهو موضوعٌ لمقالةٍ أخرى.

وهنا، بعد بيان تعريف الله في العرفان والفلسفة، سوف نتعرَّض إلى ذكر شواهد تؤيِّد رؤية العرفاء، وتثبت أن الإيمان بوجود الله جزءٌ من المعتقدات الأساسية، بل تشكِّل قاعدةً وفرضية لجميع المعتقدات الأخرى التي يمكن أن تكون موجودةً في أذهاننا، ومن دون الإيمان بهذا الاعتقاد لن يكون هناك اعتقادٌ معقولٌ وقابلٌ للإثبات والتفسير.

إن الإيمان والاعتقاد بوجود الله غير قابلٍ للاستدلال، وهو في الوقت نفسه معقولٌ. إن الشك الديني ـ على أساس التعريف العرفاني لله سبحانه وتعالى ـ عين الشكّ المطلق، وإن الشكّ في وجود الله عين الشكّ في أصل الوجود. ومن هنا فإن كلّ مَنْ ينفي الشكّ المطلق يكون مؤمناً بوجود الله. إن الشكّ في وجود الله أو إنكار وجوده يُعَدّ ـ من وجهة نظر العرفاء ـ ناشئاً من تصوُّر الله بشكلٍ خاطئ، وليس ناشئاً من عدم تمامية الاستدلال على وجوده.

ويذهب كاتب هذا المقال إلى ادّعاء ما يلي، على نحو الإجمال:

1ـ إن وجود الله غير قابلٍ للاستدلال؛ لأن وجوده مقدّمة لكلّ استدلالٍ. وعلى هذا:

2ـ إن الاعتقاد بوجود الله جزءٌ من المعتقدات الأساسية، بل من أكثرها أصالةً وجوهريّةً.

3ـ إن الإيمان بوجود الله يستند إلى التجربة الدينيّة.

4ـ إن التجربة الدينية حقيقةٌ ذات مراتب وتشكيكية؛ فإن بعض التجارب الدينية عبارةٌ عن تجربةٍ أو شهودٍ عقلاني([19])؛ وبعضها الآخر تجربةٌ قلبية أو علمٌ حضوري([20]).

إن الشواهد التي يتمّ تقديمها هنا لصالح إله العرفان هي بأجمعها من سنخ التجربة أو الشهود العقلاني. إن هذه الشواهد إنما يتمّ عرضها لغرض وضع ذهن المخاطب في ظروف وشرائط مناسبة لشهود قضية «إن الله موجودٌ» بشكلٍ عقلاني.

وعلى هذا، فإني إنما أوافق أصحاب النزعة الإيمانية في القول بأن الاستدلال على وجود الله غيرُ صحيحٍ، وإنْ كان عندي دليلٌ آخر على هذا المدَّعى.

أرى أن الاستدلال على وجود الله أوّلاً: لا ينسجم مع ألوهية الله؛ بمعنى أنه يقوم على أساس تصوُّرٍ خاطئ عن الله؛ وثانياً: إن الله، الذي يتمّ إثبات وجوده من خلال الاستدلال، لا يمكن أن يكون مبنى للإيمان الديني؛ بمعنى أن المعرفة التي تكون مستنداً للإيمان معرفةٌ تجريبية تنطوي على لوازم ومضامين نفسية وعملية.

إن اختلافي مع أصحاب النزعة الإيمانية يكمن في أن أدنى معرفةٍ لله متقدّمةٌ ـ من وجهة نظري ـ على الإيمان، ومستقلّةٌ عنه، وإن الاعتقاد بوجود الله معقولٌ، بمعنى أنه قابلٌ للتفسير والفهم في ضوء التجربة الدينية، رغم أن هذا النوع من التفسير والفهم ليس بمعنى الاستدلال على وجود الله، وليس غير منسجمٍ مع هواجس الإنسان اللاحقة.

إن الاعتقاد بوجود الله معقولٌ بمقدار معقولية سائر المعتقدات المستندة إلى التجربة.

إن الاعتقاد والإيمان بوجود الله إنما يكون معقولاً؛ لأنه يشكّل مبنىً وأساساً لجميع المعتقدات الدينية وغير الدينية الأخرى. وحيث إن الشكّ في وجود الله هو عين الشكّ في الوجود المطلق فإن الإيمان بالوجود المطلق هو عين الإيمان بوجود الله. وعليه، فإن الاعتقاد بصدق كلّ قضية يتوقَّف على الإيمان بوجود الله في مرتبةٍ سابقة.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإني أوافق الإبستمولوجيا والمعرفة المستصلحة في هذا الادّعاء القائل بأن الإيمان والاعتقاد بوجود الله جزءٌ من المعتقدات الأساسية والمعقولة، والتي تقبل الإثبات والفهم والتفسير استناداً إلى التجربة الدينية.

وإن اختلافي عن أصحاب النزعة التجريبية يكمن في ماهيّة التجربة الدينية. ففي الوقت الذي يذهب أصحاب النزعة التجريبية إلى اعتبار التجربة الدينية من سنخ التجربة الحسّية (العلم الحضوري)، أرى أن للتجربة الدينية أنواعاً وأقساماً، بمعنى أنها تشكِّل طَيْفاً يبدأ في طَرَفٍ منه بالشهود العقلاني([21]) أو التجربة الذهنية([22])، وطرفه الآخر بالشهود القلبي أو التجربة العرفانية أو العلم الحضوري.

يُضاف إلى ذلك أن أصحاب النزعة التجريبية لا يدَّعون أن وجود الله لا يقبل الاستدلال. إنهم يدَّعون أن وجود الله لا يحتاج إلى استدلالٍ، وأن الاعتقاد بوجوده معقولٌ حتّى بغضّ النظر عن الاستدلال أيضاً. في حين أنّي أدّعي أن وجود الله لا يقبل الاستدلال، وأن الاستدلال على وجوده يقوم على تصوُّرٍ خاطئ، وحتّى إذا كانت أدلة الفلاسفة على وجود الله تامّةً فإن الموجود الذي يتمّ إثبات وجوده بواسطة هذه الأدلة لن يكون هو الله.

يمكن الادّعاء بأن الاختلاف بين الفلسفة والعرفان في باب اللاهوت والأنطولوجيا والإبستمولوجيا والكثير من الأبواب الأخرى ناشئٌ عن الاختلاف في فرضيّةٍ جوهرية وأساسية. إن هذه الفرضية عبارةٌ عن «أن الوجود المطلق موجودٌ في خارج الذهن على نحو اللابشرط».

يذهب العرفاء إلى الادّعاء بأن الوجود المطلق واللابشرط له وجودٌ في الخارج، وليس مجرّد مفهومٍ ذهني بَحْت. ومن ناحيةٍ أخرى يذهب الفلاسفة إلى الادّعاء بأن الوجود المطلق اللابشرط مفهومٌ كلّي وانتزاعي، حيث لا يوجد إلاّ في الذهن، وأن الذي يكون له وجودٌ خارج الذهن مصداقُ الوجود المطلق، وليس ذاته.

يسعى العرفاء إلى إثبات صدق هذه الفرضية؛ بينما يذهب الفلاسفة إلى المناقشة والتردّد والشكّ في صدقها.

إن الموجودات الخارجية، التي هي مصداق مفهوم الوجود، إنما هي ـ من وجهة نظر الفلاسفة ـ مقيّدةٌ دائماً بقيدٍ من القيود. وإن الله، الذي هو بدَوْره أحد هذه المصاديق، يكون وجودُه مقيّداً بقيد الإطلاق.

إن إله الفلسفة وجودٌ بشرط لا، وليس وجوداً لا بشرط. إن الله من وجهة نظر الفلسفة إنما هو مجرَّد واحدٍ من تعيُّنات الوجود المطلق، في حين أنه من وجهة نظر العرفان هو الوجود المطلق.

إن هذه الفرضية الأساسية هي التي تفصل طريق الفلسفة والعرفان لا في اللاهوت فحَسْب، بل في الكثير من المسائل الأنطولوجية والإبستمولوجية الهامّة أيضاً.

كما أن الاختلاف بين الفلاسفة والعرفاء في تعريف الله إنما ينشأ بدَوْره من الاختلاف في الوجود المطلق واللابشرط. من الواضح بداهةً أن المطلق اللابشرط إذا كان موجوداً فهو الله، وأما إذا لم يكن موجوداً فلا مندوحة من أن يكون الله واحداً من تعيُّناتها.

2ـ إله الفلسفة

أـ إن الله ـ على أساس تعريف الفلسفة ـ موجودٌ مقيّد بقيد الإطلاق. وتذهب الفلسفة الإسلامية إلى تعريف مفهوم الله بالوجود بشرط لا، أو الوجود الخاص والمباين لسائر الموجودات. وإن مفهوم الله ـ من زاويةٍ فلسفية ـ مركَّبٌ من: الوجود؛ وقيد سلبي بشرط لا أو بشرط الإطلاق؛ وبواسطته يمتاز الله وينفصل من سائر الموجودات، ويحتلّ مرتبةً خاصة من الوجود هي أعلى المراتب. إن إمكان الشكّ في وجود إله الفلسفة واحتياجه إلى الاستدلال إنما يعود إلى هذا القيد؛ وذلك لأن الوجود عندما يتمّ تقييده بقيدٍ فإن وجود ذلك القيد سوف يصبح مشكوكاً فيه، والشكّ في وجود القيد سوف يسري إلى وجود المقيَّد أيضاً. وهذا النوع من الشكّ معقولٌ؛ لأنه لا يستلزم أيّ تناقضٍ أو تهافتٍ، وإنما يزول بالدليل والبرهان فقط. وعلى هذا يكون وجود الله ـ في ضوء التعريف الفلسفي لله ـ مشكوكاً فيه، ويحتاج إلى دليلٍ.

ب ـ إن هذا التعريف لمفهوم الله قد ألقى بظلاله على رأي الفلاسفة في باب وجود الممكنات، وارتباط الله بالخلق، وتعريف العلِّية وكيفية صدور الكثرة من الوحدة، والكثير من الأبحاث الأخرى.

وإن بعض أهمّ نتائج ولوازم هذا التعريف ما يلي:

1ـ إن هذا التعريف يمنح الفلاسفة إمكانية أن يقبلوا ـ بالإضافة إلى وجود الله ـ بوجود موجوداتٍ أخرى، وإنْ على نحوٍ تَبَعيّ؛ بمعنى أن يلتزموا بالكثرة الحقيقية للوجود. إن الفلاسفة يقسِّمون موجودات عالم الوجود إلى: الوجود الواجب؛ والوجود الممكن، ويرَوْن للمكنات وجوداً حقيقياً، وإنْ كان مقيداً وتَبَعيّاً. إن الفلاسفة في مقام إثبات وجود الله يعمدون ـ بمساعدة الأدلة الفلسفية ـ إلى إثبات إلهٍ يتناغم وجوده مع وجود الممكنات. إن الكثرة الحقيقية للوجود تمثِّل مقدّمةً مفروضة للاستدلال على وجود إله الفلسفة.

2ـ في ضوء القول بهذا التعريف يعمد الفلاسفة إلى تنزيه الله عن صفات الممكنات بشكلٍ مطلق؛ وذلك لأن قيد الإطلاق بمعناه السلبي لا ينسجم ولا يكون قابلاً للجمع مع أيّ قيدٍ آخر، وإن الوجود المقيَّد بهذا القيد يباين الوجود المقيَّد بأيّ قيدٍ آخر.

3ـ في ضوء التصوّر الفلسفي لله لا يكون اجتماع الله والخلق في مرتبةٍ واحدة أمراً ممكناً؛ بمعنى أنه ليس الممكنات وحدها التي لا حضور لها في مرتبة الله فحَسْب، بل إن الله بدَوْره ليس له حضورٌ في مرتبة الممكنات، ولا يمكن له أن يكون حاضراً بينها؛ وذلك لأن قيد الواجب وقيد الممكن يطرد أحدهما الآخر، والموجود المقيَّد بأحد هذه القيود لا يمكن أن يجتمع بالموجود المقيَّد بقيدٍ آخر. إن هذه القيود تحول دون حضور أيٍّ منهما في مرتبة الآخر؛ فإن تنزُّل إله الفلسفة عن مرتبته غير معقول؛ لأنه يستلزم ترك قيد الإطلاق والوجوب؛ وكذلك فإن تعالي الممكنات بدَوْره غير ممكن؛ لأنه يستلزم التخلّي عن قيد الإمكان أيضاً. والفلاسفة ـ بطبيعة الحال ـ يدَّعون أن الله يعلم الممكنات بالعلم الحضوري، ولكنْ كما سنرى فإن هذا الادعاء غير قابلٍ للفهم والتفسير في ضوء ذلك المبنى.

4ـ إن ارتباط إله الفلسفة بالخلق ارتباطٌ علّي بمعناه الفلسفي، وإن من بين الأبحاث الفلسفية الغامضة هو بيان هذا المعنى، وهو: كيف يمكن للكثرة أن تصدر من الوحدة؟

5ـ في ضوء القول بتعريف الفلاسفة لله يصبح تفسير علم الله بالخلق وعلم الخلق بالله مشكلاً. ففي المورد الأول ينشأ الإشكال من أن علم الله بالممكنات لا يمكن أن يكون علماً حصولياً؛ لأن الله ليس له ذهنٌ حتى نفترض أن علمه بالممكنات يكون بواسطة المفاهيم والقضايا الموجودة في ذهنه. ومن ناحيةٍ أخرى فإن إله الفلسفة لا يمكن أن يكون له علمٌ حضوري بالممكنات؛ إذ إن الفلاسفة يصرِّحون بأن العلم الحضوري يختصّ بالمجرّدات، بمعنى أن العالم والمعلوم كلاهما في العلم الحضوري من المجرّدات، وإن مناط العلم الحضوري هو الوحدة والاتحاد الوجودي بين العالم والمعلوم. وعلى هذا الأساس لا يمكن لإله الفلسفة أن يكون له علمٌ حضوري بعالم الطبيعة والموجودات والحوادث المادية لهذا العالم. إن العلم الحضوري عبارةٌ عن حضور المجرّد عند المجرّد. إن هذا العلم يتوقّف على حضور العالم في رتبة المعلوم أو حضور المعلوم في رتبة العالم، وكما رأَيْنا فإن قيد الإطلاق يمنع من حضور إله الفلسفة في مراتب الوجود الدنيا، أو يكون هناك حضورٌ للموجودات المقيّدة بالقيود الأخرى في مرتبته.

إن علم الممكنات بإله الفلسفة بدَوْره سوف يواجه إشكالاً أيضاً؛ وذلك لأن إله الفلسفة هو آخر بالمرّة، وبسبب قيد الإطلاق الذي يستلزم تنزيهه المطلق من صفات الممكنات فإنه لا يشتمل على أيّ وجهٍ للشبه مع الممكنات أبداً، ومن هنا فإن إله الفلسفة غير قابلٍ للعلم الحصولي. كما أن المعرفة الحضورية لهذا الإله غير ممكنة أيضاً؛ لذات الدليل السابق.

 

3ـ إله العرفان

أـ بناءً على التعريف الذي يقدِّمه العرفان عن الله فإن «الله وجودٌ مطلق لا بشرط». إن إله العرفان ـ خلافاً لإله الفلسفة ـ غير مقيَّدٍ بقيد الإطلاق. إن أَخْذَ هذا القيد في تعريف الله إنما هو لإثبات تحرُّره من جميع القيود، بما في ذلك قيد الإطلاق.

ب ـ إذا كان الله وجوداً مطلقاً لا بشرط سوف نحصل بحَسَب هذا التعريف على النتائج التالية:

1ـ لن يكون مفهوم الله ولا وجوده مقيَّداً بأيّ قيدٍ، وعلى هذا الأساس فإن إثبات وجود إله العرفان لن يكون متوقِّفاً على إثبات وجود أيّ قيدٍ أبداً. إن الشك في وجود إله العرفان شكٌّ غير ممكنٍ ولا معقول؛ وذلك لأن إله العرفان وجودٌ مطلق لا بشرط، والوجود المطلق اللابشرط ليس له قيدٌ حتى يسري الشكّ في وجود ذلك القيد إلى الوجود المطلق. إن الشكّ في وجود الله ينشأ ـ من وجهة نظر التعريف العرفاني ـ من تصوُّر الله بشكلٍ خاطئ؛ وذلك لأن الله إذا كان وجوداً مطلقاً لا بشرط ـ كما يدَّعي العرفاء ـ فإن الشكّ فيه عين الشكّ في أصل الوجود، وإن الشكّ في الوجود شكٌّ غير معقول وغير ممكنٍ، وإن افتراضه يشتمل على تناقضٍ. وأما الشك في وجود الله بسبب تصوّره الخاطئ فهو وإنْ كان ممكناً، إلاّ أن إزالته إنما تكون ممكنةً من خلال تصحيح تصوُّر الله، وليس بواسطة الاستدلال على وجوده.

2ـ إن إله العرفان موجودٌ رغم جميع المقيّدات، وله حضورٌ في جميع مراتب الوجود؛ وإنْ لم يكن معه أيّ مقيّدٍ. إن الوجود المطلق لمعنىً ما هو عين المقيّدات، وإن تنزُّله من مرتبة الغيب المطلق وظهوره وتجلِّيه وتعيُّنه في مراتب ما دون الذات أمرٌ ممكن؛ وذلك لأن المطلق اللابشرط هو لا بشرط حقّاً، وقابلٌ للجمع مع كلّ قيدٍ، ولا يطرد أيّ قيدٍ أو أيّ مقيَّد. وبطبيعة الحال ليس هناك أيّ مقيَّدٍ في مرتبة حضوره، ولكنه موجودٌ مع الجميع. إن المطلق موجودٌ مع جميع المقيَّدات، وإلاّ فإنه إذا لم يكن كذلك لما كان مطلقاً، ولكنْ ليس هناك أيّ مقيَّدٍ مع المطلق أو مع المقيَّدات الأخرى؛ إذ لو كان موجوداً لما كان مقيَّداً.

3ـ إن إله العرفان له علمٌ بالممكنات؛ لأن الممكنات ليست غيره بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن علم الله بالممكنات عين علمه بذاته. إن لإله العرفان علماً حضوريّاً وعلماً حصوليّاً أيضاً. إن العلم الحضوري ـ كما سبق أن رأَيْنا ـ يتوقَّف على الاتحاد أو الوحدة الوجودية بين العالم والمعلوم، وإن هذا الافتراض الأنطولوجي والميتافيزيقي إنما يكون قابلاً للافتراض في ظلّ التعريف العرفاني لله. ليس للعلم الحضوريّ من معنىً سوى حضور المعلوم «عند» العالم، والعكس صحيحٌ أيضاً، وإن هذا الـ «عند» هو ذات الوجود في مرتبة العالم أو في مرتبة المعلوم. وكما سبق أن ذكَرْنا ـ فإن وجود الله في مرتبة الممكنات إنما يكون ممكناً ومعقولاً إذا اعتبرناه وجوداً مطلقاً لا بشرط. إن الوجود المطلق اللابشرط في ذات الحفاظ على إطلاقه يمكن أن يكون له وجودٌ وحضور في مرتبة وجود المقيَّد، الذي هو ليس شيئاً آخر غير مظاهره وتجلِّياته.

إلاّ أن علم الله الحصولي بالممكنات؛ لأن العلم الحصولي يعود إلى العلم الحضوري، بمعنى أن العلم الحضوري بالعلّة علمٌ حصولي بالمعلول. إن العلم الحصولي نوعٌ من الاعتبار والافتراض. إن الشخص العالم في العلم الحصولي يواجه العلّة ـ التي هي حقيقة المعلول ـ، ويفترض معرفة تلك العلة معرفة للمعلول الذي هو رقيقة للعلة. وبعبارةٍ أخرى: إن العلم الحصولي عبارةٌ عن اعتبار العلّة ـ المعلومة بالذات ـ بدلاً من المعلول الذي هو معلومٌ بالعَرَض. وعلى هذا الأساس فإن علم الله الحضوري بذاته وأوصافه هو ـ بلحاظ ـ علمه الحصولي بما سواه، حيث إن ما سواه مظاهر وتجلِّيات لذاته وصفاته. بَيْدَ أن هذا الادعاء إنما يكون معقولاً ومقبولاً إذا كانت العلِّية بمعنى الظهور والتجلّي، وتكون العلّة حقيقة المعلول، ويكون المعلول رقيقة العلّة. وبعبارةٍ أخرى: إن المقدّمة المفترضة لهذا الادّعاء هي وحدة الوجود العرفاني، والتي على أساسها تكون تلك العلّة وذلك المعلول شيئاً واحداً، وليسا شيئين.

4ـ إن الوجود المطلق بالمعنى العرفاني لا يترك موضعاً للغير، حتّى ولو على شكل الوجود التَّبَعي والرَّبْطي. إن كلّ ما سوى الله ـ من وجهة النظر العرفانية ـ إنما هو مجرّد ظهورٍ وظلٍّ وتجلٍّ لله. إن العلِّية ليست بمعنى إيجاد الممكنات، وإنما بمعنى تطوّر الوجود المطلق في أطواره وتشؤُّنه في شؤونه وظهوره في مظاهره. إن هذا النوع من الوجود ليس متبايناً مع تنزّلاته، وليس بعيداً أو منفصلاً عنها. والنتيجة هي أنه على أساس التعريف العرفاني لله تصبح الكثرة الحقيقية في الوجود محالاً، وتكون الكثرة الحسّية المشهودة ـ بوصفها مجرّد كثرةٍ في المظاهر ـ قابلةً للبيان والقبول.

5ـ إن إله العرفان لا يمكن له ـ في مرتبة الذات ـ أن يكون متّصفاً بصفةٍ؛ وذلك لأن كلّ صفة تُعَدّ نوعاً من أنواع القيود والمحدوديات، وتستلزم الخروج من الإطلاق واللاحدّية. وبعبارةٍ أخرى: إن انتزاع الوصف منه يتوقَّف على لحاظ نسبةٍ واعتبار حيثيةٍ لا تنسجم مع غيبه المطلق وامتناع الإشارة العقلية إلى كُنْه حقيقته. ومن هنا فإن صفات الله بأجمعها من التعيُّنات والمراتب النازلة لوجوده، والتي تظهر بفعل تجلّي وتنزُّل ذلك الوجود من الغيب المطلق.

6ـ إن وجود إله العرفان بديهيٌّ. وإن الأدلة التي تقام على إثبات وجوده إما ناشئة عن تصوُّره الخاطئ، وفي مثل هذا الحال فإن الذي يتمّ إثبات وجوده لن يكون هو الله، بل هو أمرٌ آخر يتمّ تصوّره خطأً على أنه الله؛ أو أنه مذكِّر أو تنبيه إلى وجوده، بدلاً من أن يكون دليلاً وبرهاناً بالمعنى الدقيق والفلسفي للكلمة؛ أو دليلاً على بداهة وجوده، بدلاً من أن يكون دليلاً على أصل وجوده.

7ـ إن تعريف العرفاء لله يستلزم تفسيراً وبياناً جديداً لجميع المقولات الأنطولوجية والوجودية. وعلى هذا الأساس يتمّ تفسير «العلِّية» بـ «التجلّي»، و«وجود» الممكنات بـ «الظهور»، و«الشكيك في الوجود» بـ «الكثرة في المظاهر»، و«الصادر الأول» بـ «الفَيْض المنبسط».

8ـ إن التعريف العرفاني لله يمنح العرفاء إمكانية الجمع بين التشبيه والتنزيه، وأن يتجنَّبوا التنزيه المطلق لله.

4ـ العرفان، التجربة الدينية والأبستمولوجيا المستصلحة

إن غايتنا في هذا القسم هي أن نثبت أن الوجودَ المطلق بمعناه العرفاني ـ أي الوجود المطلق اللابشرط ـ موجودٌ. من الواضح أنه لو تمّ القول بوجود مثل هذا الموجود يجب أن يكون هو الله بالضرورة؛ لأن الله موجودٌ لا يمكن تصوُّر ما هو أكمل منه. ولكنْ لا بُدَّ من الالتفات إلى أن هذا المدّعى غير قابلٍ للإثبات من طريق الاستدلال؛ لأن القول بمثل هذا الوجود افتراضٌ متقدِّم على كلّ استدلالٍ، وإن الاعتقاد بمثل هذا الوجود كامنٌ في أعماق ذهن وضمير كلّ شخصٍ. والشيء الوحيد الذي يمكن فعله هنا هو إثبات صدق هذا الادّعاء من طريق توفير الأرضية المناسبة للشهود العقلاني. إن الذي نحتاج إليه هنا هو «العلم بالعلم»، والعلم بالعلم غير قابلٍ للتحصيل من طريق الاستدلال بالمعنى المتعارف للكلمة. إن الاستدلال إنما هو لرفع الجهل وتحويل المجهول إلى معلومٍ، وليس من أجل رفع الغفلة وتحويل المغفول إلى مذكورٍ. إن رفع الغفلة إنما يكون ممكناً من خلال مجرّد رفع عللها وأسبابها. إن الجهل نقيض العلم، وأما الغفلة فهي نقيض العلم بالعلم، ويمكن أن تنسجم مع العلم.

إن الشخص في ما يتعلَّق بحقيقةٍ ما إما أن يكون عالماً بها أو جاهلاً، وفي الحالة الأولى إما أن يكون غافلاً عن تلك الحقيقة وعن علمه بها أو أن يكون ذاكراً لتلك الحقيقة وعلمه بها. إن استذكار المعلومات السابقة هو غير تعلُّم حقيقة جديدة، وإن أسلوب التعليم بدَوْره يختلف عن أسلوب الاستذكار. ففي مقام الاستذكار يجب وضع الذهن في ظروف وشرائط تؤدّي به إلى التنبّه والاستذكار. وأما ما هي تلك الشرائط؟ فهذا تابعٌ إلى حدٍّ كبير للموضوع مورد البحث. فمن خلال رؤيتنا لصورة أحد الأصدقاء نستحضر الذكريات القديمة التي كانت لنا معه، وتعود تلك الذكريات حيّةً في ضمائرنا. إذا كان «نقش العالَم» ـ كما يقول العرفاء ـ «ليس سوى خيال الحبيب» إذن لماذا لا نستذكر الحبيب عندما نرى العالَم؟ إن الشيء الوحيد الذي يمكن فعله لكي نستذكر الوجود المطلق اللابشرط هو أن نستحضر لوازم وتداعيات الاعتقاد أو عدم الاعتقاد بوجود مثل هذه الحقيقة، ومن خلال التأمُّل فيها نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أن الاعتقاد بوجود مثل هذه الحقيقة كان موجوداً في الذهن سابقاً، وهذا الأمر هو الذي يتكفَّل به هذا القسم من المقالة.

إن بعض الشواهد التي تستوجب تنبيهنا وتذكيرنا بصدق قضية «إن الله موجود» على النحو التالي:

أـ إن الشك في وجود واقعية كلّ شيءٍ إنما يكون ممكناً فيما لو قبلنا بالوجود المطلق اللابشرط؛ لأن معنى «الشك في واقعية X» هو «هل X، الذي نشكّ في واقعيته ووجوده، له حظٌّ من الواقعية المطلقة اللابشرط، واختصّ لذاته بسهمٍ من الوجود المطلق اللابشرط أم لا؟». وعليه فإن الوجود المطلق اللابشرط هو افتراض متقدّم على الشك في وجود كلّ شيء، ومن دون القول به لن يكون القول بوجود الموجودات المقيّدة وحده هو المحال وغير الممكن فحَسْب، بل حتى الشكّ في وجوده وإنكاره لن يكون ممكناً هو الآخر أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن الشك في الوجود المطلق اللابشرط يستلزم القول بوجوده في مرتبةٍ سابقة. إن وجود الله بحَسَب التعريف العرفاني هو ذات الوجود المطلق اللابشرط، وعليه لا يكون الشكّ فيه ممكناً؛ لأن هذا النوع من الشكّ يتوقَّف على القول بوجوده في مرتبةٍ سابقة. وأما إذا كان الله        ـ كما يقول الفلاسفة ـ وجوداً مقيَّداً بقيد الإطلاق، بمعنى أن يكون وجوداً مطلقاً بشرطٍ له، فإن الشك في وجوده سوف يكون ممكناً من دون أيّ تناقضٍ؛ إذ إن معنى هذا الشكّ هو أن هذا الوجود الخاصّ هل حصل على حظٍّ من الوجود المطلق ـ الذي هو غيره ـ أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: إن الشك في وجود إله الفلسفة لا يحتوي على أيّ تناقضٍ؛ وذلك لأن هذا الشكّ يعني «هل الوجود المطلق بشرط لا له حظٌّ وسهمٌ ونصيبٌ من الوجود المطلق اللابشرط أم لا؟». إن طرح مثل هذا السؤال معقولٌ، وإن هذا السؤال سؤالٌ مفتوح، وإن إغلاقه يحتاج إلى استدلالٍ.

وأما إذا قلنا ـ كما يقول العرفاء ـ بأن الله هو الوجود المطلق اللابشرط فإن الشك في وجوده أو إنكار وجوده سوف يستلزم الاعتراف بوجوده، وإن هذا الأمر يكون وجوده بديهياً، ولا يقبل الاستدلال؛ لأن من بين علامات بداهة قضيةٍ ما أن الشكّ فيها وإنكارها يستلزم إثباتها. وعلى هذا الأساس فإنه من دون القبول بالوجود المطلق اللابشرط لا يكون القول بأيّ واقعيةٍ أو الشكّ فيها وإنكارها أمراً ممكناً. نعلم أن تصوُّر الله ـ على أساس الرؤية العرفانية ـ بوصفه موجوداً ممتازاً ومتمايزاً ومنفصلاً وخارجاً عن سائر الموجودات تصوُّرٌ باطل؛ لأنه يستلزم النقصان والمحدودية بحقّ الله. وبعبارةٍ أخرى: إن الشكّ في وجود الله هو عين الشكّ في أصل الوجود، وليس مصداقاً له.

يمكن للإنسان ـ طبقاً لتعريف الفلسفة ـ أن يؤمن بصدق الكثير من القضايا، ويؤمن بوجود الكثير من الكائنات، وفي الوقت نفسه يشكّ في وجود الله، ولا يكون هذا النوع من الشكّ مستلزماً لأيّ تناقضٍ في البين. وفي الحقيقة فإن الأدلة الفلسفية على وجود الله تقوم بأجمعها على هذه الفرضية القائلة بأننا في الوقت الذي نشكّ في وجود الله، ونحتاج في إثبات وجوده إلى دليلٍ، لا نشكّ في وجود الممكنات أو الظواهر الممكنة، مثل: الحركة أو النظم، ولذلك يمكن لنا أن نثبت وجود الله من طريق الممكنات أو الظواهر الممكنة، ونزيل الشكّ في وجوده([23]). وأما إذا كان الله ـ كما يدّعي العرفاء ـ هو الوجود المطلق اللابشرط فإن الشكّ في وجوده هو عين الشكّ في الوجود المطلق اللابشرط، وسوف يكون الشكّ الديني عين الشكّ المطلق؛ بمعنى أن فرض الشكّ في وجود الله مع العلم بوجود الممكنات ينطوي على تناقضٍ داخلي. وحيث إن القول بالوجود المطلق اللابشرط مقدّمةٌ لفرض الإيمان بكلّ شيءٍ فإن نفي الشكّ المطلق والقول بأصل الوجود هو عين نفي الشكّ الديني والقول بوجود الله. وفي هذه الحالة يكون وجود الله مستغنياً عن الدليل؛ بمعنى أن افتراض هذه الحاجة افتراض غير معقول وبلا معنىً. وبعبارةٍ أخرى: عندما يعمد الفلاسفة إلى افتراض وجود الممكنات، ويقولون ببداهتها؛ ليستدلّوا بذلك على وجود الله، فإنهم يفترضون ويقرُّون بالوجود المطلق اللابشرط في مرتبةٍ سابقة؛ لأن فرض وجود كلّ شيءٍ يستلزم فرض الوجود المطلق اللابشرط في مرتبةٍ سابقة. ومن هذه الناحية يكون استدلال الفلسفة على وجود الله مشتملاً على تناقضٍ داخلي؛ لأن هذا الاستدلال إنما هو لإثبات وجود شيءٍ تمّ افتراض وجوده ضمن مقدّمات الاستدلال.

ب ـ إن حاجة القضية إلى دليلٍ يتوقَّف على تصوُّر موضوعها ومحمولها بشكلٍ خاص. لو تمّ تصوُّر الموضوع والمحمول بحيث تكون العلاقة بينهما إمكانية، ولا يمكن الفصل بينهما، عندها يكون إثبات صدق تلك القضية بمعنى أن إثبات التماهي والارتباط بين موضوع ومحمول تلك القضية يحتاج إلى دليلٍ، وأن الشكّ في صدق هذه القضية شكٌّ ممكن ومعقول؛ لأن افتراض الفصل بين موضوع ومحمول تلك القضية في بعض الأبعاد والعوالم الممكنة لا يحتوي على أيّ تناقضٍ. وأما إذا كان الارتباط بين الموضوع والمحمول ـ في ضوء التعريف ـ ارتباطاً ضرورياً، وكان افتراض الانفصال بينهما مستلزماً للتناقض أو المحال، فإن ثبوت المحمول للموضوع سوف يكون مستغنياً عن العلّة، وإن عِلْمَنا بتلك القضية بدَوْره سوف يكون مستغنياً عن الدليل والبرهان أيضاً. إن هذا النوع من القضايا يُعَدّ من البديهيات، وإن العلم بصدقها يتوقَّف على مجرّد التصوُّر الدقيق للموضوع والمحمول، خلافاً للقضايا النظرية، التي هي، بالإضافة إلى تصوُّر الموضوع والمحمول، تحتاج إلى دليلٍ أيضاً. إن قضية «إن الله موجود» بديهيةٌ؛ لأن الله عين الوجود، وانفكاكه عن الوجود محالٌ. إن وجود الله ـ بحَسَب التعريف ـ ضروريّ، وليس إمكانياً، ومن هنا يكون الارتباط بين الموضوع والمحمول في قضية «إن الله موجود» بدَوْره من الناحية المنطقية ضروريّاً.

ج ـ إن النسبة المئوية لاحتمال وجود شيءٍ تتوقَّف على أعداد قيود وشرائط وجوده؛ وكلما كانت شرائط وجود شيءٍ ما أكثر كان احتمال وجوده أضعف، وإن الشكّ في وجوده أكثر معقولية، وإثبات وجوده أشدّ تعقيداً؛ لأن وجود ذلك الشيء يتوقَّف على تحقُّق مجموع تلك الشرائط، والعلم بوجوده يتوقَّف بدَوْره على العلم بتحقُّق جميع تلك الشرائط أيضاً. ولكنْ كلما كان وجود الموجود يحتوي على شرائط وقيود أقلّ كان احتمال وجوده أكبر، وحيث لا يتوقَّف وجود الموجود ـ بسبب إطلاقه ـ على أيّ شرطٍ يكون وجوده يقينياً. وإن وجود الله بحَسَب التعريف لا يتوقَّف على أيّ شرط؛ إذ إن مفهوم الوجود إنما يُنتزع ـ باعتراف الفلاسفة أنفسهم ـ من حاقّ ذات الله، وحمله على الله لا يتوقَّف على لحاظ أيّ حيثيةٍ تحليليةٍ أو تقييديّةٍ؛ إن ذات الله عين الوجود.

د ـ إن المطالبة بالدليل على وجود شيءٍ تتوقَّف على تصوّر ذلك الوجود على نحوٍ محدود ومباين وممتاز من سائر الأشياء الأخرى. بَيْدَ أن تصوُّر الله بشكلٍ محدَّد ومباين وممتاز من سائر الموجودات الأخرى يستلزم النقص والمحدودية والتشبيه، ومن هنا فإننا لو تصوَّرنا الله على هذه الشاكلة ـ كما يصنع الفلاسفة ـ، وجعلنا هذا النوع من التصوّر والتصديق موضوعاً لقضية «إن الله موجود»، نكون قد وقَعْنا في الخطأ؛ بمعنى أننا في الواقع لا نكون قد تصوَّرنا الله أو صدّقنا به، بل أحلَلْنا شيئاً آخر محلّ الله، وأقَمْنا الدليل على ذلك الشيء. ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون القيد الذي يفصل الله عن الموجودات الأخرى قيد إطلاقٍ أم غير إطلاق، بمعنى أنه ليس هناك اختلافٌ بين القيد الماهوي والقيد غير الماهوي؛ لأن مشكلة النقص والمحدودية تنشأ من أصل القيد، لا من ماهويته. إن قيد الإطلاق يسلب من الله صفة الإحاطة والشمول والوجود السَّعِي الذي هو واحدٌ من الكمالات، إنما الاختلاف الوحيد بين هذا القيد وسائر القيود يكمن في أن القيود الأخرى، بالإضافة إلى سلب هذا الكمال، تستلزم محدودية أو زوال سائر الكمالات أيضاً. إلاّ أن هذا الاختلاف لا يُحدث تغييراً في حكم القيود. إن دليل نفي القيد عن الله هو أن القيد يستلزم النقص والمحدودية، وهذا الأمر يتنافى مع ألوهية الله تعالى. إن خطأ الفلاسفة يكمن في أنهم لا يرَوْن قيد الإطلاق مستلزماً للنقص، في حين أن الإحاطة والسعة الوجودية، التي تستلزم الوجود والحضور الحقيقي لصاحبها في جميع مراتب الوجود، تُعَدّ بدَوْرها واحدةً من الكمالات، بل هي من أهمّ الكمالات. وبعبارةٍ أخرى: إن تقسيم دائرة الوجود إلى منطقتين، وهما: منطقة الواجب؛ ومنطقة الممكن، أو الوجود المستقلّ والرابط، يستلزم محدودية الله في دائرة وجوده وحضوره في ساحة الممكنات. وقد سبق أن ذكَرْنا أنه من دون وجود وحضور الله في العالم لن يكون لعلمه الحضوري مفهوماً محصَّلاً، ولا يكون تصرُّفه وتأثيره وتدخُّله في العالم قابلاً للتصوُّر.

هـ ـ إن الله عين الوجود، والوجود عين ذاته؛ وعليه فإن تصوُّر انفكاك ذات الله عن الوجود ينتهي إلى التناقض، وكلما أدّى نفي قضيةٍ ما إلى التناقض أضحى صدقها أمراً بديهياً. وأما القول بأن الله عين الوجود فإن دليله هو أننا لو افترضنا أن ذات الله غير الوجود يكون هذا الافتراض مستلزماً للنقص والمحدودية، ويكون في الوقت نفسه مستلزماً للحاجة إلى الغير أيضاً؛ لأن الشيء الذي لا يكون الوجود عين ذاته يكون وجوده مرتهناً للغير، ويكون افتراض انفكاكه وانفصاله عن الوجود افتراضاً ممكناً ومعقولاً. وعلى هذا الأساس، لكي نفرّ من هذا المحذور يجب أن نعتقد بأن الله ـ في ضوء التعريف ـ موجودٌ، ولا يمكن أن لا يكون موجوداً. وبعبارةٍ أخرى: إن المطالبة بالدليل على وجود الله تقوم على تصوُّره بوصفه ماهيّةً من الماهيات أو مفهوماً من المفاهيم؛ حيث يكون في حدّ ذاته منفكّاً عن الوجود؛ في حين يجب القول في مورد الله: إن المفهوم الذي يُنْتَزَع من حاقّ ذاته ـ وبدون أخذ أيّ حيثيةٍ تعليلية وتقييدية ـ هو مفهوم الوجود، وليس مفهوماً آخر، ولا حتى مفهوم الوجود المقيَّد بقيد الإطلاق. وعلى الرغم من أن الفلاسفة بدَوْرهم يرَوْن أن الله هو عين الوجود، ويسلبون عنه الماهية، إلاّ أنهم؛ من خلال أخذهم قيد الإطلاق في تعريف الله، يعمدون إلى تعريفه بالمركَّب العقلي الذي يتألَّف من الوجود المطلق وقيد الإطلاق، وهذا التعريف يستلزم أن لا يكون مفهوم الوجود قابلاً للانتزاع من حاقّ ذات الله، وأن يحتاج إثبات وجوده إلى الدليل. إن قيد الإطلاق بدَوْره واحدٌ من الحيثيات التقييدية التي تمنع من انتزاع وحمل الوجود على حاقّ ذات الله. وعلى هذا يكون تعريف الفلاسفة لله متناقضاً وغير منسجمٍ مع دعوى استغناء وجوده عن الحيثيات التعليلية والتقييدية.

و ـ إن من بين شرائط صحّة وصوابية التعريف ـ من الناحية المنطقية ـ أن يكون المعرِّف أجلى وأوضح من المعرَّف. إلاّ أن هذا الشرط لا يختصّ بباب التصوُّرات، وإنما هو جارٍ وسارٍ في باب التصديقات أيضاً، وتكون مراعاته لازمةً؛ بمعنى أن المقدّمات    ـ حتّى في التصديق ـ يجب أن تكون أجلى من النتيجة. بَيْدَ أن هذا الشرط لا يتمّ الوفاء به في الاستدلال على وجود الله؛ إذ إن الله ـ بحَسَب التعريف ـ هو أظهر الموجودات، ويعود سبب خفائه أو إنكار وجوده إلى شدّة ظهوره. في حين أن الاستدلال على وجود الله يقوم على فرضية أن الله أكثر خفاءً من الموجودات الأخرى، وأن وجوده أخفى من وجود مقدّمات الاستدلال.

ز ـ هناك ملازمةٌ منطقية بين الحاجة إلى العلّة وبين الحاجة إلى الدليل؛ إذ إن الشيء الفاقد للعلة لن يكون وجوده مشكوكاً كي يحتاج إلى الدليل. إن الشكّ في تحقُّق الشيء إنما ينشأ من الشكّ في تحقُّق علّته، وإن هذا الأمر يكون منتفياً بالنسبة إلى الشيء مورد البحث الفاقد للعلّة، بل الذي تكون علّته محالاً؛ وعليه تكون حاجته إلى الدليل منتفيةً أيضاً. ليس هناك دليل على الله؛ لأن الله ليس له علّةٌ.

ح ـ وفي الأساس فإن الحاجة إلى الدليل ـ كما ورد في المضامين العالية من دعاء عَرَفة ـ تُعَدّ في حدّ ذاتها نوعاً من النقص الذي يتنزَّه عنه الباري تعالى جلَّ شأنُه. إن الموجود المحتاج في ظهوره إلى غيره، والموجود الذي يكون في ظهوره مرهوناً لدلالة الآخر، هو أكمل من الموجود الذي لا تكون لديه مثل هذه الحاجة. وبعبارةٍ أخرى: عندما يقول الفلاسفة: إن وجود الله يحتاج إلى دليلٍ يكون مفروض هذا الكلام هو أن الله في ذاته غائبٌ وبعيد، وفي ظهوره محتاجٌ إلى الغير، وهو الغير الذي يكون بحَسَب فرضية الفلاسفة أظهر وأشدّ حضوراً من الله. إن الله ـ من وجهة نظر الفلاسفة ـ غائبٌ في ذاته، ويحتاج في ظهوره إلى الغير. وبعبارةٍ أخرى: إن «الغياب» و«البُعْد» شرطان من الشرائط الجوهرية في حاجة وجود الشيء إلى دليلٍ، وإن هذان الشرطان ـ بحَسَب التعريف ـ ينتفيان في مورد الله. إننا عندما نلجأ إلى الدخان لإثبات وجود النار إنما يكون ذلك عندما تكون النار بعيدةً عن أنظارنا، وتكون خافيةً عن أعيننا، وأما عندما تكون النار على مقربةٍ منا، ونشعر بحرارة لهيبها، فسوف يكون البحث عن الدليل على وجودها، وإثبات وجودها من طريق الدخان، بعيداً عن العقل والمنطق.

وبطبيعة الحال فإن اختلاف النار عن الله يكمن في أن النار يمكن أن تكون قريبةً منا، كما يمكن أن تكون بعيدةً عنا، في حين أن غياب الله وبعده يتنافى مع ألوهيّته وربوبيته. ولو أن شخصاً تصوَّر الله بحيث يكن تصوُّره مستلزماً لبُعْده وغيابه يكون في الحقيقة قد تصوَّر الله بشكلٍ خاطئ، ويجب عليه تصحيح نظرته وتصوُّره عن الله، لا أن يعتبر غياب الله وبُعْده أمراً مسلَّماً، ويقيم الدليل عليه. إن ظهور الله وحضوره من ذاتياته، وإن الله الغائب والبعيد ليس هو الله.

ط ـ يذهب بعض الفلاسفة ـ في ضوء الاستلهام من المصادر العرفانية ـ إلى الاعتقاد بأن القضايا الفلسفية والوجودية هي من قبيل: «عكس الحمل»؛ بمعنى أن الموضوع فيها قد حلّ محلّ المحمول، والمحمول فيها قد حلّ محلّ الموضوع. وعندما يُقال: «الإنسان موجودٌ» تكون الصورة الحقيقية لهذه القضية في الواقع هي «إن الوجود المطلق قد تعيَّن بالتعيُّن الإنساني»، و«قد ظهر في المظهر الإنساني».

إن الوجود المطلق ـ على أساس هذا المبنى ـ ليس هو بالمفهوم الأجوف؛ لتكون الوجودات المقيَّدة مصاديق له؛ وذلك لأن موضوع القضية لا بشرط بالنسبة إلى محمولها. إن الوجود المطلق هو الوجود اللابشرط الذي تعرض عليه المراتب المختلفة من الوجود والتعيُّنات والحدود والقيود، ويظهر في مختلف المظاهر المتنوِّعة. ومن هنا لا يمكن أن يكون هناك وجود لأيّ قضيةٍ فلسفية من دون افتراض وجود الموجود المطلق في مرتبةٍ سابقة. إن الغاية المعقولة للفلسفة تكمن في إثبات تعيُّنات وتجلِّيات هذا النوع من الوجود، وليس إثبات التكثُّر الحقيقي في الوجود. وبعبارةٍ أخرى: إن الوجود المطلق اللابشرط فرضٌ تبدأ الفلسفة بقبوله. إن هذا الفرض البَدْهي هو الذي يفصل طريق الفلسفة عن السفسطة والشكّ، وحيث إن الوجود المطلق هو الله يكون وجود الله هو الفرض البَدْهي للفلسفة، وليس مسألةً من مسائله النظرية.

ي ـ يمكن إدراك وجود الله حتّى من طريق عجز الذهن عن فصل المحمول عن الموضوع في قضية «إن الله موجود»، والتي هي في حدّ ذاتها نوعٌ من الشهود العقلاني، أيضاً، بمعنى أنه يمكن الادّعاء بأنه عندما يتمّ تصوُّر الله بشكلٍ صحيح لن يعود بمقدور الذهن مهما حاول أن يفصل الله عن الوجود، كما لا يمكنه أن يفصل المثلَّث عن امتلاك ثلاث زوايا. إن افتراض انفصال الله عن الوجود يستلزم أن لا يكون وجوده منه، وأنه في الاتصاف بالوجود يحتاج إلى حيثيةٍ تعليلية أو تقييدية. إن مفهوم الإله المعدوم مفهومٌ متناقض، وهذا الأمر يستوجب عجز الذهن عن افتراض الله من دون وجودٍ. وعلى هذا الأساس فإن الذين ينكرون وجود الله أو يشكّون فيه لم يتصوَّروا حقيقة الله كما يستحقّ في الواقع. وكذلك الذين يطالبون بالدليل على إثبات وجوده يعانون بدَوْرهم من ذات هذا الإشكال؛ أي إنهم لا يمتلكون تصوُّراً صحيحاً عن الله.

ك ـ إن من بين الأفكار العميقة في الحكمة المتعالية، في بيان الارتباط بين العلة والمعلول، أن يكون كلٌّ من العلّة والمعلول ـ بلحاظٍ ـ عينَ الآخر، وإن العلة هي حقيقة المعلول، والمعلول رقيقة العلّة. وعلى أساس هذا المبنى يمكن حمل العلّة والمعلول على بعضهما. إن هذا الحمل معروفٌ بـ «حمل الحقيقة والرقيقة».

ونحن ندّعي أن القول بهذا الرأي إنما يكون معقولاً إذا كانت العلّة لا بشرط بالنسبة إلى المعلول؛ إذ حمل الشيئين المباينين وبشرط لا على بعضهما غير ممكنٍ. وعلى هذا الأساس، فإن الله ـ الذي هو باعتراف الفلاسفة أنفسهم العلّة الأولى وعلّة العِلَل ـ يجب أن يكون وجوداً مطلقاً لا بشرط؛ لكي يمكن حمله على سائر الموجودات الأخرى. وإن افتراض وجود كلّ شيءٍ يستلزم افتراض وجود الله في مرتبة سابقة عليها؛ لأن الله حقيقة كلّ شيء، وكلّ شيء هو رقيقة الله، وحقيقة كلّ شيء متقدّمة على رقيقته.

ل ـ إن قضية «إن الله موجود» قضيةٌ تحليلية؛ لأن الله منزَّهٌ عن الماهية، وذاته عين وجوده. إن القضايا التحليلية ضرورية الصدق؛ لأن محمولها إما عين الموضوع أو جزء منه. وبعبارةٍ أخرى: إن قضية «إن الله موجود» ـ بحَسَب التعريف ـ قضية صادقة؛ لأن الله بحَسَب التعريف هو الوجود المطلق اللابشرط، الذي هو محمول جميع القضايا الوجودية.

5ـ إشكالاتٌ وردود

أـ تحديد وجهة نظر القضايا التحليلية

إن القضايا التحليلية غير ناظرةٍ إلى الخارج، ومفادها مرتبطٌ بعالم الذهن. ومن هنا لا يمكن إثبات واقعية خارجية من طريق القضايا التحليلية. وبعبارةٍ أخرى: إن القضايا الناظرة إلى عالم الخارج تركيبية تماماً، وغير بديهية، وتحتاج إلى دليلٍ.

الجواب: إن القول بأن القضايا التحليلية ناظرةٌ إلى عالم الذهن تماماً هو ادعاءٌ من دون دليلٍ. ورُبَما كان هذا الادعاء ناشئاً من توهُّم أن صدق هذه القضايا يأتي من طريق التحليل الذهني، ومن دون الرجوع إلى عالم الخارج. ولكنْ ليس هناك أيّ دليلٍ في البين يقتضي أن تكون القضايا العينية غير قابلةٍ للإثبات من طريق التحليل الذهني.

إذا كان موضوع قضية من الأمور الخارجية فلا شَكَّ في أن محمول تلك القضية بدَوْره سوف يكون خارجيّاً أيضاً، وإن هذا الأمر في حدّ ذاته لا يستوجب أن تكون تلك القضية قضية تركيبية؛ وذلك لأن المفاهيم الخارجية ناظرةٌ إلى الخارج، ويثبت من طريقها حكم بشأن الخارج، وإنْ كان إثبات ذلك الحكم حاصلاً بواسطة تحليل الموضوع.

إن الأمثلة والنماذج من القضايا التحليلية الناظرة إلى عالَم الخارج كثيرة. ومن ذلك أن قضية «كلّ معلولٍ له علّة» ـ على سبيل المثال ـ قضية تحليلية؛ لأن وجود العلة كامنٌ في تعريف المعلول، وفي الوقت نفسه فإن هذه القضية ناظرةٌ إلى عالم الخارج؛ لأن مفاد هذه القضية هو أن المعلول إذا كان موجوداً في الخارج سوف تكون هناك علّةٌ في الخارج أيضاً. وكذلك فإن قضايا من قبيل: «إن لكل ولد والداً» أو «إن لكل زوجٍ زوجةً» قضايا تحليلية، وهي في ذات الوقت ناظرةٌ إلى عالم الخارج. وإن الكثير من القضايا المنطقية تشتمل على ذات هذا الحكم. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ عندما نقول: إن اجتماع النقيضين أو الضدّين محالٌ نريد بذلك أن اجتماع النقيضين والضدين في عالم الخارج محالٌ؛ إن تصوُّر اجتماع النقيضين والضدّين في الذهن ليس محالاً؛ لأن تصوُّر المحال ليس محالاً. وعلى هذا الأساس، يمكن لقضية «إن الله موجود» أن تكون قضيةً تحليلية، وهي في الوقت نفسه ناظرةٌ إلى عالم الخارج أيضاً.

ب ـ استحكام الرابطة بين صدق القضية وقبول تعريف الموضوع

إن صدق القضايا التحليلية يقوم على القبول بتعريف موضوعها؛ وأما الجواب عمّا إذا كان تعريف الموضوع صحيحاً أم لا فلا يمكن إثباته من طريق ذات هذه القضايا. وبعبارةٍ أخرى: إن صدق القضايا التحليلية يقوم على الدوام على القول بالتعريف المدَّعى بشأن الموضوع، ويمكن للشخص أن ينكر موضوع القضية مورد النزاع من خلال إنكار التعريف.

الجواب: يمكن تفسير هذا الإشكال بمعنيين مختلفين. فعلى أساس أحد هذين المعنيين يقوم هذا الإشكال على التفسير الذي يقدِّمه الوضعيون من المنطقيين لطبيعة القضايا التحليلية.

يدّعي هؤلاء أن صدق القضايا التحليلية يقوم على العقود اللغوية، وعلى هذا الأساس عندما تتغيَّر العقود يمكن لهذه القضايا أن تفقد صدقها أيضاً.

بَيْدَ أن هذا المبنى غير صحيح؛ وذلك لأن النزاع في القضايا التحليلية لا يدور حول الصلة القائمة بين الألفاظ والمعاني، وإنما يدور النزاع حول المعاني والمفاهيم، وإن ارتباط المفاهيم ببعضها ليس تابعاً للعقود اللغوية. إن قضية «إن الله موجود» ـ بوصفها قضيّةً تحليلية ـ لا تستثنى من هذه القاعدة. إن نزاع الفلاسفة والعرفاء لا يدور حول المعنى الذي وُضِعَتْ له كلمة الله، وما هو المعنى الذي يريده الناس من هذه الكلمة؟ فلو اتَّفقت كلمة جميع الناس على تسميته بلفظ «الله»، وكان وجود هذا الموجود قابلاً للإثبات بواسطة العديد من الأدلة والبراهين الفلسفية، يبقى هذا السؤال مفهوماً وقابلاً للطرح، وهو السؤال القائل: هل هذا الموجود هو الله؟

إن المعنى الثاني الذي يمكن أخذه لهذا الإشكال بنظر الاعتبار هو أن تحليلية قضية «إن الله موجود» تقوم على القول بالتعريف العرفاني لله. وعلى هذا الأساس لا يمكن من خلال افتراض تحليلية هذه القضية إثبات صدق تعريفها. وبعبارةٍ أخرى: يمكن للفلاسفة تفسير الشكّ في صدق قضية «إن الله موجود» من طريق النقاش في تعريف موضوع القضيّة. ولكنْ علينا أن نلتفت إلى أننا لا نريد أن نستنتج صوابية التعريف العرفاني لله من طريق تحليلية قضية «إن الله موجود». نحن ندّعي أن مجموع دعاوى الفلاسفة في مجال اللاهوت يحتوي على تناقضٍ؛ لأنهم من ناحية يُعرِّفون الله بالوجود المطلق بشرط لا، ويذهبون من ناحيةٍ أخرى إلى الادّعاء بأن مفهوم الوجود يُنتزع من حاقّ ذات الله، ويُحمل عليه دون لحاظ أيّ قيدٍ تقييدي أو تحليلي. إن هذين الادّعاءين لا ينسجمان مع بعضهما؛ إذ إن الادّعاء الأول يستلزم تركيبية قضية «إن الله موجود»، والادّعاء الثاني يستلزم تحليليتها. وحيث إن الافتراض بأن انتزاع مفهوم الوجود من ذات الله يتوقَّف على انضمام قيدٍ من القيود ـ حتى وإنْ كان هذا القيد هو قيد الإطلاق ـ يتنافى مع ألوهية الله يجب على هذا الأساس أن نستنتج أن ألوهية الله تستلزم تحليلية قضية «إن الله موجود»، وإن افتراض تركيبية هذه القضية لا ينسجم مع ألوهية الله، ويشتمل على تناقضٍ.

ج ـ تعريف الله بمفهوم الوجود

إن الوجود الذي أخذ في تعريف الله هو مفهوم الوجود، وليس مصداقه؛ في حين أن النزاع حول وجود الله نزاعٌ حول وجوده الخارجي والعيني. وعلى هذا الأساس، فقد تمّ الخلط في هذا الاستدلال بين «الوجود بالحمل الأوّلي» و«الوجود بالحمل الشائع»، أو بين مفهوم الوجود ومصداقه؛ وذلك لأن الذي تمّ أَخْذه في تعريف الله هو الوجود بالحمل الأولي بمعنى مفهوم الوجود، في حين أن الوجود في قضية «إن الله موجود» هو الوجود بالحمل الشائع، أي الوجود العيني.

الجواب:

أوّلاً: إن الوجود الذي تمّ أخذه في تعريف الله هو الوجود الخارجي، أي الوجود بالحمل الشائع، وليس مفهوم الوجود؛ فلو أن الله كان عين مفهوم الوجود فسوف تعود جميع المحذورات السابقة؛ إذ إن ذات الله ـ في هذه الصورة ـ غير وجوده العيني، والشيء الذي تكون ذاته غير وجوده العيني لا يمكن أن يكون هو الله. ومن هنا فإن الوجود المأخوذ في تعريف الله هو الوجود الخارجي، بمعنى أن الله موجودٌ ذاته عين وجوده الخارجي، الذي هو الوجود بالحمل الشائع. إن عينية الموجود مع مفهوم الوجود أو مع الوجود بالحمل الأولي لا يُعَدّ كمالاً لذلك الموجود ليكون مفهوم الوجود مأخوذاً في تعريف الله. وبعبارةٍ أخرى: لو كان الله عين الوجود بالحمل الأوّلي لأصبح تحقُّقه في خارج الذهن محالاً. إن مفهوم الوجود في قضية «إن الله عين الوجود» عنوانٌ مشير، ومن طريقه يُشار إلى الوجود الخارجي. إن مفاد هذه القضية هو أن الله عين الوجود الخارجي؛ وذلك لأن هذا الموجود، الذي يمكن أن يكون هو الله، ليس موجوداً معادلاً للوجود مفهوماً.

وثانياً: إن القبول بهذا المدَّعى القائل بأن الوجود مأخوذٌ في تعريف الله هو الوجود بالحمل الأولي لا يضرّ باستدلالنا؛ إذ إنما يمكن أخذ مفهوم الوجود في تعريف شيءٍ ما إذا لم يكن ذلك الشيء في خارج الذهن قابلاً للانفصال عن الوجود الخارجي. وفي مثل هذه الحالة فقط يكون مفهوم الوجود قابلاً للانتزاع من ذاته، ومن دون لحاظ أيّ قيدٍ تعليلي وتقييدي. إن أَخْذَ الوجود في تعريف شيءٍ ليس له من معنى سوى أن هذا المفهوم قابلٌ للانتزاع من حاقّ ذات ذلك الشيء، ومن دون انضمام أيّ حيثيةٍ تعليلية أو تقييدية. وعليه فإن النتيجة هي أن قضية «إن الله موجود بالحمل الأولي» ـ التي هي تعريف الله ـ وقضية «إن الله موجود بالحمل الشائع» ـ التي هي القضية مورد البحث ـ متلازمتان في الصدق والكذب، وإن فرض صدق إحداهما مع كذب الأخرى أو الشكّ في الأخرى يؤدّي إلى التناقض. وبذلك يجب على الفلاسفة إما أن لا يأخذوا مفهوم الوجود في تعريف الله، أو أن يقبلوا بوجوده الخارجي بحَسَب التعريف، وإلاّ فإنهم سوف يقعون في التناقض. إنما يمكن أخذ مفهوم الوجود في تعريف شيء، والقول بأن ذلك الشيء يعادل الوجود مفهوماً، إذا كان ذلك الشيء في خارج الذهن مصداقاً لعين الوجود. وعليه فإن الاتحاد المفهومي بين مفهوم الله ومفهوم الوجود في الذهن يستلزم الاتحاد المصداقي لهما في خارج الذهن على نحوٍ ضروري وعيني، وبذلك لا يمكن الادّعاء بأن مفهوم الوجود قد أُخذ في تعريف الله، وفي الوقت نفسه يكون وجوده الخارجي مشكوكاً أو بحاجةٍ إلى دليل.

د ـ صدق القضايا التحليلية مع وجود موضوعها خارجاً

إن القضايا التحليلية الناظرة إلى الخارج مع افتراض وجود موضوعها في الخارج صادقة. عندما نقول، على سبيل المثال: «إن لكلّ معلول علّةً» يكون معنى هذه القضية أنه لو وُجد معلولٌ في الخارج سوف تكون له علّة، أو عندما نقول: «إن لكلّ زوجٍ زوجةً» نريد بذلك أنه لو وُجد زوج في الخارج فسوف تكون له زوجةٌ. وعلى هذا الأساس، فإن ثبوت المحمول للموضوع في هذه القضايا إنما هو ثبوتٌ افتراضي وتقديري، ولا يستلزم وجود الموضوع في الخارج. ومن هنا ففي قضية «إن الله موجود» لا يمكن التوصُّل إلى الوجود الخارجي لله من طريق تحليل مفهوم هذه القضية.

الجواب: إن هذا الادّعاء لا يشتمل على كلِّية، وإنما يصدق في موردٍ حيث لا يكون محمول القضية موجوداً. وأما في القضية التي يكون محمولها هو الوجود فإن ثبوت المحمول فيها للموضوع هو عين ثبوت الموضوع، ولا حاجة إلى إثبات الموضوع في مرتبةٍ سابقة.

هـ ـ أخذ الوجود في تعريف شريك الباري

يمكن أَخْذ الوجود في تعريف شريك الباري أيضاً، وعلى أساس مدَّعى هذه المقالة نستخرج وجود شريك الباري من هذا التعريف على نحوٍ تحليلي.

الجواب: إذا كان الوجود المأخوذ في تعريف الله هو الوجود المطلق اللابشرط فإن افتراض وجودٍ آخر إلى جواره، حتّى إذا كان بوصف شريك الباري، سوف يستلزم التناقض؛ لأن الله الواجد لهذا التعريف لن يبقي موضعاً للغير.

و ـ إنكار الوجود لا يضرّ بالتعريف

عندما نقول: «إن X موجودٌ» يمكن على الدوام إنكار وجود X دون أن نضرّ فيه. وبعبارةٍ أخرى: يمكن القول: «إن X هو X» إذا كان موجوداً.

الجواب: إن هذا الادّعاء لا يشتمل على كلِّية، وإنما يصدق في موردٍ حيث يكون X واحداً من الماهيات، أو يكون تركيباً من الوجود وقيدٍ من غير الوجود. وأما حيث يكون X عين الوجود المطلق اللابشرط فإن إنكاره أو الشكّ في وجوده سوف يؤدّي إلى إنكار X أو الشك في وجوده، بمعنى أنه بعد القبول بتعريف الله لا يمكن إنكار وجوده أو الشك في وجوده.

ز ـ استحالة موجودٍ غير واجب ولا ممكن

إن من بين الإشكالات التي يتمّ إيرادها بمثل هذا الدليل على ضدّ الوجود المطلق اللابشرط هو أن تقابل وحَصْر الموجودات في الواجب والممكن حَصْرٌ عقلي، وإن افتراض موجودٍ لا هو واجبٌ ولا ممكنٌ، بل هو وراء الواجب والممكن، فرضٌ خياليّ يستحيل تحقُّقه في الخارج.

الجواب: إن المغالطة الكامنة في هذا الكلام هي أن قيد الوجوب، مثل قيد الإطلاق، يمكن أخذه بنظر الاعتبار على صورتين:

1ـ فإنْ أخذناه بنظر الاعتبار بوصفه عنواناً مشيراً كان هذا الحَصْر مقبولاً، ولكنْ في هذه الصورة لا يُعَدّ الوجوب في حقيقته قيداً للواجب؛ لكي نفصل وجوده عن الوجود المطلق اللابشرط، وكذلك عن الممكنات، ويكون في الواقع هو ذات الوجود المطلق اللابشرط الذي يدَّعيه العرفاء.

2ـ وأما لو أُخذ الوجوب على نحو القيد بالإضافة إلى الموضوع فلا يكون هذا الحَصْر حَصْراً عقلياً؛ إذ يمكن من الناحية العقلية أن نفترض موجوداً يفوق الوجوب والإمكان، ويكون مَقْسَماً لهما، وكلّ الكلام يكمن في وجود هذا المَقْسَم في الخارج، وذلك لا في ضمن الأقسام فقط، ومن دون فرض وجوده لا معنى لمثل هذا التقسيم من الأساس. إن لُبّ هذا التقسيم يعود إلى هذا المعنى، وهو أن الوجود المطلق اللابشرط الموجود على نحو اللابشرط يتنزَّل من مقامه، وفي هذا التنزُّل يحصل على تعيُّنٍ وجوبيّ تارةً، وعلى تعيُّنٍ إمكانيّ، و تعيُّنٍ مسبوق بعدم التعيُّن. إن هذا الإشكال بدَوْره يقوم على ذلك الافتراض الأساسي في الفلسفة، والقائل بأن الوجود المطلق اللابشرط والمتحرِّر من جميع القيود ـ بما في ذلك قيد الإطلاق ـ مجرّد مفهومٍ ذهني لا وجود له إلاّ ضمن الموجودات المقيَّدة. في حين أن ذات تقسيم الوجود إلى: الواجب؛ والممكن، والقول بأن «الوجود إما واجب أو ممكن»، يستلزم ـ على أساس قاعدة عكس الحمل ـ القول بوجود المطلق اللابشرط في مرتبةٍ سابقة؛ لأن معنى هذا التقسيم هو أن ذلك الوجود المطلق اللابشرط، الذي هو في الحقيقة موضوع القضية، وهو موجودٌ بغضّ النظر عن المحمول، يتنزَّل من مقام عدم المثيل وعدم التعيُّن، ويتعيَّن بالتعيُّن الوجوبي والإمكاني. إن معنى هذه القضية ـ خلافاً للمستشكل ـ ليس هو أن مفهوم الوجود المطلق اللابشرط يوجد في خارج الذهن بشكلٍ صِرْفٍ ضمن الواجب أو ضمن الممكن. إن هذا الحَصْر إذا اعتبر بهذا المعنى فهو حَصْر وَهْميّ، وليس حَصْراً عقلياً.

6ـ الكلمة الأخيرة

إن الانتقادات الواردة في هذه المقالة تتَّجه بأجمعها إلى التعريف الذي تبديه الفلسفة عن الله، والنتيجة المنطقية لهذه الانتقادات هي أن البراهين التي يتمّ تقديمها على إثبات هذا الموجود بوصفه هو الإله غير صحيحة.

إلاّ أن بعض الفلاسفة، من خلال قولهم بالتعريف العرفاني لله، أقاموا شواهد تنبيهيّة على وجود الله. وإن نماذج مثل هذه الأمثلة في ثقافة الغرب تتمثَّل في برهان الوجود، ولا سيَّما بروايته الديكارتية، وتتمثَّل في الثقافة الإسلامية ببعض روايات برهان الصدِّيقين، مثل: الرواية التالية التي تقول: «إن حقيقة الوجود ـ التي هي عين الخارج ـ حقيقةٌ ممتنعة العدم، والحقيقة التي يمتنع عدمها واجبة الوجود».

وقال العلاّمة الطباطبائي& في شرح هذا البرهان: «وهذه هي الواقعية التي ندفع بها السفسطة، ونجد كلّ ذي شعور مضطرّاً إلى إثباتها، وهي لا تقبل البطلان والرفع لذاتها، حتى أن فرض بطلانها ورفعها مستلزمٌ لثبوتها ووضعها. فلو فرضنا بطلان كلّ واقعية في وقتٍ [خاص] أو مطلقاً كانت حينئذٍ [تعني] كلّ واقعيةٍ باطلة واقعاً (أي الواقعية الثبوتية). وكذا السوفسطي لو رأى الأشياء موهومةً أو شكّ في واقعيتها فعنده الأشياء موهومةٌ واقعاً، الواقعية مشكّكة واقعاً (أي هي ثابتة من حيث هي مرفوعة). وإذا كان أصل الواقعية لا يقبل العدم والبطلان لذاته فهو واجب بالذات، فهناك واقعية واجبةٌ بالذات، والأشياء التي لها واقعيةٌ مفتقرةٌ إليها في واقعيّتها قائمة الوجود بها… ومن هنا يظهر للمتأمِّل أن أصل وجود الواجب بالذات ضروريّ عند الإنسان، والبراهين المثبتة له تنبيهاتٌ بالحقيقة»([24]).

إن النتيجة الواضحة التي يمكن أن نستخلصها من هذا البحث هو أن اختلاف الإلهيات الفلسفية عن الإلهيات العرفانية اختلافٌ جوهري لا يقبل الحلّ، وإن اختلاف إله العرفان عن إله الفلسفة يصل إلى الحدّ الذي نضطرّ معه إلى اختيار واحدٍ منهما فقط. إن التحليلات التي تقدَّم ذكرها في هذه المقالة تثبت بوضوحٍ أن اختلاف العرفاء والفلاسفة في باب الإلهيّات ليس مجرّد اختلافٍ في الأذواق والأمزجة أو الأساليب، وليس اختلافاً في الآراء وأوجه النظر. ليس الأمر كما لو أن العرفاء والفلاسفة يتوصَّلون إلى تعريفٍ وتصوُّرٍ واحد عن الله، ثمّ يقترح كلٌّ منهما مجرّد طرق مختلفة للتعرُّف والوصول إلى هذا الإله الواحد. إن إله العرفان هو غير إله الفلسفة، وإن هذه الغيرية هي منشأ الاختلاف بين منهج وأسلوب الإلهيات الفلسفية والإلهيات العرفانية. إن الأدلة الفلسفية ليست عاجزةً عن إثبات إله العرفان فحَسْب، بل هي تقوم في الأساس على نفي وإنكار وجود مثل هذا الإله أيضاً([25]).

إن الاستدلال على وجود الله يستلزم القول بفرضيات لا تنسجم مع إلوهية الله. ومن أهم هذه الفرضيات فرضية وجود الممكنات، وفرضية غياب وبُعْد الله، وفرضية مجهولية الله واحتياجه إلى دليلٍ، وإلى دلالة الممكنات.

إن إثبات وجود الله من طريق وجود الممكنات يقوم على افتراض وجود الممكنات، وافتراض وجود الممكنات لا ينسجم مع التعريف الصحيح لله. وإن هذا الافتراض ليس غير بديهيٍّ فحَسْب، بل هو باطلٌ أيضاً. إن التعريف الصحيح لله إنما ينسجم مع مظهريّة الغير، والممكنات مظاهر وآيات الله، وليست دليلاً على وجوده. وبعبارةٍ أخرى: إن الكثرة الحقيقية للوجود، التي هي من لوازم نفي الوجود المطلق اللابشرط، افتراضٌ فلسفي. إن الفلسفة تبدأ بنفي إله العرفان، والعرفان بنفي افتراض الفلسفة الذي هو بمعنى نفي ذات الفلسفة أيضاً، ونضطرّ بدَوْرنا إلى الاختيار بين هذين التصوُّرين عن الله. إن اختلاف هذين التصوُّرين غير قابلٍ للحلّ، ولا يمكن الادعاء بأن أحدهما دقيقٌ، والآخر أدقّ. إن هذين التصوُّرين متباينان ومتناقضان، واشتراكهما في اللفظ فقط.

لا بأس بأن نشير إلى هذه النقطة أيضاً، وهي أن معقولية الاعتقاد بوجود الله، وإمكان التعقُّل في باب الإلهيات، لا يتوقَّف على إمكان الاستدلال على وجود الله، إلاّ على أساس افتراضٍ خاطئ في باب العقلانية ونشاط القوّة العاقلة، والتي على أساسها يتلخَّص نشاط القوّة العاقلة في الاستدلال بالمعنى الفلسفي للكلمة، وإن التفسير العقلاني للمعتقدات إنما يكون ممكناً في ظلّ المعتقدات الأخرى التي تلعب دَوْر الدليل. إن كلا هذين الافتراضين باطلٌ وعديم المبنى من الأساس. يمكن أن نتساءل ونقول: إذا كانت معقولية كلّ معتقد رهناً بتأييدها والمصادقة عليها من قِبَل العقل الاستدلالي فكيف يمكن تأييد وتفسير هذا الاعتقاد؟ وإذا كان تفسير كلّ معتقد إنما يمكن من خلال تقديم الدليل بالمعنى المصطلح للكلمة فما هو الدليل على هذا الادعاء؟ إن هذه الفرضيات في حدّ ذاتها غير مستدلّةٍ ولا موجّهة، ولذلك فإن المدَّعيات القائمة عليها بدَوْرها تكون غير موجّهةٍ أيضاً. إن من بين أهم آليات العقل الشهود والتجربة العقلانية، وإن الكثير من معتقداتنا إنما تقبل التوجيه والتفسير من خلال الشهود العقلاني والتجربة الذهنية. وعلى هذا الأساس، لا آليّة العقل تختزل في الاستدلال، ولا التعقُّل بمعنى الاستدلال، ولا التوجيه المعرفي للمعتقدات بمعنى الاستدلال لصالحها. وإذا تجاوَزْنا هذه الأمور بأجمعها فإن الاستدلال الفلسفي على وجود الله لا ينسجم مع ماهية الإيمان الديني واللوازم المتوقَّعة منها، وبكلمةٍ واحدة: إنها تبعد الإنسان عن إله الدين الذي هو غير إله الفلسفة.

وفي مقالةٍ أخرى سوف نتعرَّض إلى بيان بحثٍ مقارن بين إله الفلسفة وإله الدين، إنْ شاء الله.

الهوامش

(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) Classical Foundationalism.

([2]) Evidentialism.

([3]) Fideism.

([4]) Reformed Epistemology.

([5]) Experientialism.

([6]) توما الأكويني (1225 ـ 1274م): قسِّيسٌ وقدِّيس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانية، وفيلسوفٌ لاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية وأحد معلِّمي الكنيسة الثلاثة والثلاثين، ويعرف بالعالم الملائكي والعالم المحيط. وهو أبو المدرسة التوماوية في الفلسفة واللاهوت. ترك تأثيراً كبيراً على الفلسفة الغربية؛ فكان الكثير من أفكار الفلسفة الغربية الحديثة إما ثورة على أفكاره أو انتصاراً لها، ولا سيَّما في مسائل الأخلاق والقانون الطبيعي ونظرية السياسة. من أعماله: (خلاصة اللاهوت) و(الخلق والخالق). (المعرِّب).

([7]) كليفورد جيرتز (1926 ـ 2006م): عالمٌ أنثروبولوجي أمريكي. من أكثر الأنثروبولوجيين تأثيراً في العقود الأخيرة من القرن العشرين للميلاد. (المعرِّب).

([8]) كارل بارث (1886 ـ 1968م): عالمُ لاهوتٍ كالفيني سويسري. يعدّه الكثير من العلماء من أهم مفكِّري القرن العشرين للميلاد. وصفه البابا بيوس الثاني عشر بأنه أهمّ عالم لاهوت ظهر منذ توما الأكويني. (المعرِّب).

([9]) سورين كيركيغارد (1813 ـ 1855م): فيلسوفٌ ولاهوتي دنماركي. كان لفلسفته تأثير كبير على الفلسفات اللاحقة، ولا سيَّما في ما يُعْرَف بالوجودية الإيمانية (مقارنة بالوجودية الإلحادية). (المعرِّب).

([10]) لودفيغ يوسف يوحنا فيتغنشتاين (1889 ـ 1951م): فيلسوفٌ نمساوي وأحد أكبر فلاسفة القرن العشرين. كان لأفكاره أثرها الكبير على كلٍّ من: (الوضعانية المنطقية) و(فلسفة التحليل). أحدثت كتاباته ثورة في فلسفة ما بعد الحربين العالميتين. قال فيتغنشتاين بأن معظم المشاكل الفلسفية تقع بسبب اعتقاد الفلاسفة أن أكثر الكلمات أسماء. إن اللغة عند فيتغنشتاين هي الطريق إلى المعرفة باعتبارها وسيلة لفهم تكوين المعنى في الخطاب. من أبرز أعماله: (مصنف منطقي فلسفي)، و(تحقيقات فلسفية)، و(الكرّاسة الزرقاء)، و(الكراسة البنية). (المعرِّب).

([11]) جون كالفن (1509 ـ 1564م): عالمُ لاهوتٍ وقسٌّ مصلح فرنسي في جنيف خلال حركة الإصلاح البروتستانتي. وكان من المساهمين الرئيسين في تطوير المنظومة اللاهوتية المسيحية التي سُمِّيت لاحقاً بـ «الكالفينية». وقد تأثَّر كالفن في تعاليمه بالتقاليد الأوغسطينية والمسيحية الأخرى. وقد انتشرت العديد من الكنائس الأبرشانية والإصلاحية والمشيخية التي تنظر إلى كالفن بوصفه المفسّر الرئيس لمعتقداتها، في مختلف أنحاء العالم. (المعرِّب).

([12]) وليم باين ألستون (1921 ـ 2009م): فيلسوفٌ أمريكي. قدّم مساهمات مؤثِّرة في فلسفة اللغة، ونظرية المعرفة، والفلسفة المسيحية. وكان عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. (المعرِّب).

([13]) ألفين بلانتينغا (1932 ـ …م): فيلسوفٌ تحليلي أمريكي. معروف على نطاق واسع في عمله في فلسفة الدين، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا واللاهوت الدفاعي. وصفته مجلة (تايم) بأنه (فيلسوف الله الأرثودوكسي البروتستانتي القيادي لأمريكا). له العديد من المؤلَّفات، ومن بينها: (الله والعقول الأخرى)، و(طبيعة الضرورة)، و(الإيمان المسيحي المبرر). (المعرِّب).

([14]) انظر على سبيل المثال:

William P. Alston (1991) Perceiving God (Ithaca, NY: Cornell University Press). Alvin Plantinga (2000) Warranted Christian Belief (New York: Oxford University Press).

([15]) Reliabilist.

([16]) للوقوف على آراء ألستون في باب التفسير الإبستمولوجي والمعرفي انظر:

William P. Alston (1989) Epistemic Justification (Ithaca, NY: Cornell University Press).

([17]) Functionalist.

([18]) للوقوف على آراء ألستون في باب التفسير الإبستمولوجي والمعرفي انظر:

Alvin Plantinga (1993) Warrant: The Current Debate (New York L Oxford University Press).

([19]) Thought Experiment Or Intellectual Intuition.

([20]) Knowledge by Presence.

([21]) Rational intuition.

([22]) Thought experiment.

([23]) يُستثنى البرهان الوجودي لأنسلم وبرهان الصديقين برواية العلاّمة الطباطبائي من هذه القاعدة؛ إذ كما سنعلم قريباً، فإن كلا هذين البرهانين يقوم على القول بالتعريف العرفاني لله بوصفه وجوداً مطلقاً لا بشرط. إن نتيجة هذين البرهانين ليست هي إثبات إله الفلسفة، بل التنبيه على وجود الله المطلق اللابشرط.

([24]) صدر الدين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 6: 14 ـ 16. التأكيدات بين المعقوفتين [ ] من كاتب المقالة.

([25]) سبق أن استثنينا البرهان الوجودي وبرهان الصديقين برواية العلاّمة الطباطبائي. إن هذين البرهانين ليسا برهاناً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وشأنهما هو التنبيه والتذكير بوجود إله العرفان، وليس إثبات إله الفلسفة. وكما رأينا فإن هذه النقطة مقبولةٌ من قِبَل العلامة الطباطبائي أيضاً.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً