أحدث المقالات

تاريخية تدوين المقتل الحسيني..

من التدوين إلى العاطفة إلى التوثيق

 

أ. محمد جواد صاحبي(*)

ترجمة: محمد عبد الرزاق

 

تمهيد

تعدّ عملية تدوين سيرة شهداء كربلاء وروايتها مَفْصلاً مهمّاً من مفاصل التاريخ، وقد اصطلح عليه بـ (المقتل)، وكان الناجون من الحادثة أوائل رواته، ثم يأتي بالدرجة الثانية بعض الجند في جيش يزيد، وقد أثبت أغلب ما ورد عن الرواة في كتب المقاتل، وهي عديدة يأتي في مقدّمتها مقتل أبي مخنف، والخوارزمي، وابن أعثم الكوفي.

سنعرض في المقال الحالي – بعد التعريف بأوائل كتّاب المقاتل وطرقهم التوثيقية – إلى ذكر كتّاب المقاتل اللاحقين ممّن ظهر في نصوصه الإحساس والعاطفة، وكيف أنّ هذه الظاهرة ظلّت مرافقةً لمشاريع تدوين المقاتل في أكثر الأحيان، لتستفحل أكثر في القرن الثالث عشر الهجري وما أعقبه، وستكون خاتمة البحث في الصراع بين التدوين والتحريف في التاريخ، وما حصل فيهما من تداخل على أرض الواقع.

 

 كربلاء، أفجع حوادث التاريخ

تعتز الأمم والشعوب الواعية بعظمائها وعلمائها الأفذاذ، فتشيد لهم الأضرحة وتقام التماثيل ويُحتفل بذكراهم، وهذا نابعٌ من رغبة البشر الجامحة إلى تعظيم وتمجيد الأفاضل منهم. إنّ تعظيم المعالي فطرةٌ كمالية لدى الإنسان تدعوه لاحترام الرموز العظيمة وتكريمها. وتأسيساً على ذلك، من الطبيعي أن تفخر الأقوام برموزها وترفع من مكانتها، وهو أمرٌ قد نراه متجلّياً عند أصحاب الحضارات والآداب فيخلّدون تاريخهم الفذ بنصوصهم وآثارهم، لكنّ الأمر يختلف بالنسبة لوقعة الطفّ الأليمة؛ نظراً لطبيعة عناصرها والأجواء المحيطة بها، فهي ليست معركةً حماسية أو تراجيديا مأساوية، وإنما هي حادثة نادرة لم يحصل مثلها قبلُ ولا بعد.

ليس جزافاً أن ننفي تسجيل التاريخ لما يشابه عاشوراء؛ ففي ركبها ثلّة من خيرة المسلمين يتقدّمهم سبط الرسول’ مع أحفاده وحلائله بعزيمةٍ قلّ نظيرها، فقد يمّموا تلك الأرض استجابةً للدعاوى المتكرّرة من قبل أهلها، فما كان منهم إلا النكث والخيانة، وحاصرهم الجيش في الصحراء، مسجلاً أبشع جريمةٍ تاريخية قُتل فيها الآباء والأبناء والأطفال والنساء بشفاه عطشى وبطون غرثى، ولم يقف الأمر عند القتل بل تعدّاه إلى قطع الرؤوس ووطء الأجساد بحوافر الخيل، وقد بلغت الفظاعة مبلغاً انعكس حتى على مرتكبي الجريمة أنفسهم؛ فعاش كثير منهم تحت وطأة الضمير وعذاباته، كما يروى عن شبث بن ربعي في أيام مصعب بن الزبير([1]).

وقد منعت قسوة الفجائع بعض المؤرخين من تدوينها([2])؛ ولهذا تعدّ عملية توثيق حادثة كربلاء حالةً مغايرة لسائر حوادث التاريخ، اصطلح على توثيقها بـ (المقتل)، وكان لوصايا أهل البيت^ وتوجيهاتهم في خصوص كربلاء ونشر تعاليمها الدور الأهم في روايتها تاريخياً.

ومن بين الروايات المتعلّقة بكربلاء نصوص متواترة جلية أكيدة الدلالة يتصل سندها بالمعصومين^، فعلاوة على قيمتها متناً، فإنّ وجود الإمام السجاد(ع) في سندها هو بمثابة زيادة توثيق، بوصفه شاهد عيان على تفاصيل الحادثة من البداية وحتى النهاية.

 

الناجون من المعركة، رواتها الأوائل

كان الإمام السجاد(ع) حاضراً منذ بداية المشروع الحسيني، وهو حينها في الثالثة والعشرين من العمر، فبات مرافقاً لوالده حتى استشهاده، ليقع بعدها في أسر الأعداء, وعلى عاتقه تقع قيادة النهضة الحسينية. ومع أنّ كتب التاريخ لم تروِ لنا شيئاً عن حضوره في الطريق من المدينة إلى كربلاء، إلا أنّ في روايات كربلاء تفاصيل هامّة عنه، ليلة عاشوراء وما أعقبها من أحداث، كما كان من بين الحاضرين في الواقعة ابنه الباقر(ع)، وله من العمر ثلاث أو أربع سنوات.

أما أبناء الإمام الحسن(ع)، فقد حضر بعضهم في ركب الحسين واستشهد، ووقع الناجون منهم في أسر الأعداء كعمرو بن الحسن المذكور في كتب التاريخ([3])، وكذلك الحسن المثنى صهر الحسين([4])، وكان شاهداً على الحادثة برمّتها، وذهب للبراز كسائر بني هاشم ووقى الإمام(ع) بجسده وقاتل حتى قَتَل منهم سبعة عشر رجلاً، وقد أثقلته الجراحات والنبال فسقط بين القتلى مرهقاً وظنّهُ العدو ميتاً([5])، ولما جاؤوا لحزّ الرؤوس عن الأجساد وجدوه حياً، وكان أسماء بن خارجة – خاله – حاضراً آنذاك؛ فطلب منهم أن يهبوا له ابن أخته، ويترك لابن زياد – إذا لقيه – القرار في مصيره، وفعلاً ذهب به إلى الكوفة، وسمع عبيد الله بالخبر ورأى من المصلحة بمكان أن يهبه لأسماء؛ لأنه كان من أعيان الكوفة ورئيس قبيلة فزارة، فقال: هبوا لأبي إحسان ابن أخته. وبعد معالجة جراحاته أرسله أسماء إلى المدينة. وقد علّق بعض المؤرّخين في هامش هذه الرواية – موضحاً علاقة القرابة بين الحسن المثنى وأسماء بن خارجة – بأنّ أم الحسن المثنى كانت من قبيلة أسماء، ووفقاً لتقاليد العرب في ذلك يكون خالاً له([6]).

أما عائلة الحسين(ع)، فقد شهد رجالها ونساؤها فاجعة عاشوراء وما أعقبها كأخواته وأزواجه وأبنائه، وأقرباء بعض الشهداء ممّن وقع في الأسر، وإضافةً إلى بعض أفراد عائلة الحسين وما تبقى من عوائل الشهداء، هناك جملة من المقاتلين نجوا أيضاً من القتل لأسباب ذكرتها كتب السير والتاريخ، وهم:

1 – غلام عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، وإن لم تتوفر معلومات عنه بعيد الواقعة وما آل إليه مصيره، إلا أنّ أرباب الرواية ذكروا أنه كان حاضراً في كربلاء بصحبة مولاه عبد الرحمن، وقد روى بدوره جوانب من عاشوراء([7]).

2 – عقبة بن سمعان، وكان مرافقاً للحسين(ع) منذ بداية المشوار حتى وقع في أسر ابن زياد يوم عاشوراء([8])، ولهذا تسنّى له أن يروي عدّة روايات هامة ودقيقة عن حركة الحسين واستشهاده.

3 – وهناك (الطرماح) ممّن يعدّ في الناجين من أصحاب الحسين، وله مجموعة روايات عن الحادثة.

4 – ابن ثمامة الأسدي، وكان في جيش الحسين وقد جاءت قبيلته لتخليصه من الأسر؛ فاصطحبوه معهم إلى الكوفة([9]).

5 – الضحاك بن عبد الله المشرقي الهمداني، وكان قد التحق بركب الحسين في وسط الطريق، وعمل بما عاهد الحسين عليه، فقاتل جيش يزيد حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يجد لنفسه مهرباً من المعركة، وعاش بعد الحادثة مدّة طويلة روى خلالها مشاهده عن كربلاء، وعنه روى أبو مخنف – حسب الطبري – مجموعةً من الروايات.

يضاف لهؤلاء، رواةٌ آخرون من الجانب الآخر، أمثال حميد بن مسلم، شبث بن ربعي وغيرهما ممن أنّبه عذاب الضمير وعاش ندماً على خطيئته، أو من أولئك الذين دفعهم الطمع وكسب الجاه إلى رواية بعض الأحداث.

 

رادة تدوين المقتل الحسيني

لحسن الحظ، دوّنت جلّ تلك الروايات في قرنها الأول، ووصلنا كمٌّ كبير منها عن طريق أبي مخنف. ومن المناسب بمكان أن نقدّم نبذةً عن شخصية أبي مخنف الذي يتصدّر مقتله قائمة أترابه من المقاتل.

إنّه أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي (157هـ)، من أصحاب بعض الأئمة كالصادق(ع)([10])، وله روايات عنه أيضاً([11])، كان والده من أصحاب الإمام علي، وجدّه مخنف بن سليم (سليمة) الأزدي من صحابة الرسول’ والإمام علي، وكان عاملاً لعليّ على إصفهان وهمدان إبان خلافته([12])، أما في معركة الجمل فقد كان مخنف حامل لواء قبيلته الأزد حتى استشهد([13])  هو واثنين من أخوته([14]).

يعدّ أبو مخنف من ثقات المحدّثين حتى قال عنه ابن النديم: «أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره»([15])، وقد فقدت كتبه – وأغلبها في الإمام علي ومقتل الحسين – إلا أنّ رواياته في الحسين وعاشوراء قد شقّت طريقها إلى بطون الكتب التاريخية؛ فروى لنا الطبري في تاريخه قسماً كبيراً منها مع ذكر أسانيدها كاملةً وتناقلها عنه سائر المؤرخين. ومن الممكن تحصيل جلّ هذه الروايات في مؤلّفات أبي الفرج الإصفهاني، والشيخ المفيد، ومسكويه الرازي، وأبي حنيفة الدينوري، والبلاذري، وابن كثير، على أنّ هذه الكتب لم تذكر مصدرها في النقل، إلا أنّ وحدة النصوص بينها تدلّنا – بطبيعة الحال – على رجوعها إما إلى تاريخ الطبري أو مقتل أبي مخنف.

ومهما كان الأمر، يبقى الموضوع الأهم في روايات أبي مخنف هو اتصالها بشاهد العيان بواسطة أو واسطتين فقط؛ حيث دوّن مقتله بعد أقلّ من ستين أو سبعين عاماً على الحادثة، حيث لم تزل كربلاء حديث الناس في المجالس والأسواق، وهنا تكمن ميزة هذا الكتاب؛ إذ نادراً ما يحصل لمصدر تاريخي بهذا القِدَم أن يحظى بهذا التوثيق المباشر والسريع لاسيما في تلك الحقب.

ويقال: إنّ لأصبغ بن نباتة – وهو من أصحاب الإمام علي – كتاباً مماثلاً في مقتل الحسين، إلا أنّ الكتاب مفقودٌ تماماً ولم يحدّثنا أو يرو عنه أحدٌ من المؤرّخين، وهكذا بالنسبة لمقتل الحسين المنسوب لهشام الكلبي – أحد أصحاب الإمام الصادق – باستثناء جزء من رواياته التي تناقلها بعض المؤرّخين اللاحقين. ومن جملة المعاصرين للأئمة أيضاً يوجد هناك مقتل آخر لجابر الجعفي (128هـ)، لكن لم يصلنا منه سوى الاسم والعنوان. وهذه الوفرة في العناوين ومؤلّفيها إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على اهتمام أئمة أهل البيت البالغ بقضية الحسين، والتأكيد على نشر مبادئها وحرصهم وسائر الصحابة والتابعين ورواة المسلمين ومحدّثيهم على توثيق الحادثة والحفاظ على حقائقها.

نعم، كانت في مقابل هذه المساعي الحميدة لصيانة تاريخ الحسين ورسالته محاولات خبيثة يمارسها الأمويون وسائر سلاطين الجور لتحريف خطّ عاشوراء ودسّ السمّ بين طياتها لمحو حقيقتها الخالدة عن صفحات التاريخ؛ ولهذا السبب فقدت المكتبة التاريخية العديد من الرسائل والمدوّنات في القرون الأولى، على أنّ ما وصلنا من أحاديث وروايات في هذا المجال ليس قاصراً عن المطلوب، بل كفيلٌ بغرض التوثيق في أسانيدها ومتونها.

وإلى جانب هذه النصوص التاريخية الموثقة، توجد مصادر تنقل بعض الروايات دون ذكر الأسانيد، واللافت للنظر هو اتحادها مع تلك النصوص في الأسلوب والمضمون، وأحياناً تجد فيها زيادة في سرد بعض الوقائع الأخرى ممّا لم يرد ذكره في القسم الأول؛ وهذا ما يقوّي ظنّنا باتحادهما في المصدر الأول، كما يشاهد ذلك في روايات أمالي الصدوق (381هـ)([16])، وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي الشاعر والمؤرّخ الشيعي (324هـ)([17])، وهناك من يذكر في آثار الصدوق كتاباً باسم مقتل الحسين، إلا أنّه لا وجود مستقلّ له حالياً، ولا يُستبعد أن تكون تلك الأمالي التي دوّنها طلابُه تعبيراً عن قسم من الكتاب المفقود.

مع ذلك كلّه، ثمّة مؤرخون آخرون رووا في كربلاء وحركة الحسين دون ذكر الأسانيد، ورواياتهم لا تتعارض في محتواها مع النصوص الموثقة، أمثال ما جاء في تاريخ اليعقوبي في مطلع القرن الثالث ومروج الذهب للمسعودي (345هـ).

 

امتزاج تدوين المقاتل بالعاطفة، بداية الانحراف في القرن العاشر الهجري

في القرن السادس الهجري، كتب الخوارزمي أبو المؤيد (568هـ) مقتله في الحسين مستفيداً من كتب السير والتاريخ، وقد وصلنا الكتاب دون اختلاف في نُسَخه، ولا يزال الباحثون والخطباء يفيدون منه، وغالباً ما يَنسب الخوارزمي رواياته إلى ذويها، وأحياناً إلى أبي مخنف وأبن أعثم الكوفي، من هنا يُعتبر مقتله من المصادر الموثقة في هذا الباب، والتي حظيت باهتمام علماء الشيعة والسنّة على حدّ سواء. وفي الفترة ذاتها، أثبت أبو جعفر رشيد الدين محمد بن شهر آشوب (558هـ) في كتابه (مناقب آل أبي طالب) مقتلاً للحسين على هامش سيرته، وكتابه هو الآخر من موثقات العلماء والمؤرّخين.

في القرن اللاحق، جاء عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس المعروف بالسيد ابن طاووس (664هـ) وضمّن كتابه (مصباح الزائر وجناح المسافر) في الأدعية والزيارات، مقتلاً لسيّد الشهداء، كي يتسنّى لزائر الحرم الحسيني التزوّد من بركاته بذكر مصابه(ع)، وأطلق عليه اسم (اللهوف على قتلى الطفوف) وفي بعض النسخ (الملهوف). وقد التزم ابن طاووس فيه مراعاة الإيجاز؛ فأورد بعض الروايات دون ذكر أسانيدها كاملةً وأحياناً يرسلها إلى ابن أعثم الكوفي، الأمر الذي يؤكّد لنا رجوع الكاتب في أغلب رواياته إلى كتاب الفتوح لابن أعثم، وإن اشتمل أحياناً على روايات مشهورة.

وكانت خاتمة هذا النوع من المقاتل الروائية كتاب (مثير الأحزان) لنجم الدين جعفر بن محمد بن جعفر بن هبة الدين ابن نما الحلي (841هـ)، ثم هجرت هذه الطريقة لعدّة قرون، وفي القرن العاشر ظهر نمطٌ جديد من المقاتل أقحمت في نصوصها بعض الأهواء والميول والأهداف السياسية مع إشراك خاصّ للعاطفة والأحاسيس الدينية؛ فاستُبدلت الروايات التاريخية بالمقاتل السردية، ولعلّ الريادة في هذا المجال تعود لكتاب (روضة الشهداء) للملا حسين واعظ الكاشفي (910هـ). وقد تباينت أقوال أرباب السير في حقيقة مذهب هذا الرجل وانتمائه، فبعضٌ قال: هو من الشافعية، وآخر من الحنفية، بينما ذهب آخرون إلى تشيّعه.

تطرّق الكتاب في بعض جوانبه إلى ذكر مواضيع مستحدثة من ابتكارات المؤلّف، ومع أنّه يرجع أحياناً لبعض المصادر، من قبيل كنز الغرائب والشواهد، إلا أنّ بعض رواياته مما لا نظير له في الكتب والمصادر المتقدّمة. أما الكتاب – ومنه اشتقّ مصطلح الروضة على مجالس العزاء الحسيني – فقد حظي بشهرة وانتشار واسعين؛ نظراً للغتهِ المباشرة وسلاسة أسلوبه، فتلقفه الخطباء والنعاة، وإليه تعزى بعض الأساطير والخرافات المقحمة في نصوص عاشوراء، فشقّت طريقها إلى بعض كتب الرواية والتاريخ واعتمدتها بعض المراجع المتأخرة أيضاً.

أما القرن الحادي عشر – العصر الصفوي – فقد كان هناك مصدران تحدّثا عن مقتل الحسين: أحدهما مقتل العوالم لعبد الله البحراني الإصفهاني، والآخر ما جاء ضمن موسوعة كتاب بحار الأنوار للمجلسي، وجاءت نصوصهما على غرار الأسلوب السابق، فأسندت بعض الروايات لمصادرها القديمة، وترك بعضها الآخر دون إسناد. ويستشهد المجلسي أكثر من مرّة بكتاب مقتل الحسين لمحمد بن أبي طالب بروايات شاذة، ولم يرد اسم الكتاب في المصادر المتقدّمة.

ونطالع في عهد القاجاريين اسم الملا آغا الشيرواني المعروف بالفاضل الدربندي (1286هـ)، وهو من تلامذة شريف العلماء المازندراني، حيث كان له كتاب ذكر فيه أخبار مقتل الحسين عنوانه (إكسير العبادات في أسرار الشهادات)، وقد نهج فيه الدربندي أسلوباً مؤثراً في تحريك العاطفة واستمالة الأحاسيس بغية إبكاء القارئ على مصاب الحسين، وهو السبّاق في هذا المجال، على أنّ الكتاب لا يخلو من هزالة في بعض جوانبه([18]).

ولمحمد تقي سبهر الكاشاني أيضاً مشاركة في هذا المجال عندما أفرد جزءاً من كتاب (ناسخ التواريخ) للحديث فيه عن وقائع حركة عاشوراء ومقتل سيّد الشهداء، إلا أنّه لم يُشر في غضون ذلك لمصدر نقله؛ ولعلّ هذا هو السبب في تحريم السيد جمال الدين الأفغاني لقراءة الكتاب واعتبار مطالعته مضيعةً للوقت لا غير([19]).

 

 

عودة طابع التوثيق إلى المقاتل، نهضة القرن الثالث عشر الهجري

في القرن الثالث عشر الهجري، جاء دور فرهاد بن عباس الميرزا حفيد الملك القاجاري فتح علي شاه، وكان من تلامذة الميرزا عيسى قائم مقام فراهاني (الصدر الأعظم)، فكتب بين الأعوام 1303 – 1304هـ كتاباً بعنوان (القمقام الزخار والصمصام البتار)، معلّلاً مبادرته هذه بظهور الخلاف في الروايات وامتزاجها بتعليقات الرواة والشعراء والخطباء في مواضيع عاشوراء؛ وكان يرى في قوّة انتشارها ما لا يمكن تمييزه إلا على العالم الخبير، ولهذا صار بصدد إصدار كتاب منقّح خالٍ من الحشو، يتناول حياة الحسين من الولادة وحتى الشهادة.

وقد حصل معه ذات مرّة – وهو عائد من الحج سنة 1293هـ في سفينته بين قبرص والرود – أن هاج البحر بطوفانه، فتوسّل فرهاد بالإمام الحسين ليخلّصه من سطوة البحر المحدق في ضحاياه، ونذر لقاء تحقّق دعائه إكمال كتاب المقتل، فألقى في البحر قبضةً من تراب الحسين، فهدأت سورة البحر وعاد إلى موطنه سالماً، إلا أنّ مشاغله عاقت مرّةً أخرى دون الوفاء بالنذر حتى عام 1303هـ، وفيه بدأ بالتأليف، يقول في هذا الخصوص: علم الله أنّي لم أدّخر جهداً في تنقيح النصوص والأخبار وفقاً لما جاء في كتب الفرق الإسلامية من أحاديث صحيحة وتواريخ موثقة، على قلّة بضاعتي وقصور طاقتي، وقد أثبتُّ ما تعاور على نقله المحدّثون والرواة منذ القرن الأول الهجري وما تلاه ([20]).

في القرن الرابع عشر، كتب الشيخ المحدّث عباس القمي كتابه (نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم) بالأسلوب نفسه وللغاية ذاتها، وجاء الكتاب أكثر دقّةً وتنقيحاً من سابقه. أما في القرن الخامس عشر فقد حظيت قضية الحسين باهتمام واسع؛ لظهور الحركات السياسيّة – الاجتماعية على الساحة الإسلامية، فبات من الضروري التحقيق في أخبار عاشوراء ومقتل الحسين؛ فصدر العديد من المؤلّفات بأساليب التحقيق المنهجي الحديث وبلغة معاصرة وأدبيات حيّة بما يفي – إلى حدّ ما – بتطلّعات المرحلة.

 

الصدام بين التدوين والتحريف

إلى جانب تلك المساعي الحثيثة كلّها في اكتمال صورة المقاتل المدوّنة ظلّت حركة التحريف محدقةً بالتاريخ؛ فما أكثر ما حبّر ونشر محرّفاً لا غاية منه إلا الطعن في صميم المذهب وكتم الحقائق، وعلى الرغم من تشكيك بعض المؤرّخين والمحققين في روايات كربلاء واقتصار قبولهم على أصل الواقعة ومقتل الحسين فقط، إلا أنّ الواقع يؤيّد أن هذه الحادثة من أبرز ما نقله لنا التاريخ موثقاً؛ لأنّ غالبية مصادرها وصلتنا بأيادي أمينة، كما أنّها بقيت على وتيرة واحدة لسبعة قرون من الزمن دون أن يبرز فيها تناقض أو تعارض جوهري، وإن وجد في أخبارها ما لا يتوافق مع العقل والتجربة فإنه نابعٌ من الفنون الأدبية ومبالغاتها المنطبعة بطابع العاطفة.

لقد أدّى هذا التداخل بين الخرافات والحقائق التاريخية إلى ظهور اتجاهين في البحث التاريخي حول عاشوراء: الأول ارتأى التشكيك حتى في مسلّمات التاريخ، والثاني رأى الإصلاح في سبل البحث التاريخي لتمييز الغث من السمين، وإن كان البيهقي على حقّ عندما قال: «إذا تداخل الصدق بالكذب والغث بالسمين والصواب بالخطأ عسُر التمييز»([21])، وما زال صاحب هذه السطور يبحث منذ عقدين في المجال ذاته، فبالإضافة للمقالات المنشورة قدّمنا كتابين: مقتل الشمس، والتفسير القاني لتاريخ الحسين، ولعلّ ما يميزهما هو سعي الكاتب إلى تنقيح وإجلاء غبار السنين عن سيماء عاشوراء بمعالجة الروايات وإثبات الصحيح منها، وتنبع مشقة هذا العمل من كثرة الروايات وتداخل نصوصها وتشابه أسماء رواتها، والجهد المبذول في تحليل نصوصها الممتزجة بين الحقيقة والمجاز، وغلبة المبالغة والاستعارات والكنايات في مداليلها بالإضافة إلى تأثير عنصر العاطفة، خصوصاً ما بدأ يضاف إلى الروايات بعنوان لسان الحال، الأمر الذي زاد من الهوّة بين الواقع والخيال، ذلك كلّه ولّد لنا نصوصاً لا تنسجم مع العقل والعلم.

ولا ننسى وجود جهود محمودة في هذا الباب للعديد من الباحثين والمؤرّخين جديرةٌ بالثناء والاستحسان.

 

من مجلة نصوص معاصرة العدد التاسع

الهوامش



(*) باحث معروف، متخصّص في دراسة تاريخ الحضارات، والرئيس الثقافي لوزراء الثقافة والإرشاد الإسلامي في مدينة قم.

([1]) تاريخ الطبري 4: 332، بيروت، دار التراث العربي، 1387هـ.

([2]) راجع: التاريخ الفخري: 155؛ وتجارب السلف: 67.

([3]) تاريخ الطبري 4: 353، 359.

([4]) المفيد، الإرشاد: 196، بيروت، مؤسّسة الأعلمي.

([5]) ابن طاووس، اللهوف: 191، المطبعة الحيدرية، 1369هـ.

([6]) راجع: السيد علي رضا واسعي، نكاهي نو به جريان عاشوراء: 201، مكتب الإعلام الإسلامي، 1384ش/2005م.

([7]) تاريخ الطبري 4: 321.

([8]) المصدر نفسه: 313.

([9]) المصدر نفسه: 347.

([10]) الطوسي، الفهرست: 155، النجف، المطبعة الحيدرية.

([11]) رجال النجاشي، تحقيق محمد هادي اليوسفي الغروي، قم،

([12]) منشورات داوري.

([13]) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، القاهرة، المؤسّسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، 1382هـ.

([14]) تاريخ الطبري 13: 36.

([15]) ابن النديم، الفهرست: 158.

([16]) الصدوق، الأمالي، طهران، المكتبة الإسلامية، 1363ش/1984م، المجلس: 30، 31.

([17]) ابن أعثم الكوفي، الفتوح، الفصل السادس، بيروت، دار الكتب الإسلامية، 1385هـ.

([18]) للاطلاع على سيرته راجع: الميرزا محمد التنكابني، قصص العلماء: 108، المنشورات الإسلامية؛ وشرح حال رجال بامداد ايران: 296.

([19]) السيد جمال الدين الحسيني، بايه كذار نهضتهاي اسلامي، صدر واقعي، طهران شركة النشر، 1348ش/1969م.

([20]) فرهاد ميرزا، القمقام الزخار والصمصام البتار 1: 8، طهران، المنشورات الإسلامية، 1363ش/1984م، مقدّمة المؤلف.

([21]) تاريخ البيهقي: 16.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً