أحدث المقالات

مجالس العزاء الحسيني.. بدعة أم سنّة؟

 

الشيخ رضا بابائي

الشيخ رضا بابائي(*)

ترجمة: محمد عبدالرزاق

 

مدخل

إنّ إقامة العزاء والبكاء على الحسين (ع) قضية جوهرية نابعة من صميم الإسلام، ومع أنّ هذه السنّة المعنوية الروحية مما اشتهرت به الشيعة، إلا أنّ أدلّتها لم تقتصر على مذهبٍ خاص؛ حيث يمكن الاستدلال عليها بجملة من الفتاوى والنصوص المأثورة عن مختلف المذاهب  الإسلامية. ولن نتطرّق هنا للأحاديث والأخبار المثبّتة في كتب الشيعة؛ فلا ينبغي الاستدلال على أسس مذهب ما من مصادره، ناهيك أنّ جلّ ما يرتبط بالنصوص والروايات الشيعية الدالّة على صحّة إقامة العزاء الحسيني قد جمعت في موسوعات مختلفة، ولا حاجة لذكرها في هذه العجالة، أمّا موضوع البحث الحالي فهو الردّ على «تبديع مسألة العزاء الحسيني»، ويمكننا أن نبدأ الحديث في ذلك من محطّاته البعيدة من قبيل «فوائد البكاء» و«آثار إقامة العزاء»، لكننا سنسعى للولوج من المحطّات الأولى، متخلّين عن جملة من المقدّمات، على أهميتها.

 

العزاء الحسيني وانطباق مفهوم الشعائر الإلهية

إذا لم تكن إقامة العزاء والبكاء على مصائب الأولياء من أصول الدين أو فروعه، فليست بمنأى عنهما، والخطوة الأولى هي إثبات أهمية هذه السنّة المتأصلة في الأيديولوجيا الدينية، وتبيين مكانة إقامة العزاء على الأولياء – بشكل عام – وعلى الإمام الحسين – بشكل خاص – في الإسلام، وإثبات ذلك عند الشيعة سهل المنال لن يحتاج في بحثه إلى عناء طويل؛ لأنّ من لوازم أصل الإمامة إحياء ذكر الأئمة، وهو لا يتحقق إلا بموالاتهم والتبرّي من أعدائهم، ولا داعي للتذكير بأنّ إقامة العزاء الحسيني هو من أبرز مصاديق التولّي والتبري. إذاً فالبكاء والعزاء نقطة البداية في إحياء أصلٍ من أصول الدين، وهو الإمامة، فتقوى بذلك شوكته.

لعلّ عنوان «تعظيم الشعائر الإلهية» – علاوة على ما تقدم – هو الأكثر انسجاماً من بين النصوص القرآنية مع فكرة المراسم الحسينية: >وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ< (الحج: 32)؛ فالشعائر جمع شعيرة بمعنى العلامة، وقد ذكر القرآن بعض مصاديقها مثل «الصفا» و«المروة»([1]) و«ذبح الهدي في منى» ([2])، فإذا كانت هذه المناسك مقدّسةً ومن علامات الباري لمجرّد انتسابها إليه وتعلّقها به، فمن باب أولى أن يكون أولياء الله من مصاديق تلك الشعائر الإلهية.

ثم إنّ لتعظيم الشعائر سبلاً متعدّدة، منها الفرح لفرحهم والحزن لحزنهم، فإذا كانت الجمادات من قبيل الكعبة والصفا والمروة ومنى وعرفات جديرةً بالتقديس والاحترام؛ لارتباطها بمفهوم شعائر الله، أفلا يُعتبر تكريم أوليائه وأحبّائه تعظيماً لهذه الشعائر؟ يضاف إلى ذلك، أنّ وصية الرسول (ص) بالإحسان لذويه تمثل دليلاً آخر على صدقية مراسم العزاء، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان النبي (ص) وخطاباً للمؤمنين: >قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى<  (الشورى: 23)، إذاً فقد اقترن أجر الرسالة بمودّة ذوي قربى الرسول، والمودّة متجليةٌ في البكاء على مصائبهم والابتهاج بأفراحهم.

وليس الحزن والبكاء من الأمور الاختيارية حتى تشملهما أحكام الأمر أو النهي، فالإنسان بطبيعته لا يبكي عن سبق إرادة وتصميم، كما أنه لن يجد مناصاً من البكاء إذا توفرت مقدّماته؛ وعليه فالنهي عن البكاء أمرٌ عبثي من قبيل النهي عن تصرُّم الزمن، نعم، قد تكون شروط البكاء وتوفير أرضيّته المساعدة مما يمكن للإنسان التحكّم به، فيمكن أن تخضع لأحكام الأمر أو النهي؛ إذاً فالمراد من النهي عن البكاء النهيُ عن مقدماته.

ويندرج حكم البكاء وإقامة العزاء على الموتى – من حيث المبدأ – تحت مبدأ الإباحة، فلا يشملُه موضوعٌ من مواضيع النواهي الشرعية، وبالإضافة إلى السيرة النبوية وأخبارها هناك نصوص روائية عديدة تؤيد إباحة هذا النوع من البكاء في تاريخ الإسلام.

نعم، روى البخاري في صحيحه أحاديث تدلّل على أن بكاء أهل الميّت سببٌ في عذابه: "إنّ المَيتَ لَيُعَذَّب ببكاء أهلِهِ عليهِ"([3])، وقد وردت هذه الرواية عن الخليفة الثاني نقلاً عن الرسول (ص)، في معرض نهيه (عائشة) عن البكاء في مأتم النبي (ص).

وثمة رواية أخرى تُنسب إليه (ص) أشار فيها إلى تعرّض الميّت للعذاب نتيجة النوح عليه: "يُعَذَّبُ في قَبرِهِ باِلنيَاحَةِ عليهِ"([4])، وتنقل هذه الرواية من طريق عبدالله بن عمر في حوارٍ مع عائشة في مأتم زوجها (ص). وقد ذكر في كتب الأخبار ردّ عائشة على الخليفة الثاني وابنه بالآية (164) من سورة الأنعام: >وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى<، فهي تريد أن تقول لهما: بأنّه حتى لو كان البكاء ذنباً فلا جريرة على الميت، وبما أن هذا الحديث مخالف للقواعد العقلية والعدل الإلهي، فلن يكون – بلا شك – من كلام الرسول (ص).

يقول النووي – من علماء الشافعية – تعليقاً على هذه الأحاديث: "هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبدالله، وأنكرت عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه، واحتجّت بقوله تعالى: >وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى<"([5]).

وكتب السيد عبدالحسين شرف الدين بعد نقله كلام النووي:وأنكر ابن عباس هذه الروايات، واحتجّ على خطأ راويها، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، حتى أخرج الطبري في حوادث سنة 13 عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه بالإسناد إلى سعيد المسيّب قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى أقام ببابها، فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، وقال عمر لهشام بن الوليد: أدخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أحرم عليك بيتي، فقال عمر لهشام: أدخل فقد أذنت لك، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرّة فضربها ضربات، فتفرق النّوح حين سمعوا بذلك([6]).

ومن الأحاديث المتقدّمة يخرج صاحب (المجالس الفاخرة) بالنتيجة التالية:كأنّه لم يعلم إقرار النبي (ص) عمل نساء الأنصار في البكاء على موتاهنّ ولم يبلغه قوله (ص): لكن حمزة لا بواكي له. وقوله (ص): على مثل جعفر فلتبك البواكي، ولعلّه سهى نهي النبي (ص) إياه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقية بنت رسول الله (ص)([7]).

علاوةً على ما تقدّم، فإنّ كتب التاريخ والسيَر مليئةٌ بأفعال النبي وقوله وتقريره على صحّة البكاء في عزاء المؤمنين، منها بكاؤه (ص) يوم توفي عمّه أبو طالب([8])، وهكذا يوم استشهاد الحمزة([9]) وجعفر([10]) وزيد بن الحارثة([11]) وعبد بن رواحة([12])؛ فقد روت المصادر شدّة بكاء الرسول على حمزة حتى أغمي عليه([13])، كما بكى أيضاً على جنازة ولده إبراهيم، فسأله عبدالرحمن بن عوف قائلاً: وأنت يا رسول الله؟!” فكان جوابه ردّاً على كل أولئك الذين يرون في البكاء وإقامة العزاء بدعةً من البدع: إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا، إذاً فالعين تدمع لحزن القلب، ولا يحزن القلب دون أن تذرف العين ماءها([14]).

وهناك روايات أيضاً تشير لبكاء الرسول على قبر أمّه آمنة([15])، ويذكر الحاكم النيسابوري في مستدركه بكاءَ فاطمة على قبر الحمزة كلّ يوم جمعة: كانت فاطمة (رضي الله عنها) تبكي وتصلّي عند قبر عمّها الحمزة كل يوم جمعة([16]).

لقد باتت هذه السنّة الإنسانية والدينية متعارفاً عليها في زمن الرسول (ص)، بحيث لم يبق مجال لأحد أن يشكّك في جوازها أو حرمتها فيسأل عنها؛ حيث يروي المؤرخون توافد المسلمين على قبر الرسول وبكائه بكاءً موجعاً، دون أن يعترضهم أحدٌ من الصحابة أو التابعين فينهى عن ذلك. إنّ هذه الروايات الجمّة والسيرة المنقولة مكّنت الرواة والمحقّقين من ردّ روايات المنع أو الجمع بينها إن ساعدت الأدلّة على ذلك([17]).

معارضو العزاء الحسيني، الأدلّة والمنطلقاتلم يكن المخالفون لمسألة البكاء على سيّد الشهداء (ع) على شاكلة واحدة، بل تعدّدت مشاربهم وانقسموا إلى مجموعات ثلاث:

المجموعة الأولى: وهم الذين انطلقوا من اتجاههم السلفي، فنسجوا أدلتهم الشرعية والتاريخية ضدّ إباحة البكاء على الحسين (ع).

المجموعة الثانية: وهم الذين جاء رفضهم للموضوع حفاظاً على مصالحهم السياسية.

المجموعة الثالثة: وهم أرباب التصوّف والعرفان.

وسنتناول كلّ مجموعة بالنقد والتحليل:

 

1 – الاتجاه السلفي، نظرية المخالفة الشرعية

يعتبر المذهب الوهابي وأتباع ابن تيمية مسألة البكاء على الحسين (ع) أو غيره من الموتى والشهداء أمراً مخالفاً للشرع والدين، وأنه بدعة فيه وخروج على السنّة النبوية وسيرة السلف؛ فقد بذل ابن تيمية – من علماء الحنابلة – قصارى جهوده للوقوف بوجه العقائد الشيعية وتفنيدها، وذلك عن طريق تفسير بعض الآيات ونقل جملة من الروايات، ثم جاء من بعده تلميذه ابن القيم فنشر آراءه وزاد من الدفاع عنها في كتابه  زاد المعاد في هدى خير العباد، ومنذ ذلك الوقت بدأت مؤلّفات الشيعة والسنّة تدور حول نقد وردّ أو دعم وتأييد أفكار ابن تيمية، فعلى صعيد علماء الشيعة تجدر الإشارة إلى كتاب إحقاق الحق للقاضي نور الله الشوشتري، وعبقات الأنوار لمير حامد حسين، والغدير للعلامة الأميني، و المراجعات للسيد شرف الدين. ولعلماء السنة أيضاً تأليفات عديدة في ردّ تلك الأفكار لا يسع المجال لإحصائها.

على كل حال، يبقى ابن تيمية وأتباعه وأبرزهم محمد عبدالوهاب (1115 – 1206هـ) من أشدّ المخالفين لموضوع البكاء وإقامة عزاء سيد الشهداء (ع).

لقد قدّم علماء وكتّاب الشيعة والسنّة نقوداً عديدة على المعتقدات السلفية بأدلّة بيّنة من الكتاب والسنّة، ممّا لم يُبق حاجةً للخوض في تفاصيلها هنا. وما نريد إضافته هنا هو أنّ مواقف السلفية ونزاعاتهم وتحريمهم لمواضيع البكاء والتوسّل والزيارة وطلب الشفاعة، ذلك كلّه كان في حقيقته مخالفةً صريحة لجوانب مهمّة ومسلّمة في الشريعة والقرآن والسنّة؛ فلقد تمسّك ابن تيمية وأتباعه في تثبيت عقائدهم ببعض الأدلّة الضعيفة من سيرة السلف، ولإحكام تلك الأفكار كان عليهم تجاوز جملة من أخبار الرسول (ص) وسيرته.

وأهم ما توصّلت إليه هذه الفرقة بخصوص البكاء على الموتى والشهداء كونه بدعة لا دليل شرعي أو نصّي من سيرة السلف يؤيّده، ومعلوم أنّ ردّ ذلك متحقّق بمجرد إثبات نصّ معتبر أو حادثة تأريخية تروي البكاء على أحد الموتى أو الشهداء، والتاريخ الإسلامي بمصادره الأصلية يذكر لنا نماذج عديدة على ذلك، من قبيل بكاء الأولياء والأنبياء على بعض الموتى والشهداء. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الفرقة تقول بالحرمة، وهو ما يحتاج إلى أكثر من دليل على ثبوته. أما من يقول بالإباحة – وهي الأصل – فيكفيه في الإثبات أيّ دليل يقدّمه، فكيف إذا كانت هناك مئات وآلاف النصوص والأدلّة على ثبوت هذه القضية وإباحتها؟!

من هنا، تقاطرت البحوث والردود على هذه الأفكار وخلّفت لنا مكتبات العلماء الأعلام رصيداً واسعاً في هذا المجال، ونحن بدورنا نحيل القارئ لمطالعة تلك الكتب أمثال: إحقاق الحق، والمراجعات، والمجالس الفاخرة.

 

2 – الاتجاه السياسي السلطوي، نظرية الرفض السياسي

لم تأتِ مخالفة البعض لمراسم العزاء الحسيني نتيجة استدلالات شرعية أو نصّية، بل كانوا يبرّرون منعهم لها بما فيها من العواقب السيئة (!) فرأوا في تجنّبها مصلحةً في الحفاظ على وحدة الكيان الإسلامي؛ فإقامة المجالس الحسينية مدعاةٌ لبث الفرقة والتنازع بين المسلمين؛ نظراً لما تتضمنّه من طعن ولعن لبعض الصحابة، يقول ابن حجر في الصواعق المحرقة نقلاً عن الغزالي: لا ينبغي للخطيب وغيره رواية مقتل الحسين، وأيضاً رواية ما يدور بين الصحابة من سجالات وخصام؛ لأنّ ذلك يستوجب الطعن بأعلام الإسلام والدين..([18]).

إذن – وفقاً لذلك – لا ينبغي لأحد الحديث عن مصائب أهل البيت وحادثة العبرات (عاشوراء)؛ لأنّ هذا حديثٌ فيه قدحٌ بالصحابة وغيرهم من الرواة والأعلام في صدر الإسلام!

وفي زماننا الحاضر أيضاً، تتكرّر هذه الأفكار بعبائر مختلفة، فقد دعا الحرص أو الغفلة بعضهم إلى الاعتقاد بأنّ وحدة المسلمين تُحفظ بتجنّب مثل تلك الروايات من صدر الإسلام، بحيث وصل بهم الأمر إلى إهمال مبدأ البراءة بشكل كلّي.

ومن الطبيعي أنّنا لا نرفض هذه الفكرة بجميع جوانبها؛ فقد تخضع المسألة لمتطلّبات العصر فيحصل فيها تغيير، كإقامة الشيعة لمجالس العزاء بشكلٍ أكثر إعتدالاً ومحافظة، لكن لا أنّ يجيء ذلك على حساب طمس الحقائق التاريخية والمسلّمات الشرعية؛ فلم يترك الأئمة وعلماء الشيعة الأعلام ذكر مصائب أبي عبدالله (ع) حتى في أصعب ظروفهم السياسية، بل كانوا يقومون بواجبهم وفقاً لما يتناسب مع الظروف الحاكمة في عصرهم. نعم لا بد من الاعتراف بوجود بعض أشكال العزاء التي لم تعد على المذهب الشيعي إلا بالضرر، وهو ضرر ناتج عن شكل من أشكال العزاء لا عن أصل إقامته.

أمّا فيما يخص كلام الغزالي وتحريمه رواية مقتل الحسين (ع) على الخطباء بذريعة الإفتاء في صالح الدين والحفاظ على حرمة الصحابة، فيمكن مؤاخذته من حيثيات مختلفة، منها أننا لو سلّمنا باستدلاله للزم أن نعمل بخيار الصمت في كلّ خلاف ينشأ بين المسلمين يدعوهم للنزاع؛ تجنّباً للتصعيد والتناحر، وليست واقعة كربلاء إلا نتيجة لهكذا نوع من الصمت والمحاباة، فلو أنّ المسلمين حزموا أمرهم ووقفوا مع جانب الحقّ لما حصل ما حصل في عاشوراء، ولو أنّ الشيعة اتبعوا – من بعد عاشوراء – ما صنعه المسلمون الأوائل في السقيفة والجمل وصفّين لكان التاريخ أكثر ظُلماً ولامتلأت صفحاته بحكّام الجور أكثر ممّا هو عليه الآن، فلم تأتِ مواقف الشيعة هذه عن اجتهادات شخصية، إنما استندوا في ذلك للعديد من الروايات التي تؤكّد على ذكر مصائب الإمام الحسين (ع) وإحيائها.

ناهيك مما كان ولا تزال تمثله مجالس العزاء الحسيني من محاضرات ودروس للجماهير الجالسة تحت منابرها؛ فتشرح لهم عقائد دينهم وأحكامه الشرعية، إلى غير ذلك من قصص التاريخ والسياسة في الدين وغيره، لقد كانت تلك المجالس منهلاً لرجال التقوى والصلاح والباحثين عن الحق وأهله، ومنطلقاً للوقوف بوجه الباطل وأهله، فلا يعني تركها إلا تركاً لجانبٍ مهمّ من نظام التعليم الديني؛ لذا علينا أن نتنبّه للمحدقين بنا من أعداء الدين والإنسانية كي لا يفسدوا علينا ما قطعنا من أشواط وحقّقنا على طريق الوحدة والتضامن بيننا نحن المسلمين.

نعم، هناك بعض الأنماط من العزاء الحسيني تصبّ في صالح أعداء الإسلام ممّن لا يرغب في بقاء الشيعة أو غيرهم من المذاهب الإسلامية الأخرى.

من جهة أخرى، لم نشاهد الغزالي وغيره ممن يدوّن أمثال هذه النصائح في الرسائل والكتب قد عملوا بها وتغاضوا وسكتوا مع الفرق والمذاهب التي خاضوا معها نزاعاتهم الفكرية والدينية، فالمطلعون على مباحث علم الكلام وتاريخ الحضارة الإسلامية يلمسون عن كثب شدّة تطرّف الغزالي وأتباعه في مواقفهم من الشيعة – لا سيما الإسماعيلية – في البحوث العقائدية، فلو كانت صفة التسامح مجديةً حقاً لما كان لديه دافع في تأليف ردوده على الروافض والقائلين بالإمامة ليقدّمها بعد ذلك للخليفة العباسي أو الحاكم السلجوقي.

وعلى أية حال، نحن نؤمن بمبدأ الوحدة وأنّها من أهم الأصول والفروع في الوقت الحاضر، لكنّنا لا نرى في ذكر مصاب الحسين وإقامة العزاء عليه – بشكل عام – منافاةً لوحدة الإسلام وتلاحم أبنائه.

 

3 – الاتجاه الصوفي، نظرية المخالفة العرفانية

هناك من يرى في إقامة العزاء على الميت – مهما علا شأنه – انحرافاً في العقيدة؛ معلّلين ذلك بأنّ الإنسان عندما يموت وتنفصل روحه عن بدنه ينتقل إلى جوار ربّه، وهذا أمرٌ جدير بالابتهاج والفرح؛ لأنّ من يموت أو يستشهد يتحقّق أملُه المنشود، وهو الاتصال بالعالم المعنوي ومجاورة الحق، كما هي حال المسيحيين في ذكرى استشهاد عيسى (ع) واحتفالاتهم بها، فعمل المسيحيين هذا يدلّل على أنّ عيسى في شهادته قد حقّق نجاحاً باهراً، لا الخيبة والفشل.

ويعدّ جلال الدين الرومي من جملة القائلين بهذا الرأي من بين علماء المسلمين؛ فهو يروي في مثنوياته – الكتاب السادس – قصّة شاعرٍ دخل مدينة حلب يوم عاشوراء وتفاجأ بطقوس أهلها في مثل هذا اليوم، وهي إقامة العزاء والمآتم على سيّد الشهداء (ع)، وبما أن الشاعر لا يعرف صاحب العزاء، أخذ يسأل الناس عنه؛ علّه يشارك بشعرهِ في رثائه، فقالوا له: اليوم ذكرى استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، فقال: لكنّه مات قبل قرون، أما العزاء والمأتم فأقيموه على أنفسكم، فهو ليس بحاجة له؛ لأنه أسعد إنسان في مثل هذا اليوم؛ وأنشد يقول:

إبكوا على غفلتكم؛ لأنّ الجهل أبشع مراتب الموت

الروح تشمخ إن تخلّت عن الجسد

فلمَ نبكي ويعرونا السواد

إنّ هذا لسليل المصطفى (ص)

بعروجه غنّوا وكونوا فرحين

فهو قد نال بذلك سعادةً أبدية

وتخلّى عن قيود الدنيا الغرور([19]).

وتأسيساً على هذه الرؤية الغريبة، ينبغي لنا أن نبتهج ونفرح لكلّ من يهجر هذه الدنيا.

وللردّ على ذلك نقول:

أولاً: إنّ ما يذهب إليه المسيحيون في فرحهم على قصّة عيسى (ع) ناتج عن خرافة اعتقدوا بها تقول بأنّ عيسى قُتل ليكفّر عن خطاياهم، إذاً فموته باعثٌ على السعادة الأخروية عندهم.

ثانياً: إنّ في ذلك يكمن الفرق بين الدين الإسلامي والمسيحية المحرّفة؛ فالإسلام مذهبٌ اجتماعي بينما بقيت المسيحية داخل أطر النصُح الأخلاقية ومثاليّاتها. من جهة أخرى، تختلف قراءتنا لحادثةٍ معينة بين النظرة الفردية والاجتماعية، فمن الناحية الفردية ينظر الإسلام لحادثة الحسين (ع) على أنه إمام حقّق بموته سعادة الدنيا والآخرة، وهو القائل: خطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف ([20])، فقد تكامل الحسين بعناوين الشهيد والشهادة. يقول الإمام علي (ع) بعدما نزل على هامته سيفُ الخوارج: والله ما فجأني من الموت واردٌ كرهته أو طالع أنكرته، وما كنتُ إلاّ كقارب ورد وطالب وجد ([21]).

لكنّ الإسلام له موقفه على الصعيد الآخر للحادثة، ولا يكتفي بالجانب الفردي والشخصي؛ فهل هناك فرق بين الرؤية الفردية والاجتماعية لحادثة عاشوراء؟ لقد مثلت عاشوراء بالنسبة لمرتكبيها مشهد الانحطاط الذي عاشه المجتمع الإسلامي آنذاك؛ لذا لا بد من إحياء هذه الذكرى الأليمة والاعتبار بها لئلا تتكرّر مأساتها مرةً أخرى([22]).

زد على ذلك، كيف للمسلمين أن لا يحزنوا لاستشهاد ابن بنت نبيّهم، فيما الرسول (ص) بكاهُ حيّاً يومَ ولادته؟! أي قبل يوم عاشوراء بسنين عديدة؛ فوفقاً للأخبار والأحاديث الواردة في كتب الفريقين، ذكر الرسول حادثة الحسين متوجّعاً في أكثر من موضع، فقد أخرج ابن سعد عن الشعبي قال: مرّ عليّ بكربلاء عند مسيره إلى صفين فبكى حتى بلّ الأرض من دموعه فقال: دخلت على رسول الله (ص) وهو يبكي فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ قال: كان عندي جبرائيل آنفاً، وأخبرني بأنّ ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات بموضعٍ يقال له: كربلاء، ثم قبض جبرائيل قبضةً من ترابه وشمّمني إياها ([23]).

تأسيساً على ذلك، ليس موقف الشيعة في البكاء على الحسين (ع) وإقامة مجالسه تجسيداً ومنطلقاً من صميم الفكر الديني فحسب، بل إنّ معهم رصيداً وافياً من السنّة والسيرة النبوية دليلاً على صحّة معتقدهم ورجحان عملهم.

وكلمتنا الأخيرة في هذا البحث هي: إنّ موضوع البكاء وإقامة العزاء من قبل الشيعة على سيد الشهداء، علاوة على صحّته عقلاً وشرعاً، له أيضاً إيجابيّات في الواقع العملي بما يصبّ في صالح الدين والمجتمع، وإن فلسفة مجالس العزاء الحسيني بحدّ ذاتها مقولة ومبدأ بحاجة لدراسات مستقلّة ونظرة فاحصة، أما ما تطرّقنا له هنا فكان إثبات هذه المقولة في النصوص الدينية والردّ على منكريها.

 

من مجلة نصوص معاصرة العدد الثامن

الهوامش

 




(*) باحث، ومصحّح معروف.

[1]   البقرة: 158.

[2]   الحج: 36.

[3]   صحيح البخاري 2: 80.

[4]   سنن النسائي 4: 14.

[5]   شرح صحيح مسلم المطبوع في هامش القسطاني وزكريا الأنصاري، المجلد الخامس: 318، نقلاً عن عبدالحسين شرف الدين، المجالس الفاخرة:17؛ ومنتهى الآمال، تاريخ حضرة سيد الشهداء، الخاتمة.

[6]   المجالس الفاخرة: 17.

[7]   المصدر نفسه.

[8]   يراجع: السيرة الحلبية، باب أبي طالب وخديجة: 462، نقلاً عن المجالس الفاخرة: 13. وقد ذكر مؤلّف المحاسن مصادر عديدة لهذا الخبر وما يليه.

[9]   السيرة الحلبية 2: 323، نقلاً عن المصدر نفسه.

[10]   المصدر نفسه.

[11]   المصدر نفسه.

[12]   المصدر نفسه.

[13]   المصدر نفسه.

[14]   صحيح البخاري 1: 155، أبواب الجنائز، ويأتي تشبيه البكاء بحزن القلب هنا للدلالة على اتحادهما في حكم الجواز.

[15]   الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 1: 377؛ والسمهودي، وفاء الوفا 2: 112.

[16]   وفاء الوفا 3: 1361.

[17]   العلامة الأميني في الغدير؛ والسيد شرف الدين في المجالس الفاخرة؛ وآية الله جعفر السبحاني في (آيين وهابيت).

[18]   الصواعق المحرقة: 223.

[19]   مثنوي معنوي، نسخة نيكلسون، الكتاب السادس، رقم الأبيات: 796 ـ 799.

[20]   بحار الأنوار 44: 366؛ واللهوف: 25؛ ومقتل الحسين للخوارزمي 22: 5؛ وكشف الغمة 2: 29.

[21]   بحار الأنوار 42: 254؛ ونهج البلاغة: 875.

[22]   الشهيد مطهري، الحماسة الحسينية 1: 128 (بتصرّف).

[23]   القندوزي، ينابيع المودة، الباب 60، الأحاديث الواردة في شهادة الحسين %.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً