أحدث المقالات

علي رفعت مهدي

صدر عن دار الملاك في بيروت،  الديوانٌ الشعريّ الرابع لسماحة العلامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله، تحت عنوان: "في دروب السّبعين". ويقعُ الدّيوان في 135 صفحةً من الحجم المتوسّط، ويحوي 14 قصيدةً منظومةً على الأوزان الخليليّة، ومنها ثلاث قصائد مطوّلات شعر تفعيلة..

وبالنسبة لتاريخ هذه القصائد المنشورة، فمنها ما يعودُ إلى الخمسينات من القرن العشرين، ومنها ما يعود إلى التّسعينات منه، كما يتضمن أحدث ما خطّته ريشة سماحة العلامة المرجع من قصائد، وآخرها منذُ شهورٍ قليلة، معبرةً عن حال الكشفِ والتأمّل والفلسفة، وعن الواقع الإنسانيّ الّذي عاشه سماحته، والمشاعر التي تأجّجت بين حناياهُ؛ آملاً، ومحبّاً، وإنساناً، ومتأمّلاً، وزاهداً، وراغباً في لقاءِ الإلهِ الحبيب المعشوق في هيكل الهدى والفضيلة.

ويمثل هذا الديوان ألبوم الوجد، وقصائد الكشف والتأمل، وخلاصة العمر، وزبدة الحياة، التي أغناها المرجع السيد دام ظله، بالحب وعبق الإنسانية، وغنّاها نشيد خلود، وصلاة شكّلت عروجاً وإياباً لروحه إلى عالم الصفاء حيث لا ظلم، ولا حقد، ولا ضغينة، ولا شقاء، ولا تعاسة، يقول سماحته:

من دمي… لا من تهاويل حياتي     تبدع اللهفة أسرار شكاتي

وتثير الدرب حولي أنجماً              يبعث الحب بها فجر حياتي

فأضمّ اللحنَ… في تهويمةٍ            عذبةٍ تمرح فيها أمنياتي

وعلى روحي من صوفيّتي           نغمٌ عذبٌ… كأحلام سباتي

… وهذه هي قصائد الحياة والزمن الذي "لم يجعله الشاعر ـ النجفي اللبناني لغة وتراثاً وفكراً وعقيدة ـ مجرّد لحظات تمر، ولكنه ملأه بكل معاني إنسانيته، حتى تحول الزمن إلى عنصر من العناصر التي تحمل الإنسان في معنى ما يمنحه من حياة…

الحياة التي "هي هذه الحيوية العقلية والروحية، والحركية وأساس الوجود الإنساني الذي يبحث عن فكر ينغرس فيه، وعن مستقبل يصنعه، وعن روح يسمو معها، ويصفو معها" روح تؤوب راضية مرضية إلى نعيم بارئها، نقية لم تعرف الحقد، لأن "الحياة لا تتحمل الحقد، فالحقد موت والمحبة حياة" وكلّما أحببت الحياة لتغنيها، وتبدع فيها، و"تؤنسنها" فاض وجودك بكل أقداس الروح، وآفاقها وأحلامها:

"وأنا هائمٌ
وروحي تلتاع،
ودنياي، في سماك تجول…
استحث الخطى إليك،
كأنّ الشوق في جانحيّ، نارٌ أكول…
حملتني روحي إليكَ،
فباركها،
وروحي، كما علمت، بتول…
سئمت أفقها المكبّل بالأغلال،
فاقتادها إليك، الدليل،
وتخلّت،
عن عالم، يمرحُ الإثم عليه،
ويسرحُ الدجّيلُ،
لا ترى فيه غيرَ،
مذأبةٍ تعوي،
وكونٍ على الضّعيف يصولُ…".

في دروب السبعين، يتأجج هوى الحياة في ذات المرجع السيد انطلاقاً في ذرى الأحلام، والإيمان الذي غرس في عمره عالماً يزدان بالشعور الحر، والكلمة المسؤولة، والقلق الذي يجعل الإنسان ينفتح وينطلق وينمو… ليكون "غيباً في الحسّ" والواقع، يسعى المرءُ فيه للكشف عن المستور، والتأمّل بما يختزنه من غيب وأسرار، وما يحمله من وقائع تجارب حياتيّةٍ إنسانية، ومن ذكريات تصوّر الأعمال المنقوشة والمنحوتة في ذاكرة الحياة والوجود…

في دروب السبعين "لا يمكن للإنسان أن يعلن فهمه للحياة، لأن الحياة ليست مجرد لوحة مكتملة الملامح والجوانب، بل إنّ الحياة تعطي في كل يوم من خلال ما تتمثّل في الإنسان فكراً جديداً، وإحساساً جديداً وشعوراً جديداً، وتطلعاً جديداً… لذلك لن يستطيع أحد أن يزعم لنفسه أنه استطاع أن يعلن اكتمال فهمه للحياة… إنّني استطيع أن أقول إنّني اغتنيت بالحياة في الجانب المعرفي لكثير من ركائزها وملامحها وحركّيتها وصراعاتها وأحداثها، ولكن يبقى في الحياة الكثير لما يتجاوز العمر ولما ينفتح على أعمار جديدة، وعلى أجيال جديدة…".

في دروب السبعين، يطوي العلامة الشاعر العبقري عمر أجيال سالفة، وأخرى لاحقة، لأنّ "الشعر هو الإنسان المنفتح على وعي نفسه، ووعي الكون والحياة، والشّعر هو الإيحاء الذي يختزنه الإنسان في عمق ذاته ووجدانه، فنحن عندما نعيش حب الله، والانفتاح على الحياة والإنسان، فإنّنا نعيش الشّعر أحاسيسا ومشاعر وآفاقاً ورؤى وتطلعات، وفي ذلك صفاء الحبّ، وسموّه، وتماهيه مع غاية الوجود الإنسانيّ…

هكذا أوحى شعاع الشعر للمرجع السيد الأديب، حرّاً نقيّاً من الغُربة الإنسانية في هذا العالم، آملاً برضوان الله حبّاً، راغباً في لقاء المهيمن الخلاق، مشتاقاً بلوغ شاطئ الرحمة والسّلام.

في دروب السبعين يسرع بي الـ       خطو فماذا في الملتقى المأمول؟

ربّ عُدّ بي إليك حُرّاً نقيّاً               طاهر الروح كالنسيم البليل

لأعيش الروح المندّى برضوا          نك حُبّاً كهينمات الأصيل…

هكذا تؤوب الروحُ…
وترجع ذات الطهارة إلى عالم قداستها…

بعد أن أنسنت الحياة والوجود والكلمة…

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً