أ. محمد فولادي(*)
مقدمة ـــــــ
ينظر إلى الصحافة باعتبارها من إحدى المؤسسات والعوامل المهمة والأساسية التي تساهم في نضج المجتمع وتطويره. ويتوقف نشاط الركن الرابع من أركان الديموقراطية ومواكبته اليومية للأحداث على الحضور الفاعل للصحافة في الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة. فمن جهة يتوقف نشر الثقافة الوطنية ــ الدينية وتطورها وترسيخ دعائمها على فاعلية الوسائل الإعلامية العامة، وخاصة المقروءة منها، كما أن إضعاف الثقافة أو الاعتداد الثقافي، وإشاعة عناصر الثقافة الدخيلة، مرهونٌ كذلك بضعف هذه الأدوات وعدم فاعليتها. ومن جهة أخرى فإن نشاط الصحافة وحيويتها مرهون أيضاً بوجود المراسلين، والكتّاب، والصحفيين الناشطين، المفعمين بالحيوية،والمهنيين، ذوي الرغبة، والحريصين المتمسكين بالأصول المهنية للصحافة.
ومما لاشك فيه أن سيولة إيصال المعلومة لم تكن في أية مرحلة من مراحل التأريخ البشري بهذه السرعة والانتشار الذي تشهده اليوم، ومن هذا المنطلق فقد اعتبر البعض أن أهم خصائص هذه المرحلة من التاريخ تتمثل في سرعة المعلومات، وسعتها، وأهميتها الاستثنائية، ويسمون العصر الحالي بـ «عصر تدفق المعلومات». واليوم لم تعد مسألة الحصول على المعلومات تقتصر على مراكز معينة فقط، بل يمكن أن تتسلل وتدخل إلى البيوت من وراء الأبواب المغلقة والجدران العريضة؛ إذ إن جميع الأمواج الصوتية والضوئية المحيطة بنا تحمل الرسائل والمعلومات، ولا يوجد مكان ما تقريباً يمكن أن يكون في مأمن من تسللها إليه.
ومن إحدى المهام التي تقوم بها الوسائل الإعلامية، وبخاصة المكتوبة منها، التوعية وزيادة المعلومات. فالمعلومات التي تصل إلى أيدي الناس عن طريق الوسائل الإعلامية تطلعهم على العالم المحيط بهم، فتزيد من معارفهم ووعيهم، وتعرفهم بأخلاقيات الشعوب الأخرى وتقاليدهم وثقافتهم. وتقوم الوسائل الإعلامية بوضع الناس في مجريات القضايا الرئيسية الراهنة على وجه السرعة، من قبيل: القضايا والأحداث السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، والثقافية، وما شاكل ذلك. وبالإضافة إلى عملية الإخبار فإن الوسائل الإعلامية باستطاعتها القيام بتثقيف الناس، من خلال تقديم البرامج الخاصة بتحليل الأحداث والوقائع، وعرض المواضيع المشوقة، وتساعدهم على اتخاذ المواقف المطلوبة. وباستطاعة الوسائل الإعلامية أن توظف نفسها لخدمة تطوير الشعوب ونضجها دينياً وثقافياً، وأن تساهم في رقيّهم معنوياً. ومن الواجبات المهمة الأخرى للوسائل الإعلامية تسلية الناس وملء أوقات فراغهم.
ولا يدور الحديث هنا عن خصائص الوسائل الإعلامية ومهامها ــ وهوموضوع واسع ومفصل بحد ذاته ــ، بل إن الحديث ــ وحسب ما يقتضيه الموضوع ــ يدور بمجمله حول إحدى هذه الوسائل الإعلامية، وهو الإعلام المكتوب، وكيف أنه سيكون قادراً على أداء واجباته الإعلامية بشكل جيد عندما تمتلك الطاقات المجربة الماهرة والمتخصصة، وتمتلك المعلومات المهنيّة اللازمة. والواقع أن نشاط الإعلام المكتوب ومواكبته اليومية، أمر مرهون بامتلاك الصحفيين، والمراسلين، والكتّاب، المهنيين من ذوي الخبرة والممارسة. وإحدى هذه المهارات هي الأخلاق المهنية؛ إذ إن مراعاة الأخلاق الجماعية والاجتماعية، والالتزام بالأخلاق العامة والتمسك بها، أثناء التعاملات الاجتماعية والتعاطي مع الآخرين يعد من المواضيع المهمة في مجال علم الاجتماع والعلاقات الاجتماعية. والحقيقة أن هذا الموضوع يطرح غالباً ضمن نطاق أخلاقية الوسائل الإعلامية؛ بهدف الوقوف على التساؤل التالي: ما هي مكانة الأخلاق في العمل الصحفي، وبالأخص الأخلاق الاجتماعية؟
الأخلاق ــــــ
«الأخلاق» جمع خُلُق، والخُلُق هوالشكل الباطني للإنسان؛ وهي الطباع والصفات، وجمعها أخلاق([i])، مثلما يقال عن الشكل الظاهري والصوري للأشياء بأنها خَلْق، وعلى الرغم من أن كلمة «خَلْق» و«خُلُق» من مادة واحدة في اللغة العربية، إلا أنهما يختلفان عن بعضهما من حيث المعنى.
وبناء على ذلك فإن الغرائز والملكات والصفات الباطنية للإنسان تسمى بـ«الأخلاق»، والسلوك الذي يصدر عن هذه الخلقيات يسمى كذلك أخلاقاً، أو سلوكاً أخلاقياً. ويمكن أن نقول بأن التعريف الشامل لكلمة أخلاق هو: مجموعة الصفات الراسخة في نفس الإنسان وروحه، والتي تصدر عنها الأفعال من خير أو شر.
ومن زاوية أخرى فإن مصطلح الأخلاق يستخدم لتحديد معايير «السلوك الحسن»…، والعمل الأخلاقي يستند بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مجموعة من القواعد المشتركة والمنسجمة([ii]).
ويُعتمد الأخلاق لغةً في مجالات علمية متعددة، ووضعت له تعاريف متعددة أيضاً. وسنشير هنا ــ وحسب ما يقتضيه البحث ــ إلى هذا الموضوع بشكل إجمالي:
عرّف علماء الأخلاق لفظة «خُلُق» بهذا الشكل: «ملكة نفسانية تصدر عنها الأفعال من دون الحاجة إلى فكر ورويّة»([iii]). ويرى الشيخ مصباح اليزدي بأن هذا التعريف غير كامل، ويعتقد بأن موضوع علم الأخلاق أوسع من الملكات النفسانية التي كان يؤكد عليها فلاسفة الأخلاق حتى الآن، ويتسع ليشمل جميع الأعمال الاختيارية القيميّة للإنسان؛ أي إنه يتصف بالخير والشر، وبإمكانه أن يصبح عاملاً لكمال النفس، أو أن يؤدي بالنفس إلى الرذيلة والنقص([iv]).
ويعرّف الشيخ جوادي الآملي الأخلاق بهذا التعبير: «الأخلاق عبارة عن الملكات والهيئات النفسانية التي إذا اتصفت النفس بها تصدر عنها الأعمال بسهولة ويسر، مثلما يؤدي أصحاب المهن والصناعات أعمالهم بسهولة، وكذا بالنسبة لأصحاب الملكات الفاضلة أو الرذيلة، فإنهم يؤدون أعمالهم الحسنة أو القبيحة بسهولة. إذاً فالأخلاق عبارة عن الملكات النفسانية والحالات الروحية التي تؤدي إلى أن تصدر الأعمال الحسنة أو القبيحة بسهولة عن النفس المتخلقة بالأخلاق الخاصة([v]).
وما ورد في هذه المقالة من كلام عن الأخلاق يتعلق بهذا البعد الإنساني لمفهوم الأخلاق، الذي يشمل جميع السلوكيات والملكات والحالات النفسانية للإنسان، وإن النفس المتصفة بها تكون قادرة على القيام بالأعمال بسهولة. وعلى الرغم من أن الأخلاق بهذا المعنى ستشمل الأخلاق الفاضلة والأخلاق الرذيلة إلا أن المراد من «الأخلاق» هنا هوالتمسك بالصفات الأخلاقية الفاضلة.
الصحفي ــــــ
من الممكن أن نتعرف على الصحفي بكل سهولة، من خلال نوع العمل الصحفي الذي يؤديه. فقد يكون محترفاً أو قد يكون مبتدئاً وحديث عهد بعمله. فهو شخص يعمل في إحدى الصحف أو النشرات؛ فإما أن يكتب المقالات لصحيفته أو نشريته؛ أو يعد التقارير؛ أو يكتب الافتتاحيات؛ أو يعمل في تصحيح وتقويم النصوص. وعليه فإن الصحفي من الممكن أن يعرف بعدة مسميات، مثل: مراسل، محلِّل القضايا السياسية، الاقتصادية، الثقافية، كاتب مقالات، صحفي خاص، مسؤول تنسيق الأخبار، مساعد رئيس التحرير، محرِّر القسم الاجتماعي، الثقافي، السياسي…، وغير ذلك.
إن حدود مساحة الأعمال التي من الممكن أن يتحرك فيها الصحفي، وينجز فيها عمله، هي بسعة العالم المحيط بذلك العمل. فهو يقوم بإعداد تقاريره الصحفية حول أي موضوع يحمل جنبة خبرية، سواء كانت تتعلق بالجرائم والجنح، أو القوانين والانضباط العام، أو البرامج السياسية، المحاكم، السلطة التنفيذية والتشريعية؛ أو كانت حول شؤون الناس، الموديلات، الفن، الموسيقى، المسرح، الأدب والشعر، وغيرها. إن عمل الصحفي أو سع مما ذكرنا، فهو يصحِّح مقالات الآخرين، ويحلِّل الأخبار وينتقدها ويلخِّصها([vi]).
وانطلاقاً من التعاريف الآنفة لكل من «الأخلاق» و«العمل الصحفي»، من الممكن الآن توضيح العلاقة بينهما بهذا الشكل:
عندما يعتمد «العمل الصحفي» قيد «الأخلاق» كمنهج عملي فهذا يعني أن الصحفيين ملزمون بالعمل ضمن إطار الأخلاق، وأن يراعوا أخلاقية العمل الصحفي في جميع الأحوال. وعلى الرغم من أن الأخلاق تعد من الأركان والأطر الأساسية للنشاطات المهنية، في جميع المجالات والفعاليات، إلا أن أهمية هذا المبدأ في مجال العمل الصحفي تتضاعف؛ ذلك أن الصحفي لم يعد ملكاً لنفسه فقط، فهو يتحمل مسؤولية الإعلام في المجتمع، وإن نشاطه المهني ذو صلة وثيقة ومباشرة مع الرأي العام. من هنا فإن أدنى تصرف لا أخلاقي يبدر منه في النشاط الإعلامي، أو عدم التزام منه بالأخلاق العامة، سيؤدي بالتالي إلى جرح الرأي العام.
وبناء على ذلك يجب على الصحفي أن يكون متقيداً ومتمسكاً في نشاطاته الإعلامية بالأخلاق والمقولات الأخلاقية. ومن الطبيعي أن تكون الفضائل والقيم الأخلاقية في المجتمع الديني تابعة لرؤيتها الكونية الدينية، وهذا يعني أنه يجب على الصحفي في المجتمع الديني أن يكون تابعاً للفضائل والقيم الأخلاقية، ومتمسكاً بها، وأن يجتنب الرذائل الأخلاقية، وسوء الخلق في العمل الصحفي.
الصحافة والمصالح العامة ــــــ
من المفاهيم والمصطلحات الأخرى في ميدان العمل الصحفي مفهوم «المصالح العامة»، والذي تصطدم به الصحيفة على الدوام. ومن جملة الخطوط الحمراء للعمل الصحفي مراعاة الحرمات والمصالح العامة. ولكن ما هي هذه المصالح العامة؟ وما هي طبيعتها؟
هذا الموضوع بحد ذاته يعد موضوعاً واسعاً، ولكن لابد من القول بشكل إجمالي: إن المصالح العامة تكمن في المكان الذي يشترك فيه أكثر الناس بالمنفعة المتبادلة في ذلك الموضوع، وهو ما يتعارض عادة مع المصالح الشخصية والفردية. وعليه من الممكن فصل المسائل الاجتماعية الكبيرة عن المسائل الصغيرة للمجتمع، والتي يشعر الأفراد بأنهم قادرون على التأثير فيها بشكل مباشر (مثل: الأسرة، مكان العمل، المجتمع، وغيرها). إذاً فالمسائل الكبيرة تتعلق بدائرة المصالح العامة، وهي خارجة عن نطاق الدائرة الخاصة. وأكثر الناس يشعرون بالقلق الشديد في أغلب الأوقات على حياتهم الخاصة؛ ذلك أن الدائرة العامة تعد أمراً بعيداً عن متناول اليد، ويطلع الناس على جانب منها عن طريق الوسائل الإعلامية العامة، ولكنهم لا يقلقون عليها بشكلٍ جادٍّ.
ويمكن القول بأن المصالح العامة تشمل الأمور التالية: أ) الصحة، السلامة والراحة العامة؛ ب) الأخلاق والعفة العامة؛ ج) الدفاع، الحرب، السلام والأمن العام؛ د) الدين، الثقافة، القواعد والقيم الاجتماعية؛ هـ) الهوية الوطنية والانسجام الاجتماعي؛ و) أمور أخرى.
وبناء على ذلك يمكن أن نخلص إلى القول بأن المصالح إما أن تكون عامة؛ أو خاصة. والأمر الذي لا يكون ضمن نطاق الدائرة الخاصة يعتبر ضمن نطاق الدائرة العامة. ومن هنا فإن احترام الحدود العامة يعدّ دائماً وفي كل الأحوال أمراً ضرورياً، ولا بد من الاهتمام بهذه الحدود، واحترامها من قبل الصحفيين.
العمل الصحفي والحرمات الخاصة ــــــ
ومن المفاهيم الأخرى الشائعة الاستخدام في مجال العمل الصحفي «الحرمات الخاصة»، كحرية المعلومات، وحق الحصول الحر على المعلومات، والتي تمثل الحقوق الإنسانية الأساسية، وحجر الأساس لمكانة الإنسان والقيم الأخرى، من قبيل: حرية عقد التجمعات، وحرية الرأي والتعبير، وهي من أهم الحقوق الإنسانية في العصر الراهن. ومن هنا فإن الحرمات الخاصة معترفٌ بها رسمياً في جميع أنحاء العالم، وفي الكثير من المناطق والثقافات المختلفة.
إن مفهوم الحرمات الخاصة يعدّ من جملة المفاهيم السهلة الممتنعة. ويرتبط تعريف هذا المفهوم بالثقافة والأجواء الاجتماعية والبيئية بشكل تام. وفي الكثير من الدول يرتبط هذا المفهوم بمقولة المحافظة على المعلومات، التي تفسر الحرمات الخاصة ضمن مفهوم إدارة المعلومات الشخصية، وأُدغما في بعضهما البعض. وفي نفس الوقت ينظر إلى مفهوم المحافظة على الحرمات الخاصة عادةً بأنها وسيلة لترسيم الخطوط التي يتمكن من خلالها المجتمع التدخل في أمور الأفراد. إن فقدان التعريف الخاص لا يدل على قلة أهمية هذا المفهوم، بل يمكن القول إجمالاً بأن جميع مفردات حقوق الإنسان إنما هي جوانب من حق الحرمات الخاصة وبعض أبعادها.
وفي عقد التسعينات من القرن التاسع عشر (1890) طرح اثنان من قضاة المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية، وهما صموئيل وارن ولويس برانديس، هذه المسألة ـ ولأول مرة ـ كموضوع قانوني جاد وصريح، في مقالة تحت عنوان: «حق الحرمات الخاصة»، وعرّفا الحرمات الخاصة بأنها «حق الأفراد في الوحدة». والحرمات الخاصة ــ حسب رأيهم ــ من جملة أرقى الحقوق في النظام الديموقراطي، وإن الدفاع عنها يجب أن ينعكس في الدستور. وعرّف روبرت إليس سميث الحرمات الخاصة بهذا الشكل: «نظرة كل شخص منا بامتلاك مناخ طبيعي، نتمكن من خلاله أن نكون في حِلّ من التدخل، والمضايقة، والاضطراب أو الإجابة، والسعي للسيطرة على الوقت، وكيفية إفشاء المعلومات الشخصية عن أنفسنا»([vii]). وبناء على ما جاء في تعريف آخر فإن الحرمات الخاصة هي حق الأفراد في التمتع بتوفير الحماية لهم أمام التدخل غير المسموح به من قبل الآخرين في شؤونهم وحياتهم وأسرهم، سواء تم هذا العمل بالأسلوب الطبيعي المباشر أم عن طريق نشر المعلومات. والحرمات الخاصة هي قيمة عليا وأساسية، واهتمام بالمكانة والشأن الإنساني وسائر القيم الأخرى، من قبيل: حرية عقد الاجتماعات، وحرية التعبير. والحرمات الخاصة هي من حقوق الإنسان الأساسية ومطلب منطقي للفرد([viii]).
نطاق الحرمات الخاصة ــــــ
يمكن تقسيم نطاق الحرمات الخاصة إلى أربع مناطق متفرقة، ومرتبطة ببعضها:
1ــ حرمة المعلومات: وتشمل القوانين التي تنظم السيطرة على المعلومات الشخصية، نظير: المعلومات المالية، الصحية، والحكومية، للأفراد. وتعرف هذه المنطقة بدائرة «حفظ المعلومات».
2ــ الحرمة البدنية: وتتعلق بالمحافظة على جسم الأفراد أمام الاختبارات الجينية، والعلاجية، وأمثال ذلك.
3ـ حرمة الاتصالات: وتهتم بأمن أنواع البريد الإلكتروني، والهواتف، والبريد العادي، وسائر أشكال الاتصالات الأخرى.
4ـ الحرمة المكانية: وتتعلق بتنفيذ مجموعة من القيود وطرق المراقبة في محيط عمل الأفراد ومعيشتهم، وكذلك الأماكن العامة، ويتم الاعتداء عادة على الحرمة المكانية بواسطة المراقبة الفيديوية، أو عن طريق التدقيق في هوية الأفراد.
التناقض بين «حق الحصول الحر على المعلومات» و«الحرمات الخاصة» ــــــ
إن موضوع الحرمات الخاصة يعد من جملة الموضوعات المثيرة للجدل في العالم الغربي؛ فمن جهة نجد أن الحرمات الخاصة سرية، وذات أهمية خاصة لجميع الأفراد، ويمنع القانون إذاعتها ونشرها، وأكثر من ذلك فإن الكثير من المشاهير، ورجال السلطة، والسياسيين، ونجوم الرياضة، وعامة الناس، لا يرغبون بتعريف أنفسهم للعالم عن طريق الوسائل الإعلامية؛ بينما نشاهد اليوم أن الكثير من نفس هؤلاء الأفراد يهتمون بنشر جوانب من حياتهم الخاصة؛ لكسب المزيد من الشهرة. ويعطي نجوم الرياضة، والسينما، وغيرهم، الأموال للكتّاب لكي يؤلفوا تراجم عن حياتهم، وجميع هذه الكتابات مليئة بجزئيات وتفاصيل الحياة الشخصية؛ أو إن الكثير من السياسيين، والشخصيات السياسية، يقومون بفتح المواقع الإلكترونية الخاصة، ويعرضون من خلالها مشاهد وأفلام عن حياتهم الشخصية.
وعلى أية حال يبدو لنا هنا وجود تناقض معين، يستند من جهة على حق الأفراد في الحصول على المعلومات بشكل حرّ؛ ومن جهة أخرى على أن هذا الحق يصطدم بمانع يعرف بحرمة الأجواء الخاصة بالأفراد.
ومن إحدى القيم التي تعرضت للخطر بإقرار القوانين الجديدة المتعلقة بالحرمات الخاصة هي قضية المعلومات، التي تعد أمراً ضرورياً لا ديموقراطية وحرية النشاط الصحفي؛ إذ لا شك في أن إعطاء الحرية للأفراد بالتحفظ على المعلومات الخاصة بهم يصب في هذا المعنى، وهي أننا نسمح لهم بأن تصبح مسألة الحصول على تلك المعلومات واستخدامها من قبل عموم الناس والصحافة أمراً محدوداً. ولهذا السبب نجد أنه في السنوات الأخيرة أثارت التوجهات نحو جعل الوثائق العامة سريّة، وهي التي كانت تعتبر من الناحية التقليدية وثائق «مفتوحة»، والسعي إلى إبقائها مخفية، أو تطبيق العقوبات على نشر المعلومات المفصلة والدقيقة، موجةً من القلق، ولا تعني مسألة وجود القيم المتعارضة في «المجتمع»، والتي يتطلب القبول بأي منها القيام بدفع ثمن ما، أن القانون يجب أن لا يحافظ على الحرمات الخاصة، بل إن موضوع إجراء موازنة دقيقة ومحددة للقيم والتكاليف تأتي قبل اتخاذ القرارات التي تفرض قيوداً جديدة على سيولة المعلومات، وهذا التوجه ضروري، حتى عندما تقنن القيود من أجل خدمة هدفٍ سامٍ([ix]).
وكما أسلفنا فإن المراد بالحرمات الخاصة الأوجه المتعارفة للمعلومات حول الحياة الخاصة للأفراد، وبخاصة تلك الوجوه التي ليس لها تأثير على طبيعة الحياة الاجتماعية للمجتمع، والحدود التي يجب أن تبقى مصانة من تعرض أي نوع من أنواع الرقابة المتعمّدة، بما في ذلك توسيع حرية حق الحصول على المعلومات. وبتعبير آخر: يمكن القول بأن مراعاة الحرمات الخاصة للأفراد، وحرية المواطنين في الحصول على المعلومات، واللذان يعتبران من الموازين الأساسية لحقوق الإنسان، ليسا في حالة تعارض وتزاحم في ما بينهما. ومن هذا المنطلق يتم التأكيد دائماً على تبيين حرية المعلومات بأنها بمثابة حصول المواطنين على المعلومات التي لدى الدولة. وفي الحقيقة فإن حرية المعلومات لا تشمل ــ بطبيعة الحال ــ حصول المواطنين على المعلومات المتعلقة بالحياة الخاصة للأفراد. وحسب رأي بعض الخبراء فإنه عند البحث حول الحياة الخاصة لبعض الأفراد، وبخاصة أولئك الذين يتحكمون بمصير الناس في الأنظمة الديموقراطية من خلال تمثيلهم لهم، تصبح هذه القاعدة العامة جديرةً بالتأمل([x]).
حالات انتهاك الحرمات الخاصة ـــــــ
على الرغم من أن احترام الحرمات الخاصة يعد أمراً ضرورياً في الكثير من الثقافات والمجتمعات، ولكن في بعض الأوقات ــ وفي حالة التعارض ــ هناك إمكانية لانتهاكها، ولكن تبقى حالات الانتهاك هذه أمراً نسبياً بطبيعة الحال، ومن الممكن أن تكون حالات الانتهاك تلك متباينة في بعض المجتمعات عن غيرها. ويمكن القول إجمالاً بأن الحرمات الخاصة للأفراد تتعرض عادة للانتهاك في المجتمع العلماني في الحالات الثلاث التالية:
1ــ عندما يمتلك الفرد شخصية عامة، فمن الطبيعي أن يفقد شخصيته الخاصة.
2ــ عندما يصبح بالإمكان تقدير المصلحة العامة المحددة بأنها تكمن في الكشف عن المصالح الخاصة.
3ــ عندما يرغب عامة الناس في معرفة الأمور الخاصة.
وفي المجتمع الديني لا يمكن القبول بهذه القيود بسهولة مطلقة، فهل يمكن القول بأن الشخص الذي تكونت له شخصية جماهيرية عامة لن يمتلك شخصية خاصة على الإطلاق؟! وهل أن المصالح العامة المحدَّدة يمكن أن تتحقق دائماً من خلال الكشف عن المصالح الخاصة؟! وبطبيعة الحال بإمكان الأفراد المشار إليهم التمتع بكيان خاص في ظل ظروف خاصة، كما لا يمكن أن نجعل المصلحة الخاصة تبعاً للمصلحة العامة على الدوام وفي كل الظروف. وأما بالنسبة للبند الثالث فلا يمكن تقبله بسهولة؛ بمعنى أن الناس في أغلب الأوقات يرغبون بمعرفة الكثير من الأشياء التي لا يُسمح لنا بالكشف عنها وإفشائها، فهل يحق لنا يا ترى أن ننشر جوانب من الحياة الخاصة لأحد الفنانين، أو حتى لأحد الأفراد العاديين، والتي من الممكن أيضاً أن يرغب الكثير من الناس بالاطلاع عليها؟! وعلى سبيل المثال: إن القيام بنشر خبر عن «اللّكنة في الكلام، أو الشيخوخة، أو مرضٍ مستعصٍ لا علاج له «لأحد الأفراد العاديين يعد اعتداءً وتجاوزاً على كيانه الخاص، ولا يمكن تبريره. في حين يمكن أن لا يكون الكشف عن نفس هذه الخصائص للفرد المرشَّح لعضوية مجلس النواب، أو مجلس المحافظة أمراً خارجاً عن العرف العام واللياقة، بل من الممكن أن يصب في المصلحة العامة. كما أن الكشف عن الجرائم والجنايات والتعريف بها هو في صالح المحافظة على سلامة المجتمع، والحؤول دون انحراف الناس؛ إذ إن الجميع متفقون على أن الكشف عن المسؤولين الفاسدين، وغير اللائقين، والمخادعين في الدولة، إنما يصب في المصلحة العامة.
وبناء على ذلك فإن وجود هذه الثنائية المتمثلة بحق حرية الحصول على المعلومات، وحق حرمة المكانة الشخصية بهذا الشكل، يعد أمراً قابلاً للحل، وعلى النحو التالي:
أولاً: إن حق التمتع بحرية الحصول على المعلومات ليس حقاً مطلقاً، بل مقيد ببعض القيود، ومنها: مراعاة واحترام المكانة الشخصية بظروفها الخاصة بها.
ثانياً: هذا الحق الخاص للأفراد هو في حالة تعارض وتقاطع مع المصالح العامة، وعندما يبرز التقاطع بينهما فإن الحق العام هوالمقدَّم. وبعبارة أخرى: إذا تقاطع حق الحصول على المعلومات لأحد الأفراد مع مصالح سائر أفراد المجتمع فإن حق العموم هوالمقدَّم. وبتعبير آخر: إن الناس لهم الحق في حرية الحصول على المعلومات، ولكنهم ليسوا أحراراً في الحصول على معلومات تتعلق بالحياة الخاصة لأفراد المجتمع، أو في منطقة تعود فيها هذه الحرية بالضرر على المجتمع، وتلحق الأذى بالمصالح العامة.
ثالثاً: يجب أن لا تتنافى حرية الحصول على المعلومات مع القيم والأصول الدينية في المجتمع الديني. وبعبارة أخرى: يجب مراعاة الخطوط الحمراء للمجتمع.
الصحافة، عمل أو مهنة؟ ـــــــ
والموضوع الآخر الذي يطرح نفسه في العمل الصحفي هو هل أن العمل الصحفي نوع من الأعمال أو المهن؟ وهناك فرقٌ ما بين العمل والمهنة. وفي ما يتعلق بالعمل فإن كل من يمارس عملاً معيناً يسمى عاملاً. والعمل في الثقافة الغربية هو ترجمة للمصطلح الإنگليزى «employment»، ويطلق على العمل في إحدى الحرف، أو المكاسب، أو التجارة، وغير ذلك([xi]). وتسمى النشاطات الاقتصادية في القطاعات الرسمية عادة بالعمل، والمراد بالقطاع الرسمي الاقتصاد، والصناعة، والخدمات، والقطاع الزراعي الذي يمتلك قوة عاملة بأجرة([xii]). إذاً، فالعامل هوالشخص الذي يرغب بالعمل، ويكون قادراً عليه، ويمارس العمل حسب مقدار الأجرة المتعارفة في سوق العمل([xiii]). وبناء على ذلك فإن العمل هنا يأتي بمعنى الشغل والمهنة التي لها أجرة، وهي ترجمة للكلمة الإنگليزية «work»، وتطلق على أي نشاط بدني أو فكري يؤدي إلى الإنتاج أو تقديم الخدمة([xiv]). وبتعبير آخر: العمل هوعبارة عن المهنة أو العمل التكسبي الذي يمارسه الشخص([xv]). وبناء على ذلك فإن العامل هوالشخص الذي يمارس عملاً ما، ويعود عليه بالمال.
في حين أن المهنة تختلف عن العمل؛ إذ إن الفرد صاحب الحِرَف هو من يمتلك المهارة أو التخصص والعلم الذي تترتب عليه حقوق معينة، ولها هوية معينة، وتترتب عليها آثار قانونية. وبناء على ذلك يمكن القول بأن الحرفة تتصف بالشروط التالية:
1ـ تستند على العلم أو المهارة، أو كلاهما معاً.
2ـ لها هوية مهنية، وفرقية، وقانونية، وجماعية.
3ـ تقوم على أساس تقديم خدمة معينة.
4ـ لها مجموعة من القوانين المادية، والقانونية، والأخلاقية.
فهل يصنف العمل الصحفي على أنه عمل، أو مهنة، أو صنعة، أو تجارة؟
وفي الإجابة على هذا التساؤل لابد من القول: إن العمل الصحفي مهنة، شأنه شأن الذين يمارسون العمل في القطاعات العلمية الأخرى، كالقانون أو الطب أو الهندسة، وفي نفس الوقت فإن العمل الصحفي حرفة وصنعة، مثل الكثير من الحِرَف، لابد من تعلمه ودراسته.
وليس ضرورياً أن يكون الصحفي الناجح صحفياً جيداً، ولكن الصحفي الجيد يجب أن يكون صحفياً ناجحاً أيضاً. والهدف الأول للصحفي هو إيجاد الصلة والارتباط، فالنشرة أو الصحيفة التي لم تجد طريقها إلى البيع بعد مرحلة الطبع تكون قد فشلت في تحقيق أول أهدافها. والصحفي المهني المحترف والجيد عندما يكتب الموضوع بشكل مهني، وينشره بأسلوب أنيق وجذاب في الصحيفة أو النشرة، فإن ذلك يعد انجازاً جيداً وقيماً بالنسبة له، مما يؤدي إلى أن تباع الصحيفة بشكل جيد. كما أن محرر قسم الأخبار الذي ينظم صفحات الجريدة بشكل جيد؛ بهدف أن تباع صحيفته، يعد مهنياً تماماً. وأخطأ الذين قالوا بأن كيفية إخراج الصفحة وتنظيمها عمل مهني، وليس فنّاً، صحيح أن العمل الصحفي حرفة وصنعة، ولكن الصحفي الذي يحدد نفسه في إطار صنعته فقط سيدرك بالتأكيد بأنه في وضع لا يحسد عليه. إنها بضاعته مزجاة، وتاريخ العمل الصحفي مليء بمواقف الرجال الذين لم يسمح لهم كبرياؤهم بأن يجعلوا أنفسهم سماسرة ومتاجرين بمهنتهم([xvi]).
وهناك مسألة مهمة في هذا الباب لابد من التنويه إليها، وهي أنه وفقاً لتقاليد العلوم التطبيقية للأشغال فإن الفرد العامل في حقل الإعلام ووسائل الاتصال سوف لن يكون مشرفاً ومراقباً على ثقافة المجتمع فقط، بل ناقلاً لها أيضاً، ومحباً ومتعلقاً بعلوم الثقافة التطبيقية والتعليمية والتربوية، والعلوم السياسية، ومساعداً اجتماعياً، ولعله يصبح مثالاً لمفهوم العلوم الدينية البسيطة الخالية من الرتوش أيضاً. إن طبيعة الأعمال ذات الصلة بالمجتمع وتقاليدها لا تبحث فقط عن نوع الثقافة التي نقوم نحن بخلقها، بل تسعى وراء نوع الثقافة التي يجب أن نقوم بخلقها([xvii]).
ومن جهة أخرى لابد لنا أن نتساءل في هذا المجال: هل أن العمل الصحفي مثل أعمال الطب، والتمريض، والبحث الاجتماعي، والتدريس، التي يكون فيها الفرد العامل مكلَّفاً بتقديم الخدمات أو متابعة أفراد معينين بشكل خاص، أو متابعة أوليائهم (التلميذ أو المريض)؟ وهل أن صنعة العمل الصحفي قادرة على أن تتبلور في هذا الإطار، وأن ينظر لها كبقية الحِرَف والأعمال الآنفة الذكر؟ وللإجابة على ذلك لابد أن نقول: انطلاقاً من أوجه التشابه التي يمتلكها العمل الصحفي مع المهن التقليدية فإنه لا يمكن التسليم بهذه المسألة؛ لسببين:
أوّلاً: إن العمل الصحفي ليس مهنة مقننة تخضع لضوابط معينة، بل لعله ليس عملاً أو مهنة أساساً؛ إذ إن أي شخص يتمكن من الحصول على عمل مناسب في الحقل الإعلامي يمكن أن يعتبر صحفياً.
ثانياً: حتى لو كان العمل الصحفي مهنة فمن المؤكد أن عمل هذه المهنة ليس كعمل سائر المهن الأخرى في متابعة أفراد محددين والمحافظة عليهم، بل إنه ذلك العمل الذي يجد مكانه ضمن إطار تجاري، وفي أجواء تنافسية بالغة جداً([xviii]).
شروط صيرورة الصحفي شخصاً مهنياًََ ـــــــ
انطلاقاً من تبيين مكانة الصحفي المهني ومنزلته وتمجيدها فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي المؤهِّلات التي يمتلكها الشخص الذي يمتلك هذه المكانة، والمستخدم من قبل إحدى المؤسسات، والذي بإمكانه أن يؤدي واجبات متعددة؟ ومن أين يحصل هذا الشخص على المهارة المهنية؟ وما هي التمارين التي يحتاج إليها؟ وما هي الدراسات والتدريبات التخصصية، والتكميلية، وأثناء الممارسة، التي يحتاجها لغرض قيامه بأداء واجباته المهنية وما يرتبط بعمله بشكل صحيح؟
قبل كل شيء لابد من القول: إن العمل الصحفي للشخص الذي تلقى الدروس والتدريبات اللازمة والتخصصية في حقل العمل الصحفي المعقد يعتبر بالنسبة له نجاحاً كبيراً. وهذا الموضوع لا ينطبق على الصحفيين غير المحترفين والهواة. إن التدريبات التخصصية الكافية، والصحيحة المناسبة، لها أهميتها البالغة للصحفي. وفي نفس الوقت ليس كل من امتلك شهادة صحفية يعدّ صحفياً، أو صحفياً محترفاً على وجه الخصوص. إذ إن تلقي التدريبات اللازمة، إلى جانب التخصص والخبرة العملية، المدعمة بالعلوم الكلاسيكية والأكاديمية، هي من الشروط اللازمة للعمل الصحفي. وبعبارة أخرى: بالإضافة للدروس النظرية فإن الممارسة والخبرة العملية هي من الشروط اللازمة للعمل الصحفي أيضاً.
وفي معرض ردهم على السؤال المتعلِّق بالشيء الذي يطور الصحفي، ويجعله صحفياً مهنياً محترفاً، أجاب الخبراء وأصحاب الرأي في مجال العمل الصحفي على النحو التالي (حددوا في الواقع شروط المهنية والاحتراف بهذا الشكل): اعتبر جيمز رستون من نيويورك تايمز، أنّ «النشاط والحيوية» من الشروط الأساسية في هذا المجال؛ ويرى پول ميلرمن أسرة صحيفة هايگانت في أمريكا، أن «الدهاء والتحايل» أمر مهم؛ ويرى هربرت بروكر، وهوأحد رؤساء التحرير المعروفين، أن «الكشف عن الحقيقة، وإخراج الشعرة من اللبن» هي من إحدى الخصائص الأساسية للصحفي المحترف. نعم، يجب أن يكون الصحفي مفعماً بالحيوية والنشاط، وقادراً على كشف الحقيقة، وإذا لزم الأمر فلا بأس باللجوء إلى استخدام الخداع والتحايل، ولكن جميع هذه الإجابات هي إجابات جزئية؛ لأن الفرد يحتاج إلى الكثير من الأشياء الأخرى، غير الطاقة والرغبة في العمل، لكي يصبح صحفياً. ومع ذلك يقول السيد رستون في مدرسة كولومبيا للعمل الصحفي: أنا من المؤيدين للتأكيد والتركيز المكثف على إعداد الصحفيين وتلقيهم الدروس التخصصية، ولكن في نفس الوقت لدينا من بين الصحفيين في صحيفة نيويورك تايمز بعض الأفراد الذين يمتلكون عدة شهادات جامعية، ولدينا أفراداً لم يكملوا دراساتهم العليا لأسباب معينة، ولكن كلا الفريقين يعملون بشكل جيد. وعندما نتصفح ملفات هؤلاء الرجال نواجه الحقيقة التالية، وهي أن جميع هؤلاء الأفراد يتمتعون بهذه الصفات المتميزة، أي «النشاط، والدافع، والحيوية»، ولكم أن تسموهم كيفما تشاؤون. وبناء على ذلك أرى بأن أفضل الدراسات وأكملها لاتستطيع أن تصنع صحفياً بارزاً، إلا إذا اقترنت بالخصال الأساسية، أي النشاط والحيوية([xix]).
وبناء على هذا الأساس فإن المستوى الدراسي والشهادة الجامعية لوحدها ليست شرطاً كافياً لتعلم مهنة العمل الصحفي، وإن كانت من ضمن الشروط الواجب توفُّرها. والمسألة المهمة بخصوص هؤلاء الأفراد أنه بالإضافة إلى الشهادة الجامعية فإنهم بحاجة إلى الدروس العملية اللازمة أيضاً. ولكن نجد أحياناً أن بعض الأفراد لا يملكون شهادة جامعية، إلا أنهم يمتلكون المؤهِّلات والرغبة الكافية بعملهم، ويمتلكون الخبرة والتجربة اللازمة في هذا المجال. وفي هذه الحالة تصبح مسألة تلقي الدروس التخصصية ذات الصلة أمراً ضرورياً.
وبناء على هذا الأساس، لكي يشرع المتخرج الجامعي في الحقل الصحفي بعمله يجب أن يكون على مستوى مقبول من حيث المعلومات الفنية، والعلمية، والقدرة على الكتابة، والعلاقات العامة أو التجارية، وأن يكون ملمّاً بالكتابة، والأدب، والشعر، والالتزام بقواعد اللغة، وكيفية بناء الجملة. والطالب الذي أنهى دراسته الجامعية في وسط غير إنگليزى يجب أن يكمل الدروس التخصصية اللازمة في اللغة الإنگليزية، بهدف امتلاك القدرة على الاستفادة القصوى من المصادر والمراجع الإنگليزية في حقل العمل الصحفي. وعلى الرغم من أن بعض الأفراد لا يجيدون اللغة الإنگليزية، وبإمكانهم أن يصبحوا صحفيين مهنيين وبشكل جيد، إلا أنه ليس بوسعهم من الناحية العملية الاستفادة من المصادر الإنگليزية. ولغرض الحصول على فرصة العمل في صحيفة جيدة ومعتبرة يجب أن يكون الصحفي محيطاً باللغة الإنگليزية. كما أن الدقة، والأمانة، والاهتمام بنشر الأخبار، من المستلزمات الأساسية للصحفي المهني. والمهم في الأمر، هو أن يتمكن الصحفي من كتابة موضوعه بسهولة وبلغة مرنة، ويبني بقلمه جسور التواصل مع من يخاطبهم ويتحدث معهم. ويتعامل الصحفيون مع الحقائق حسب طبيعة عملهم، ولكن هذه الحقائق يجب أن تنقل في إطار اللغة، والقلم، والمصطلحات. والصحفي غير المتمكن من اللغة لا يستطيع أن يعقد الأمل في التأثير على مخاطبيه. وهذه المسألة تبين مدى أهمية التمكن من عدة لغات، فكلما كان الفرد محيطاً بعدد أكبر من اللغات امتلك فرصة أكبر لإيجاد فرصة للعمل([xx]).
وبالإضافة لذلك فإن «النشاط والحيوية»، و«الدهاء والتحايل»، و«إخراج الشعرة من اللبن»،و«الامتلاء طاقة ونشاطاً»، و«تبيين الحقيقة»، و«الدراسة المتخصصة للصحافة»، و«امتلاك الشهادة الجامعية والدراسات العليا»، و«الرغبة والدافع إلى العمل»، و«امتلاك المعلومات الفنية، والعلمية، أو التجارية، والتجربة الكافية»، و«الإحاطة باللغات الرئيسية والمتداولة في العالم»، و«الدقة، والأمانة، والاهتمام بالأخبار»، وغيرها من الأمور، هي من الشروط اللازمة للصحفي المهني المحترف.
وبناء على هذا الأساس فإن الصحفي المحترف هو ذلك الشخص الذي تلقى الدروس اللازمة في مجال اختصاصه. وعلى سبيل المثال: لوأن أحد الأشخاص لم يتلقَّ الدروس الكلاسيكية والجامعية في مجال الصحافة فلابد أن يكون قد تلقى الدورات التعليمية اللازمة في هذا المجال على الأقل. وعليه فإن الطريق الوحيد لمعرفة الصحفي المحترف من الصحفي الهاوي يتمثل في امتلاك التجربة، والنشاط الصحفي السابق، والعمل طيلة الوقت وبشكل فعَّال في إحدى النشرات أو الصحف. وفي هذه الحالة يمكن التسامح قليلاً والقول بأن هذا الشخص محترف.
ضرورة مراعاة الأخلاق في الصحافة ــــــ
السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو: هل بإمكان الوسائل الإعلامية، وبخاصة الصحفيين، أن يكونوا «أخلاقيين»، وأن يراعوا الأمور المتعلقة بأخلاقيات المجتمع؟ لأن الوعي بضرورة الإعلام، والرغبة الشديدة لدى الناس وأفراد المجتمع بمعرفة الأشياء التي لا يريد بعض الأفراد إشاعتها، تجعل مسألة مراعاة الأصول الأخلاقية من قبل الصحفيين أمراً عسيراً. وللإجابة على هذا التساؤل نقول: على الرغم من أنه من الممكن أن لا يكون بمقدور الوسائل الإعلامية والصحفيين أن يصبحوا معلمين جيدين للناس في الأخلاق، وأن يتصرفوا بشكل أخلاقي؛ وفقاً لأسلوبهم الخاص، ولكن بمقدورهم مراعاة الأصول الأخلاقية. وهذه المسألة الهامة والمتعلِّقة بضرورة مراعاة الأصول الأخلاقية في الوسائل الإعلامية والصحافة لها أهمية كبرى في هذا الحقل مقارنة ببقية المهن الأخرى؛ لأن الحرف الأخرى ذات حدود ومساحة أقل، ولا تسري أعمالها اللاأخلاقية بسهولة ويسر إلى الأفراد وسائر الحرف الأخرى؛ في حين أن الوسائل الإعلامية هي الواسطة وحلقة الوصل بين الناس والدولة، وإن جانباً كبيراً من وقتهم مخصَّص للوسائل الإعلامية والصحفيين. ومن هنا يفترض بهم أن يكونوا ملتزمين بالأمور الأخلاقية أكثر من غيرهم.
ويشاع أحياناً في الأوساط الصحفية بأن الأصول الأخلاقية، وبأنواعها الأساسية أيضاً، كالإحسان، وأعمال البر، والخير، أو حتى أنواعه المضرّة كذلك، هو موضوع خارج عن نطاق دائرة العمل الصحفي، ويجب أن تتبلور [هذه المفاهيم] تحت تأثير السلطة [السياسية]، أو ضغط السوق حصراً. وهذا المقترح يجب أن يخضع للدراسة. إن الأمر الذي يدعوالصحفي إلى العمل، والتحرك ضمن حدود الأخلاق وإطاره العام، هوأن العمل الصحفي في [الأنظمة] الديموقراطية، يشار إليه على أنه الجهة التي تعمل على ضمان مصالح المجتمع والمطالبة باحتياجاته العامة، وهذا يعني أنه يجب أن تتعهد مهنة الصحافة بنشر المعلومات والمعتقدات والآراء؛ بدعوى أن النظام الديموقراطي لم يتمكن من لعب هذا الدور. وبالتالي يمكّن النظام الديموقراطي من ترجمة الحرية الممنوحة في الحقل الصحافي إلى واقع عملي ملموس([xxi]).
وفي المجتمع الإسلامي أيضاً يجب أن تتقيد مهنة الصحافة بالأخلاق وتتمسك بها، كما هوالحال في الأنظمة الديموقراطية، بل بقدر أكبر من التأكيد.
إن احترام الأخلاق الإجتماعية والفردية، والتمسك بمبدأ الأخلاق، يلعب دوراً مؤثراً في نجاة الفرد، بل في نجاة المجتمع أيضاً؛ لأن الإنسان بحاجة ماسة إلى الأخلاق، سواءٌ كان يعيش في المجتمع أم يعيش بعيداً عنه؛ إذ إن حاجة الإنسان إلى الأخلاق ترقى إلى مستوى حاجته للنبوة والوحي. ومثلما يشعر الفرد بأنه بحاجة إلى الوحي، سواءٌ كان يعيش في المجتمع أم يحيا حياة فردية، فإن هذا الأمر ينطبق أيضاً على المسائل الأخلاقية بنفس المستوى، وهذا يعني أن الإنسان الأول أيضاً مضطر إلى معرفة القواعد الأخلاقية والعمل بها.
إننا بحاجة إلى تعلم جميع المعارف الإلهية، ولكن الحاجة في الظروف الراهنة إلى علم الأخلاق وتهذيب الروح أكثر من غيره. وعندما نريد أن نبني مجتمعاً مدنياً لابد وأن نسعى إلى توفير المناخ اللازم للكثير من الأمور، وعلى رأسها مسألة تهذيب الروح. إن الروح المهذبة والنفس المزكّاة تمتلك القدرة اللازمة على إصلاح العيوب. وإذا لم تهذب الروح فإن الإنسان يُحرم من الاستفادة المثلى من الإمكانيات، بل من الممكن أن تؤدي الإمكانيات الكثيرة إلى نتائج أكثر سوءاً. إنّ الإنسان المهذّب يحافظ على بقاء العالم نظيفاً طاهراً، والإنسان الملوَّث يلوثه([xxii]).
وناهيك عن أن مكارم الأخلاق تسمو بصاحبها إلى أعلى درجات الكمال الإنساني، وتجعله أكثر فضلاً وشرفاً على بقية البشر، وبالتالي ترفعه في الآخرة أيضاً إلى أسمى درجات الفردوس الأعلى، فمن الممكن أيضاً أن يرقى إلى مستوى أولياء الله تعالى، ويصل إلى مرتبة الكشف والكرامة مثلهم. وفي الوقت الحاضر يكمن العيب في ما يفعله العالم في أن الذين بيدهم أزمّة الأمور لا يمتلكون الأخلاق الصالحة، وحسن النية، والعواطف الإنسانية الصادقة، والعدل، والإنصاف. كما أن الزهد والقناعة والعفة والأمانة لا وجود لها بينهم؛ ولا يمتلكون الشهامة والشجاعة والغيرة والحمية، ولو امتلك هؤلاء الأفراد الأخلاق الصالحة ومكارم الأخلاق لما شهدنا الحروب والنزاعات والفتنة والفساد والاعتداء والفقر والفاقة في جميع أرجاء العالم على الإطلاق.
مراعاة الأخلاق أمرٌ ضروري في جميع الحرف والأشغال. وتتضاعف هذه الضرورة في الأشغال والحرف التي لها مساس بشكل وبآخر مع المصالح والرأي العام. ومن هذه الحرف الصحافة. وانطلاقاً من كون الصحفي معنياً بالرأي العام، ويتولى عملية إيصال المعلومة إلى المجتمع، ويلقي بظلاله على الرأي العام من خلال نشاطه المهني، فإن الالتزام بالصدق، والأمانة، والاستقامة، والكتمان، وغيرها من الخصال، هي من أولى شروط العمل الصحفي.
الواجبات الأخلاقية وأخلاق العمل الصحفي ــــــ
يواجه كل صحفي أثناء عمله أربعة مفاهيم، يجب أن لا يضحّي بأي منها في سبيل الآخر، وهي: «الرسالة»، و«حقوق الأفراد»، و«حرية التعبير»، و«النظرة النفعية». ولكي تتمكن الصحافة وأية وسيلة إعلامية أخرى من ديمومة بقائها واستمراريتها لابد من أن تكون «ذات جدوى»، ولكن يجب أن لا يتم هذا الأمر على حساب انتهاك حقوق الأفراد. وبإمكانه أن يسعى إلى تحقيق «رسالة» أو هدف خاص، ولكن يجب أن لا يقترن هذا الأمر بانتهاك حرمة وحقوق الأشخاص الحقة أو القانونية. وبإمكان الوسيلة الإعلامية أن تبادر ـ و«بُحرّية» ـ إلى نشر الأفكار والأخبار، ولكن يجب أن لا يمس هذا الأمر حقوق الأفراد([xxiii]). وبناء على ذلك من الضروري الالتفات إلى هذه الأصول الأخلاقية الأربعة. ومن هنا لابد من القول: على الرغم من أنه بالإمكان تقسيم الأخلاق في العمل الصحفي بصيغ متعددة إلا أن أبسط أنواع هذه التقسيمات يتمثل في القدرة على التمييز بين الشيء الذي يكون إما ضرورياً أو ممنوعاً من الزاوية الأخلاقية. والحقيقة أن الأوامر والنواهي الأخلاقية هي أبسط الصيغ لتقسيم أخلاق العمل الصحفي.
أ ـ الواجبات الأخلاقية ــــــ
1ـ التمسك بمحاسن والأخلاق ومكارمها ــــــ
يمكن تقسيم الواجبات والأوامر الأخلاقية، من خلال تصنيف عام، إلى مجموعتين، وهي: محاسن الأخلاق؛ ومكارم الأخلاق. فالمحاسن الأخلاقية هي تلك الطائفة من الواجبات والأوامر الأخلاقية التي تتعلق بالعلاقات الاجتماعية، وتحقيق المنافع المادية، وكيفية التعايش مع الآخرين، وتؤدي إلى تحسين الحياة المعيشية، وتحقيق الرفاه الاجتماعي. ومن ناحية أخرى فإن الأخلاقيات التي تمثل معيار إنسانية الإنسان، وتعبر عن سمو النفس، وتعالي الإنسان روحياً ومعنوياً، وتتعلق بنبله وكبريائه، تصنف ضمن مجموعة مكارم الأخلاق. وبعبارة أخرى: كما أن حسن الخلق يأتي بإزاء سوء الخلق يمكن القول بأن مكارم الأخلاق تمثل المرحلة المتكاملة من محاسن الأخلاق. كما جاء في المصادر الدينية والروائية أيضاً أن أولياء الله تعالى عندما كانوا يريدون التحدث أحياناً عن الأخلاق الحسنة، ويبينوا أهميتها، ومكانتها وقيمتها، فإنهم كانوا يستخدمون كلمة «حسن الخلق» في تعبيرهم. وبهذا الأسلوب شجَّعونا ورغَّبونا بالتحلي بالملكات الحميدة والسجايا الأخلاقية المُرضية، ونهونا عن الصفات المذمومة. وعلى سبيل المثال: يقول النبي الأكرم ‘ في الحديث الشريف: «من سعادة الرجل حسن الخلق؛ ومن شقاوته سوء الخلق»([xxiv]). ولكن عندما كان أولياء الله تعالى يريدون التحدث عن السمو المعنوي، وكمال النفس الإنسانية، ودعوة أفراد المجتمع إلى القيم الإنسانية العليا، كانوا يذكرون مكارم الأخلاق إلى جانب محاسن الأخلاق، وفي الحقيقة إن هدف أولياء الله، والأديان السماوية، وبخاصة الدين الإسلامي، لا يقتصر على تعريف الناس بالأخلاق الاجتماعية الحسنة، وإعدادهم فقط، بل إن هدفهم الأساسي يرمي إلى بناء الإنسان وتكامل سجاياه الأخلاقية والإنسانية. ومن هذا المنطلق يقول النبي الأكرم ‘: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»([xxv])؛ ويشير الإمام علي × إلى هذين الموضوعين مبيناً الفرق في ما بينهما بتعبير جميل، حيث يقول: «ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن، وقودوها إلى المكارم»([xxvi]).
وبناء على ذلك فإن الأفراد الذين يتعاملون مع الناس، ويرتبط عملهم معهم بشكل مباشر، كما هوالحال بالنسبة للعاملين في وسائل الإعلام، أو المسؤولين السياسيين والاجتماعيين في الدولة، ومسؤولي المؤسسات المدنية الوسيطة بين الناس والدولة، وغيرهم، بحاجة ماسة إلى التمسك بالأخلاق؛ بهدف الابتعاد عن سوء استخدام صفتهم الرسمية والعملية. كما يجب على الصحفيين وأصحاب الوسائل الإعلامية المقروءة، والمسموعة، وحتى المرئية؛ وبسبب ما لهم من تأثير على الرأي العام، أن يكونوا أمناء الناس وحملة أسرارهم.
2ــ الصدق في تبيين الحقائق ــــــ
عندما نقول بأن مهنة الصحافة هي مهنة جماهيرية، وترتبط بمصالح عموم الناس، وأنه يجب على الصحفي أن ينشط باتجاه تأمين مصالح المجتمع واحتياجاته العامة، فإن الصدق في تبيين الحقيقة وفقاً لذلك يعد مبدأً أساسياً ومركزياً للصحفي. ويجب على الصحفيين أن يلتزموا جانب الحياد وأن يكونوا صادقين في نقل الأخبار وإيصال الحقائق إلى الرأي العام. ويجب عليهم الترفع عن التمييز، والتحايل([xxvii])، والكذب، وكذلك إفشاء الأسرار [الشخصية]، والدخول والتطاول على الحرمات الخاصة([xxviii]).
3ـ توخي الأمانة والتمسك بالمصالح العامة ــــــ
ومن جانب آخر فإن توخي الصدق والدقة في تقديم المعلومات يعد أمراً ضرورياً. وبناء على أن الأشخاص غير مصونين من الخطأ والزلل فإنه يجب توخي الحذر في نقل القضايا، ومراعاة الأمانة في نشرها، ومحاولة تجنب الوقوع في الأخطاء المطبعية، وأن نكون مسؤولين أمام الأفراد والمخاطبين، وأن نتحلى بسعة الصدر أمام أي إشكال يطرح، ونتقبل النقد الموجَّه إلينا.
إن الالتزام والتمسك بالأصول الأخلاقية والمصالح العامة للمجتمع الإسلامي، والالتزام بمبادئ الاستقامة، والواقعية، والحياد، والإنصاف، والاتزان، والصدق، والأمانة، وغيرها، بمعناها الواسع والشامل، يعد من الثوابت الأساسية والضرورية. وانطلاقاً من ذلك يجب على الصحفيين أن يطبقوا ــ وبشكل عملي ــ التقييم الرسمي والأخلاقي الصادر بحقهم، والقائل بأنه يجب عليهم أن يكونوا إلى جانب مصالح العامة ورغباتهم.
والواقع أن الالتزام بهذه الواجبات الأخلاقية يستلزم أولاً: أن يكون الفرد نفسه ملتزماً بالمحاسن والمكارم الأخلاقية؛ وثانياً: بما أن الصحفي يمارس دوراً توجيهياً في المجتمع فإن الالتزام بتلك الواجبات يعد ضرورياً لتوجيه المجتمع، والأخذ بيده نحوالمحاسن الأخلاقية.
4 ـ الالتزام بمبدأ الحياد ــــــ
يجب على الصحفي أن ينقل الحدث بشكل محايد، وأن يلتزم به كما هو، شأنه في ذلك شأن ساعي البريد في نقل الرسائل، وأن يسعى إلى نقل الحدث بنفس التفاصيل التي حصل فيها، وليس كما يحلو له أن يصوره هو، أو رئيس التحرير، أو الآخرون. وعملية التدخل والتلاعب بالصياغات الخبرية، والتي تحدث بشكل متعمَّد أو لا إرادي، تسمى بعملية «التشويش» أو «الاختلال». وبناء على ذلك فإن تدخل الصحفي، أو مدير الصحيفة، في تصغير الحدث أو تضخيمه بشكل لا يستحقه، يعتبر نوعاً من الخلل. وبعبارة أخرى: يجب أن تتركز جهود الصحفيين على نقل الخبر بناء على ما في الخبر من قيم كامنة فيه فعلاً، وليس اعتماداً على القيم المصطنعة، أو على التدخلات التي تحول الخبر إلى قصة خيالية([xxix]).
5 ـ التفسير الصحيح للمسائل السياسية ــــــ
يعدّ الخوض في المسائل السياسية، وطرحها وتحليلها وتفسيرها؛ بهدف إيصال المعلومة، وتنوير الأذهان والرأي العام، وتحقيق النضج السياسي للمجتمع، من الأمور المُرضية والواجبة، والتي تعتبر من ضمن واجبات الصحفيين. وأيّاً كان المذهب السياسي الذي يعتنقه الصحفي بإمكانه أن يطرح المسائل السياسية، مراعياً بذلك المصلحة العامة، وأن يحافظ على الأخلاق الاجتماعية عند قيامه بإيصال المعلومة إلى المجتمع، وأن يتناول تحليل المسائل السياسية وتفسيرها بكل إخلاص وأمانة.
6ـ الكتمان والأمانة ــــــ
انطلاقاً من كون الصحفيين من الأفراد الذين يحظون عادة بثقة عموم الناس فإنهم يضعون المسائل الشخصية المتعلقة بحياتهم الخاصة، والمعلومات السرية، ورقم الهاتف الشخصي، وعنوان المنزل، وغيرها من الأمور، تحت تصرفهم؛ بلحاظ ثقتهم النسبية بهم، لذا يجب عليهم في المقابل أن يكونوا أمناء في المحافظة على أسرار الناس وكتمانها، وبالتالي يساهمون في تدعيم ثقة الناس بمهنة الصحافة. وإن أدنى تلكُّؤ في هذا المجال سيؤدي إلى تقويض ثقة الناس بالصحفيين.
7ـ المساهمة في تلطيف الأجواء الملتهبة في المجتمع ــــــ
من إحدى المسؤوليات المهمة للصحفيين الناشطين المسؤولين هو تلطيف وتهدئة الأجواء المشحونة في المجتمع، والمساهمة في تهدئة النفوس والحالة النفسية العامة، والرد على الشبهات المثارة، وتقديم العون في نضج مستوى الوعي العام، والكشف عن مصدر الشائعات وحالات الفساد. ومن هنا فإن اللجوء إلى استخدام الآليات والأدوات والأساليب الجديدة؛ لتحقيق هذا الهدف، ومساعدة المجتمع ضمن إطار خدمة المصلحة العامة، يعد أمراً ضرورياً وواجباً، ولكن مع المحافظة على حرمة الأشخاص وحيثياتهم، والالتزام بالأخلاق المهنية للعمل الصحفي؛ وخاصة عندما تتعرض الأذهان والآراء العامة وقسم من المجتمع إلى الضرر الناجم عن استخدام هذا الأسلوب، أو تلحق بعض الخسائر بالضحايا الأبرياء جراء ذلك. ولغرض تحقيق هذا الهدف الهام قد يلجأ الصحفي إلى استخدام أسلوب الخداع والتحايل، وبشكل محدود؛ بهدف خدمة المصلحة العامة، ولكن بشرط المحافظة على حرمة الأشخاص والأفراد وحيثياتهم، وعدم التجريح بالثوابت الأخلاقية العامة.
8 ـ الفهم الصحيح، والقدرة على التدبر وتحليل الأمور ـــــــ
يستند العمل الصحفي على أساس الأصول الأخلاقية، بل على ما هو أبعد من مجموعة الواجبات والممنوعات. وعلى سبيل المثال: يمكن أن تكتسب مسألة الاستخدام المحدود لأسلوب الخدعة والتحايل؛ لمحاربة الفساد والتعدي والدخول إلى دائرة الحرمة الشخصية للأفراد، طابعاً علنياً. ومن هنا فإن العمل الصحفي الأخلاقي يعد نوعاً من الفهم الصحيح الناجم عن القدرة على التأمل والتدبر، على أسس وقواعد الربح والخسارة، وتحقيق المنفعة، وتأمين المصلحة الوطنية العامة([xxx]). وهذه المسألة مرهونة بالفهم الصحيح، والقدرة على التشخيص والتدبر الدقيق للمسائل، والمعرفة الصحيحة بالمسائل الاجتماعية؛ لكي يتمكن الصحفي، على أساس هذا الفهم الصحيح، من تحديد الموضوع المهم والمصيري والضروري للمجتمع، وهل يمكنه استخدام الخدعة في تحقيق هذا الأمر أو لا؟
يتبع…
_______________________________________
(*) باحث متخصّص في الفكر السياسي والاجتماعي في الإسلام.
(1) خليل الجر، فرهنگ لاروس 1: 932، (طهران، دار نشر أمير كبير، 1363).
(2) كاظم معتمد نجاد، أصول أخلاق روزنامه نگاري:35،مجلة (رسانه66)، صيف 1385.
(3) الملا مهدي النراقي، جامع السعادات 22: 1، تصحيح محمد رضا المظفر (قم، إسماعيليان، 1383).
(4) محمد تقي مصباح، أخلاق در قرآن 25: 1، تحقيق وتعليق: محمد حسين إسكندري (قم، دار نشر انتشارات إسلامي، 1376).
(5) عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن كريم، مبادي أخلاق در قرآن: 77، (قم، إسراء، بي تا).
(6) سيد فريد القاسمي، روزنامه نگاري حرفه اى (مجموعة مقالات): 12، ( طهران، مركز الدراسات والأبحاث الإعلامية، 1378).
(10) حسن نمك دوست الطهراني، (أخلاق حرفه اى، حريم خصوصي وحق دسترسي به اطلاعات)، مجلة (رسانة 66): 199، صيف 1385).
(11) منوچهر فرهنگ، فرهنگ بزرگ اقتصادي (المعجم الاقتصادي الكبير): 668، (طهران، البرز، 1371).
([xii]) مجموعه مقالات هم انديشي بررسي مسائل ومشكلات زنان، أولويتها وروي كردها 1: 10 ــ 12، مقالة محسن ثدير، اشتغال زنان از منظر إسلام وغرب، نقلاً عن: راهنماى آموزشى إقدام محلى تغيير جهانى، مركز ديوان رئاسة الجمهورية بمساعدة اليونيسيف.
(13) مرتضى قره باغيان، فرهنگ اقتصاد وبازرگاني (المعجم الاقتصادي والتجاري): 225، (طهران، مؤسسة رسا الثقافية، بي تا).
(14) غلام عباس توسلي، جامعه شناسي كار وشغل (دراسة مجتمع العمل والمشاغل): 10 ـ 11.
(15) منوچهر فرهنگ، المصدر السابق 2: 24.
(16) سيد فريد القاسمي،المصدر نفسه: 16
M.v. Kamath, So you want to be a Journalist? , in:Professional Journalism, new Dehli: WiKAS Publishing HOUSE Pvt LTD, 1988 , p. 1-7.
(17) جي. إى ادوارد ستيفن، مباني فلسفي أخلاق جهانى روزنامه نگاري (الأسس الفلسفية لأخلاق العمل الصحفي في العالم)، ترجمه إلى الفارسية پيروز ايزدي، مجلة ( رسانه 66 ): 146،(صيف 1385).
(18) Routledge Encyclopedia of Philosophy, Version 1: London & New York: Routledge (1998 ): The Ethics of Journalism.
(19) جي إي إدوارد ستيفن، المصدر نفسه: 14.
(21) . Routledge Encyclopedia of Philosophy. Op. cit.
(22) عبد الله جوادي الآملي، المصدر نفسه: 143.
(23) أبو الفضل جعفري نژاد، بررسي برخي از حيطه هاى أخلاق حرفه اى ورسانه، مجلة (رسانه 66): 83.
(24) النوري، مستدرك الوسائل 2: 83، (بيروت، آل البيت لإحياء التراث، 1408).
(25]) محسن فيض الكاشاني، المحجة البيضاء في إحياء الإحياء 4: 121، (طهران، دار نهضت زنان، 1361).
([26]) المصدر نفسه: 122.
(28) . Routledge Encyclopedia of Philosophy , Op. cit