أحدث المقالات

محاولة لإعادة استحضار القيم الأخلاقية في النشاط المعرفي

حيدر حب الله(*)

 

تمهيد

تمتدّ القيم الأخلاقية إلى مرافق الحياة كافة لتحكمها ـــ بدرجة من الدرجات ــــ وتوجّهها نحو رشدها وصوابها، وتعيدها إلى طريقها القويم المرسوم وفقاً للسنّة والفطرة، وتعكس القيم الأخلاقية في تمظهراتها حقائق أسمى تتصل لا فقط بما ينبغي وما لا ينبغي، بل بما هو الأحسن كوناً وتحققاً في عالم الوجود ــ ولو الإنساني ــ بمعنى من المعاني.

وتمتدّ درجة تأثيرات القيم والمثل الأخلاقية إلى مجالات في الحياة تلعب هذه المثل دور الإسهام في صوابيّتها وحقانيتها، من هنا لم تنحصر الأخلاق بالبعد الاجتماعي، بل شملت أبعاداً أخرى أيضاً.

وواحدٌ من هذه الأبعاد، البُعد العلمي والمنهجي، إذ إن التصوّر السائد لدى البعض يقضي بوجود قيم أخلاقية تتصل بالحياة العلمية، دون أن يجري فهم كيف تؤثر هذه القيم في ترشيد المعرفة نفسها، أي أن ثمة تصورٌ بأن القيم الأخلاقية للعالِم ــ أي عالِم ــ قيمٌ تتصل بمرحلة بعدية ثانوية لمرحلة عالِميته وفكره وتأملاته، فالعالم في مختبره أو بين كتبه ودفاتره يخضع لقوانين معرفية عليه أن يطبّقها حتى ينجح في الوصول إلى نتائج سليمة، أما الأخلاق فهي مسائل اجتماعية يتعاطاها هذا العالِم بعد خروجه من المختبر أو عقب طيّه لكتبه ودفاتره فيما بينه وبين الآخرين، ولـهذا نجد أن أكثر محتويات كتب الاخلاق العلمية تصبّ اهتمامها ــ في الغالب ــ على علاقات تقع خارج دائرة البحث العلمي نفسه، أي في علاقة الأستاذ بتلميذه أو التلميذ مع أستاذه أو.. كما هي الحال في كثيرٍ من فصول كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» للشهيد الثاني زين الدين العاملي الجبعي ) (965هـ) وغيره من الكتب، لكن التأمل أكثر في هذا الجانب، وما تساعد عليه منجزات العلوم الإنسانية الحديثة يفضي بنا إلى القول بأن اخلاقية الفرد الباحث لـها آثار جدّية على بحثه وفكره وعلمه حتى لو لم يخاطب بهذا العلم أحداً، وهو ما تعرّضت لـه أيضاً جملة من كتبنا الأخلاقية، فعلى سبيل المثال الشخصية المنفعلة أو الانفعالية، هذه الشخصية إذا دخلت في بحث علمي مثير لانفعالـها، غالباً ما تتحكّم بها انفعالاتها، لتسير بها نحو طريق محدد، فعندما يدخل المعتـزلي المتّسم بشخصية من هذا القبيل بحثه حول خلق القرآن فإنه لن يقدر بسهولة على قمع ميولـه الذاتية التي تجرفه نحو القول بحدوث القرآن.. لأنه دخل البحث في حالة غضب من الطرف الآخر (الأشعري)، إن تحكّم حالة الغضب والانفعال هذه بشخصية باحثٍ ما لـه مردود سلبي للغاية، وهو ما سنلاحظ بعض واقعه وبإيجاز، إن شاء اللـه تعالى.

وهذا يعني أن القيم الأخلاقية ــ وكما تشير إليه أيضاً نصوصنا الدينية ــ ليست معزولةً عن النشاط المعرفي من حيث هو نشاط معرفي، وينجم عن ذلك القول بأن إصلاح مناهجنا المعرفية وأنماط تفكيرنا أمرٌ مرهون ـــ إلى حدّ معين ــــ بإصلاح أخلاقياتنا البحثية، فما لم نسع لإصلاح تلك الأخلاقيات فإن إصلاح معرفياتنا سيكون أمراً مشوباً بشيء من الخطر.

إن السلبيات الأخلاقية تمثل موانع أمام ترشيد نشاطنا الذهني سيما في الدائرة الدينية، فما لم نحز ــ وهو أمرٌ ليس بهذه السهولة ــ على شخصية تتمتع بميزات أخلاقية تمسّ البحث العلمي، فلن نقدر على تحصيل أكبر عدد من ضمانات الصحة والصواب في هذا البحث.

ولا نقصد بالبحث العلمي خصوص تلك الحالة المعهودة لباحث؛ ذلك أن كل إنسان مطّلع يمكن أن يتمثل شخصية باحث علمي، فليس المقصود بالباحث المجتهد في العلوم الدينية أو أستاذ الجامعة أو المفكّر أو المنظّر أو.. فحسب، بل حتى عموم طلبة الحوزات والمعاهد والجامعات الدينية وكافة الجامعيين العاملين في مختلف الاختصاصات، وربما ما هو أوسع من ذلك أحياناً كثيرة.

وعندما نتحدّث عن «الأخلاق العلمية» فإن في هذا المفهوم عدة إشارات مقصودة:

أحدها: إن هذه الأخلاقيات نابعة من وصف العلم والعالم، وكما كانوا يقولون قديماً: إن الوصف مشعرٌ بالعلّية، أي أن عنوان العلم والعالم يستدعي ــ في اعتقاد كاتب هذه السطور ــ سلسلة من الأخلاقيات، تماماً كما نقول: أخلاق الإيمان وأخلاق المؤمن؛ حيث نعني أن إيمان المؤمن يتطلّب منه أخلاقاً خاصة ويدفعه لتحقيقها، فعلم العالم يتطلّب منه أخلاقيات خاصة.

وثانيها: لم نخصّص العلم بوصف الديني أو غيره، قناعةً بأن هذه الأخلاقيات ــ في الأغلب كما سنلاحظ ــ تعود لسمة البحث العلمي مهما كان، ويفترض أن يتحلّى بها كل باحث بعيداً عن توجّهه وقناعاته واهتماماته، وإن عنى اهتمامنا ــ بالدرجة الأولى ــ المناخ الفكري والثقافي الديني.

والسبب الذي يدفعنا للحديث عن إعادة استحضار مقولة الأخلاق العلمية هو ما نلاحظه اليوم من واقع مأزوم على الصعيد الثقافي والفكري، ومن جزر ثقافية تعيش على قطيعة شبه كاملة فيما بينها، ونرى أن حالتها تعود ــ فيما تعود ــ إلى إشكاليات أخلاقية في النشاط المعرفي نفسه، علاوة على توتّرات في عملية الحوار ذاتها، دون أن نتورّط في الولوج إلى أعماق الأنفس والنوايا التي لا يعلمها إلا اللـه تعالى؛ لنتجنّب الدخول في عمليات تصنيف أتخمت الساحة الثقافية منها، الأمر الذي بات ينادي على القائمين على العمل الفكري والثقافي في الوسط العربي والإسلامي عموماً للإعداد لنُظُم ذات طابع أخلاقي قادرة على الحدّ من تكوين بؤر توتّر، أو إنتاج عناصر موتورة، ومن ثم مجتمع موبوء.

القيم الأخلاقية للبحث العلمي

ليس هناك من قدرة على الإحاطة بكافة القيم التي تحكم النشاط الفكري والعلمي، لكننا سوف نشير هنا إلى بعضٍ منها على الشكل التالي:

1 ــ الأمانة العلمية

من أهم أخلاقيات البحث العلمي، الأمانة العلمية، ولـهذه الأمانة مظاهر عديدة أبرزها:

أ ـ احترام الملكية الفكرية للآخرين، إذ إن ما يسمّيه بعضهم ظاهرة السرقة([1]) الفكرية، ظاهرة عامة وواسعة في زماننا وما قبل زماننا أيضاً، فإذا ما راجعنا الكتب القديمة مثلاً سنجد أن هناك الكثير من النصوص، وأحياناً الصفحات، ينقلـها المؤلفون عن بعضهم البعض دون أن يشيروا إلى أن هذه النصوص أو المقاطع أو الآراء ليست من ابتكارهم، وإنما أخذوها عن غيرهم، وهو ما يوحي ـــ أوّلياً ـــ للمطالع غير الواسع التتبع بملكية هذا المؤلف لـهذه الفكرة والحال أنها ملكٌ لغيره، وهكذا الحال في زماننا المعاصر ولعلـه أكثر من الماضي، فهناك مؤلّفات مستقلة ينسبها أصحابها إلى أنفسهم فيما ترجع هذه المؤلفات إلى مؤلّفين آخرين، ولو أنها عبارة عن أجزاء مقتطفة من كتب عدة جرت إضافة شكلية عليها لتغيير مظهرها الأولي، بل يوحي الكثير من الأساتذة في المعاهد العلمية إلى تلاميذهم أنهم أصحاب فكرة معينة، والحال أنهم قد حازوا عليها من مصادر أخرى لم يطّلع التلاميذ عليها بعدُ، أو من كتب ومخطوطات لم تصل إلى أيديهم، أو من مؤلفات تعود للغةٍ أخرى لم يخبرها الطلاّب أو يسمعوا بها.

إن احترام الملكيات الفكرية والإبداعية للناس ــ وبعيداً عن الجدل الإسلامي الفقهي في هذا الموضوع ــ صار ضرورةً أخلاقية ماسّة تسقط متجاهلـها نفسه عن الاعتبار فيما بعد، وتصيّره إنساناً يتاجر بأفكار وجهود الآخرين ولو بطريقته الخاصّة، سيما وأن تطور وسائل المعلومات والاتصال قد سهّل كشف مثل هذه التصرفات لكثير من الناس، من هنا تمسّ الحاجة إلى إشاعة ثقافة التوثيق، سيما في المعاهد الدينية التي لم تعتد سابقاً ــ كالمناخ الفكري العام قديماً ــ على هذه الظاهرة، فكلّما نقل الباحث شيئاً عن باحث آخر، وكانت فكرة الثاني مستمدةً من الأول، فمقتضى أخلاقية الأمانة العلمية توثيق المصدر بالدقة؛ تحرزاً عن التورّط في منافيات أخلاقية.

والذي حصل في الوسط الثقافي العالم ثالثي في العقود الأخيرة هو استعارة مفاهيم ومقولات جرى إنتاجها وتصنيعها في مناخات ثقافية وعلمية أخرى؛ ليعاد إنتاجها أو بتعبير أدق: تبيئتها في حقل معرفي أو ثقافي مختلف على أساس افتراضها إبداعات أو ابتكارات ذاتية، دونما إشارة إلى المصادر التي استقي منها هذا النظم المفاهيمي، وهو أمرٌ إذا دققنا فيه ـــ وفي تجربة العالم الثالث ـــ لوجدنا أحياناً ظلالاً اشتملت طيفاً وسيعاً أكثر من حقائق وواقعيات.

لكن ذلك لا يعني اتهام الكتّاب بعدم تقدير الملكيات الفكرية لمجرّد تشابه فكرتهم مع فكرة أخرى؛ لأن تشابه الأفكار أمرٌ كثير الوقوع، ومن سوء الظن التسرّع في الحكم في أمثال هذه الموارد.

ب ـ الدقة في نقل أفكار الآخرين، تميّز بعض الفقهاء المسلمين بدقته العالية في ضبط الآراء والأقوال لدرجة أنهم كانوا يميزون الأقوال بعبارة دقيقة جداً، فإذا أرادوا نقل كلام لفقيه يقول: «الأنسب كذا وكذا»، لا يعبرون بكلمة «قوّاه» و.. بل يأخذون تعابير تطابق موقفه ودرجته كقولـهم: استنسبه، وهكذا يقولون: قوّاه إذا قال: mعلى الأقوىn، واستجوده إذا قال: «الأجود كذا..» و.. بل بلغت بهم الدقة أحياناً إلى حدّ تحديد المواضع التي اختار فيها هذا القول، فلو كان لـه كلامان حول شرطية معلومية العوضين: أحدهما في كتاب البيع، وثانيهما في كتاب الإجارة، قالوا: ذهب إليه في إجارته، ولم يقولوا مطلقاً أو سكتوا بما يوحي أن لـه موقفاً واحداً، وهذا ما يفعلونه مع كتبه، فيقولون: اختاره الطوسي في خلافه، وعدل عنه في مبسوطه واقتصاده، أو يعبّرون: ذهب إليه أحمد بن حنبل في روايةٍ وهكذا..

وتعدّ مسألة الدقّة في نقل أو بيان أقوال الآخرين قضية حسّاسة جداً، فقد حصل أن ميّز علماء أصول الفقه المتأخرون تقريرات بعض العلماء ممّن سبقوهم، فقالوا: هذا التقرير لدروس الميرزا النائيني مثلاً أدقّ من ذاك التقرير، وتمّ استخدام تعابير تفيد أن هذا القول لعلـّه من اشتباه المقرِّر لا المقرَّر لـه ([2]) وهكذا..

وهذا التدقيق تطوّر أكثر فأكثر إلى حدّ نقل النصوص الحرفية لمن سبقهم من العلماء، كما هي الحال مع الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) وغيره، وهو ما ربما يعدّه بعضٌ اليوم بمثابة تجميع لا فائدة منه، إن التدقيق في مواقف العلماء والمفكرين من أي اتجاه أو مذهب أو دين أو مدرسة كانوا، صار اليوم علامة الباحث الدقيق والمنصف، بل لم يعد يقتصر هذا الأمر على موردٍ واحد من الموارد التي أثار فيها هذا العالم أو المفكّر هذه النقطة، بل صار لابُدّ من إطلالة على مختلف مصادره أحياناً، سيما إذا كان الموضوع في غاية الحساسية، تماماً كما يراه بعض الباحثين المعاصرين([3]) حول نسبة القول بتحريف القرآن إلى الفيض الكاشاني، انطلاقاً مما جاء في سلسلة مقدّمات كتابه التفسيري الروائي «الصافي»، حيث إن مراجعة بعض ما ذكره حول هذا الموضوع في كتابه «علم اليقين» يفيد في التعرّف على موقفه بدقّة أكبر، حتى لا يجري نسبة القول بالتحريف إليه اعتماداً على نصٍّ واحد مع تجاهل نصوصه الأخرى في المصادر الأخرى، كما فعلـه بعضهم الناقدين من أهل السنّة، وكما يفعلـه البعض في عصرنا الراهن، حيث يجري الاقتصار على نصٍّ واحدٍ لكاتب أو باحث، ليعقب ذلك محاكمته على أساسه بعيداً عن مجموعة النصوص والكلمات الأخرى، بل سرى الأمر في أحايين أخرى إلى استخدام نمط تقطيع النصوص وسلخها عن سياقاتها المحيطة بها، كلاماً أو مقاماً.

من هنا، يمكن أن يلاحظ على بعض حركات الترجمة التي تحصل، سيما مؤخّراً ما بين اللغة الفارسية والعربية، حيث يقوم بعض المترجمين بتطعيم ترجمته بما يؤدي إلى إضافة مطالب أو حذف أمور قد يعتقد هو أنها هامشية، فيما الأمر ليس كذلك، سيما إذا كان مصبّ الترجمة شخصيات بارزة يمكن أن تقع محلاً لدراسة وقراءة الباحثين فيما بعد.

إن التسامح في نقل وفهم أفكار الآخرين لـه مردودات سلبية، وربما تكون أحد أسبابه العجلة واللاتروّي في دراسة الأمور وتهيئة المقدّمات أو اللامنهجية في ورود الأبحاث واستخدام القلم، الأمر الذي يحصل مع بعض الكتّاب حينما يعمد إلى تأليف كتاب أو مقالة دونما اعتماد على ما يسمّونه: منطق تنظيم البطاقات التي تجمع المصادر بدقّة وعناية، فنسبة الأفكار بطريقة مشوّشة يؤدي إلى العديد من المخاطر العلمية، ولا فرق فيه بين عالم أو باحث وبين آخر، فبعض الباحثين كثير التشدّد في تحديد مواقف بعض المفكّرين، فيما يتساهل في آراء مفكرّين آخرين ويكتفي لنسبة قولٍ اليهم بنقل القيل عن القال، وهو أمرٌ يحتوي على نوع من الانتقائية غير المبرّرة في كثير من الحالات؛ إذ كيف يحقّ لنا ـــ من زاويةٍ أخلاقيّة ــــ ممارسة درجة عالية من التحفّظ قبل نسبة مقولةٍ إلى شخص ما، فيما تجري أقلامنا وبسرعةٍ كبيرة حينما يكون الحديث عن شخص آخر لننسب لـه مقولةً أو فكرة؟‍‍!

2 ــ المعرفة بين مرجعيّة الفكرة وهيمنة المفكّر / أزمة الشخصانيات

يتعاطى البحث العلمي الأفكار والمعلومات مادةً لـه، أما الأشخاص فلا علاقة لـهم بهذا البحث في غالب الموارد والحالات، وهذا معناه أن البحث العلمي لا يدخل في جدال مع الأسماء والأشخاص بقدر ما تعنيه الأفكار نفسها، فبقطع النظر عن مدى التأييد الذي تحظى به فكرةٌ ما أو مدى الرفض والتقريع الذي تعاني منه فكرة أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي الرسمي أو السياسي أو.. فإن البحث الأمين يستدعي التعامل مع الفكرة دونما نظر إلى حجم تأثيرها وشعبيتها، إذا ما كان الـهدف هو الحقيقة النظرية، وهذا معناه أن الموقف من شخص معيّن أو تيار معين أو فئة معينة لا ينبغي أن يكون أساساً في الحكم على فكره أو رأيه في قضية هنا أو هناك، فإن ذلك نوع من إقحام العناصر النفسية والذاتية في الجهد العلمي والتحقيقي، وهو ما يدفع الباحث ــ لا شعورياً ــ إلى التأثر النفسي من هذا الأمر، ويجرّ العديد من الباحثين إلى تأييد فكرةٍ لمجرّد أن فلاناً من الناس قد نطق بها وبقطع النظر عن مدى امتلاك الذي يؤيّد هذه الفكرة أدلةً كافية على الاقتناع بها، وهو ما يمثل نوعاً من الاستلاب غير المبرّر، بل قد يحصل لدى بعض الناس أن يرفضوا فكرةً معينة، لكن عندما ينطق بها شخصٌ من الأشخاص يقدّرونه أو يحترمونه أو يقدّسونه يتحوّلون عن موقفهم السابق وبسرعة لا تكاد تكون مفهومة في بعض الأحيان، والعكس هو الصحيح؛ فكثيراً ما تكون فكرةٌ ما محلاً لقبول الباحث أو الناظر، لكن وبمجرّد أن يتبناها شخصٌ أو اتجاه، يسرع إلى رفضها والتنكّر لـها.. وهذا كلـّه يعبّر ـــ في الساحة العلمية والثقافية ــــ عن واقع مأزوم تتحكّم فيه الشخصانيات أو الفئويات أكثر مما تحكمه الأفكار أو الرؤى أو التطلّعات.

إن الثقافة القرآنية ــ على ما يفهمه الكاتب ــ ترفض ظاهرة التقليد، وهي ظاهرة تشلّ حركة الإنسان عن رؤيـة الحقّ وتجعلـه أحياناً مصداقاً لقـولـه تعالى: >وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ< (المؤمنون: 70)، والرفض القرآني للتقليد وفق هذا الفهم ليس رفضاً جزئياً، وإنما هو تأسيس لأصالة الفكر والعقلانية، أو بعبارة أخرى: تأسيس لنوع من أصالة السعي الفردي لكشف الحقيقة والاهتداء إليها، وهي أصالة لـها مداليلـها ولـها عواقبها ولوازمها التي لابد من الأخذ بأكثرها إن لم نقل بجميعها؛ كي لا نقع في تناقض ذاتي، من هنا، فإن الثقافة القرآنية ثقافة ترفض الآباء الذين يعبرون عن منهج خاطىء وتقبل بالآباء الذين يعبرون عن منهج سليم، وهذا معناه ضرورة السعي ـــ في المرحلة الأسبق ــــ لتحديد الصحّة والخطأ، وتبعاً لـه، تحديد أن الآباء ما هي طبيعة الموقف منهم، لا اعتبارهم أساساً لتحديد الباطل والحقّ، أو الحكم السلبي عليهم أو الإيجابي بصورة مسبقة.

إن اللاتقليد للآباء تعبير آخر عن اللاتقليد للمحيط وللسلف، وكسرٌ لمركّب السلف والصالح؛ لإعادة إنتاج ثنائيتين جديدتين هما: السلف الصالح والسلف غير الصالح، وإذا ابتعدنا عن كلمة صالح حتى ننأى بأنفسنا عن الحمل النفسي والخلقي، يمكن القول السلف المصيب والسلف غير المصيب، لا ثنائية واحدة جدلية بين الإصابة والسلفية أو أحادية تبدأ من السلفية وتنتهي بالإصابة.

وما قلناه تعبير آخر عن استبعاد علمي ومدروس للأشخاص عند دراسة الأفكار في مرحلة التقييم النهائي.

لكن هذا الأمر، لا يعني ــ كما هو الحاصل لدى البعض ــ نوعاً من ردّة الفعل إزاء الأشخاص أو السلف أو التاريخ أو.. ومحاولة للافتخار بنقد السلف وكأن نقد السلف والمشهور تحوّل لدى هذا البعض إلى علامة افتخار أو مؤشرٍ علمي للتطوّر والتخلّف، إلى درجة أنه صار يشعر بعيب موافقة الماضين أو الشخصيات، ويشعر أيضاً بذاته وكيانه ووجوده عندما ينقدهم أو يفنّد جهودهم، كلاً أو جُلاً أو بعضاً.

والأمر الأكثر غرابةً على صعيد البصمات الشخصانية في ساحة الفكر والمعرفة، يتمثّل ــ فيما يلاحظ ــ في تمثّل التيار العقلاني التغييري لسلوكيات شخصانية، ففيما يحارب هذا التيار مختلف أشكال الشخصانية والصنمية على الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية و.. تراه ينافح ــــ من حيث لا يشعر ـــ عن شخصانيات أخرى من طرفه، فنقد بعض المفكّرين الجدد يعبّر ـــ دائماً أو غالباً ــــ عن تخلّف، والاختلاف في بعض المفردات يسمح ــ لـهؤلاء ــ بإجراء عمليات تصنيف مسقطة على الأفراد والاتجاهات، وكأن التغيير والإصلاح والتطوّر والعقلانية و.. أصبحت مفاهيم محتكرة من جانب تيار أو جناح، وهذه في الحقيقة ليست مجرد إشكالية بل تحدٍّ واضح لمدى مصداقية الاتجاه العقلاني الناهض لاختبار مدى جدّيته في السعي لإزالة الظواهر النمطية السلبيّة المتجذّرة في المجتمع.

إن هذه المشاعر والأحاسيس التي تغرق بها الساحة الثقافية تشلّ أخلاقيات البحث العلمي، وتبقي الحركة الثقافية في نوع من الجداليات التي غالباً ما تعبّر عن دوامات لا مآل لـها.

مقولة العقاب الأخروي وعلاقتها بحرية التفكير

على الخطّ نفسه، ثمة إشكالية تواجه تحرّر التفكير سيما العقدي؛ إذ كيف تشاد البناءات العقدية؟ وهل يجب على النظر العقلي أن يراعي النصّ في تشييد هذه البناءات؟ وكيف يمكن التوفيق بين الوصاية النصّية ومبدأ النظر في العقديات؟

أسئلة تواجه الفكر الديني عموماً، والإسلامي ــ سيما في مرحلتنا ــ خصوصاً، ذلك أنّها تلامس شرعية النظر العقلي والاجتهاد الفردي في العقديات بالدرجة الأولى، ومن ثم لابدّ من تقديم أجوبة لها.

فالمدخل الإشكالي في هذا الموضوع هو: هل يمكن تطبيق ثقافة تربوية في مجال النظر العقلي العقدي تقوم على مفهومي الثواب والعقاب؟ أم أنّ ذلك شلاً في روحه لحركة النظر وإرعاباً من نتائجها؟

ولكي تتمّ ملامسة الجواب عن هذه الإشكاليّة، لابدّ من التأكيد على أنّ مبدأ الثواب والعقاب يصحّ تمريره هنا، إذا ما كان نظرنا إلى مقدّمات الفعل العقلي، أي إلى العُدَدِ والأدوات التي تمّ توظيفها أو استنـزافها في عملية النظر مقدّمةً لبلوغ الحقيقة العقدية، فإنّ نظام الثواب والعقاب من شأنه أن يحدّ من عمليّات الاستعجال أو الابتسار، وأن يقلّص من الاندفاعات غير المنطقية أو المماحكات العقلية غير المدروسة، وهو أمرٌ نخمّن أنّه إيجابي، لسلامة النظر العقلي، والرقي به نحو جودةٍ أفضل وأداءٍ أكثر ملاءمة.

إنّ ملاحقة مقولة العقاب الأخروي للباحث الديني في هذا المستوى من مسألة النظر، ليس أمراً سلبياً حينما يتمّ توظيفه لتحسين نوعية النشاط المعرفي محافظةً ــ قدر الإمكان ــ على عناصر الأمانة والهدوء والتروّي والعقلانيّة، إنّ توظيف هذه النظم الدينية، عنيت الثواب والعقاب، الثواب على بلوغ الحقّ، والعقاب على خطئه.. لكي تجوّد النشاط المعرفي يبقى ضرورة يحتاجها الدين والعقل معاً.

لكنّ إنذار الباحث الديني بالعقاب الأخروي نتيجة تسرّعه ولا عقلانيّته في ممارسة النظر العقلي.. لا يعني تطبيق المقولة عينها في مجالات أخرى.. ولكي نقرأ هذا الموضوع جيداً ينبغي أن نعرف أنّه من الضروري تقديم ضمانات للباحث الديني في بحثه، وإلاّ أحجم عن البحث وقتلنا بذلك مناشط التفكير، وشلّت بفعلتنا حركة الفكر الديني، ولتقريب هذه الفكرة نحاول استحضار مقولة الحجيّة التي وظّفها علماء أصول الفقه، وذلك حينما قالوا بأن الفقيه حينما يقوم بوظائفه البحثية بأمانة عالية فإنه يملك ضمانات تبعده عن العقوبة الأخروية وتجعل لديه حصانة على تقدير أن يكون قد أخطأ، إنّ معنى هذا الكلام أنّ الفقيه قد انطلق في بحثه الفقهي من ضمانات تسعفه على افتراض أن يكون قد أخطأ في استنتاجاته، ولهذا قيل قديماً: للمجتهد أجرٌ إن أخطأ وأجران إن أصاب، بعيداً عن ما سجّل على هذه الجملة الأخيرة من اعتراضات.

إنّ هذه الضمانات المؤمّنة من العقاب هي التي أقلعت بحركة الاجتهاد الفقهي، وشكّلت إحدى صمامات الأمان التي تهيء الظروف لانبعاث حركة الاجتهاد وانطلاقتها، ولو أنّنا افترضنا أنّ الفقيه سينذر بعقاب لو أخطأ حتّى بعد قيامه بواجباته العلميّة لما وجدنا مثل هذا الحراك الفكري في المجال الفقهي مثلاً.

وما نريد إثارته هو تعميم هذا المنطق على الاجتهاد الكلامي بقسميه القديم والجديد؛ لأنّ عدم تعميمه سيقتل حركة الفكر الكلامي، كما هو الحاصل في أكثر من مجال، وعملية التعميم هذه ليست اعتباطية، بل ينبغي لها أن تقوم على بناءات فلسفية ومنطقيّة مدروسة، فنحن لا نريد هنا إبداع مقولات فلسفية من العدم، بقدر ما نريد تنظيم هذه المقولات التي يتواجد أغلبها بين أظهرنا في ميادين متفرّقة، ومن ثمّ إعطاؤها دوراً أكبر وأكثر فاعليّة، إذ ما دام الإنذار بالعقاب على الخطأ الاجتهادي الكلامي ماثلاً أمام الباحث الديني فلا يجدر انتظار الكثير من الإبداع منه.

ولكي نتفهّم الموقف الديني المتحفّظ، انطلاقاً من أنّ إعطاء ضمانات يعني شرعيّة الأديان والمذاهب كافّة، أو يعني عبثيّة الديانات الحقّة أو غير ذلك ممّا وجدناه عند جماعة من كبار العلماء والمنظّرين من أمثال الوحيد البهبهاني (1205هـ) والشيخ عبدالله البحراني وغيرهما، من الضروري التركيز على الفرق بين مسألة الحقّ والباطل، ومسألة الثواب والعقاب، فأن يكون الإنسان معذوراً عند الله تعالى أمرٌ يختلف تمام الاختلاف عن كونه محقّاً أو مهتدياً لا ضالاً سبيل الصواب، والخلط بين هذين الثنائيّين أدّى ويؤدّي إلى حصول التباس، فإرسال الرسل، وبعث النُذُر، وسنّ الشرائع، واللطف بالعباد هو ــ علاوةً على إنجائهم من عذاب الله تعالى… ــ للبلوغ بهم مراقي الكمال، والأخذ بأيديهم لخير الدنيا والآخرة، وما هو صلاحهم وكمالهم في هذه الحياة، وهي أمورٌ تكوينية، إذ شاء الله تعالى أن لا تجري الأمور إلاّ بأسبابها، فمجرّد أن يكون الإنسان معذوراً في تناوله مادّةً سامّةً لا يجمّد من تأثير السمّ على بدنه بما قد يؤدّي إلى قتله.

وهذا ما نقصده هنا، فإنّ العذر الذي نتكلّم عنه لا يصيّر غير الإسلام إسلاماً، ولا يجعل غير الديانة الحقّة مؤدّياً إليها وموصلاً للغرض فيها، غاية ما في الأمر أنّ الملتبس عليه الأمر غير معاقب.

لكنّ التباس الأمر لا يجدر استغلاله لصالح توسعةٍ غير منطقية، ومن هنا نحبّ في هذه العجالة توظيف الثنائي الكلامي ــ الفقهي، القديم ــ الجديد، ألا وهو ثنائي القاصر والمقصّر، فالقاصر لا يعاقب بحكم العقل على خلاف الحال مع المقصّر، وهذا أمرٌ لا يناقش فيه عادةً وغالباً، إنّما النقاش يقع في وجود القاصر في المجال العقدي كما هو الحال في المجال الشرعي أم أنّ المجال العقدي لا يتحمّل فرضيةً كهذه أبداً أو إلاّ نادراً.

وإذا رجعنا إلى مواقف العلماء وجدنا تيّارين رئيسيين يتجاذبان هذا الموضوع بدءاً ــ ربما ــ من الجاحظ (255هـ) وحتّى العصر الحاضر، فتيّار يحاول ــ في إثارته للموضوع ــ أن يجعل القاصر محصوراً في دائرة الصبيان والمجانين والعجزة، ممّن لا تسعفهم الحيلة للبحث والنظر ما دامت إمكاناتهم محدودة عقلياً و.. ونجد هنا نصوصاً لأمثال المرجع الخوئي (1413هـ) تكاد تقترب من هذا الرأي، أما التيار الآخر فهو يعتقد بأنّ القاصر ليس فقط موجوداً في المجال العقدي على الخلاف ممّن نفاه بالكلّية، بل هو الحالة الغالبة في الاجتماع الإنساني، وقد نقل مضمون هذا الكلام عن الشيخ بهاء الدين العاملي (1031هـ) حتّى سبّبت له هذه الفكرة ــ على ما يقول الخوانساري (1313هـ) في «روضات الجنات» ــ مشاكل و.. وأكاد أعتقد بأنّ الإمام الخميني (1409هـ) هو أبرز شخصيّة في هذا المجال، إذ لديه نصّ يعدّ من أقوى النصوص في هذا المضمار، فهو يقول: «إن أكثرهم ]الكفّار[ ــ إلاّ ما قلّ وندر ــ جهّال قاصرون لا مقصّرون، أمّا عوامهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم… والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصياً وآثماً، ولا تصحّ عقوبته في متابعته، وأمّا غير عوامهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من أوّل الطفولية والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة..»([4]).

وكما أشرنا، ينصّ الخوانساري على طعن بعض العلماء بالبهائي لقوله: «إنّ المكلّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل، فليس عليه شيء إذا كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلّد في النار»([5]).

ورغم هذه النصوص القاطعة يذهب البعض إلى تصوّر أنّ هذه المقولة مقولةٌ غربية، أتتنا من النـزعات البروتستانتية، ومن مدارس التعددية الدينية المعاصرة مع جون هيغ وأمثاله، وإنّما تعمّدتُ ذكر نصّين لفقيهين بارزين ليُعلم أنّ الفقه نفسه قادرٌ على تحمّل مثل هذا الرأي، مع اعتقادنا بالنـزعة الفلسفية والعرفانية للبهائي والخميني.

إذن، فمن الضروري وعي التراث جيداً لملامسة إشكاليّات حسّاسة من هذا النوع، وعدم الاستعجال ــ الصادق أحياناً ــ في التعاطي مع هذه الموضوعات، ولو أردنا سرد الآراء ــ سيما آراء الفلاسفة والعرفاء ــ لطال المقام كثيراً.

إنّ هذه المقولة تمثّل ضمانة، تعلن أن من يطلب الحقّ صادقاً ويبذل الجهد المعقول في السعي خلفه ثم لا يبلغه أو يناله معذور في الجهل بالحقّ، دون أن يعني ذلك إعطاء العذر مطلقاً، فنحن لا ننكر وجود المقصّر، ولا غضّ الطرف عن المخالفات العملية لا أقلّ للعقل العملي كالظلم والقتل بغير الحق و… يجب أن تدرك المسألة بجميع جوانبها، ممّا لا مجال لإفاضة الحديث فيه هنا، وإنّما ذكرناه بمناسبة البحث عن التقليد للآباء.

ويكاد التعجّب يمتلك الإنسان من اعتقاد البعض بأنّ الناظر الذي لا يبلغ الحقّ مقصّر، وشاهد ذلك أنّه لو لم يقصّر لبلغه، إنّ هذه الفكرة ذات صبغة أيديولوجية بحتة، تتجاوز وقائع الأمور، لصالح أيديولوجيا مسقطة، إذ من هو الذي برهن على هذا الأمر؟! وهل كل العقديات يجري عليها هذا القانون؟! وما معنى ارتهان شرعية النظر بصحّة النتائج؟! أليس في ذلك تفريغاً لحرمة التقليد في أصول الدين؟! وهل تحتجب الفطرة لعامل الذنب البشريّ فقط ولا تحجبها ظروفٌ قاهرة على الإنسان كالبيئة والمحيط؟!…

إنّ دراسة ظروف الناس من حيث القصور والتقصير أمرٌ لا يرتبط بالنتائج العلميّة التي خرجوا بها بقدر ما يرتبط بأدائهم العملي ونواياهم الداخلية، بل كيف يمكن رهن الثواب والعقاب بإصابة الحقيقة وعدم إصابتها، فإن الإصابة أمرٌ غير اختياري في حدّ نفسه فكيف يرهن العقاب بما لا يرجع إلى الاختيار؟! وأمّا التشكيك المستمر في النوايا فهو مشكلة يجب حلّها من جذورها النفسية والعقلية.

وبهذه الضمانة تنطلق الأفكار لتدرس العقديات بحرّية أمينة وصادقة، لا حرّية منفلتة وعشوائية تبنى على التعسّف والابتسار، وعبر هذا الطريق يحيا الاجتهاد الكلامي، وتخفّ وطأة القلق والخوف المانعين عن الإبداع والخلاقية، وأيضاً تبنى بذلك عقديات برهانية، لا على الطريق المعتـزلية المتشدّدة، وإنما على طريقة تستوعب إمكانات الإنسان، إذ لا معنى لمطالبة الباحث اليوم بدراسة جميع الديانات والمِلَل وكافّة البراهين والأدلّة، فهو أمرٌ لا بالمقدور لشخص واحد ولا بالمستطاع للشعوب، بل ولا بالمطلوب على مستوى العقل العملي.

ويبقى أن نرسم تصوّراتنا بدقّة جميعاً لا يستثنى من ذلك أحد، حتّى لا ننتج أفكاراً تقتل مجتمعاتنا أو تسير بها نحو الانحراف التام.

وهكذا تبقى مقولة العقاب الأخروي فاعلةً تربوياً في مجالاتها المنطقيّة، تبني الروح وتهذّب النفس وتشيد الأخلاق الحميدة.

3 ــ الـهدف الأخلاقي للبحث العلمي

غرق علم الكلام الإسلامي ـــ كما أسلفنا ــــ في النـزعة الجدالية التي استنـزفته، فيما سعت الفلسفة ــ وفّقت أو لم توفق ــ إلى تفادي هذه النـزعة بطرحها البرهانية الفلسفية أساساً للنشاط أو الفعالية، وهذا الفارق ما بين الفلسفة والكلام هو بعينه واحدة من مشكلات البحث العلمي، إننا نجد أحياناً أن بعض الباحثين لا مشروع لديه سوى النقد سواء كان نقداً لأشخاص أو لتاريخ.. وهو يعمل ــــ ليلاً نهاراً مخلصاً وجاداً ــــ في نشاط النقد هذا، وهدفه تفنيد هذا الشخص أو ذاك التاريخ، وهذا النشاط في حدّ نفسه مفيد جداً؛ لأن العقلية النّقادة عقلية ناضجة بالأساس ولا ينبغي الحيلولة دون وجود هذه العقلية في المجتمع الثقافي؛ لأنها تمثل أحد ضمانات التوازن المعرفي، لكن المشكلة التي تحصل تكمن في تحوّل هذه العقلية إلى مشروع شامل لا يقف إلى جنبه مشروع آخر، فالفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط صاحب ــ ربما ــ أشهر مدرسة نقدية في تاريخ الفلسفة لم يكتفِ بنقد العقل، ومن ثم أبقى الفكر في اللاشيء أو في الفراغ، وإنما سعى ــ إلى جانب ذلك ــ لإيجاد البديل، ولو وفق وجهة نظره التي يحقّ لمن بعده تأييده عليها أو مخالفته، أن تملِكنا عقلية نقدية فهذا خطر، أما أن نملك عقلية نقدية فهذا عين الصواب بل والضرورة، إن بعض الباحثين المعاصرين لا يستهدف من نقده للتراث غير تفنيده، وإذا ما فتّشت في كتبه ونتاجاته عن بديل ما ربما يصعب أن تجد شيئاً من هذا القبيل، وهذه هي نقطة الخطأ، أن لا يعتاد الباحث ــ أيّ باحث ــ على مجرد أن ينقد فحسب.. أن ينقد كل جديد أو فكرة جديدة دون أن تكون لـه وظيفة أخرى عدا تتبّع كل ما يقال من جانب فلان أو جماعة أو مذهب.. بغية نقده، أو أن ينقد القديم كلّ قديم بحيث لا همّ لـه سوى مواصلة الجهد لتنحية هذه المقولة أو تلك.. إلى حدّ يصل الحال أن يقرأ هؤلاء أي كتاب أو مقالة بعقلية يسمّيها الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه دوائر الخوف «استراتيجية البحث عن العفريت»([6]).

إن الـهدف الصحيح لحركة البحث العلمي يجب أن يكون الحقيقة، فعندما يشاهد الباحث فكرةً خاطئة عليه أن ينقدها، لكن أن لا يبقى في نقدها.. بل عليه أن يسير إلى الأمام لوضع حلّ أو صيغة أو بديل آخر لـها، كما هي عادة الكثيرين من علماء أصول الفقه الشيعي؛ حيث يتعرّضون للآراء ـــ واحداً بعد الآخر ــــ ثم ينقدونها، وفي النهاية يقومون بتبنّي رأي معين والدفاع عنه أو ابتكار رأي جديد والبرهنة عليه، لا أنهم يبقون دائماً في إطار نقد الآراء التي لا يؤمنون بها.

إن هدف الباحث معرفة الحقيقة واتباعها وهو أمرٌ قد يجعلـه يمرّ أحياناً على نقد، وأخرى على تدعيم، وثالثة على تأسيس، ورابعة على تأييد وموافقة، وهكذا دون أن يبقي نفسه في أسر النقد ويصنع من ذاته شخصية نقادة، وفقط نقّادة، سواء لـهذا الطرف أو لذاك، لا فرق.

إن النقد ــ من الناحية العلمية ــ أسهل من إعادة الإنتاج والبناء، والشخصيات النقادة، وفقط النقادة، كثيراً ما تكون شخصيات خائفة ومحجمة، والسبب هو أنّ هذه الشخصيات تظن أن كل الناس تفكّر على طريقتها في النقد، فلا تتصور أو تترقب إذا ما قدّمت شيئاً سوى النقد في عقول الآخرين لأفكارها وإنجازاتها، لـهذا فهي تشعر دائماً بحالة من الإحباط والقلق وربما الـهزيمة، ونفس تلك الشخصية تصبح فيما بعد ــ لو تصدّت لتقديم شيء ثقافي ــ أحد الذين يمارسون الاستبداد والقمع.. لأن الاستبداد أفضل وسيلة لتهدئتها نفسياً.

إن شيوع روح النقد غير المتـزاوج مع إعادة الإنتاج، لا يقدّم سوى المزيد من مظاهر الإحباط واليأس والنكوص والردّة و.. سيما لدى العناصر الشابة المثقّفة، وهذا ما يرشدنا إلى مدى الالتحام ما بين هذه الظاهرة الثقافية من جهة ومجمل الحراك الاجتماعي والسلوكي من جهة أخرى.

4 ــ أهلية البحث العلمي، المعرفة الدينية بين المثقف والفقيه

موضوع أهلية البحث العلمي موضوع طويل ومتشابك إلى حد معين، لكنّنا سنشير إلى بعض نقاطه باختصار.

إن هناك مشكلة ثنائية الطرف تعاني منها بعض الساحات الثقافية، وهي مشكلة أهلية البحث، فمن جهة هناك حالة من تدخل الذين قد لا تكون لـهم أهلية البحث العلمي ـــ خصوصاً الديني ـــ في مباحث الفكر الديني، وهناك من جهة أخرى تشدّدٌ زائد عن الحدّ من جانب آخر، ويمثل الجانب الأول تيار التجديد، وكذلك شريحة من الجامعيين المتدينين المثقفين وشريحة محدودة من طلاب العلوم الدينية في الحوزات العلمية، أما الجانب الثاني فيمثلـه التيار الرسمي الديني.

يقول الاتجاه الأوّل: إن التيار الكلاسيكي في المعرفة الدينية المتمثل بالمعاهد والحوزات الدينية الشيعية والسنّية أخفق في تقديم مشروع فكري ناضج ومتكامل؛ ولـهذا كان من حقّنا نقده، ومن ثم السعي لصنع شيء بديل من هذا القبيل، وقد نمى هذا التيار وازداد نموّه في الفترة الأخيرة؛ حتى نجح في صنع روّاد ومفكرين أساسيين وهامّين، انسحبوا من السلك الديني الرسمي أو كانوا من البداية قريبين منه..

وفي الحقيقة، هناك مبررات ــ قسمٌ منها مقبول ــ جعلت أو أنشأت هذا التيار الرافض لما يسمّى باحتكار المعرفة الدينية من جانب شريحة من الناس قد تكون أسس تفكيرها خاطئة مهما بذلت جهوداً في البحث والتنقيب؛ لأن الخلل المنهجي، أو ما يسمّى اليوم: الخلل في العقل نفسه، لا يمكن إصلاحه بترميم فوقاني للفكر مهما طالت مدّة البحث، ومهما عمّر الإنسان عمره في الدراسة والتحقيق.

طبعاً، نحن لسنا بصدد الحديث عن وجهة النظر هذه؛ لأن كلامنا هنا يدور حول خصوصية من خصوصيات هذا التيار، ألا وهي أن بعض روّاده وبعض المشتغلين فيه لم يهضموا جيداً أصول وموضوعات الفكر الديني واتسمت نتاجاتهم بشيء من التسرّع، فكيف يحقّ لشخص أن يلغي كل نتاج علم أصول الفقه على صعيد مباحث الألفاظ ـــ حتى لو كان رأيه صحيحاً ـــ ما لم يكن إنساناً هاضماً خبيراً بهذا العلم؛ حتى يقف على مناهجه وأساليبه في البحث وعلى تياراته ومدارسه و..؟! إن مجرّد قراءة كتاب أو كتابين لا يبرّر عادةً ــ على المستوى الأخلاقي العلمي وعلى المستوى المعرفي أيضاً ــ التصدّي لاتخاذ مواقف كبيرة من هذا القبيل، إن هذه اللاأكاديمية في البحث العلمي وهذه الارتجالية في استخلاص النتائج تجرّ على الجسم الثقافي العام الكثير من النتائج الضارّة، كيف يمكن ويحقّ لشخص أن يحكم على الفلسفة الإسلامية ـــ سلباً أو إيجاباً ـــ لمجرّد اطلاعه على نتاج العلامة الطباطبائي فقط أو عمانوئيل كانط وكارل پوپر وميشيل فوكو و.؟!

وإنما نقول ذلك؛ لأن النقد الذي يثيره هذا التيار نقد منهجي تأسيسي بنيوي يمسّ العقل، ولا يمكن لنقد كهذا أن يتجاهل قراءة تاريخية وشاملة.. فهذا الدكتور محمد عابد الجابري ــ وافقناه أو عارضناه ــ قرأ العقل العربي أولاً في مجلدات ثم نقده، ولم يكن يحقّ لـه أن ينقد هذا العقل دون أن يدرسه ماراً بالمدارس الفقهية والكلامية والفلسفية وغيرها، ولـهذا يمكن القول بأن إشاعة ثقافة التدخّل من جانب البعض في قضايا الفكر الديني وهو ممّن لا اختصاص لـه فيها.. إن إشاعة هذه الثقافة أمرٌ غير سليم على ما يبدو، لكن هذا الأمر شيء وممارسة قمع واحتقار لمن ينقد شيء آخر، فنحن نتكلّم في البُعدين: المعرفي والأخلاقي، لا في البعد القانوني والحقوقي؛ إذ يحقّ لأي إنسان أن يستفهم ويسأل وينقد، لكننا هنا نطلب منه أن لا يستخلص نتائج دون شيء من الخبروية والدراية؛ حفاظاً على النموّ السليم للمعرفة.

أما الاتجاه الثاني فيقول: إن المعرفة الدينية وعلوم الدين تحتاج إلى تخصّص وجهد غير عادي لفهمها ودرك خباياها، لذلك لا يحقّ لأي شخصٍ أن يتجرء ويقحم نفسه في هذه العلوم دون أن يكون قد طوى المراحل المتعددة التي تؤهلـه لـهذا الأمر، ويضيف هؤلاء: إن السير لا وفق المنهج المعهود في المدارس الدينية أفضى وما يزال إلى مخاطر عديدة، وقد شاهدنا بأعيننا النتائج السلبية لـهذا الأمر.

وهذا المقدار مما تثيره المعاهد الدينية الرسمية يمكن الموافقة عليه، بيد أن القضية على هذا الصعيد أخذت بالتصاعد إلى حدّ غير مبرّر على ما يبدو، ذلك أن هذه الحالة أفضت من جهة إلى قناعة بنوع من الحكرة في عالم الفكر والمعرفة، وأخذ الدارسون الرسميون ــ طبعاً نحن نتكلّم عن بعضهم بالتأكيد والكلام ليس شاملاً أبداً ــ يتصوّرون أن كل من يكتب أو يتكلّم في مجال المعرفة الدينية دون أن يكون متحركاً في إطار السلك الرسمي فهو معتدٍ ــ علمياً ــ ويتدخل فيما لا يعنيه، وأنه متأثر بالأفكار الغربية، أو أنه لا أصالة في فكره أو.. وساد اعتقاد بلاشرعية التفكير ـــ أيُّ تفكير ـــ لا ينطلق من الخطوط والرسوم الكلاسيكية لتسلب بعد ذلك القيمة عنه والاحترام.

وربما تطوّر الأمر لدى البعض إلى مستوى أعلى؛ حين يضع اللباس الديني جزءاً مكوّناً للمشروعية البحثية، بحيث لا يحقّ لمن لا يضع هذا اللباس أن يتكلم باسم الدين والتدين مهما بلغ من العلم بل والإيمان.. أو أنه لا يحقّ لـه ــ حتى لو كان ملبّساً بلباس رجل الدين ــ البتّ في شيء والتصدّي لـه ما لم يصل إلى سنّ معينة بحيث يمكن عدّه مخضرماً حينئذٍ.

لكن هذا الواقع ــ كالواقع السابق ــ يواجه مشكلات لاسيما مشكلات تبرير، فمن أين لنا أن نجزم بعدم أحقيّة أحد للبحث الديني إلا إذا فكر وفق الطريقة التي نفكّر نحن بها؟ وكيف عرفنا أن مجرّد صحة طريقتنا تخوّلنا سلب الشرعية المعرفية عن طريقة غيرنا؟ لا نريد الحديث عن الحق القانوني، وإنما نتكلم عن الحق المعرفي الذي ينتج إمكانية احترام الطرف الآخر معرفياً، فما لم نكن نقرّ بحقّ الطرف الآخر في النظر والمعرفة، بعيداً عن لباسه أو انتمائه الطبقي، فمن الصعب احترام قواعد اللعبة المعرفية حينئذٍ؛ لأن الأساس الذي نعتمد عليه في عملية التحييد هذه يمكن ـــ إذا انسجمنا معه حتى النهاية ـــ أن يوسّع من نطاقها لتسيطر فيما بعد فئوية رهيبة ضمن دوائر في غاية الضيق.

والمشكلة الأساس تكمن في أن هذا الموضوع بالخصوص يخلق نوعاً من الطبقية الفكرية، وهي طبقية تتعامل مع الآخر من منطلق فوقي دائماً تماهياً مع مفاهيم الحقّ والباطل وأمثالـها، والحديث عن هذه الطبقية وعن مبرراتها العقلية والدينية من جهة وسلبياتها من الجهة الأخرى يحتاج إلى مجال أوسع، ويتصل ــ فيما يتّصل ــ بموضوعة التعددية المعرفية بالدرجة الأولى، مما أسلفنا الحديث عنه سابقاً بايجاز، وفصلّنا بحثه في كتابنا mالتعددية الدينيةn.

5 ــ العنف الفكري / الاعتدال والوسطية

تعاني الكثير من مجتمعات العالم اليوم من ظاهرة العنف، وقد كثرت الأفكار والآراء حول هذه الظاهرة، ودرسها الباحثون من زوايا متعدّدة، وأحد أنواع العنف هو العنف الفكري.

ليس هناك نظرية على ما يبدو قادرة على ادّعاء نبذ العنف بشكل مطلق، وليس هناك تيار ينادي بنظرة واحدة إلى العنف، أي عدم تقسيمه إلى عنف مشروع ومقونن وعنف غير مشروع وغير أخلاقي ولا قانوني، والإسلام كان واحداً من هذه التيارات والاتجاهات التي قسّمت العنف إلى قسمين؛ فرفضت بعضه وقبلت بالبعض الآخر، وهو أمرٌ لا يعنينا فعلاً.

الشيء الذي يعنينا هنا، مسألة العنف الفكري عند الباحث، فمن ناحية نفسية وسلوكية هناك أشخاص يفكّرون بطريقة عنيفة، وهناك بعضٌ آخر يفكر بهدوء وببرودة أعصاب، وهاتان الشخصيتان قد لا نتمكّن من توجيه رفض شامل لـهما ممتدٍ في الزمان والمكان والظرف والحال؛ لأن التفكير الذي يتسم بنوع من الصخب والعنف والانفعال والإثارة نحوٌ من أنحاء التفكير قد يحتاجه أحياناً شاعرٌ أو سياسي أو زعيم أو عارف أو.. وقد لا يحتاجونه في حالات أخرى، ومن الخطأ ــ فيما يبدو ــ أن يتصور التفكير الممزوج بالإثارة على أنه تفكير خاطئ دائماً، ذلك أن لـه حالات قد لا ينوب عنه فيها أي نمط آخر من التفكير.

وهكذا الحال في الشخصية الثانية، أي الشخصية ذات التفكير الـهادىء.. إن هذه الشخصية ليست أمراً ثابتاً أو من المفترض أن يتحلّى به جميع الناس، إن بعض الحالات تفرض شخصية لا هدوء في تفكيرها، وإلاّ لضاعت الفرص و.. فيما تتطلّب حالات أخرى تفكيراً هادئاً.

ولا يعني التفكير غير الـهادىء التفكير الفوضوي، بل يعني التفكير الممزوج بالإثارة والطابع الانفعالي، بعيداً عن فوضويته أو انتظامه، فبعض الأبحاث قد تتحلّى بنظم شديد وترتيب كامل بيد أن التفكير الذي أنتجها تفكير غير هادىء، والعكس هو الصحيح.

لكن السؤال الذي يبقى مثاراً: ما هو الإطار العام الغالب الذي يطالب الباحث أو المفكّر أو التفكير بصورة عامة أن يسير ضمنه؟ وما هو الاستثناء على هذا الصعيد؟ كيف يمكن توزيع الأدوار؟ هل التوزيع زماني، أي هل نتحدث عن أزمنة فنقول: إن هذا العصر يتطلب نمطاً من التفكير أما ذاك فيتطلّب نمطاً آخر؟ أم نجعل التوزيع قائماً على أساس تصنيفي بين الناس، بحيث نتحدّث عن شريحة يملكها نمط تفكير أو فئة فيما شريحة أخرى تحكمها طريقة أخرى؟.. أنجعل في كل إنسان أكثر من شخصية دفعةً واحدة يستبدل إحداها بالأخرى عندما يتحقق موضوع كل طريقة وظرفها؟.. أم نترك الأمور على رسلـها تتحكّم فيها التنوّعات الطبيعية في شخصيات الناس التي تختلف باختلاف الوراثة والبيئة و..؟

بحسب العرض المتقدّم، ينفتح هذا الموضوع على أكثر من صورة وشكل، لكن من الممكن هنا إثارة نقاط سريعة وموجزة:

أ ــ إن البحث الذي يستهدف الحقيقة يرجّح أن يكون هادئاً؛ لأن الصخب قد يعيق تصاعد التفكير وبشكل منتظم وممنهج، فكلما كان التفكير هادئاً كلما استطاع أن يحيط بجوانب الموضوع، وكلّما كان أقدر على قطع منافذ التوتر والإرباك، فالتفكير ممارسة كباقي ممارسات الإنسان التي يطالـها الفشل والشلل والخلل عند ارتباك صاحبها أو توتّره.

ب ــ البحث العلمي داخل الدائرة الإسلامية من المطلوب أن تحكمه حالة الـهدوء والتفاهم والاستقرار، انطلاقاً من القاعدة القرآنية القاضية: >رحَمَاءُ بَيْنَهُمْ< (الفتح: 29)، هذه القاعدة ـــ حسبما يفهم من النص القرآني ـــ لا يخرج عنها سوى في حالة الصراع السياسي المتمثل في مفهوم البغي الذي يستدعي إثارة الـهيجان في الدائرة الإسلامية ككل، وقد يعثر في النصوص على أمور أخرى، كحالات البدعة أو ما شابه ذلك، مما يتوقف عليه أحياناً حفظ الدين، وإلا فالأصل في علاقة المسلم بالمسلم هو علاقة الرحمة، وهي علاقة تجعل من أيّ نشاط فكري داخل هذه الدائرة نشاطاً هادئاً مستقراً.

والمبرّر الذي يقدّمه القائلون بضرورة عدم الرحمة إزاء بعض الخلافات الفكرية داخل الساحة الإسلامية يتمثّل في تطبيق مقولات البدعة وهدم الدين والتآمر على الإسلام و.. بل إن بعضهم يرى ـــ انطلاقاً من نصوص حديثية مشرعنة ــــ جواز بهتان أهل البدع، واختلاق الأكاذيب ونسج القصص الباطلة حولهم، بهدف تحطيمهم في شخصهم أو جماعاتهم أو فكرهم أو مشروعهم أو.. ومع التقدير المبدئي لـهذه المقولات، غير أن التباساً في التطبيق أو في تحديد الدوائر ما يزال متحكّماً بالموقف، فتعريف البدعة، وتقديم تصورات واقعية عن المخاطر التي تحفّ بالدين، ومن ثم تحديد الدين والتدين، أو الضرورة الدينية والثابت الديني و.. إلى غير ذلك من المفردات، ذلك كلّه ما يزال ينتابه درجة من الغموض الذي استجلاه بعض عن طريق افتراض مركزية قائمة على تفكيره الشخصي، الأمر الذي ولّد وما يزال إشكاليات حقيقية.

كما أن مسألة بهتان أهل البدع تعدّ خطيرةً جداً؛ لمساعدتها ـــ سيما في عصر المعلوماتية ـــ على هدر مصداقية الاتجاهات الناقدة نفسها، كما تروّج في ساحات النـزاع الفكري لجدال سجالي قاتم، بل يرى البعض أنّ هذا المنطق وإن سندته روايات قليلة، لكنه يعارض المنطق القرآني الذي يقضي بأن >لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى<، بل قد يذهب بعضٌ إلى القول بأن هذا النوع من منطق التعامل مع الآراء المخالفة أو بعضها على الأقل سوف يجعلنا نشك في كلّ ما قاله السلف ضدّ المذاهب التي اختلفوا معها، انطلاقاً من حسن الظن بهم ما دامت هذه الطريقة شرعية وأخلاقية.

فقد يتهم السنّي الشيعي بتهم هو يعلم أنها غير صحيحة؛ لغرض التضييق عليه، وقد يفعل الشيعي ذلك، فكيف لنا الثقة بالكتابات الكلامية التي تنسب هنا وهناك أفكاراً للخصوم وهكذا؟!

أمّا الاتجاه الذي ينافح عن التغيير، فيحاول فلسفة ثوريته أحياناً عن طريق إغراق الساحة بسيل من الاحباطات التي تجرّ بدورها إلى تفضيل المنطق الثوري على المنطق التوفيقي الإيجابي أو التغييري المراحلي، والشيء الذي يضغط لصالح الموقف الداعي إلى ثورة ثقافية ــ بكل ما تحملـه كلمة الثورة من معنى ــ هو وجود المنافس الغربي السريع الخطى، والذي يلاحق أيّ خطوة تطوير في الواقع الثقافي والعام ليدفعها بقوّة نحو الأمام، الأمر الذي قد يؤدي بها إلى تعثّرات هدّامة أحياناً انطلاقاً من اللاإستحكام في الحركة، تماماً كمن يسير في الطريق بخطى تعتمد على دفع غيره باستمرار، وهذه المعضلة، أي معضلة الحركة المبرمجة من جهة وفقدان عامل الزمن من جهة أخرى، لم تحسمها آلية الثورة؛ لأن تجربة القرن العشرين أكّدت في مجتمعاتنا الإسلامية على السرعة الـهائلة واختـزال المراحل ممّا دفع المنافس الآخر الداخلي (التقليدي) إلى النكوص، وفصل هذا الوضع المثقف المتنور عن واقعه ومجتمعه، الأمر الذي أحال أي عملية تغيير شاملة ربما حتى على الطريقة الغربية؛ لأن الثورات الفكرية في الغرب تصاحبت وتعاطفٍ جماهيري كبير جداً ولم يكن الناقدون غرباء في مجتمعاتهم إلى الحدّ الموجود في بعض مجتمعاتنا الإسلامية.

ج ــ من الضروري معرفة أن التحرّق على الدين من الـهجمات الثقافية التي يتعرّض لـها اليوم لا يبرر استخدام أساليب العنف الفكري في مقام إنتاج الأفكار أو في مقام عرضها؛ لأن التجارب الواقعية باتت تؤكد ــ وبتواصل ــ أن هذه الأساليب غالباً ما جرّت في الفترة الأخيرة، أي في القرن العشرين، سلبيات على المدافعين عن الدين، لا أقل أنها صنعت شخصيات في الطرف الآخر، أثارت تعاطف الشارع عموماً بدءاً بطه حسين وعلي عبدالرازق وصولاً حتى نصر حامد أبو زيد وعلي الوردي وعبدالكريم سروش وعلي شريعتي ونوال السعداوي وغيرهم.. وقد أكدت أكثر من تجربة أن العقبة الأساس التي كان يواجهها بعض هذه الشخصيات كانت اللغة العلمية الـهادئة التي استخدمها بعض خصومهم ضدّهم، كما يقال عن «مطارحات» الشيخ محمد مهدي شمس الدين المخصّص للرد على كتاب «نقد الفكر الديني» للدكتور صادق جلال العظم، فقد شكّلت هذه اللغة إحراجاً لـهذه الشخصيات، حتى لو تعرّض نفس أصحاب هذه اللغة أحياناً لغضب التيار الكلاسيكي.

إن هذا الموضوع دخل ــــ عملياً ــــ دائرة التجاذب حول ما هي الوسيلة الأنجع اليوم في بدايات الألفية الثالثة للدفاع عن الدين؟ هل خلق الإرباك والمنطق الثوري في ردع الآخر أو تهدئة الأمور واستخدام منطق هادئ؟ وفي تقدير كاتب هذه السطور أن المنطق الـهادىء يمكن اعتباره اليوم في الإطار العام ــ وكل شيء لـه استثناءاته ــ الوسيلة الأنجع في الدفاع عن الدين، فنحن نعيش في عالم بدأ لا يرفض منطق الصخب في المعرفة فحسب، بل أخذ يشعر بحالة من التقزّز إزاءه، وهو ما يؤدي ـــ إذا لم نعد إنتاج خطابنا الفكري وفق ضرورات المرحلة ـــ إلى المزيد من التراجع على الصعيد الثقافي والفكري عموماً.

إن طفو مظاهر التطرّف الفكري على مختلف اتجاهات الثقافة بلا استثناء، وتربّع المتطرّفين ــــ من جميع الاتجاهات ــــ على كرسي المعرفة والأمور، وانـزواء المعتدلين واتهامهم بالجبن أو الخوار أو المهادنة أو المداراة أو الرياء، سيكرّس ثقافة العنف في عالم المعرفة، وسيعمد في نهاية المطاف إلى إغراق الساحة الثقافية في عواصف من الإرباك، والتوتر واللااستقرار، وهي عواصف تعيق ــ بالتأكيد ــ عملية التنمية المنشودة.

6 ــ النظر بعين ناقدة للنتاج الشخصي / التواضع العلمي

ثمّة قصص ومقولات ـــ مسجّلة أو تتناقل شفاهاً ـــ أن بعض العلماء السابقين أو بعض المعاصرين يُحجم عادةً عن نشر كتبه ومؤلفاته، ويبرر هذا الصنف من العلماء أو من يؤيد توجههم هذا التصرّف بتبريرات عدّة، يرجع بعضها إلى القول بأن الإنسان كلّما نظر فيما كتبه بعد مدةٍ شعر بالنقص فيه.

ولسنا بصدد محاكمة هذا السلوك، لكن أساسه صحيح ودقيق؛ فكلما تقدّم الإنسان الباحث في العلم وصارت لديه خبرة أكبر في هذا المجال شعر بالنقص فيما قدّمه سلفاً من نتاجات، وهذا أمرٌ ــ كما ألمح ــ إن دلّ فإنما يدلّ على تقدّم الإنسان نفسه، وإلاّ لشعر بعظمة ما كتبه ولو بعد حين.

إن الشعور الدائم بالنقد الذاتي ــ وكذلك تقبل النقد الموضوعي من طرف الآخرين ــ يشكل ضمانةً هامة لديمومة الرقي والارتفاع المعرفي، إن الباحث الذي يعيد قراءة أو التفكير فيما أنتجه ـــ وبصورة متواصلة ـــ هو باحث متواضع وليس متكبراً، وهو باحث يهدف الحقّ والحقيقة لا الأنا والذات، كما أنّ الشعور بنقص ما قدّمه الإنسان شعورٌ أخلاقي ينمّ في ساحة التدين عن تقوى وتواضع، أما التكبر في الحياة العلمية فلا معنى لـه في ظلّ وسائل الإدراك المحدودة للإنسان، وهذا التكبر هو اليوم ــ وربما قبل اليوم ــ إحدى آفات الباحثين والبحث العلمي، إن الكثير من مقدّمات الكتب أو في مطاويها لا تـزول منها عبارات: إنّ ما أتيت به لم أجده عند أحد قبلي، أو لم يسبقني إليه أحد، أو هو فتح عظيم، أو هو تغيير سيقلب معادلات المعرفة والتفكير، أو هو حلّ لمعضلات دامت قروناً متمادية.. إن هذه الكلمات عندما تصدر في عصرنا الحديث، عصر التواضع المعرفي، والاعتقاد بضعف قدرة العقل أمام كشف الحقائق، إنما تعبّر عن دوغمائية وجزم لا موضوعي، فيما المطلوب تقديم نمط تفكير أكثر تواضعاً، أو إذا أردنا أن نعبر بطريقة براغماتية نفعية نقول: نمط تفكير أكثر تكتيكاً وأقدر على امتصاص أي خطأ في المستقبل.

إن نقد الذات القائم على اعتقاد حقيقي مسبق بمكانتها الواقعية المحدودة في المعرفة، وترويض النفس على تحمّل هذا النقد وتقبل اكتشاف الخطأ.. ليس أمراً سهلاً أو مجرّد شعار نطلقه وننضوي تحته، وإنما تربية للنفس صعبة كلّ الصعوبة، تحتاج إلى سلسلة ــ لا واحد ــ من الأخلاقيات أن تتضافر لصنع شخصية علمية متواضعة من جهة، ومتفهمة ثانية، ومسرورة باكتشاف الخطأ ثالثة، أما الاعتقاد بالخطأ في الذات وممارسة العصمة فيها، فهو مفارقة تجرّ الكثير من السلبيات.

وهذه المشكلة ــ التكبّر وخوف النقد وإعادة النظر ــ تظهر في كلمات الباحثين كثيراً وبأساليب متعدّدة، أحدها تعقيد العبارات اللفظية ومحاولة إبهام الأفكار على الآخرين ـــ طبعاً ليس الأمر على نحو إطلاقي بالتأكيد ــــ إن الحملة العنيفة التي شنّها التيار الجديد ضدّ الكتب الدينية ــ والحوزوية بالخصوص ــ في تعقيداتها وأساليب بيانها المبهم، وإن كانت صائبة من وجهة نظر، لكن البديل الذي قدّمته النتاجات الجديدة لم يكن أسهل دائماً، فالكتب الجديدة التي تصدر عادت إليها الظاهرة نفسها مع اختلاف الشكل والقالب، وصارت هناك حالة شبه سائدة اليوم أن الباحث كلما مارس تعقيداً أكبر وإبهاماً أعمق في كلماته وعباراته نمّ ذلك عن عمق معرفي ومستوى علمي أكبر عنده، وكلما بسّط الأفكار ــ لا إلى حدّ الابتذال ــ كشف ذلك عن نقص علمي عنده، بل يرى بعضهم ــ كما كانت ترى التيارات المدرسية الدينية ــ بأنك إذا لم تستعمل المصطلحات الخاصة فإنك لم تدخل في المناخ العلمي المطلوب، فسابقاً كان شعار العلمية أن تستخدم تعابير الفلسفة وأصول الفقه، أما اليوم فتعابير جديدة مشكلة بعضها أنها لم تدخل بصورة رسميّة المعاجم الجديدة إلى حدّ بلغت فيه الحال أن كل كاتب صارت لـه مصطلحات خاصة.

إن تطوّر المصطلح أمرٌ في غاية الضرورة، ولا مجال لتجاوزه، ولا نقاش هنا في هذا الأمر، إنما الحديث عما يمكن تسميته بحالة اللااستقرار في إنتاج المصطلح واستخدامه إلى حد النظر ـــ إضافة إلى من قال.. ــــ إلى كيف قال، لا إلى ما قال، وهو أمرٌ يعكس فيما يعكس ــ من وجهة نظر شخصية ــ إشكالية تعود في بعض امتداداتها إلى الجانب الأخلاقي بالمعنى الذي ذكرناه للأخلاقي.

وهذا التعقيد يعبّر في بعض الأحيان الأخرى عن محاولة من الباحث لسدّ الطريق على النقد المركّز والواضح، وهي نقطة جديرة بالتركيز عليها والتأمل فيها.

إذن، الإحساس بثقل النقد الذاتي، ومن ثم النقد الموجّه من الآخر يعبّر عن رغبة في الاستقرار في نقطة محددة علمياً وعدم تخطّيها نحو الأمام.

والأمر الذي قد يُجبر الباحث على اتخاذ مواقف متصلّبة أحياناً، هو الثقافة والتربية العامة التي تنظر إلى من يعترف بخطئه أو يعدل عن رأيه بمثابة الضعيف علمياً، صحيح أن المفكّر الناضج أو المجتهد في العلوم الدينية مطالبٌ بالدفاع عن أفكاره لا التخلّي عنها وكأنه لم يتعمّق بها، لكن هذا لا يعني خلق مناخ لا يسمح بالتراجع أو التبديل، بل المطلوب عدّ ذلك كرامة ومفخرة تمنح صاحبها وساماً في الأوساط العلمية، فأكثر العلماء عبر التاريخ تغيّرت آراؤهم عدّة مرات في حياتهم، فقد عرف ذلك عن فلاسفة كبار كابن سينا والملا صدرا، كما عرف عن فقهاء أجلاء كالعلامة الحلّي والإمام الغزالي وغيرهم، بل إن ذلك سنّة اللـه في خلقه إلا من عصم، وهذا ما يجعلنا نضع بعض علامات الاستفهام على المحاولات التي ترمي إلى تصوير بعض المفكرين ــ كالشهيد محمّد باقر الصدر (1400هـ) ــ وكأنهم لم تتبدّل أفكارهم منذ نعومة أظفارهم بوصف ذلك شاهداً على عبقريتهم.

(*) نشر هذا البحث في كتاب (مسألة المنهج في الفكر الديني) للمؤلّف، عام 2007م.

([1]) علي حب الله، المقدّمة في نقد النثر العربي: 401 ــ 402.

([2]) درجت في القرنين الأخيرين عادةٌ في الأوساط العلمية الدينية الشيعية، تقضي بأن أكثر الدروس العليا في الحوزات الدينية يجري تدوينها من قبل الطلاب، ومن ثم يقوم أحدهم ــ أو أكثر من واحد ــ بعرضها على الأستاذ، وهو في هذه الحالة المرجع أو أحد المجتهدين المعروفين، لمراجعتها وإعطاء إجازة بنشرها، لتنشر بعد ذلك بقلم الطالب، مع الإشارة إلى أنها من دروس الأستاذ الفلاني، وتسمّى هذه الظاهرة بظاهرة التقريرات، وقد كانت أغلب نتاجات الميرزا محمد حسين النائيني (1355هـ) والسيد أبي القاسم الخوئي (1413هـ) على هذه الشاكلة، فيما يصرّ أساتذة آخرون على أن يقوموا هم أنفسهم بتدوين أفكارهم بأيديهم، وقد عرف من هؤلاء السيد محسن الحكيم (1390هـ).

([3]) أستاذنا الشيخ الدكتور فتح الله نجارزادكان صاحب كتاب سلامة القرآن من التحريف، والنقل معتمد على السماع المباشر والمشافهة، وأنقل هنا رأيه دون تبنّي موقف.

([4]) المكاسب المحرّمة 1: 200.

([5]) روضات الجنّات 7: 67.

([6]) أبو زيد، دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة: 13.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً