إن الأوساط الفكرية اليوم حافلة بالنقاش والسجال حول ما يرتبط بقضايا ترمي إلى معالجة التماسّ والتفاعل بين الإشكاليات الفكرية والعقيدية، وواقع الحياة الإنسانية، سواء كان في داخل المجتمعات الإسلامية نفسها أم بينها وبين غيرها من المجتمعات، والمجموعات الدينية والإنسانية الأخرى.
وذلك خلافاً لما كان دارجاً سابقاً من وجود مستوى من القطيعة بين عالم المفكِّر وواقع حياته؛ حيث إنّ القضايا المطروحة على صعيد النقاش العلمي والبحث النظري كانت أحياناً كثيرة بمنأى عن معاناة الإنسان مع بني نوعه في معترك العيش. ولعلّه من إيجابيات حركة التنوير والتثقيف في الغرب هو الصيرورة العلمية باتجاه يمتزج فيه الهمّ الفكري الفلسفي والعقيدي بإشكاليات العيش، وهموم الحياة الإنسانية، بحثاً عن حلول فكرية وعملية تساعد على إرساء قواعد محصنَّة للحياة لتجنيبها مشاهد التدمير، ونوازع الصراع والنزاع.
وقد يصحّ منّا القول: إنّ ما يميّز المثقف والمفكِّر اليوم عن نظائرهما قديماً هو: توافر حالة الشعور بالمسؤولية في وجدان المفكِّر المعاصر تجاه قضايا الحياة والإنسان، ومحاولة إقحام المطارحات الفكرية والتنظيرات العلمية في وسط الواقع. لا، بل السعي للقيام بتقييم أو حتى مَعْيَرَةِ هذه الفلسفات والنظريات في ظل دراسة مدى نجاحها وفلاحها في إزاحة المعاناة من واقع الإنسان وتمكنها من توفير أكبر قدر ممكن من الراحة والهدوء له. ما يساهم دون شك في إضافة فاعلية كبيرة إلى العلم ويفضي إلى إقصاء كمٍّ هائل من الاهتمام العلمي الذي كان يشغل البال، أو يستهلك الطاقات والإمكانيات من الأمّة من دون جدوى.
إنّ قضية الرحمة والشدة في التنظير والممارسة، أو ما يعبَّر عنه الآن بالعنف والتسامح أو القسوة والمداراة على المستوى الإسلامي أو الديني العام، تمثل إشكاليةً معرفيةً ساخنةً يعمل على معالجتها كثير من الفعاليات العلمية والشخصيات الفكرية. وقد تم بذل الجهد العلمي من قبل هولاء لبلورة الجذور والأصول للعنف والشدة، وصولاً إلى أسس غير معرفية ساعدت على تكريس هذه الظاهرة والسعي الحثيث منهم لمعرفة دور السلطة إلى جانب ما يمكن أن يُنسب إلى المعرفة في استتباب السلام، والسماحة أو إرساء العنف والشدة. ولقد تم التركيز في هذا العدد من مجلتنا على إبراز كل من هذه الأسباب والأدوار في توليد العنف والتنظير له من خلال دراسات فنية، وحوارات حية وصريحة مع تحلٍّ كبير بالموضوعية وتجنّب التعصّب الفكري.
منطق الدين وموقف الشريعة من الشدة والعنف
لو نظرنا نظرة حرة وفاحصة إلى بعض ما يتوافر فيه العنف، وتوجد فيه الشدة من منطق الشريعة وممارسة المواقع المعصومة (تمييزاً بينها وبين الاجتهادات البشرية غير المعصومة القابلة للمرونة) مثل الحدود والديات والغزوات العسكرية وغيرها في الأحكام والفقه الإسلامي عموماً مما يندرج في خانة العسر والعذاب، لو نظرنا لوجدنا أنها إمّا قد تم تشريعها للسماح بالدفاع عن النفس في وجه الاعتداء السافر والقاهر، كما هو الحال في الحروب والغزوات في فترة الحكم المعصوم وتحت قيادته؛ وإمّا هو لأجل تحقيق أهداف تربوية وتهذيب الإنسان عند طغيانه على نفسه أو على غيره، ما يدعم احتمال وجود إمكانيات اجتهادية كبيرة في التطوير والتعديل فيها أحياناً كثيرة.
وإنّ تصوير الدين الإسلامي وما ينطوي عليه من شريعة فقهية في شكل عنيف وشديد، ناشئ من الجهل بمقاصد الإسلام وفلسفة شريعته غالباً، أو من عداءٍ تاريخي من قبل المعارضين تجاه الإسلام أحياناً، مستشرقين وغيرهم. ومن الطبيعي أن لا يكون المقصود هو إصدار حكم عام، وإنّما قصدنا شريحة من المستشرقين الذين لا يمكن إخفاء حقدهم، على الإسلام والمسلمين، والبحوث الاستشراقية التي أنتجوها خير دليل على ذلك.
ومن عجيب الأمر بروز وتبلور مشاهد ومستويات رفيعة وراقية جداً من الرحمة والرفق في بعض ما فهم هولاء منه القسوة الإسلامية؛ أي في الجهاد والدفاع والمقاومة المسلحة.
وموقف الشرع من التعامل الشديد وتعاطي العنف يتحدّد حسب الحالة والواقع. ولا يمثّل الموقف الشرعي، رأياً مؤيداً له مبدئياً؛ لأن الرحمة والعطف واللّين وغيرها من المفاهيم تُعَدُّ الأساس والركيزة الأولى في تحقيق الأهداف والمقاصد الشرعية، ولأنّ الإنسان بفطرته الإلهية يخضع لمظاهر وخطابات الرحمة والمحبة قبل التأثر العميق الإيجابي بالوسائل العنيفة. ومهما بلغ الإنسان في تفرعنه وطغيانه فإن اللّين سيظلّ السبيل الأول للتوغّل إلى أعماقه وسيبقى الخطاب الإلهي متوجهاً إليه كما جاء في القرآن الكريم:
﴿إذهبا إلى فرعون، إنّه طغى وقولا له قولاً ليّناً، لعلَّه يتذكّر أو يخشى﴾
ولكنّ العذاب الأليم في مختلف تجلياته وكافة مصاديقه، جهاداً وقتالاً وخزياً في الدنيا والآخرة، والنهج العنيف، سيحتفظ بأهميته البالغة في منطق الشريعة لتركيع من لا تؤثر فيه اللغة المتسامحة، ويرفض كلّ دعوات الحوار والإصلاح ولا يرتدع عن الاعتداء على حقّ الآخرين.
حظر المقاومة والدفاع وشرعنة الاحتلال والغزو
لا يحتاج الباحث عن الحقيقة إلى بذل جهد كبير لمعرفة الأيادي الواقفة خلف المحاولات الرامية إلى تشويه، وتمويه صورة الدين الإسلامي جرّاء توسيع رقعة التهمة ضده والسعي لإلصاق كل أشكال الإرهاب والعنف على بياض صفحات العقيدة الإسلامية. غير أننا وبصرف النظر عن أنّ هذه الخطط الحاضرة تنطلق من مصدر مدبِّر، ووراءها تآمر دولي في نطاق عالمي واسع جداً، ينبغي لنا أن نسجّل ملاحظات عدة في هذا المضمار:
1- فيما يخصّ الإرهاب وخاصة في ذلك البعد المتعلق بالعنف السياسي المنطوي على القهر والإخافة والترويع يجب أن لا نبادر إلى تسجيل موقفٍ، قبل العمل على بلورة مفهوم الإرهاب بوضوح تام؛ ذلك لكي لا يتم استغلال المواقف وإساءة فهمها أحياناً من قبل الأعداء أو الأصدقاء. مع ذلك كله، فإننا نقول: إن ّ الإرهاب بالمعنى اللغوي المعروف والذي فيه إلقاء الرعب والخوف في قلب العدو المعتدي على الأمة، بكافة الوسائل المشروعة، عمل شريف ومسموح به في مداليل صريح الكتاب والسنة. ولعلّ الإرهاب هذا يمثّل أقلّ ما يمكن أن يصدر من المعتدى عليه في الوهلة الأولى. والدعوة إلى معاملة الاعتداء والجور، باللطف والرحمة والترحيب، لا تبدو عملاً عقلانياً. ولكنّ السعي لردع الاعتداء ومنع الجور والظلم بالوسائل المشروعة، هو غاية في الصواب والعقلانية. إلاّ إذا تحوّل المعتدي بفعل العمل الدفاعي والهجوم المضادّ عليه والتفوقِ اللاحق إلى العنصر الضعيف المسيطَر عليه، والفاقد لقدرة المناورة وإمكانية القهر والاعتداء، فإنّ إرهابه وإرعابه في هذه الحالة لا يكون عملاً مقبولاً.
إنّ المهزوم، أو الأسير، والجريح والضعيف مهما كان قاهراً ومعتدياً بالأمس، فهو يستحق الكرامة، والعفو، والرحمة دون شك في منطق الشريعة ومدلول النص المعصوم. والتأريخُ الإسلامي في فترة القيادة المعصومة خير شاهد على أروع مشاهد العفو عند القدرة والترحّم على العدو المنهزم. ويعود ذلك إلى الفلسفة التربوية والتزكوية الكامنة في داخل الإنسان، بعد ما يُنعم باللطف والرحمة والعفو من جهة المخالف، والسّر في الحث الشرعي على التجاوز عن سيئات المخطئين والعفو عنهم يكمن في توفير فُرص الهداية والرجوع إلى الرشد والرشاد، وقبول دعوة الحق والتوبة عن الفعل السيء.
غير أنّ حرمان المقهور المظلوم والمعتدى عليه من الحماية وحقّ الدفاع، واستخدام كلّ إمكانيات الإرهاب والإخافة والرّد المشروع يمثل حرمانه من القيام بأقل ما يمكن وهو بمثابة دعم الظلم والقهر.
2- من جهة أخرى فإن اعتبار المقاومة والدفاع عملاً إرهابياً في الخطاب الإعلامي الاستكباري سياسياً أو عدّه عملاً عنيفاً لا تسامح ولا تساهل فيه ثقافياً ومعرفياً، أو وصفه بالجزمية والمثالية حيناً وبمحاولة تعريض مصالح المجتمع الإسلامي للخطر أو تشويه صورة الفكر الإسلامي في الإعلام الغربي، وعند الرأي العام العالمي، ليس أكثر من مهزلة يتحول فيها الجلاد إلى الضحية والضحية إلى الجلاد. وإن أمراً كهذا لا يبرّره العقل ولا الشرع ولا تُقِرُّه الأعراف الدولية والشرعية العالمية؛ حيث إنّ أقل المشروع والمسموح به أمام الطرف المضيَّع حقه، والمغلوب على أمره أو المحتلة أرضه وحقوقه، والمحروم من مستحقاته هو شرعية الدفاع ومقاومة الاعتداء والاحتلال والامتناع من الزوال والضياع، ورفض الخضوع أمام العدو الغاشم.
والمحاولات والخطط الجارية على الصعيد الإعلامي والسياسي اليوم هي مصدر العمل على شرعنة الاعتداء والإرهاب وحظر الدفاع والمقاومة الشريفة لتحقيق أهداف صهيونية وأميركية معلومة، بما في ذلك الوصول إلى إسقاط مشروع المقاومة المسلحة بكل أشكالها خاصة في نهجها الاستشهادي الذي أثبت فلاحه الكبير، وأعطاها نجاحها الباهر في دحر الاحتلال وإعادة العزة والاعتبار إلى الأمة الإسلامية، ولأجل ما ينتاب الجهات الاستكبارية من شعور بالخوف والقلق من إمكانية تفشي هذه التجربة العملية الناجحة والمشروع الموفّق الوحيد. ولا طريق أمام أدنى شك في أنّ هذا الاستنفار العالمي، والتعبئة الأميركية الصهيونية عسكرياً وإعلامياً وهذه الحرب النفسية والتفرعن السافر والتغطرس الجاهر، هو لأجل نجاعة التجربة الاستشهادية، وإثبات إمكانية تحقق الانتصار عبر تكريس روح الشهادة والاستشهاد وتعزيز مشروع الجهاد والمقاومة وخلق مناخ عالمي جديد يزيد من إيمان الشعوب بأنّ موازين القوى العالمية ستخضع للاختلال واللاّ توازن بفعل إرادة هذه الشعوب، والاتكال على جبروت الاستشهاد، وسلطان الجهاد والصعود، وطاقات الانتفاضة القاهرة، حيث إن الراهن الإسلامي يحتضن كلّ ما تحتاجه هذه الحقيقة للثبوت والنجاح الفعلي.
3- إن تدقيقاً أوّلياً في مصادر التشريع الإسلامي للدفاع والمقاومة، وكلّ مظاهر ووسائل العنف والشدة المتمثلة في الجهاد والغزو المشروع يُثبت أنّ الفلسفة الأساسية والسرّ الحقيقي في هذه المشروعية يكمن في ردع الاعتداء ومنع الظلم والجور، وبالخصوص تكريس الدفاع والصمود. ولا حثّ إسلامياً على مطلق الغزو والحرب ولا شرعية فيه لها إلاّ إذا كانت هي الطريق الوحيد لزجر الاعتداء والدفاع عن الذات الإنسانية، كما أنّ التأمّل في عشرات الآيات القرانية حول الجهاد والقتال أو العنف المشروع يفضي إلى حقيقة أن لا أساس للحديث عن توهّم الرغبة في التوسّع والمدّ الإسلامي عبر تشريع الجهاد والحرب والقتال بل يهدف الإسلام من تشريع الجهاد إلى أمور أخرى منها:
– صدّ العدوان، كما جاء في الآية الشريفة:
· ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾.
· ﴿فقاتل في سبيل الله، لا تكلّف إلاّ نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً﴾.
· ﴿وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدوَّ الله وعدوَّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم﴾.
– حظر شرعي للاعتداء في كل الأحوال، كما جاء في نصّ القرآن:
· ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إنّ الله لا يحبّ المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم…. فإن قاتلوكم فاقتلوهم﴾.
· ﴿فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً﴾.
· ﴿وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكّل على الله﴾.
وأخيراً لا بدّ من لفت الانتباه إلى أن لا علاقة إيجابية بين أي نوع من العنف والشدة والإكراه وبين مبدأ الإيمان والفكر والمعتقد. ولا شرعية كما لا فائدة من أيَّة محاولة لتوسيع العقيدة والفكر عبر الحروب والغزو، ولا فلسفة حقيقية مادية وراء الحث الشرعي العام على الجهاد والقتال غير تكريس الدفاع والمقاومة وتشجيع الناس على صيانة كراماتهم وأعراضهم وأراضيهم من أن تتعرض للانتهاك والهجوم والغزو الظالم. ويبدو من الضرورة بمكان إخضاع التجارب العسكرية التاريخية للمسلمين في بعض الحكومات السياسية للتقويم الصحيح طبقاً لفهم دقيق ووعي عميق لمقاصد تشريع الجهاد، وتقنين القتال تمييزاً بين صريح المدلول القرآني والسنّي، وبين التجارب الاجتهادية القابلة للصواب والخطأ.
الرؤية الشمولية وموضوعية الدراسات عن العنف ومعالجته
من الطبيعي جداً أن تشعر الأوساط الفكرية والدوائر الثقافية، وحتى السياسية بقلق حقيقي بالغ جراء تفشّي ظاهرة العنف، وأن تعمل كافة الفعاليات المعنية على تجلية الأسباب والدوافع من ناحية، وتبحث عن الحلول المؤهلة والبدائل الواقعية من ناحية أخرى، غير أن هناك إشكاليةً منهجية في هذا الأمر ونقصاً مثدولوجياً يتعلق بفقدان الرؤية الشاملة والنظرة الجامعة إلى جذور الظاهرة وأصولها، ومحاولة اختزال المشكلة في ناحية دون الاستقصاء والتحرّي الكافي، وإماطة اللثام عن منظومة العلل الكامنة وراءها.
من هذا المنطلق، لا بدّ لنا من أن نبذل جهداً جيداً وكافياً لفرز الساحات المتنوعة والمجالات المختلفة التي يتولد في ظلها العنف اللامشروع، ومن ثم ننطلق نحو معالجة المشكلة في كل ساحة بالطريقة التي تتناغم وتتلائم معها.
وفحص أوّلي لحالات العنف والشدة المذمومة يسمح لنا، لنذكر عدة أشكال منه، لنكون بذلك قد أنجزنا الخطوة الأولى باتجاه الوعي الموضوعي له، ومن ثم العمل على التطرق إلى الجذور أولاً والامتدادات والإفرازات ثانياً والعلاج أو محاولة الحلّ أخيراً:
1- دور المعرفة ونوعية التعاطي معها في توليد العنف:
هنا علينا أن نؤكد أن للمعرفة وطريقة التعامل معها دوراً واضحاً وأثراً كبيراً في توليد بعض أشكال العنف؛ حيث إن بعض الآفات الطارئة على الصعيد المعرفي مثل الجزمية الفكرية، والتعصّب والتصلّب المعرفي يفضي بأصحابها إلى اتخاذ مواقف عنيفة صارمة من كلّ معارض. ويُحدث هذا النوع من المعرفة حالة التشدّد والتطرّف ويسبّب عدم إطاقة صاحبها لأي تعددية علمية، واختلاف اجتهادي يمثل أمراً طبيعياً جداً في المناخ الصحي والأجواء السليمة في تعاطي المعرفة والاجتهاد الحر المقونن.
وجود بعض حالات التصادم والتراشق بين أصحاب النظريات المختلفة والاجتهادات المتنوعة التي قد تسفر في بعض الأحيان عن تبادل التهم والأوصاف المذمومة بينهم أو يدفع كلَّ طرف إلى إلصاق تهمة الفسق والضلالة، أو أحياناً الكفر والإلحاد بالطرف الآخر، وجود هذه الظواهر السيئة والخطيرة يشكّل نوعاً من مضاعفات فقدان روح التسامح العلمي وعدم الاعتراف بالتعددية العلمية والمعرفية في هذه الأوساط العلمائىة ومحافل المفكّرين. ومن ضمن الإفرازات الخطيرة لقلة التحمل العلمي والفكري، وعدم وجود السماحة، ورفض الحريّة الكاملة في ممارسة الاجتهاد من قبل المؤهلين هو انتقال سخونة المواقف، وجريان العنف السائد بين النخبة العلمية إلى القواعد الشعبية وجبهات الأنصار والتيارات التابعة؛ حيث يؤدي الأمر في نهاية المطاف إلى شقّ الصفوف وتمزيق وحدة الشارع وتماسك الجمهور، ويسفر عن تصنيفات متصارعة وطبقات متعاركة في وسط الأمة الإسلامية.
2- الاختناق السياسي ومصادرة الحقوق الأساسية:
مما ساعد على تكريس العنف وتكثيف تواجده على أصعدة كثيرة وعزّز وجود الصراعات والمصادمات في أغلب المجتمعات وفي ظلّ أكثر الأنظمة السياسية في العالم هو الشعور باليأس والإحباط، والثأر أو الغليان، والاضطراب النفسي في داخل الفرد أو المجتمع، والسعي لاستخدام الوسائل الشديدة والطرق العنيفة في سبيل إعادة الحق المسلوب، وحيازة المستحقات والتمتع بالحقوق المصرّح بها في الدساتير والقوانين شرعاً، ووضعاً.
ينبغي لنا دراسة جذور العنف سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وكذلك تربوياً إلى جانب ما أشرنا إليه مسبقاً من الجذور المعرفية. غير أنّ أساسه اليوم مرتكز إلى مصادرة الحقوق الأساسية، والسعي لخنق الأصوات وإخماد الحركات العادلة والمطالبة بالحق المشروع. وإنّ المحاولات العلمية الرامية إلى حصر السبب في الجانب المعرفي أو إلغاء الرؤية الشمولية واجتياز أطراف متشابكة، ومؤلفات متنوعة لِتَكَوُّن العنف لا تلامس الحقيقة في معرفة عناصر إنتاجه. وبالتالي، لن تساعد في ممارسة العلاج والحلّ.
مع ذلك كلّه، فإنّ التوجهات الفكرية والاجتهادات المتنوعة في قضية العنف أو كما عبّر عنه بعض الفقهاء المعاصرين، بفقه العنف (المسلَّح وغير المسلَّح) تتكثّر وتتنوع. وخاصة إنّ المواقف الفقهية والفكرية تجاه استخدام العنف لمقارعة الأنظمة الفاسدة، أو الجائرة والمحاولة العنيفة سعياً لقلبها. فهي تختلف باختلاف الرؤى الأصولية والبنى الفقهية لكل مجتهد. ونحن في هذا العدد من المجلة حاولنا إلقاء الضوء على الموضوع من زوايا كثيرة؛ نقداً وترجمة ومراجعة وحواراً.
رئيس التحرير
نقلاً عن موقع الشيخ نجف ميرزائي.