أحدث المقالات

المرجعية الشاملة للقرآن الكريم

السيد منذر الحكيم

مدخل

القرآن الكريم كتاب الله الخالد، ونوره المتألّق، ووحيُه المُشرق المنزل على خاتم أنبيائه وسيّد رسله الأمين على وحيه وكتابه وشريعته محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله. والقرآن معجزة الله في الأرض النابضة بالحياة، فهي سند الإسلام الحيّ حين تحدّى البشرية منذ تفجّر هذا النور في آفاق الأرض، ولا يزال يتحدّى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، وقد صدع بما يفوق ذلك حين أخبر عن مستقبل أمره متحدّياً العقلاء وذوي الشعور بقوله: (لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(1).

هو دستور الله الشامل للبشرية جمعاء والذي يكفل لها السعادة والهناء بقيم السماء، المنطلقة من فطرتها لتفجّر طاقاتها، وتتكامل قابلياتها، وتثمر جهودها ومساعيها. وهو المهيمن على سائر الكتب السماوية، والكاشف عما طُمس منها، والقيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو المصدر الثر، والمرجع القويم، والنبع الصافي لاستلهام الثقافة الإسلامية، والمفاهيم الصحيحة والقيم السامية التي أراد الله تثقيف خلقه عليها، وتربية عباده على التحلّي بها، والالتزام بأصولها وفروعها التي تجلّت في شريعة ربّانية شاملة تتسع لكلّ مرافق الحياة، ولكل أجيال البشرية ولكل زمان ومكان؛ إذ يمكن تطبيقها في أرقى المجتمعات وآخر الحضارات كما أمكن تطبيقها في مجتمع الجزيرة العربية الجاهلي حين آمن بالإسلام مبدأً وشريعةً للحياة.

إنَّ القرآن الكريم بنصوصه البيّنة قد أكّد هذه الحقيقة الكبرى حين أنبأ البشرية بما ستفرزه آيات الله المبيّنات ومبادئه القويمة من انحسارٍ تام للباطل بكلّ صوره ومعالمه واتجاهاته، واندحارٍ شامل لكلّ الدول والقوى الحاكمة المستبدة والظالمة التي نأت عن هذا المنهج القويم. وبهذا يكون القرآن الحكيم قد تحدّى البشرية مرّةً أخرى حين أفصح عن هذه الحقيقة الكبرى بقوله تعالى: )وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً(([2]).

 

هذه سنّة الله الجارية في هذه الحياة؛ إذ تضمحل كلّ الحضارات وتقوم على أنقاضها حضارة المنهج الحقّ الذي يطبّقه بكلّ تفاصيله ودقائقه قائد ربّاني يُخلف الرسول الأمين في قيادة البشرية جمعاء حين يجمعها تحت راية «لا إله إلا الله، محمّد رسول الله، عليٌّ وليّ الله»، وهنا يتحقّق وعد الله لرسله جميعاً بالنصر على كلّ المُبطلين حين تتحقّق نبوءة أصدق القائلين: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(3). تلك النبوءة التي أكّد تحقّقها ربّ العالمين بقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(4). بعد أن أفصح الحقّ عن كلّ محاولات الباطل لدحض الحقّ بكلّ ما أوتي أصحابه من حول وقوة بشرية تزعم أنها قادرة على الوقوف أمام قدرة الله الأزلية وقضائه وقدره كما جاء ذلك في صريح قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(5).

إنَّ حيويّة القرآن الحكيم وخلوده ونبوءاته الصارخة التي رسمت للإنسانية آفاق المستقبل المشرق، وهدّدت بذلك كلّ الكيانات الجائرة والاتجاهات الباطلة تكفي لتعاضُد قوى الشر الطموحة للاستئثار بكلّ مصادر الثروة ومعادن الخيرات ومناجم القدرة، وتكاتفها على مدى القرون وعبر الأجيال منذ أن بزغ هذا النور الساطع لتتآمر عليه وتنال منه بكلّ ما أوتيت من حولٍ وقوّة هدماً وتخريباً، ومقارعة وتضييعاً، وتشويهاً وتزييفاً.

لقد قارع القرآن الحكيم الحجة بالحجة والدعوى بالدعوى والحوار بالحوار والقوّة بالقوة، غير أنَّ أصحاب المطامع وأتباع الشهوات لا تروقهم قيم هذا الكتاب الحقّ، ولا تعجبهم مُثُله وأحكامه ما دامت تتقاطع مع همومهم الهابطة ومصالحهم الذاتية الدانية الرخيصة. من هنا كان هذا القرآن موضوعاً ومحوراً لاهتمام أتباعه وأعدائه جميعاً. فأتباعه قد عكفوا عليه بالدرس والتحقيق لمعرفة حقائقه، والتفيّؤ بظلاله، والعمل بأحكامه والغور إلى أعماق بحوره. وأعداؤه قد اتّجهوا له ولعلومه مستهدفين ذات الكتاب المعجز تارةً بصنوف الشبهات وأنواع الطمس والدسّ، وأخرى تناولوا حقائقه بالإبطال والتأويل وقيمه بالمسخ والتبديل وأحكامه بالتحريف والتعطيل، علّهم يطفئون بذلك نار حقدهم حين يطفأُ هذا النور المتألّق ويُكسف هذا الضياء اللامع ويُغيَّب هذا الوحي المشرق والينبوع الثر والعطاء الخالد الذي تكفّل للإنسان هدايته ثمَّ تربيته وتزكيته لإيصاله إلى قمم الكمال الشاهقة.

قد اختط هذا القرآن الخالد قد اختطّ لنفسه طريق العلم اللاحب والمعين الذي لا ينضب، فهو يزداد تألّقاً وإشراقاً كلّما تقدّم العلماء بعلومهم، وكلّما تفتّحت لهم أبواب المعرفة على شتّى الأصعدة وفي مختلف المجالات. لقد أسّس القرآن نبوءاته وبشاراته، وأقام أحكامه وشرايعه على أسس علمية قويمة، تُصدّقها عقول العلماء وأفهام الفقهاء، وأقلام المحقّقين وأسفارهم التي تتكامل على مرّ العصور والدهور.

لقد تعدّدت الدواعي للاهتمام بكتاب الله المنزل وفرقانه الذي يفرّق به بين الحقّ والباطل، وقرآنه الذي جمع ما تحتاجه البشرية من حقائق. وقد تكفّلت علوم القرآن القيام بهذه المهمّة التي أصبحت ذات بُعدين: أحدهما البُعد الاكتشافي المعرفي، والبُعد الآخر هو البُعد الدفاعي الذي يُحصّن ضد أعدائهم. وبالرغم من تواتر الجهود وتعاضدها على مدى القرون، نجد الإثارات المغرضة تتكرّر على ألسنة المغفَّلين من الأصدقاء فضلاً عن الدراسات الأكاديمية المستمرة لدوائر الأعداء، إشغالاً للنفوس وإهداراً للطاقات، وبلبلة يحصد ثمارها الآخر.

إنَّ مسئولية الدفاع في هذا الحقل المركزي إنّما هي على عاتق المتخصّصين من العلماء بكتاب الله وهي مسئولية خطيرة مادام العدو يستهدف المسلمين أنفسهم إشغالاً، وإضعافاً وإبعاداً عن الأهداف العُليا التي تنتظرهم في مستقبل أيّامهم لتتوّج بها جهود مسيرتهم الظافرة. على أنَّ القرآن الكريم رمز وحدة المسلمين ومصدر عزّتهم، ومحور تعاضدهم ضدّ قوى الشرّ التي أفصح القرآن عن اندحارها لا محالة، وهو الكتاب الذي تكفّل للبشرية توفير الحياة الطيّبة والطاهرة إن اتّبعته بإحسان وعكفت على ترجمته في الفكر والخلق، والعمل والسلوك بكلّ دقّة وإتقان. وبالإضافة إلى ذلك كلّه فإنَّ اتّساع القرآن لكلّ جوانب الحياة يفتح لنا أبواباً واسعة للدراسة والغور إلى بطونه، فضلاً عمّا يستجدّ من حاجات ويتطلّب من حلولٍ وإجابات.

 

معالم مدرسة أهل البيت القرآنية

لقد وجّه القرآن دعوته إلى البشرية كافّة لتتدبّر في آياته المباركة الحكيمة والتي منها قوله سبحانه: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألْبابِ)(6). ثمَّ نعى على من يتجنّب التدبّر الذي هو رمز حيوية الإنسان وإنسانيته بقوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)(7). وبهذا دفع بالإنسان للاستنارة بنوره والاستهداء بهديه، حاثّاً على مدارسته و الغور إلى أعماق بحوره لاكتشاف لئالئه ودرر حكمه ومكنون أسراره. ولم يترك الإنسان في هذا الطريق بلا منهج صحيح، بل تدارك الأمر له إذ عبّأ فيه ما يضمن للإنسانية سلوك هذا الطريق على مدى الأجيال، قال تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(8). ومن هنا كان منهج تفسير القرآن بالقرآن منهجاً قرآنياً متميزاً قد نصّ عليه بقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(9). وأكّده الرسول الأمين وعترته المعصومون من الرجس والمطهّرون من الدنس بما اشتهر عنهم من أنَّ القرآن يفسِّر بعضه بعضاً، ويشهد بعضه على بعض.

وقد أرسى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قواعد هذا المنهج القرآني من خلال سيرته وسيرة أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، إذ أصبحوا أهل الذكر وأولي الأمر، وبقية الله والصفوة التي انتجبها لتربّي الأجيال البشرية على أهداف هذا الكتاب ومنهجه الربّاني وتسير بهم على هديه والصراط المستقيم. وقد مارس أهل البيت عليهم السلام هذا الدور الريادي بكلّ دقة وأمانة وإخلاص وصمدوا أمام الأعاصير، ولاسيما أمام تيار التحريف الجارف الذي كان أشدّ نازلة نزلت بالإسلام وبكتابه من بعد رحيل الرسول(ص)، فكان لهم قصب السبق في الدفاع عن رمز وحدة المسلمين وسرّ عظمتهم، ودليل مجدهم أساس أصالتهم. وقد أخبر رسول الله(ص) عن ذلك بقوله: في كلّ خلف عدول من أهل بيتي ينفون عنه تحريف الضالين وانتحال المبطلين. وتميّزت مدرسة أهل البيت(ع) بما ربّت من أجيال وبما أفرزته من نتاج علمي مرموق يشار إليه بالبنان في حقل القرآن الكريم وعلومه وتفسيره.

 

مرجعية القرآن الكريم

تكاد تتّفق كلّ المدارس الفقهية الإسلامية بأنها قد انطلقت من أول مصدر للتشريع الإسلامي؛ أعني القرآن الكريم. غير أنَّ الواقع الملموس يشير إلى اتفاقها على بعض النقاط واختلافها في أمور كثيرة يعود بعضها إلى طبيعة نظرتها إلى القرآن الكريم كمصدر للتشريع وسائر مصادر التشريع الأخرى. كما يعود بعضها إلى المنهج الذي اتخذته في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها فضلاً عن اختلافها في جملة من مصادر التشريع.

إنَّ الاعتراف بمرجعية القرآن الكريم في مجال التشريع الإسلامي هي النقطة المضيئة التي تجعلنا قادرين على العودة إلى كتاب الله من جديد، لنستجلي منه كلمة الفصل في كلّ ما اختلفت فيه هذه المدارس الفقهية سواء في المصطلحات أم في المنهج، أم في النتائج والاتجاهات.

وقد صرّح القرآن الكريم بأنه قد نزل بلسان عربي مبين. غير أنَّ هذا لم يكن ليمنع القرآن عن إبداع مصطلحات عربية جديدة يختصّ بها ويقرّرها في الميدان الثقافي الإسلامي ويحاول غرسها في وجدان المسلمين، لتكوّن ثوابت وضمانات لصيانة الحركة الثقافية من الانحراف والالتواء باتجاه أهداف غير محمودة وغير مقبولة عند صاحب الشريعة الإسلامية.

لا شك في أنَّ القرآن الكريم يُعدّ الكتاب الخالد للشريعة الخاتمة التي تعتبر خالدة بخلود هذا الكتاب، وخالدة لما فيها من عاصر الديمومة والبقاء. وممّا يميّز القرآن الكريم إحاطته وشموله، واهتمامه بتقديم منهج متكامل الأبعاد متّسق مع الفطرة، ملبٍّ للحاجات المستجدّة على مدى القرون والأجيال. والنصوص التي تشير إلى هذه الحقائق غير قليلة وإليك جملةً منها:

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) الليل: 12.

)قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى) الأنعام: 71.

)فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: 38.

)أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى) يونس: 35.

)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)  المائدة: 16.

)أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) النساء: 74.

)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) الأعراف: 7.

)وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فصلت: 41 ـ 42.

إنَّ الآيات القرآنية وإن كانت محدودة العدد حيث أنها تناهز الستة آلاف، ولكنّها قدّمت للإنسانية أصول التشريع إلى جانب المنهج والطريق الذي ينبغي للإنسان سلوكه لئلا يخرج عن الهدي الرباني الذي قدّمه له القرآن الكريم.

اكتشاف هذا المنهج وإتباعه يكفل للإنسانية بقاؤها على الصراط المستقيم الذي وجّه القرآن النفوس لطلبه والحرص على إتباعه وسلوكه في كلّ يوم بما لا يقل عن عشر مرّات في الفريضة التي يخرج تاركها عن ربقة الدين الحنيف، وهي الصلاة المفروضة التي لابدَّ لكلّ مسلم من أدائها، ولابدَّ له من قراءة الفاتحة فيها والتي تضمّنت هذا التوجيه الربّاني الخطير: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

وكيف يحثّ القرآن المسلم لطلب الهداية من الله نحو الصراط المستقيم، ولا يقوم هو ببيان هذا الصراط المستقيم؟ إذن لا شكّ في أنَّ القرآن الكريم قد بيّن المنهج الصحيح لسلوك طريق الله، وفهم وتطبيق الشريعة الإسلامية في كلّ مجالات الحياة.

وممّا اعتنى به القرآن الكريم اعتناءً بليغاً هو استخدام مصطلحات جديدة وإبداعها، وجعلها معالم في الطريق. إنَّ المصطلحات القرآنية تحمّل دلالات واضحة تشير إلى ما تتجه إليه الشريعة من أهداف ومنهج وأساليب لابدَّ منها لبلوغ الأهداف الكبرى. ومن تلك المصطلحات التي ترتبط بالمدارس الفقهية جميعاً مصطلح «التفقّه في الدين» بشكل خاص والذي استُبدل بمرور الزمن بمصطلح الاجتهاد، ممّا أدّى هذا الاستبدال والتحوير إلى مفارقات أساسية في المنهج والنتائج على مدى القرون والأجيال.

نحاول أن نقف على إيجابيات المصطلح القرآني وسلبيات المصطلح البديل الذي راج حتّى عند أتباع أهل البيت عليهم السلام. تلك المدرسة التي حرصت على أن لا تتجاوز الحدود المقرّرة في كتاب الله والتي لم تهدأ في إدانة المناهج المنحرفة ولم تتلكأ في نقد مدرسة الرأي التي انتهت في نهاية المطاف إلى الخروج عن المنهج المقرّر في كتاب الله، ممّا أدّى إلى تسرّب البدع وتهافت المذاهب في النتائج والأحكام.

 

مصطلح الاجتهاد

يُطلق مصطلح الاجتهاد في عصرنا الحاضر على أعلى مرتبة من مراتب الفهم والتحقيق، والمعرفة الدينية بالمعنى الأخص وهي: المعرفة بأحكام الشريعة الإسلامية المستنبطة من الكتاب والسنة وسائر مصادر المعرفة بالحكم الشرعي. فالمجتهد هو من تعرّف على أحكام الشريعة الإسلامية من أدلّتها بشكل تفصيلي بحيث يكون قادراً على الدفاع عن رأيه في كلّ قضية، معتمداً على الأدلّة الكافية وقادراً على مناقشة سائر الآراء المخالفة لرأيه من خلال ردّ الأدلّة التي اعتمدها أصحاب تلك الآراء المخالفة لرأيه.

وقد تعارفنا على أن نقول «لا مشاحة في الاصطلاح»، فإنَّ وضع لفظ معيّن لمعنى معيّن واستعماله له يكفي تبريره لأدنى عُلقة مقبولة لدى عُرف المستعمِل والمخاطَب، إذا كان الاستعمال مؤدّياً للغرض وباعثاً لانتقال المعنى الذي قصده المستعمِل إلى ذهن المخاطَب. كما لا مانع من استعمال لفظ له معنى عام في زمنٍ ما وعصرٍ ما في موضوع أخص من ذلك المعنى في عصرٍ وزمنٍ آخر، بل قد يستعمل اللفظ بمعنى في عصرٍ ما، ثمَّ يستعمل في معنى يضادّه في عصر آخر. لأنَّ الاعتبار كما يقال قليل المئونة، والمجال للتطوّر في اللغة يتّسع لمثل هذه الأمور.

من هنا نجد مصطلح "الاجتهاد" كان قد استعمل في معنى مذموم لفترة زمنية غير قصيرة ثمَّ استُعمل في معنى آخر مشروع ومقبول، بل أصبح الاجتهاد بهذا المعنى الحديث بضرورة يقتضيها خلود الإسلام وتطوّر الزمن، لأنه يلبّي أهم حاجة للمجتمعات البشرية والإسلامية في عصرنا هذا، وهي التفقّه في الدين المساوق لاستنباط أحكام الشريعة الإسلامية بالنسبة لما يستجد من حاجات العصر.

 

مصطلح التفقه في الدين

ولكن الملفت للنظر أولاً أنَّ هذا المصطلح (الاجتهاد) بالذات لم نجد له استعمالاً في الكتاب الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وآله في هذا المعنى الذي تعارفنا عليه في هذا العصر. بينما نجد مصطلحاً آخر يشابهه ويوازيه ورد في نصوص الكتاب والسنة وهو مصطلح «التفقّه في الدين». فهل هناك دليل لعدم استعمال هذا المصطلح في نصوص الكتاب والسنة؟ لاسيما ونحن نجد طرح مصطلح بديل وموازٍ له قد ورد في نصوص الكتاب والسنة بشكل متكرّر بحيث نلمس في التكرار تأكيداً وإصراراً عليه وتأسيساً لمصطلح جديد.

ما هو سبب ذلك؟ وهل هناك آثار سلبية لاستعمال مصطلح الاجتهاد بدل «التفقّه في الدين». ولماذا ومتى دخل هذا المصطلح (الاجتهاد) إلى ثقافتنا الدينية؟ ولماذا حُصر استعماله في فرع واحد من فروع المعرفة الدينية؟ ولماذا هذا الإصرار على استعماله؟

إنَّ التأمل في المصطلحين من حيث المعنى اللغوي والاستعمال الشرعي في نصوص الكتاب والسنة، من زوايا شتّى قد يخرجنا بنتيجة تدعونا إلى أن نرفع اليد عن مصطلح الاجتهاد ونستبدله بمصطلح «الفقاهة» و«التفقّه في الدين» كما نجد ذلك في نصوص واستعمالات بعض فقهائنا الأبرار.

 

مقارنة بين المصطلحين

إنَّ للاجتهاد ـ بحسب معناه اللغوي ـ مفهوماً عاماً يتّسع لبذل الجهد في كلّ مجال. فيكون استعماله في بذل الجهد الفكري والذهني من استعمال المصطلح العام في معنى خاص. كما أنَّ استعماله في بذل الجهد الفكري والمذهبي أيضاً هو أعم ممّا يُراد منه الآن، لأنّا لا نريد منه بذل أي جهد ذهني ولو كان متمثلاً في حفظ النصوص مثلاً أو فهمها فهماً سطحياً، بل نريد منه بذل الجهد الذهني لفهم النصوص ودلالاتها وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها، بل وكيفية الموازنة بين مداليل النصوص الشرعية للخروج بنتيجة عملية تتمثّل في الوقوف على الحكم الشرعي لكلّ موضوع وقضية من قضايا الحياة. فهنا نوع خاص من بذل الجهد الذهني.

كما أنَّ هذا المصطلح لم يُتعارف استعماله لبذل الجهد الذهني لفهم قضايا الفلسفة أو الكلام أو غيرهما من مجالات المعرفة الإسلامية؛ إذ لم يُتعارف إطلاق المجتهد على المتخصّص في الفلسفة والكلام والتفسير أو علم النفس أو الاجتماع الإسلاميَين، بالرغم من أنَّ هذه المجالات أيضاً هي من فروع المعرفة الإسلامية، ويمكن أن ترتقي المعرفة بها إلى مرتبة الاجتهاد المتعارف من حيث العمق والدقّة والاستنباط من النصوص واستكشاف دلالاتها. هذا فضلاً عن كون الاجتهاد المتعارف يمكن إطلاقه على أيّة مرتبة من مراتب المعرفة بالحكم الشرعي المعتمدة على الدليل(10). بينما قد لا تعدّ هذه المرتبة من المعرفة اجتهاداً في العصر الحاضر بالرغم من أنها كانت تعدّ اجتهاداً في عصورٍ غابرة.

على أنَّ هناك انسيابية في المفهوم بلحاظ المصاديق الواقعية وعدم التحديد للاجتهاد الصحيح إلا بتحديدات خارجة عن إطار المصطلح. أي أنَّ القرائن والمحددات الأخرى هي التي تتدخّل للتحديد، وليس في معنى هذا المصطلح أيّة علامة ولا أية سمة تشير إلى الهدف أو المستوى المطلوب من الفهم، والمجال الذي ينبغي أن يتحقّق فيه الاجتهاد المطلوب.

بينما نجد مصطلح التفقّه والفقه متميزاً عن مصطلح الاجتهاد بما يلي:

1ـ إنَّ الفهم لا يطلق على الحفظ.

2ـ إنَّ الفهم الدقيق أو العميق الذي يغور به الإنسان إلى كنه الشيء أو إلى حاقّ المعنى الذي يقصده المستعمِل من الألفاظ التي استعملها هو الفقه، ففقه الدين أو فقه أحكام الدين هو المصطلح الأقرب في معناه اللغوي إلى طبيعة العملية التي نريدها في مجال الاجتهاد في أحكام الشريعة.

3ـ إنَّ مصطلح التفقه في الدين لا ينطوي على الانسيابية التي نلحظها في مصطلح الاجتهاد.

4ـ إنَّ مصطلح التفقه في الدين يتّسع للتفقّه في كلّ مجالات الدين التي تتّسع لأكثر من فرع معرفي ديني، بل إنَّه يشمل الدين بكلّ أبعاده، وهو يقتضي إطلاقه على من جمع صنوف المعرفة الدينية بالمستوى العالي دون من انفرد ببعضها. ولو استُعمل في بعضها فإنه لا يكون تفقّهاً في الدين بالمعنى الدقيق والشامل للدين. فالمجتهد المتجزّئ، أو الذي تخصّص في فرع من فروع المعرفة الإسلامية لا يعدّ فقيهاً في الدين، بل يكون متفقّهاً في  جانب من جوانب الدين وعارفاً بحقل من حقوله.

إنَّ هذه الملاحظات قد تكفي لإلقاء الأضواء الكاشفة على أجوبة الأسئلة التي أثرناها في مطاوي الحديث عن مصطلح الاجتهاد. وتكفي نظرة واحدة وسريعة للنصوص التي استعملت مصطلح الفقه والتفقّه في الدين، للوقوف على مدى التأكيد من المشرّع على استعمال مصطلح التفقّه في الدين بدل غيره من المصطلحات.

إنَّ ما نجده من التشكيك في مصاديق مصطلح الاجتهاد على مرّ الزمن لا نجده في مصطلح الفقه والتفقّه في الدين، لأنَّ الفهم العميق للنصوص والأدلة ومقتضياتها هو الذي يجمع شمل الفقهاء جميعاً على مرّ العصور، بالرغم من تطوّر الاستدلال والتعقيد الحاصل في عملية الاستنباط بمرور الزمن كلما ابتعدنا عن عصر التشريع. ومرجعية القرآن في مجال التشريع تستدعي اهتمام القرآن الكريم بالمصطلحات التي يستخدمها ويريد إيصال تشريعاته إلى الناس أو إلى مخاطبيه من خلالها، كما تستدعي تقديم منهج متكامل لاستنباط الأحكام الشرعية والموقف الإسلامي في كلّ قضية وحادثة، وبذلك تكون للقرآن الكريم مرجعية شاملة انطلاقاً من رؤيته الشاملة للحياة وأهدافه التي تغطّي كل مجالات الحياة الإنسانية على مدى الأجيال.

من موقع الرسول الأكرم(ص): مجلة الحياة الطيبة – العدد الثالث عشر.

الهوامش:

([1]) الإسراء: 88.

([2]) الإسراء: 81.

([3]) القصص: 5.

([4]) النور: 55.

([5]) التوبة: 32.

([6]) ص: 29.

([7]) النساء: 82.

([8]) النحل: 89.

([9]) القيامة: 19.

([10]) ولهذا قيل الاجتهاد أمر نسبي يختلف مستواه المطلوب والمشروع باختلاف العصور.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً