تمهيد
عندما نتحدث عن إشكالية العلاقة بين المثقَّف والفقيه عند السيد الشهيد السعيد محمد باقر الصدر(1400هـ) لا نملك معالجةً علميةً مستقلّةً مدوّنةً تركها لنا السيد الشهيد في هذا الخصوص، فلا توجد له في هذا المضمار دراسة من الزاوية الفقهية، ولا من الزاوية الفكرية العامة، قدّم فيها حلاًّ لهذه الإشكالية المتنقّلة التي عرفها العالم الإسلامي منذ النهضة الأخيرة فيه، مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وغيرهم. إذاً فنحن مضطرّون ـ لكي ندرس إشكالية العلاقة بين المثقّف والفقيه عند السيد الصدر ـ أن نمارس تحليلاً ما، ومقاربةً لبعض المواقف والوقائع، علّنا نخرج باستنتاجٍ ما في هذا الموضوع.
تعريف المثقَّف، خصائص الظاهرة
من هو المثقَّف؟ ومن هو الفقيه؟ مصطلحٌ ملغومٌ. وكثيرون يملكون تفاسير متعدّدة حول المثقَّف والفقيه.
وقد قيل بأنّ الفقيه هو عالم الدين الذي يقوم بقراءة النص الفقهي وما يتصل بالنص الفقهي الموجود في الكتاب والسنّة. إنّه مصطلحٌ معروفٌ له حضوره في الأمّة منذ مئات السنين، ولا يبدو أنه ملتبس.
أما مفهوم المثقّف فهو مفهوم مازال حتى الساعة ملتبساً، وما تزال هناك نظريات في تعريفه، فكلٌّ يقدّم رؤيةً نابعةً من طريقة تفكيره ومعالجته للأمور.
وسآخذ هنا ثلاثة عناصر أساسية تمثّل هوية المثقَّف، سواءٌ كان مثقَّفاً دينياً أم لم يكن كذلك، لأنّ الثقافة ليست حكراً، لا على الدين ولا على غيره:
العنصر الأول: الوعي التجربي الميداني.
وهذا هو الذي يميِّز المثقَّف أيضاً عن المتعلِّم، فليس كلّ متعلِّم مثقَّفاً، وليست النسبة بين المتعلِّم والمثقَّف هي نسبة التساوي بحسب الاصطلاح المنطقي. فهناك مثقَّف متعلِّم؛ وهناك مثقَّف غير متعلِّم، ولا يملك أيّة شهادة جامعيّة؛ كما وهناك متعلِّم مثقَّف؛ وهناك متعلِّم لا حظّ له من الثقافة. وهذا معناه أنّ الثقافة ليست مراكمة معلومات، وليست درساً تخصّصياً ندرسه في جامعة أكاديمية أو حوزة أو صرح علمي هنا أو هناك، وإنّما هي قبل كلّ شيء وعيٌ وأفقٌ، كأنه وعي تجربي ينبع من اتصال الإنسان بالواقع. فهناك أشخاص كثيرون ربما يكونون في العلم صروحاً بأنفسهم، ولكنك إذا جئت بهم إلى أرض الواقع لكي يقرأوا الأمور، أو جئت بهم لكي يدرسوا الأمور دراسةً شاملةً واعيةً، فإنك تجدهم غير قادرين على ذلك.
دعوني أقرِّب الأمر بشكل مبسَّط عبر موضوعة فقه النظرية والفقه التجزيئي. فهناك الكثير من الفقهاء بارعون وممتازون في الفقه التجزيئي أو فقه المسائل، فإذا أنتَ أعطيته أيّة مسألة فقهية بإمكانه أن يعالجها معالجةً علميةً تفصيليةً، لكنّكَ إذا قلتَ له: نريد منكم مولانا أن تقدّموا نظريةً في فقه الاقتصاد في الإسلام فإنه يجد الأمر صعباً. إنه مجتهد مسألة، ولكنه ليس مجتهد نظرية.
الوعي عبارة عن أفق رحب في العقل، يستطيع من خلاله أن يقرأ الأمور، ويملك بُعد النظر، وليس فقط أن يراكم المعلومات في ذهنه، بحيث يملك معلومةً أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر من ذلك. وهذا كلّه يعني أنّ أهم عنصر من عناصر المثقَّف ـ خاصّةً في تجربتنا الإسلامية في القرنين الأخيرين ـ، أو لا أقل ما يدّعى أنه مثقَّف، هو عنصر الوعي والأفق العقلي المنفتح على قضايا العصر، وعلى قضايا الواقع، وعلى قضايا الإنسان، والذي يقدر على توظيف الفكر في خدمة الإسلام، وعلى أن يعيد تشكيل عناصر المعرفة بما يقدّم الأمة الإسلامية نحو الأمام.
وهذا أهم شعار تطرحه التيارات المثقَّفة في عالمنا العربي والإسلامي.
إنهم يقولون بأنه لا يمكن أن يكون هناك مثقَّف غير متحرِّر. وهذه ليست قضية مطروحة فقط في عالمنا الإسلامي، بل حتى المثقَّف في التعريف الغربي أخذ فيه قيد التحرُّر، أي إنّ المثقَّف غير خاضع للسلطة بمعناها العام، حتى أنّ بعضهم من شدّة ما تصوَّر أنّ المثقَّف لابد أن يكون متحرِّراً توهَّم أنه لابُدّ في كلّ مثقَّف أن يكون معارضاً للسلطة. وهذا غير صحيح؛ لأنّ التحرّر هو عنصر انطلاقة العقل، فإذا كان العقل مكبّلاً ـ حتى بمفهوم المعارضة ـ، خائفاً، غير قادر على أن يتحرّر، لا يمكن أن ينفتح على عالم جديد، بل سيبقى في دائرة الانغلاق، وفي موقع الحاشية، وتعليقة الحاشية، وشرح تعليقة الحاشية، ثم تلخيص الشرح، ثم كتابة تعليق على التلخيص، ثم شرح التعليق. سيبقى في حلقة دائرية يدور وتدور معه، دون أن يعرف إلى أين تنتهي به الأمور.
عندما نقول: «التحرّر من كلّ القيود» فإنّنا نعني قيود عالم المعرفة، إلا القيود التي توصّل المثقَّف إلى القناعة بها، فلا توجد قيود تفرض عليه من الأعلى ما دام لم يقتنع بها. وهذا معناه أنّه يجب عليه أن يكون منسجماً مع نفسه. فالمثقَّف لا يمكن أن يكون مثقَّفاً إذا لم يكن متحرِّراً من التراث، ولم يكن متحرِّراً من الواقع. وهذا لا يقتضي بالضرورة أنّ يكون متفلِّتاً، فليس التحرّر معاداةً للتراث، وإنّما هو أن لا يعيش المثقَّف عقدة التراث، أن لا يعيش دائماً حالةً من الرهبة والخوف وعدم القدرة على التفكير داخل إطار هذا التراث أو خارج إطار ذاك التراث. فبعض الناس هناك أشياء تحكمه، ولا مبرّر لها حتى من وجهة نظره، لكنه يقول لك: أنا لا أقدر على أن أخرج من هذا المربّع الذي أنا فيه!!
هذا هو التحرُّر القائم على معطيات علمية، دون القائم على الرغبة في التحرّر لا غير.
العنصر الثالث: النقد.
وهذا العنصر نتيجةٌ طبيعيةٌ للتحرُّر.
فالمثقَّف دائماً نقّاد، حتى أنهم في بعض المدارس الأدبية قالوا: ليس لك أن تصبح مثقَّفاً إلا أن تصبح نقّاداً. فالنقد هو الدليل والوثيقة والسند المثبت لكونك متحرِّراً، ولست بخائفٍ ولا مرتبك، هو الدليل على أنّك تفكّر ولا يفكّر عنكَ أحدٌ. والنقد هنا لا يعني الرغبة في النقد بما هو هو، أو أن تعيش عقدة النقد، كما يحصل مع كثير من مثقَّفينا في العالم العربي والإسلامي. فبعضنا لكي يثبت هويّته ووجوده الثقافيّين، ولكي يثبت أنّه مثقَّف، يقول لك: أنا لابدّ أن أنتقد، فلو لم أنتقد لا أكون مثقَّفاً.
نحن نقول: النقد ليس مقدَّساً في حدّ ذاته، وإنّما يغدو كذلك عندما يقع في سيرورة الإبداع، فيكون مقدّمةً له، فلا تُبدع أمّة قبل أن تنتقد واقعها، فإذا لم تنتقد واقعك فعلامَ تفكّر لكي تبدع؟! إذا كنت ترى أنّ واقعك كاملٌ، وأنّ الواقع المحيط بك ـ من علمٍ ومعرفة، ومن ممارسة وعمل، ومن نظم اجتماعية وسياسية ـ كاملٌ تامٌّ لا مشكلة فيه، فلماذا تبدع شيئاً جديداً ما دام الواقع كاملاً؟! هذا يعني أنّه لكي تخطو الخطوة الأولى نحو الإبداع لابد أن تكون عندك رؤية نقدية. يجب أن نلتفت في البداية إلى الثغرات الموجودة في الأمر الواقع، ثم نبدأ بسدّ هذه الثغرات. يجب أن ندرك النواقص الموجودة في منظومتنا المعرفية والفكرية لكي نقوم بالتعويض عنها بواسطة منظومات معرفية جديدة.
إذاً العناصر الرئيسة التي تجمع التعريفات الكثيرة للمثقَّف، هي: الوعي، والتحرّر، والنقد. وليس من الضروري أن نأخذ هذه العناصر الثلاثة بشكلها السلبي. وإذا طبّقها بعضُهم بطريقة سلبية فلا شأن لنا بتطبيق الآخرين.
سياقات تاريخية لإشكاليّة العلاقة بين الفقيه والمثقَّف
وبناءً على ما تقدّم نجد أنّه لا يوجد تباين بين مفهومي: الفقيه؛ والمثقَّف، خلافاً لما بات متعارفاً في أدبياتنا في العالم العربي، حيث يجري التركيز دائماً على إشكالية التباين بين الفقيه والمثقَّف، بل قد تجد فقيهاً مثقَّفاً، وقد تجد مثقَّفاً فقيهاً. فإذا كان هذا الفقيه متحرّراً في فكره، ونقّاداً لواقعه عندما يرى فيه النواقص، وكان واعياً لما يحيط به، منفتحاً على أفق معرفيّ رحب، ومستعداً للحوار..، إذاً فهذا فقيهٌ مثقَّف. فليست الثقافة مباينةً للفقاهة، كما تُصوّرها أدبياتنا العربيّة، بل والإسلاميّة المعاصرة، ولا الفقاهة مباينةً للثقافة، بل يمكن الجمع بينهما بشكل أو بآخر.
المشكلة الأساس تكمن في أنّ العلاقة بين المثقَّف والفقيه ظلّت علاقةً إشكاليةً منذ فترات بعيدة. ولعلّه يمكن القول بأنّ إشكالية العلاقة بين المثقَّف والفقيه ترجع ـ في خلفيّتها التاريخية ـ إلى إشكالية العلاقة بين الفقيه والفيلسوف في القرون الهجرية الأولى. فالأزمة التي عرفها المسلمون بين الفقهاء والفلاسفة، وبين المعتزلة وأهل الحديث، أو بين النزعة العقلية والنزعة النصية ـ إذا جاز التعبير ـ، هي شكلٌ من أشكال الخلاف بين المثقَّف والفقيه، لكنْ على الطريقة القديمة. وما فعله ابن رشد كان محاولة لحلّ إشكالية العلاقة بين المثقَّف والفقيه، لا أقلّ من وجهة نظره. وهكذا عندما جاء الملا صدرا الشيرازي أراد تحقيق الهدف نفسه، بجمعه بين الحقيقة والطريقة والشريعة، حتى لو لم تكن تسمية المثقَّف والفقيه متداولةً في تلك العصور.
هذا كلّه يعني أنّ أزمة العلاقة القائمة بين المثقَّف والفقيه قد يمكن إرجاعها بأشكال مختلفة إلى القرون الغابرة. ولكنّ شكلها الجديد يعود إلى بضعة عقود من الزمن، عندما ظهرت ألوان التفكير الفلسفي والإنساني البعيد عن الدين، وبُنيت العلوم الإنسانية بناءً جديداً بطريقة لا تقوم على أسس دينية، فظهر مثقَّفٌ يفكّر في قضايا الإنسان، دون أن يكون مضطرّاً للرجوع إلى نصٍّ من كتابٍ أو سنّة.
تطوّرات مشهد العلاقة المأزومة في المرحلة المتأخِّرة
الظاهرة الجديدة التي حصلت هي أنّ هذا المثقَّف أخذ شكلين نسمّيهما: المثقَّف الخارج ـ ديني؛ والمثقَّف الداخل ـ ديني.
أمّا المثقَّف الخارج ـ ديني فهم بالدرجة الأولى المثقَّفون الماركسيون وغالبيّة الاشتراكيّين، الذين عرفهم العالم الإسلامي في القرن العشرين. كانوا يفكّرون وينتقدون ويحلّلون ويدرسون واقعهم ـ ومنذ البداية ـ بمعزل عن النصّ الديني. فهم لم يُتعبوا أنفسهم في الدخول في أعماق النص الديني؛ ليحاولوا منحه تفسيراً آخر، بل قالوا من البداية: نحن نقع خارج إطار هذه النصوص الدينية القديمة التي عندكم، ونفكّر بطريقتنا الخاصّة، ونعي الواقع والإنسان بطريقتنا الخاصّة، ونتحرّر بطريقتنا الخاصّة، وننتقد بطريقتنا الخاصّة، ونبدع وفق نظمنا الفكرية الخاصّة. فمنذ البداية كانت هناك حالة تخارج بينهم وبين النصّ، بل بينهم وبين الدين.
هذا الأمر كان ظاهراً في الخمسينيات وإلى أواسط الثمانينيات، حيث كان الغالب على المثقَّف أنه خارج ـ ديني؛ نظراً لهيمنة المدارس الوضعية والماركسية والاشتراكية على حركة المثقَّف في عالمنا الإسلامي عموماً.
وقد كان أهمّ مثقَّف يواجهه السيد الشهيد الصدر هو هذا النوع من المثقَّف، أعني المثقَّف الخارج ـ ديني، الذي أتى بالماركسية والشيوعية والاشتراكية ومفاهيم الإلحاد بمعناه النظري والعملي. هذا النوع من المثقَّف هو الذي كان يواجهه السيد الصدر، وهذه نقطةٌ جديرةٌ بالانتباه.
لكن الذي حصل أن تعقّدت الأمور أكثر ممّا نتصوّر عقب انهيار المعسكر الشرقي، فاندحرت الماركسية والاشتراكية والوضعيّة لصالح التيار الإسلامي، الذي بلغ أوْجَهُ في الثمانينيات، ليمسك بزمام المعارضة اليسارية في العالم العربي والإسلامي، خلفاً لهذه التيارات. وهنا واجهت فلول الماركسيين والاشتراكيين والوضعيين والمثقَّفين الخارج ـ دينيين، كما سمّيناهم، واقعاً صعباً، فلم يعُدْ لديهم أيّ ركن حفيظ يلجأون إليه، فكيف سيقفون أمام المدّ الإسلامي الزاحف؟ هنا اختلفت قواعد اللعبة. فبدل أن يواجهوا المفاهيم الدينية من الخارج دخلوا في النصّ الديني نفسه، وبدأوا يعيدون فهمه بالطريقة التي تستطيع أن توصلهم لنفس الأهداف. وهذا مفترق طرق حسّاس لم يكن ظاهراً بقوّة قبل ذلك. نعم، كانت هناك جماعات محدودة استخدمت هذا النهج؛ لأسباب مختلفة، وكان لها حضورها في إيران ومصر خاصّة، لكنّها شهدت نموّاً مطّرداً ومذهلاً بعد انهيار المعسكر الشرقي.
ويقول هؤلاء: نحن متديّنون ـ بالمعنى العام للكلمة ـ، ونؤمن بالقرآن، وقد انتهينا من المرحلة التي نريد أن نواجه فيها الكتاب والسنّة من الخارج. لم نعد نريد إطلاق الرصاص على الكتاب والسنّة، أو على الفكر الديني من الخارج. لا، نحن سنندمج وننصهر داخل المنظومة الدينية، ونقول: لدينا تفسيرٌ آخر للقرآن يُنتج إسلاماً اشتراكياً، ويصبح معه أبو ذرّ الغفاري شيخ مشايخ الاشتراكيين. نحن لدينا تفسيرنا للقرآن والسنة نستطيع من خلاله الوصول إلى أكثر المفاهيم ليبراليةً وعلمانيةً.
هذا واقعٌ حصل. وهذا لا يبطل فهمهم الجديد للنصوص الدينية، ولا يثبت صحّته. نحن نوصِّف المشهد فحسب. فكثيرون لم تكن لهم أيّة علاقة بالمفاهيم الدينية، لكنّهم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي خاضوا غمار فهم النصّ الديني، وتحليل بُنيته الخطابية والكتابية. والغريب أنّ بعضهم صارت علاقته جيّدة بالسلطة رغم يساريّته العتيقة. ولا نريد الدخول في أسماء هنا. وهذا لا يعني أنّ كل من لديه مثل هذه الأفكار هو اشتراكيّ أو ماركسيّ. وأرجو التنبّه لهذا الأمر جيّداً.
إذاً كانت المواجهة من خارج النصّ فصارت الآن داخله. فبدل القول بأنّ القرآن باطل لا قيمة له، يمكن القول بأنّه مطلق التاريخية، بمعنى أنّه بمجيء عصر النهضة في أوروبا انتهى عصر القرآن.
من هنا ندرك أنّ المشهد الذي كان يواجهه السيد الصدر في تقديري هو في الغالب مشهد المثقَّف الخارج ـ ديني (الماركسي، والاشتراكي، و..)؛ أمّا المشهد الذي بتنا نواجهه اليوم فهو مختلف تماماً. فقواعد اللعبة تغيّرت، ويجب أن تتغيّر، لأن التموضع من جانب أطراف اللعبة يترك أثراً بالغاً عليها.
ويبدو لي أنّ بعضنا لم يَعِ بعدُ أنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت، فظلّ مصرّاً على استخدام الأساليب التي كانت متَّبعةً مع الفريق الأول مرّةً أخرى مع الثاني.
وفي تقديري أنّ هذا خطأٌ ليس مجال الحديث عنه الآن. وكلّ ما يمكنني قوله: إنّ الحرب عندما تقع والعدوّ في خارج أرضك تختلف عنها ـ في طرقها وأساليبها ـ عندما يكون العدوّ داخلها وبين ظهرانيك وفي صفوف قوّاتك المسلّحة.
ولعلّ تشبيهاً بسيطاً لا نقصد منه الاتهام أو الظِّنة، يمكنه أن يساعدنا على فهم طبيعة التغيّر في قواعد اللعبة، فالرسول الأكرم’ كان يميّز بين الكافرين والمنافقين، ورغم شدّة لحن الخطاب القرآني مع المنافقين فإنّ أدوات المواجهة وأسلوبها وطبيعة استيعاب الأحداث كان يترك أثراً كبيراً على نوعية الأداء النبوي مع المنافقين، بما جعل سياسته معهم تختلف عن سياسته مع الكفر والإلحاد.
ربما يساعدنا هذا التبسيط والتشبيه في فهم ضرورة التمييز بين المثقف الخارج ـ ديني والمثقف الداخل ـ ديني على مستوى كيفية التعاطي إذا اشتركا معاً في القناعات والأهداف والنتائج، فضلاً عما إذا اختلفا.
لماذا الاشتباك بين المثقَّف والفقيه؟!
لماذا ولدت المشكلة، سواء مع المثقَّف الخارج ـ ديني أم المثقَّف الداخل ـ ديني؟
هناك أسباب كثيرة، لكنّني سوف أقتصر على ثلاثة منها، وأرجو أن نتأمّل فيها جيّداً:
1ـ إشكالية المنهج
هنا يقال بأنّ الفقيه شخصٌ يفسِّر نصّاً ويطوف حوله، فهو يتعامل مع نصّ ثابت لا ينتجه ـ كما يقول السيد الصدر في «اقتصادنا» عندما يتحدّث عن اكتشاف النظام الاقتصادي، وليس إبداعه ـ. فالفقيه يحاول أن يكتشف النصّ، ويعتبر أنّ اكتشاف النص ومدلولاته كافٍ في إثبات الحقّ والحقّيّة. وبعبارة أخرى: إذا أردنا الآن أن نعرف هل يجوز للإنسان أن يأخذ الفائدة البنكيّة أم لا؟ فإنّنا نرجع إلى النصّ، فنثبت صدوره، ونتأمّل إطلاقاته وعموماته، ونفحص في مقيّداته ومخصّصاته، ونرصد معارضاته هنا وهناك، فإذا ثبتت هذه العناصر كلّها خرجنا بنتيجة تقول: إنّ الكتاب والسنّة يحكمان ـ مثلاً ـ بحرمة الفائدة البنكيّة. وهنا يقول لك الفقيه: الحقّ أنّ الفائدة البنكية حرام. هكذا يعبّر في نهاية البحث.
حسناً، من أين عرف الفقيه حقّيّة هذه النتيجة، وأنّ الفائدة البنكيّة تحوي مفاسد شديدة تبلغ درجة التحريم القانوني؟ الجواب بديهيٌّ وواضح: إنّه النصّ الذي كشف له حقّيّة هذا الاستنتاج.
المثقَّفون في عالمنا الإسلامي ـ أو مَنْ سُمّوا بذلك ـ على اتجاهاتهم ومدارسهم وأطيافهم؛ لأنهم ليسوا حزباً واحداً…، يقول كثيرٌ منهم بأنّ هذه الطريقة في إثبات أحقّيّة الأشياء والمفاهيم يجب أن نطوي عنها كشحاً، إنّهم يقولون لك بأنك ترى أنّ هذا النص مقدّس، وتريد أن تقول: إنّ النتيجة التي خرجت بها مقدّسة أيضاً، أمّا نحن فنريد أن نختبر المقدّس. اختبار المقدّس هنا معناه أن تضعه على أرض الواقع، ولنطبِّقه سنةً أو سنتين أو ثلاثاً أو..، ثم لننظر هل سيتحسّن الاقتصاد؟ هل ستتقدّم التنمية؟ إذا رأينا أنّ التنمية حصلت فهذا يعني أنّ النتيجة التي توصّلتَ إليها تغدو صحيحةً؛ لأنّها قدّمت معطياتها على أرض الواقع، أمّا إذا لم تكن النتيجة كذلك، بل تدهور الاقتصاد، وتراجعت معدّلات النموّ، فهذا يعني أنّ القول بحرمة الفائدة البنكيّة ليس حقّاً، ولا أقلّ في هذه المرحلة خاصّة.
هنا تكمن إشكاليّة المنهج. فحقّيّة الأشياء في الأمور العملية لا تنبع من ترتيب المقدّمات ترتيباً ذهنياً صحيحاً، وإنما تنبع من اختبار نتائج هذه المقدّمات على أرض الواقع؛ فإن نجحت فأهلاً وسهلاً بها؛ وإلاّ فهذه النظرية باطلة بهذا المعنى النسبيّ الذي أشرنا إليه، وهنا ننتقل إلى نظرية أخرى.
هذا خلافٌ أساسيٌّ بين طريقتَيْ تفكير: المثقَّف؛ والفقيه. وفي الوقت الذي يختبر المثقَّفُ نتائج الاجتهاد في النصّ يعترض الفقيه، ويقول: ليس من حقّك أن تقول بأنّ حرمة الفائدة البنكيّة ليست حقّاً؛ فلعلّك أنت الذي قصّرتَ في التطبيق؛ لعلّ هناك ملابسات لم تلتفت أنتَ إليها؛ لعلّ هناك قيوداً لم تتنبّه أنتَ لها.
هنا تختلف المرجعيّات وتتجاذب، بين مرجعية الاختبار العمليّ ومرجعية النص والنظرية. فهناك مرجعٌ نظريّ يعتبر أنّ الحقّ يكمن في ترتيب المقدّمات، إنّه يحيا حياة عالم الرياضيّات؛ وهناك مرجعٌ عمليّ يعتبر أنّ الحقّ يكمن في اختبار الأمور على أرض الواقع، وليس له شأن بالنظريات. هذا خلاف منهجيّ أساسيّ جدّاً يشبه النمط الوضعيّ في التفكير، والذي يرى أنّ القضايا الفلسفية ليست بقضايا، أو هي قضايا لا معنى لها ما دام لا يمكن اختبارها بالحسّ والتجربة.
هناك حاجة ماسّة للتفكير في هذا الموضوع، فأيُّ النظريتين صحيح؟ وهل يمكن إيجاد مصالحة بينهما أم لا؟
إشكاليّة المرجعيّة الماضويّة
وفي هذا السياق تتجلّى المرجعيّة عند الفقهاء في النصّ الذي هو حدثٌ وقع في الزمن الماضي؛ لأنّ القرآن الكريم نزل في الزمن الماضي، والسنّة الشريفة صدرت في ذلك الزمان أيضاً. فالمرجعيّة هي الماضي، وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار السنّة العمليّة للمعصوم؛ إذ إنّك هناك تتكلّم عن تجارب وقعت في الماضي، وتعتبرها مرجعاً لك في العصر الحاضر.
إنّ الكثير من التيارات المثقَّفة تعاني من مشكلة مع هذا النوع من التفكير. وهذا ما أدّى إلى تصادمها ـ محقّةً أو غير محقّة؛ إذ نحن نوصّف لحلّ المشكلة، ولا نحلّها بالفعل ـ. فهي ترى أنّ هذه المرجعية الماضويّة تعاني من الكثير من المشاكل؛ لأنّ هذا النوع من المرجعيّات يساوي استنساخ التاريخ، وأيّة عملية استنساخ للتاريخ لن تكون ناجحة. فلا يمكن لتاريخٍ مضى قبل ألف وخمسمائة عام أن يُعاد استنساخه في حياة بشر يختلفون في نظمهم الاجتماعية والاقتصادية وأنماط عيشهم عن الذين كانوا يعيشون في النظم الزراعية. فتلك حياة زراعيّة، ثم جاءت حياة صناعيّة، وهناك من يقول بعد السبعينات بظهور الحياة ما بعد الصناعيّة، فكيف تريد أنتَ أن تجعل مرجعيّتي تجربةً ظهرت في العصر الزراعيّ والقبليّ، ووضعت نظماً ناجعةً ومتفوّقةً، ونحن اليوم نعيش في العصر ما بعد الصناعي، ونريد أن نطبّق تلك النظريات؟!
هنا وقع الخلاف بين المثقَّف والفقيه. فالفقيه يقول: نحن خاضعون للنصوص؛ لأنّها قد صدرت من الله تبارك وتعالى، الذي هو أعلم منّا بمصالحنا، والذي هو أدرى منّا بأسرار نفوسنا، واجتماعنا، وتاريخنا، واقتصادنا، ونظمنا، فيما أنتَ تريد بعقلك القاصر والناقص أن تستبدل تلك المرجعية الإلهيّة الرشيدة بمرجعية غير مضمونة!! ذلك أنّه على المستوى العقلي ثمّة تغيّرات في فهم الأشياء، وكلّ يوم تظهر نظريات جديدة، ولاسيّما في العلوم الإنسانيّة، فكيف يمكن أن نتخلّى عن مرجعية معصومة، هي مرجعية الله والنبيّ، لنأتي بمرجعية غير مضمونة، ولا نهائيّة، حتّى عند أصحابها؟!
ويظهر هذا الأمر جليّاً في الاتجاه الذي بدأ يسود في العصر ما بعد الحداثوي، حيث أصبحنا نسمع مقولات من نوع: العقل ليس سلطاناً مقدَّساً يجلس على كرسيّ العرش بلا منازع، كما كان يريد أرسطو وديكارت، بل قدراته محدودة. فقد اعترف أصحاب الانتصار للعلوم الطبيعية والإنسانيّة أنفسهم بأنّ عصر النهضة والحداثة قد وقعا في الخطأ بظنّهما أنّ العقل قادرٌ على كلّ شيء، وأنّه لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وقد تراجعوا الآن، فكيف يُراد لنا أن نعتمد على مرجعيّة العقل هذه، ونترك مرجعية الماضي، التي تعني مرجعيّةً مقدّسة إلهيّة؟!! هنا وقعت الإشكالية، واحتدم الاشتباك الذي لابدّ من فضّه بطريقةٍ أو بأخرى. ولسنا في صدد المعالجة، ولا الترجيح بين وجهات النظر فيها.
2 ـ إشكاليّة السلطة
الإشكاليّة الثانية، التي قد تكون في تقديري أهمّ من الإشكاليّة الأولى (إشكاليّة المنهج) هنا، هي إشكالية السلطة. وحينما نقول: السلطة فإنّنا نأخذ مفهومها الواسع على المستوى السياسي، والاجتماعي، والمالي، والديني، أي إنّها تعني هنا مطلق النفوذ. فالعلم سلطة، والثقافة سلطة؛ لأنّها أسلحةٌ بيد أصحابها. ولا تنحصر السلطة بالسلطة السياسيّة، والجيش والقوات المسلّحة.
يجب أن أشير هنا إلى أنّ كلمة (سلطة) تمثِّل مصطلحاً سلبيّاً مع الأسف في الثقافة العربيّة المعاصرة، وكأنّها شتيمة. لكنّنا هنا لا نقصد (السلطة) بالمعنى السلبيّ الذي يشي بحبّ الذات والتسلّط، وإنّما نريد بها مطلق المطالبة بأن يكون لك نفوذ في الحياة الاجتماعيّة، إنّها أشبه شيء بحقٍّ غريزيٍّ فطريٍّ.
إنّني أعتقد بأنّ هناك إشكالاً سلطويّاً بين المثقَّف والفقيه. ولكي ننبِّه لهذا الادّعاء يمكن أن نحثّ على ملاحظة بعض الموضوعات الملتهبة التي وقعت بين الفقهاء والمثقّفين خلال العقود الأخيرة. فمثلاً: هناك مَنْ انتقد موضوع التقليد بشدّة، ولم يقبل به، وذهب إلى أنّه يجب علينا أن نغيّر نظرنا فيه، ولا يصحّ أن نبقى متّبعين للمراجع بهذه الطريقة، بل أطلقوا أوصافاً خاصّة، وقالوا: لا يصحّ ولا يحقّ لمرجع التقليد أن يبقى مهيمناً على العالم الإسلامي وعلى أرواح الملايين بهذه الطريقة التي تدفع الناس للاتّباع الأعمى!! وفي المقابل هناك دفاع مستميت من الفريق الآخر للمحافظة على الوضع القائم في قضيّة التقليد، وربطه بجوهر الدين ومصيره. برأيك كيف نفسّر هذا الخلاف؟! أعتقد أنّه خلاف سلطة.
إنّ المثقَّف هنا يدعو لإحداث زحزحة في قضيّة التقليد، وكأنّه في اللاوعي يقول: إذا لم تحصل زحزحة فليس لنا مرقد عنزة، فيجب حصول تحوّل حتى نتمكّن من أن يكون لنا نفوذ في المجتمع الإسلاميّ، وإلاّ سنبقى دائماً مطيعين لهذا المرجع.
إنّهم يدافعون عمّا يرونه حقاً لهم بالقول: نحن نُعدّ بالملايين، نحن شريحة كبيرة في المجتمع، تملك علماً وخبرةً وفهماً، ولها صولاتها وجولاتها في الفكر والثقافة والاجتماع والممارسة. إذاً فمن حقّنا الطبيعي أن نتقاسم هذه السلطة بيننا وبين الطرف الآخر. فعلينا ـ عندما نعجز عن التغيير بالقوّة ـ أن نُحدث تحوّلاً من خلال تغيير مسار المفاهيم نفسها.
يريد المثقَّف أن يكون له دور في النفوذ الاجتماعيّ، ويرى الفقيه أيضاً أنّ من حقّه ـ من موقع امتلاكه للعلم والمعرفة والدين، وهذه كلُّها سلطة ـ أن يكون له دوره أيضاً. وهنا تتصادم المصالح ـ لا بالمعنى السلبيّ للكلمة ـ، وتقع المشكلة.
موضوع السلطة هذا موضوعٌ إشكاليٌّ ومهمٌّ جداً. فليست الأمور دائماً فكريّةً بحتة، كما نحبّ أن نصوّرها، وليست الخلافات ثقافيّة وعلميّة فقط، بل تقبع خلف هذه الخلافات اتجاهات ودوافع، نبيلة وغير نبيلة، سليمة وغير سليمة. ولا شأن لنا بنوايا الناس.
هذا ما أردت أن نسلّط الضوء عليه في فهم هويّة الخلاف بين المثقَّف والفقيه في واحد من أضلاعها الرئيسة.
3 ـ إشكاليّة الاعتراف
الإشكالية الثالثة ـ والأخيرة ـ التي نودُّ طرحها هنا هي إشكالية الاعتراف. وهي أيضاً إشكاليّةٌ كبيرةٌ جدّاً. فهناك شعور من الفرقاء المتنازعين بأنّ الآخر ليس بشيء. الآن، لو سألتَ غير واحدٍ في الحوزة العلميّة والمؤسّسة الدينية يقول لك: هؤلاء المثقَّفون ـ بمَنْ فيهم المثقَّفون الدينيّون ـ ليس لهم حظٌّ من العلم، كلامهم أدبيّات وأشعار وصحف، وليس لديهم عمق ودقّة مثلنا. وإذا ذهبنا إلى الوسط الجامعي أيضاً فسيُقال لك: هؤلاء المشايخ ليس لهم حظٌّ من العلم، هم مجموعة حفظة للكتاب، والسنّة، وللقصص والحكايا، وبعض الأحداث التاريخية، ويعرفون قَدْراً من اللغة.
المشكلة أنّ كلَّ فريقٍ لا يعترف بصاحبه الاعتراف المطلوب، الموجب لحصول حالة التراضي والاطمئنان الذاتي.
وأخطر المشاكل التي تؤدّي إلى تضعضع السِّلْم الأهليّ وتوازن الحياة الاجتماعيّة هو عدم الاعتراف؛ لأنّ الإنسان بغريزته الفردية والجماعية يريد من الآخرين أن يعترفوا به وبوجوده وبحقّه. وهذا أمر طبيعيٌّ. فعندما يقال له: إنّك لست بشيءٍ فمن الطبيعيّ أن تحدث المشكلة. وعندما يقول هو لكَ أيضاً: أنت لست بشيء فمن الطبيعيّ أن تدافع عن نفسك.
إذاً هذا التصادم بين الفقيه والمثقَّف يبدأ من المنهج، أي من طريقة التفكير بينهما، ويمرّ برغبة كلّ واحدٍ من الطرفين في أن يكون له حجمه الاجتماعيّ الموازي لما يراه حجمَه المعرفيّ، أي إشكاليّة السلطة، وينتهي بإشكاليّة الاعتراف، أي أنا موجود فعليكَ الاعتراف بي، وأيُّ إنكار منك لوجودي معناه أنني سوف أناضل وأشتبك معك.
هذه إشكالياتٌ ثلاثٌ تعبِّر عن نماذج المعضلة القائمة، لننظر وفقها ماذا فعل السيّد الصدر في هذا المضمار، فهل كانت له محاولاتٌ أم لا؟ وهل كانت الخطوات التي قام بها ولو لم يربطها صراحةً بموضوع حديثنا… هل كان لها دور في تخفيف حدّة التأثيرات السلبية لهذه الإشكاليات الثلاث؟ وهل كان سلوكه&، بوصفه فقيهاً مثقَّفاً، عاملاً مساعداً على إيجاد التقارب بين هاتين الشريحتين الكبيرتين أم لا؟
فضّ الاشتباك بين المثقف والفقيه
إذا جئنا إلى الحلول التي قد نلمحها بالتحليل في نصوص وتجربة السيد الشهيد الصدر، فإنّنا نوجّه لأنفسنا السؤال التالي: هل سعى السيد الصدر لحلّ هذه المعضلات الثلاث المتقدّمة (إشكاليّة المنهج، إشكالية السلطة، إشكاليّة الاعتراف)، سواء عبّر عنها هو نفسه بأنها حلول لإشكالية العلاقة بين المثقَّف والفقيه أم لا؟
في تقديري إنّ الجواب سيكون بالإيجاب، فقد كان هذا السعي واضحاً وملموساً، وذلك عبر الخطوات التالية التي نلمسها في تجربته:
1ـ تثقيف الفقيه وتفقيه المثقَّف
لعلّ هذا هو أوّل الخطوات في طريق الحلّ. فعندما تثقّف الفقيه وتفقّه المثقَّف يقترب الاثنان من بعضهما فكريّاً، أي يحصل نوع من التقارب الفكريّ والمزاوجة الفكريّة بين الطرفين. وعندما تكون هناك عزلة وجفاء وغربة وقطيعة بين الفريقين، فلا يعرف الفقيه شيئاً عن تفكير المثقّف وطريقته، ولا يعرف المثقَّف شيئاً عن فكر الفقيه وطريقة تفكيره، تزداد الإشكاليّات حدّة.
عندما نقول: ثقّف الفقيه فأنا أخدم مشروع حلّ الإشكالية بين المثقّف والفقيه؛ لأنني أقترب بالفقيه من أن يصبح على تماس مع طريقة تفكير المثقّف، ويتماهى معه، ويتقمّصه. وعندما أقول للمثقَّف: تعالَ كي تتعرّف على الفقه والعلوم الحوزوية أكون قد كسرت جبل الجليد الموجود بين الفريقين. طبعاً بشرط أن تكون ظروف التعرّف على بعضهما غير صداميّة، أي في حال طبيعيّة.
عندما يكتب السيد محمد باقر الصدر كتابه (المعالم الجديدة للأصول(، ويراد لهذا الكتاب أن يعرّف الجامعيين والأكاديميين على علم أصول الفقه الموجود في الحوزات العلميّة، والذي هو من أكثر العلوم الإسلامية أصالةً، بعد إنتاجه من رحم التجربة الحضارية الإسلامية، على خلاف مثل: الفلسفة والمنطق، المشوبان بنطفة يونانية، وإنْ تطوّرا بشكل هائل في التجربة الإسلامية، فإنّه يهدف للتقريب بين الصرحين العلميّين الكبيرين: (الحوزة؛ والجامعة)؛ إذ لماذا يريد أن يعرّف المثقَّف أو الجامعي أو الأكاديمي على الحقيقة والمجاز والتبادر والعلم الإجماليّ والاستصحاب؟! ولماذا يريد تعريفه بالتخصيص والتقييد واستصحاب العدم الأزليّ؟! وما هي الفائدة من وراء ذلك؟!
لا توجد ضرورة، لكن عندما يريد السيد الشهيد الصدر منه أن يتعرّف فهو يهدف إلى تقريبه من المناخ الفكريّ الموجود في داخل الحوزة، وكأنّه يريد أن يفقّهه.
في هذه المناسبة يُنقل عن السيد الصدر أنّه كان يقول: يمكنني أن أمنح كلّ شخص جامعيّ ويحمل إجازة ما يحتاجه في وضعه المادّي على أن يأتي إلى الحوزة العلمية. ولعلّه أراد بذلك أن يشكّل في داخل الحوزة الشريحة الوسطى، أي الجامعيّ الحوزويّ والحوزويّ الجامعيّ.
ما معنى ذلك؟ دعونا نحلّل قليلاً. إنّني أتوقع أن الذي كان يؤرّقه هو إشكالية التصادم. فعندما كان يريد منه أن يأتي فهو يقصد تكوين الفقيه المثقَّف الجامعيّ والأكاديميّ الفقيه المتضلّع في العلوم الإسلامية؟ وإلا فبماذا نفسّر مشروع المعالم الجديدة للأصول؟! وكيف نفسّر مشروعه الثاني أو مشروع تعريف الحوزويين بالعلوم الإنسانية أو ما شابه ذلك.
إذاً هناك رغبة ـ أعتقد أنها واضحة إلى حدٍّ ما ـ عند الصدر في أن يُنتج فقيهاً مثقّفاً ومثقّفاً فقيهاً. وإذا حصلنا على فقيه مثقّف ومثقَّف فقيه فبالإمكان ردم الهوّة الموجودة بين الفريقين.
2ـ تحرير العلم والثقافة من الوضعيّة
من أعقد مشكلات الثقافة اليوم في علاقتها مع الدين والفلسفة أنّ الثقافة صارت رهينةً للتيار الوضعي والمدرسة الوضعيّة، إلى حدّ أنّه عندما يقال لك: ثقافة دينية، ومثقف متديّن، فإنّك تتصوّر في الأمر مفارقةً؛ إذ كيف يكون هناك اجتماع بين الثقافة بما تمثِّله من النزعة العلمية والدين بما يمثِّله من النزوع الفلسفي الميتافيزيقي؟! كيف يلتقيان وليس في الدين حريّة فكرية، ولا نقدٌ، ولا ذات؟!
لعلّ أهم خطوة يمكن للحوزات العلمية القيام بها؛ خدمةً للتقارب بين المثقَّف والفقيه، هي السعي لتقديم أنموذج قادر على أن يكون ثقافةً معاصرة بكلّ ما للكلمة من معنى، دون أن يكون وضعيّاً ملحداً.
ومن المناسب الاستشهاد بما أثاره العلاّمة الفقيد الشيخ محمد مهدي شمس الدين من التحفّظ على العلوم الإنسانيّة القائمة اليوم كلّها؛ لأنّها ـ من وجهة نظره ـ قد بُنيت على أصول فلسفيّة بشريّة في الغرب، تراكمت منذ عصر النهضة، واتخذت المنحى المادي التجربي. وهذه الأصول الفلسفية الغربية لا نؤمن نحن بها، من حيث إنّنا نملك رؤية فلسفية خاصّة عن المعرفة والوجود والعالم والإنسان والبدايات والنهايات. فمثلاً: المناهج التربوية والتعليمية قائمة على نظريات في العلوم الإنسانيّة مبنيّة بدورها على أصول فلسفيّة غير صحيحة إسلاميّاً، فهل يمكن القيام بوضع علوم إنسانية وفقاً لأصول فلسفيّة دينية؟ إنّ هذا الموضوع طويل يتّصل بقضايا أسلمة العلوم الإنسانية، وهي أسلمة قُدِّمت تصوّراتٌ كثيرةٌ مغلوطة حولها، في الوقت الذي تظلّ فيه ضرورة بمعنى من المعاني.
وهنا إذا استطعنا أن نقول بأنّ الأساس العلميّ الذي يعطي العلوم الطبيعية والإنسانية اعتبارها وقيمتها المنطقيّة هو نفس الأساس العلميّ الذي تستنتج منه الحقائق الدينية فإنّنا نكون قد اقتربنا منهجياً من المصالحة بين الفقيه والمثقَّف؛ لأنّنا شيّدنا المعرفة الدينيّة على أصول علميّة معاصرة، في الوقت الذي نكون قد حرّرنا الثقافة من الوضعيّة.
هذا هو ـ في تقديري ـ مشروع (الأسس المنطقيّة للاستقراءn الذي قام به الصدر. فهذا الفيلسوف قد توصّل ـ في مقام التأسيس المعرفيّ الذي شهده هذا الكتاب، وليس في مقام الجدل ـ إلى أنّ المنهج العلميّ والفكريّ الذي يُراد له أن ينتج العلوم الطبيعية والإنسانية هو بعينه المنهج الذي يمكن من خلاله إنتاج المعرفة الدينية، وذلك بنسبة من الاختلاف بسيطة، ألا وهو المنهج الاستقرائي في صيغته المعرفية الصدرية التي تمثلت في mالمذهب الذاتي للمعرفةn. وعندما يقوم الصدر بهذا المشروع فهو ـ شعر أم لم يشعر ـ قد ردم هوّةً عظيمة بين طريقة التفكير الثقافية والعلميّة المعاصرة وبين طريقة التفكير الدينية؛ لأنّه قارب المناهج مع بعضها، أي جعلها تدنو من بعضها بعضاً، فلم يقُلْ لهذا: أنت منهجك يعتمد على منطق mأn الذي هو في وادٍ، فيما أنت منهجك يعتمد على منطق mبn الذي يقع في وادٍ آخر، وإنما قال لهما معاً: بإمكاننا أن نتحدّث عن منهج قادر على أن يستجيب للجميع.
إنّ توحيد المنهج في لحظتنا التاريخية المعاصرة بالطريقة التي قدّمها الصدر ستساهم في تحرير الثقافة من النزعة الوضعيّة، وستجعله يوصل إلى الله تعالى وإثبات وجوده. وهذا شكلٌ من أشكال فضّ الاشتباك بين المثقَّف والفقيه، عنيتُ تحرير الثقافة من الوضعيّة.
3 ـ تحرير الدين من الفقه
هناك تحريرٌ آخر أرجو أن لا يفهم بطريقة خاطئة، وهو تحرير الدين والعلوم الدينية من الفقه. فهناك كلام كثير جدّاً في المؤسّسة الدينية الشيعيّة ـ ولاسيّما في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ـ في أنّها ضخّمت الفقه ولا تهتمّ إلاّ به، فأين علوم القرآن؟! وأين تفسيره؟! وأين علوم الحديث؟! وأين الفلسفة والعرفان والأخلاق؟! نصف سدس القرآن آيات أحكام على المشهور، لكنّ الحوزة العلميّة مشتغلة في تسع وتسعين بالمائة ممّا تعمل بالفقه الإسلامي. إنّه تضخّم الفقه. والأمر قريبٌ من ذلك على مستوى علم الحديث والاهتمام الحديثيّ عند أهل السنّة.
لا نريد الآن أن ندخل في تفسير تاريخيّ لهذا الوضع، وأنّه لماذا غابت العلوم الفلسفيّة والأخلاقيّة و.. عن الدرس الحوزوي؟ وإنّما نريد أن نرصد هذه المسألة من زاوية العقل الحوزويّ، مع التأكيد على الدور الكبير الذي حصل بعد ذلك من قبل جماعة من العلماء الكبار، من أمثال: العلامة الطباطبائي، والإمام الخميني، وغيرهم، لإعادة إحياء النزعة العقليّة والفلسفيّة والعرفانيّة والأخلاقيّة والتاريخيّة والقرآنيّة و..
هذه نقطة مهمّة جدّاً؛ إذ ليس تضخّم المادّة الفقهيّة في الدرس الحوزويّ إشكاليّةً تربويّة في مناهج التعليم. إنّها أكبر من ذلك. فهي إشكالية تطال قدرتنا على التفكير. فالمشكلة لا تحلّ بزيادة مادّة درسيّة في الحوزة العلميّة، مثل: مادّة علوم القرآن الكريم، وإنّما في أنّ مساحة تفكيرنا صار أغلبها فقهيّاً، فيما آليات التفكير الأخلاقيّة والعرفانيّة والفلسفيّة والعقليّة والتاريخيّة باتت غائبة تقريباً!
هناك أسباب عدّة لزيادة هيمنة الفقه في الفترة الأخيرة، من نوع جهود المسلمين واستصراخهم لتطبيق الشريعة. فهذا الهدف المقدّس الذي اشتغل عليه المسلمون خلال القرن الأخير أعطى الفقه ـ بوصفه علم الشريعة ـ حضوراً استثنائيّاً في حياتنا. فصارت طريقة تفكيرنا فقهية، وصار معيار التديّن فقهيّاً أيضاً. فإذا استطعنا أن نخرج العلوم الأخرى ـ إلى جانب الفقه ـ من كونها موادّ تدريس في الحوزة فقط إلى كونها علوماً حاضرة بمناهجها الفكرية في طريقة فهمنا للدين نكون قد حقّقنا حلقة وصل كبيرة جدّاً بين الدين والعلم.
إنّنا نتحدّث هنا عن الحدّ الزائد لحضور الفقه في العقل الإسلامي، ولا نتكلّم عن الحدّ الطبيعي. فعلم الفقه هو علم الأحكام الإلهية، ولا نقاش في ذلك. إنما الكلام في أنّ بيدك لوحةً جمالُها بتعدّد ألوانها؛ لأنّ جمال الإسلام بالعقيدة والشريعة والأخلاق والسلوك الروحي إلى الله تبارك وتعالى. فليست كلّ مرافق الحياة تنتظم بالفقه بما صار له اليوم من بُعد قانونيّ صارم. فالأخلاق ضروريةٌ أيضاً. ولو أُريدللحياة الزوجية أن تنتظم بالفقه وحده ربما تدمّرت في اليوم الثاني. فالصحيح أن نقول بأنّ الفقه هو الذي يوفِّر النظام الاجتماعي الذي يمكنه أن يجعل للأخلاق قدرة على الحلول في المجتمع… أنت عندما تنظّم الحياة الاجتماعية تنظيماً إسلامياً فأنت تؤمّن المناخ لحلول القيم الأخلاقية. فالفقه حماية لتجلّي هذه القيم في الأرواح، فيما الأخلاق حماية لضمان تطبيق الفقه.
هذا يعني أنّني إذا استطعت أن أزيد ـ في الحوزات العلمية وفي عقول الفقهاء والمتفقِّهين ـ أزيد من ضخّ العقل الفلسفيّ والروحيّ والعرفانيّ والأخلاقيّ والتاريخيّ بالمعنى الواسع للكلمة فسأتمكّن من الاقتراب أكثر فأكثر من حلّ هذه الإشكالية. وهنا تأتي قيمة الجهد الفلسفيّ والقرآنيّ الذي اشتغل عليه السيد الصدر. فإنه وإنْ كان جهداً دفاعياً عن الإسلام في مقابل التيارات الماركسيّة في الغالب، إلاّ أنه في واقع أمره قدّم خدمةً كبيرة لتحرير الأجواء الحوزوية من الحصر في دائرة الفقه، والانفتاح على العلوم القرآنيّة، وكذلك على العلوم العقليّة والفلسفيّة بمدارسها المختلفة.
4 ـ مبدأ المشاركة في الإدارة الاجتماعيّة
بعد أن كشفنا عن حلول صدريّة لإشكاليّة المنهج، وإلى حدّ ما الاعتراف، يبقى لدينا تحديد الحلول الصدريّة لإشكاليّة السلطة والدور الاجتماعيّ. والذي يبدو لنا أنّ السيد الشهيد الصدر قد حاول إسهام الشرائح الأخرى في الإدارة الاجتماعيّة والسياسيّة، من خلال أطروحته في الدور الإشرافي للمرجعيّة الدينيّة. إنّه يرى أنّ المرجع هو المشرف والراعي، وهو العباءة التي تحتضن النظام الإسلامي، وفي الوقت عينه يقول بأنّ الطاقات ـ ولو غير الحوزوية ـ هي التي تقوم بممارسة إدارة المجتمع الإسلاميّ.
أعتقد أنّ السيد الصدر ـ قال أو لم يقل ـ يقوم بإيجاد مصالحة سلطوية بين المثقَّف والفقيه، بين أكبر عمادين علميين في المجتمع. فعندما يقول للمثقَّف: بإمكانك أن تساهم في إدارة البلاد، ويقول للفقيه: إنّ لك دور الإشراف؛ بحكم كونك المخوّل بالبتّ في القضايا الشرعية، فهو يطلب من الفقيه التوجيه ووضع المؤشِّرات ورسم الإطار القانوني والدستوري من زاوية توافقه مع الشريعة الإسلاميّة، وليس من الضروري أن يكون العلماء متواجدين في كلّ الإدارات، كما أنّه ليس من الضروري أن يكون نظرهم هو المقدّم في غير الناحية القانونية التي تتصل بالنصوص الشرعيّة. وهذا ما يحقّق نسبةً جيّدة من المشاركة والتعاون في السلطة.
أظنّ أنّ السيد الصدر عندما شكّل أو ساهم في تشكيل الحركة الإسلاميّة في العراق ـ وقد لوحظ مع هذه التجربة الحضور الدينيّ والمدنيّ في أعلى مناصب قياديّة في هذه الحركة، ولم تكن قيادتها من السلك الحوزويّ فقط ـ أخمّن أنّه& كان يملك رؤيةً تشرك الجميع في إدارة أمور البلاد والحركة الإسلاميّة تحت مظلّة الشريعة. وهذه نقطة تكاد تكون مهمّة جداً، ويمكن أن تفتح لنا آفاقاً كثيرة.
كلمة أخيرة
وأخيراً، نحن نتصوّر اليوم أن هناك إشكاليّة في العلاقة بين المثقَّف والفقيه، لكن هل يمكن في يوم من الأيام، بهذه الحلول وغيرها، أن نحوّل ثنائية المثقَّف والفقيه من أن تكون إشكاليّة ونقمة إلى أن تصبح ضياءً ونعمة؟ هل يمكن أن نصل إلى مرحلة لا نشعر فيها بالخوف من هذه الثنائية، بل نتذوّق السعادة في وجود هذا التنوّع، وكذلك في وجود الفقيه المثقَّف والمثقَّف الفقيه؟ ربما لو كشفنا مكامن القلق، وجفّفنا منابع التوتر، ننقلب بمثقَّف على تماس مع الفقه، وفقيهٍ على تماس مع الثقافة، فيستنير الطرفان، وتتبدّل ثنائيّتهما إلى نعمة على العالم الإسلاميّ، بدل أن تكون نقمة وعذاباً.
إنّنا بحاجة إلى ذهنيّة تعدّديّة تعاونيّة تستطيع إشراك الجميع في تحديد مصيرهم بما يتوافق وإخضاعهم إرادتَهم التكوينيّة لإرادة الله التشريعيّة إنْ شاء الله تعالى.
(*) نصّ الكلمة التي ألقيت بمناسبة شهادة الإمام محمد باقر الصدر، في قاعة القدس في الحوزة العلمية في مدينة قم، بدعوة من المجمع العام للحوزة العلمية واتحاد الطلاب العراقيين في إيران، وذلك بتاريخ 9/4/2010م، مع بعض التصرّف والتعديل، وقد تمّ نشرها على حلقات في الأعداد: 16 ـ 18، من مجلة الاجتهاد والتجديد، لعام 2010 ـ 2011م.