اجتهاد الرسول قراءة نقدّية في الأسس والمكوّنات
د. علي أصغر رضواني(*)
مقدّمة
البحث عن اجتهاد الرسول(ص) وعدمه يرتبط تماماً بالبحث عن حجيّة ما صدر عنه من قولٍ أو فعل أو تقرير؛ إذ لو قلنا بارتباط النبي(ص) في جميع شؤونه بالوحي، وكونه معصوماً فيها تكون سنّته حجةً ومصدراً للتشريع، ومن البديهي لزوم أن يكون مصدر التشريع مصوناً عن الخطأ والاشتباه حتى يمكن تلقّي الأحكام الشرعية عنه.
والحديث حول حجيّة ما صدر عن النبي(ص) من قولٍ أو فعل أو تقرير من الأمور المعلومة بداهةً ولا تحتاج إلى الكلام عنها؛ إذ لولاها لما اتّضحت معالم الإسلام، ولتعطّل العمل بالشريعة، ولما أمكن أن يستنبط منه حكمٌ واحد بكلّ ما له من شرائط وموانع؛ إذ إنّ أحكام القرآن – مثلاً – لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتّصل بالحكم، وإنّما هي واردة في بيان أصل التشريع، وربما لا نجد فيها حكماً واحداً قد استكمل جميع خصوصياته قيوداً وشرائط وموانع.
فإذا كان كذلك فلا محيص من القول بحجيّة سنّة النبي(ص) والشّرع لابد وأن يكون مصوناً عن الخطأ والزلل والاشتباه؛ حتّى يكون مرجعاً للأحكام الشرعية، ويبيّن لنا إمكان إضافة الحكم المستفاد منه إلى الله تعالى.
وأمّا إذا قلنا باجتهاد الرسول(ص) سيّما مع الاعتقاد بظنّيته، فلا يكون مرجعاً للأحكام الشرعية، مع أنّه(ص) – بنصّ القرآن الكريم – أسوةٌ في شؤون حياته كافّة.
يقول الدكتور محمد حسن هيتو في كتابه: الوجيز في أصول التشريع الإسلامي: «إنّ السنّة هي عبارة عمّا صدر عن النبي(ص) من قولٍ أو فعل أو تقرير، وقد أغفل بعض الأصوليين التقرير؛ لأنه كفّ عن الإنكار، والكفّ فعل، فأدرجوا التقرير في الفعل، وهذا التعريف خاصّ بالأصوليين.. ونعني بالسنّة هنا ما صدر عن رسول الله(ص) بغضّ النظر عن وصوله إلينا بطريق التواتر أو الآحاد، فالسنّة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم بالإجماع، وجاحد العمل بها كافر بإجماع الأمّة أيضاً؛ لأنه جاحد لأمر الله، ومعرضٌ عنه؛ قال تعالى: >ومن يطع الرسول فقد أطاع الله<، وقال: >فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً<، وقال: >ومن يطع الله ورسوله يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها<، والآيات في هذا أشهر من أن تُذكر وأكثر من تحصر..» ([1]).
ومن الجدير بالذكر أنّ من الآثار المترتبة على القول باجتهاد الرسول(ص) هو القول بأنّ رأيه ليس ملزماً، ومن حقّ أيّ مجتهدٍ آخر أن يتبنّى اجتهاده الذي يخالف الرسول(ص) ولا حرج على هذا المجتهد الآخر، فهو مأجور بمخالفته له، أي للرسول(ص) وسنّته، سواء أخطأ أو أصاب، فتنفتح مع القول باجتهاد الرسول(ص) الاجتهاداتُ مقابل النصوص.
مقولة الاجتهاد، الدلالة والمضمون
الاجتهاد في اللغة مشتقّ من مادة (ج، هـ، د) بمعنى بذل الجُهد، وهو الطاقة، أو تحمّل الجَهد، وهو المشقّة، وصيغة الافتعال تدلّ على المبالغة في الفعل، ولهذا كانت صيغة: اكتسب أدلّ على المبالغة من صيغة: كسب.
فالاجتهاد في اللّغة: استفراغ الوسع في أيّ فعلٍ كان، ولا يُستعمل إلاّ فيما فيه كُلفة وجهد، فيقال: اجتهد في حمل حجر الرّحا، ولا يقال: اجتهد في حمل خردل([2]).
وأما في اصطلاح الأصوليين فقد عبروا عنه بعبارات مختلفة:
قال الشوكاني في إرشاد الفحول([3]) في تعريفه: «بذل الوسع في نيل حُكمٍ شرعي عملي بطريق الاستنباط»، وهو تعريف الإمام الزركشي في البحر المحيط كما في كتاب الاجتهاد([4]) للدكتور سيد محمد موسى توانا.
ولم يكتفِ بعض الأصوليين بكلمة «بذل الوسع»، فجعل بدلها كلمة «استفراغ الوسع»، بل زاد الإمام الآمدي على ذلك، فقال في تعريفه: «هو استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعية على وجهٍ يحسُن من النفس العجز عن المزيد عليه»([5])، وعن ابن الحاجب أنّه: «استفراغ الوسع لتحصيل ظنّ بحكم شرعي»([6])، وقال ابن السبكي هو: «استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم»([7])، وقال ابن الهمام هو: «بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكمٍ شرعي ظني»([8]).
اجتهاد الرسول(ص) وآراء الأصوليين فيه
اختلف الأصوليين في جواز الاجتهاد على النبي(ص) وعدم جوازه على أقوال:
القول الأول: الجواز عقلاً
وأصحاب هذا القول هم جمهور الأصوليين من أهل السنّة، ومنهم ابن الحاجب، والآمدي، وسائر الحنفية([9])، وجميع الحنابلة، وإليه ذهب بعض الشافعية كالبيضاوي، ونسبه الأسنوي إلى الإمام الشافعي، حيث قال: ذهب الجمهور إلى جوازه، ونقله الإمام الرازي عن الشافعي، كما نسبه الآمدي إليه، فقال: «وجوّز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والقاضي عبدالجبار، وأبو الحسين البصري من المعتزلة».
وقال ابن تيميّة في المسوّدة: «يجوز لنبيّنا أن يحكم باجتهاده فيما لم يوحَ إليه فيه، ذكره القاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو الخطاب، وأومأ إليه أحمد»([10]).
القول الثاني: المنع مطلقاً
ذهب الإمام ابن حزم إلى عدم الجواز مطلقاً؛ حيث قال: «انّ من ظنّ أنّ الاجتهاد يجوز للأنبياء ( في شرع شريعة لم يوحَ إليهم فيها فهو كفرٌ عظيم، ويكفي في إبطال ذلك أمره تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: >إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ<([11]).
ونسبه الشوكاني إلى الأشعرية([12]) نقلاً عن أبي منصور الماتريدي([13])، وهو قول جمهور المعتزلة؛ لأنّه سبق أنّ أبا الحسين البصري يقول بالجواز. وقيل: إنّ للجبائيين – أبي عليّ وابنه أبي هاشم – رأيين: أحدهما: المنع مطلقاً والآخر: الجواز فيما يتعلّق بالحروب دون غيرها([14]).
وقد اختلف المجوّزون فيما بينهم في مقامين: أحدهما في محلّ اجتهاده، وثانيهما في وقوع الاجتهاد منه.
أمّا محلّ اجتهاده(ص) فهو بمعنى أنّه هل يجوز له الاجتهاد في أمور الدين وأمور الدنيا؟ والمسألة خلافية بين العلماء القائلين بالجواز، وقد حكى القرافي الاتفاق على جوازه في الأقضية حيث قال: «ومحلّ الخلاف في الفتاوى، أما الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها بالإجماع»([15])، ووافقه الأسنوي في ذلك حيث قال: «واتفقوا على وقوع الاجتهاد منه(ص) في الأقضية وفصل الخصومات»([16]).
وتقول الدكتورة نادية شريف العمري: «والحقّ أنّ العلماء اختلفوا في جواز اجتهاد الأنبياء في الأحكام الشرعيّة، والفتاوى في الأمور الدينيةّ([17])، ولعلّ من نقل الإجماع على ذلك لم يعثر على قول مخالف أو لم يعتدّ بالمخالف؛ لوضوح حقيّة الجواز العقلي»([18]).
وأمّا وقوع الاجتهاد منه(ص) وعدم وقوعه، فقد اختلف القائلون بالجواز فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: إنّه وقع منه الاجتهاد مطلقاً، بمعنى أنّه(ص) كان يجيب بمجرّد وقوع الحادثة دون انتظارٍ للوحي، وهذا ما ذهب إليه الجمهور من أهل السنّة، ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد، وعامّة أهل الحديث، وصرّح بذلك محمد أمين صاحب تيسير التحرير وغيره من الحنفيّة كالبخاري شارح أصول البزودي، والبهاري صاحب مسلم الثبوت([19]).
القول الثاني: إنّه وقع منه بعد انتظار الوحي، وهذا مذهب الحنفية، صرّح بذلك الكمال بن الهمام فقال: «المختار عند الحنفيّة انّه عليه الصلاة والسلام مأمورٌ بانتظار الوحي أوّلاً ما كان راجيه إلى خوف فوت الحادثة، ثمّ بالاجتهاد»([20]).
وقال السرخسي في هذا المجال: «وأصحّ الأقاويل عندنا أنّه عليه الصلاة والسلام فيما كان يُبْتَلى به من الحوادث التي ليس فيها وحيٌ منزل كان ينتظر الوحي إلى أن تمضي مدّة الانتظار، ثمّ كان يعمل بالرأي والاجتهاد، ويبيّن الحكم به..»([21]).
وقال البهاري: «وعند الحنفيّة أنّ النبيّ(ص) كان متعبّداً بالاجتهاد بعد انتظار الوحي إلى خوف فوت الحادثة؛ لأنّ اليقين لا يُترك عند إمكانه»([22])، وأيّد العلاّمة عبدالعلي هذا الرأي، فقال: «وهذا أمرٌ معقول ضروري، وإنكاره مكابرة، فلا يُترك اليقين ويذهب إلى الظنّ إلاّ بعد الانتظار»([23]).
القول الثالث: الوقف دون القطع بشيء، وهو قول الغزالي؛ حيث قال: «اختلفوا في جواز حكم النبيّ(ص) بالاجتهاد فيما لا نصّ فيه، والنظر في الجواز والوقوع، والمختار جواز تعبّده بذلك.. أمّا الوقوع، فقد قال به قومٌ، وأنكره آخرون، وتوقّف فيه فريق ثالث، وهو الأصحّ، فإنّه لم يثبت به قاطع»([24])، وقال في المنخول: «والمختار أنّه يسوغ له الاجتهاد، فهذا حكم العقل جوازاً، وأمّا الوقوع فالغالب على الظنّ انّه كان لا يجتهد في القواعد، وكان يجتهد في الفروع..»([25]).
وقال الشوكاني حول الوقف: «وزعم الصيرفي في شرح الرسالة أنّه مذهب الشافعي؛ لأنّه حكى الأقوال ولم يختر شيئاً منها، واختار هذا القاضي الباقلاني والغزالي»([26]).
كلمات أهل السنّة حول اجتهاد الرسول(ص)
1ـ قال الآمدي: «اختلفوا في أنّ النبيّ هل كان متعبّداً بالاجتهاد فيما لا نصّ قرآني فيه؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف: إنّه كان متعبّداً، وجوّز ذلك الإمام الشافعي في رسالته، وبه قال أصحابه، والقاضي عبدالجبار، وأبو الحسين البصريّ، نعم، كان النبيّ يتعبّد باجتهاده فيما لا نصّ صريح من القرآن فيه.. ثمّ يقول الآمدي: المختار عندنا جواز ذلك عقلاً، ووقوعه سماعاً»([27]).
ثم يضيف: «إنّ القائلين بجواز الاجتهاد للنبي(ص) اختلفوا فيه: هل يمكن أن يخطأ النبيّ في اجتهاده أم لا؟ فذهب بعض أصحابنا إلى منع وقوع الخطأ في اجتهاداته، وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جواز ذلك»([28]).
2ـ وقال الدكتور موسى توانا في كتابه: الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر: «بدأ الاجتهاد في الإسلام منذ عهد رسول الله، فقد كان النبي(ص) يجتهد في الأمور التي لا تتعلّق بالرسالة»، ثمّ ذكر قصّة تأبير النخل دليلاً على ما ذهب إليه([29]).
3ـ وقال الشيخ محمد عبده: «وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهاداً منه(ص) فيما لا نصّ فيه من الوحي، وهو جائز وواقع من الأنبياء(ع)، وليسوا معصومين من الخطأ فيه، وإنّما العصمة المتّفق عليها خاصّة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به… ويؤيّده حديث طلحة في تأبير النخل؛ إذ رآهم يلقّحونها» ([30]).
4ـ وقال قاضي القضاة المعتزلي في المغني: «إنّ الرسول(ص) إنّما يأمر بما يتعلّق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده، وليس بواجبٍ أن يكون ذلك عن وحي، كما يجب في الأحكام الشرعيّة، وإنّ اجتهاده يجوز أن يُخالَف بعد وفاته، وإن لم يجُز في حياته؛ لأنّ اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره..»([31]).
5ـ ويقول محمّد فاروق النبهان: «اختلف العلماء اختلافاً كبيراً في موضوع اجتهاد النبي ّ(ص) ومن المعروف أنّ الله تعالى أنزل القرآن على نبيّه(ص) وأمره أن يبيّنه للناس، وأن يحكم به فيما بينهم، وعلى ذلك فالأحكام الواردة في القرآن لا مجال للاجتهاد فيها، لورود النصّ القرآني بها، أمّا الأحكام التي لم ينزل فيها قرآنٌ، فهل يجوز للرسول أن يجتهد فيها؟
ثمّ يقول: ومع ذلك فانّنا نجد أنّ العلماء منقسمون في آرائهم بصدد اجتهاد الرسول(ص) إلى رأيين:
أ – يرى الأشاعرة وكثيرٌ من المعتزلة أنّ الرسول(ص) ليس له أن يجتهد؛ لأنّ ما يصدر عنه من أفعال وأقوال ليست قابلةً للخطأ؛ لقوله تعالى: >وما يَنطِقُ عَنِ الهَوى إن هُوَ إلاّ وَحيٌ يُوحى<، وأنّ الاجتهاد قابل للخطأ وقابلٌ للصواب، ولايجوز أن يلجأ الرسول إليه؛ لاعتماده على الوحي الذي لا يقبل الخطأ، وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان الرسول ينتظر الوحي في كثير من القضايا التي تعرض عليه، من ذلك ما وقع في إرث ابنتي سعد بن الربيع، إذ شكَت أمّهما إليه أنّ عمّهما استأثر بما ترك أبوهما، فقال(ص): «يقض الله في ذلك»، فنزل قوله: >يُوصِيكُم اللهُ في أولادكم..<.
ب – ويرى جمهور الأصوليّين أنّه يجوز الاجتهاد من الرسول(ص)؛ لعموم الآيات الواردة في وجوب الحكم بين الناس بما يريد الله من الصواب، وأنّ الاجتهاد إذا كان جائزاً بالنسبة للمجتهد الذي لا يُوصف بالعصمة، فهو جائز من باب أولى بالنسبة للرسول(ص)» ([32]).
6ـ وقال النبهان أيضاً في موضع آخر من كتابه: «كان الاجتهاد موجوداً في عصر الرسول(ص)، وكان المجتهد الأوّل هو الرسول الكريم، وإذا اجتهد غيره من الصحابة فإنّهم كانوا يعرضون اجتهادهم عليه فيقرّه أو يبطله.. ونستطيع تقسيم اجتهادات الرسول إلى قسمين: منها ما يكون اجتهاداً تشريعيّاً ملزماً كبيان أحكام القرآن المجملة والمقيّدة والعامّة، وكبيان الحلّ والحرام، والصحّة والفساد، وجميع هذه الاجتهادات ملزمة، ولها نفس المنزلة إلى تحتلّها الأحكام الشرعيّة، ولا يجوز أن يتطرّق احتمال الخطأ إلى هذه الأحكام الاجتهاديّة.
أمّا القسم الثاني فهو الاجتهاد الذي يصدر عن الرسول الكريم بحكم كونه قاضياً أو قائداً، وذلك في الأمور التي يستعمل فيها عقلَه وجهده للوصول فيها إلى رأي، ولذلك كان يستشير أصحابه ويأخذ بآرائهم، كاستشارته لهم في أسرى بدر»([33]).
وبهذا المضمون قال الشيخ بدر المتولّى عبدالباسط، عميد كليّة الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، في مقالته في مجلّة العربي الكويتيّة عن الاجتهاد في عصر الرسول(ص)([34]).
7ـ ويقول الدكتور محمد سلام مدكور: «والذي ننتهي إليه أنّ الرسول عليه السلام أذن بالاجتهاد واجتهد فعلاً في أمور الحرب والقضاء، وفي الأحكام الشرعية، وأنّه أذِن لأصحابه بالاجتهاد على ما أشرنا، وعلى ما ذهب إليه أكثر الأصوليّين» ([35]).
وقال أيضاً: «..فجمهور الفقهاء والأصوليّين على أنّ الرسول يجتهد، وأنّه عرضةٌ للخطأ، وإن كان لا يقرّ عليه»([36]).
8ـ وتقول الدكتورة نادية شريف العمري في كتابها: اجتهاد الرسول:([37]) «إنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام كان متعبّداً بالاجتهاد، وقد اتّفق الأصوليّون على ذلك في الأمور الدنيويّة، واختلفوا في تعبّده بالاجتهاد في الأمور الشرعية، وقد رجّحنا اجتهاده(ص) فيها، ولنفصّل القول في هذه الأنواع في الصفحات التالية؛ وذلك من خلال معالجتنا للقضايا الأربع التالية: 1ـ اجتهاده(ص) في الأمور الدنيويّة الصّرفة. 2ـ اجتهاده(ص) في أمور الحرب. 3ـ اقضيته. 4ـ اجتهاده في أبواب العبادات».
9ـ ويقول الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر، في كتابه: الاجتهاد في الأحكام الشرعية: «وذهب جمهور العلماء إلى أنّه يجوز له(ص) الاجتهاد في الأمور الدينية والأحكام الشرعيّة..»([38]).
نظرية جواز الخطأ في اجتهاد الرسول(ص)
تقول الدكتورة نادية شريف العمري: «القول الثاني: جواز الخطأ في اجتهاده(ص) ولكن لا يقرّ عليه، وهو ما ذهب إليه أكثر الحنفيّة»([39])، ونقله الآمدي عن أكثر الشافعية والحنابلة وأصحاب الحديث، وجماعة من المعتزلة، وهو المختار لديه([40]). ويقول الكمال بن الهمام: «وقد ظهر أنّ المختار جواز الخطأ في اجتهاده عليه الصلاة والسلام، إلا أنه لا يقرّ على خطأ بخلاف غيره..»([41]).
وقال الخطّابي في معالم الحديث: «أكثر العلماء متفقون على أنّه قد يجوز على النبي عليه الصلاة والسلام الخطأ فيما لم ينزل عليه وحي، ولكنّهم مجمعون على أنّ تقريره على الخطأ غير جائز»([42]).
وقال الآمدي: «والقائلون بجواز اجتهاده(ص) اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده، فذهب بعض أصحابنا – الشافعية – إلى المنع من ذلك، وذهب أكثر أصحابنا، والحنابلة، وأصحاب الحديث، والجبائي، وجماعة من المعتزلة إلى جوازه، لكن بشرط أن لا يقرّ عليه، وهو المختار..»([43]).
نظرية عدم اجتهاد الرسول، المواقف والأدلّة
احتجّ النافون لاجتهاد الرسول(ص) بوجوه:
الآيات القرآنية:
وهي جملة آيات منها: قوله تعالى: >وَما يَنطِقُ عَنِ الهَوى إن هُوَ إلاّ وَحيٌ يُوحى< (النجم: 3 – 4)، وقوله تعالى: >قُل ما يَكُونُ لي أن أبَدّلهُ مِن تِلقاءِ نَفْسي إن اتّبعُ إلاّ ما يُوحى إليّ< (يونس: 15).
قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية: «فهذا يدلّ على أنّه(ص) ما حكم إلاّ بالوحي، وهذا يدلّ على أنّه لم يحكم قطّ بالاجتهاد»([44]).
ومنها قوله تعالى: >وَلا أقُولُ لَكُم إِنّي مَلَك إن اتّبعُ إلاّ مايُوحى إليّ< (الأنعام: 50)، وقوله تعالى: >قُل لا أتبعُ أهواءَكُم قَد ضَلَلْتُ إذاً وَما أنا مِن المُهتَدينَ< (الأنعام: 56)، وقوله تعالى: >قُل إنّما أتّبعُ ما يُوحى إليَّ مِن رَبِّي< (الأعراف: 203)، وقوله تعالى: >قُل ما كُنتُ بِدعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أدْرى ما يُفعَلُ بي وَلا بِكُم إنْ اتّبعُ إلاّ ما يُوحى إليّ< (الأحقاف: 9)، وقوله: >قُل لا أقولُ لكم عندي خزائن الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ إنّي ملك إن أتبع إلاّ ما يوحى إليّ< (الأنعام: 9).
يقول الفخر الرازي في تفسيره: «إنّ هذا النصّ يدل على أنه(ص) لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرةٌ من الوحي، ويتأكّد هذا بقوله: >وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى<([45]).
وجه الدلالة في هذه الآية – أعني قوله تعالى: >وما ينطق عن الهوى..< – أنّها تختصّ بالقرآن، وقرينه التخصيص موجودة، وهي أنّ النبي(ص) كثيراً ما كان يقول بالرأي في الحرب وأمور أخرى، فلا بد من التخصيص.
قلت: أمّا اختصاص الآية بالقرآن فمردود بما هو متفق عليه عند أهل العلم من أنّ خصوص المورد لا يخصّص الدليل الوارد، وأما ما ذكروه من القرينة فلا ينهض حجّةً للتخصيص؛ لأنّا لا نسلّم أنّ ذلك كان عن رأي، لجواز أن يكون عن إلهام.
ومنها قوله تعالى: >ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين< (الحاقّة: 64)، ووجه الدلالة أنّ الاجتهاد المخطئ نوع تقوّل على الله تعالى، والنبي(ص) منزّه عن كل نقص وشين. وبعبارة أخرى: إن الله تعالى لم يأخذ منه باليمين، فلم يتقوّل النبي(ص) على الله تعالى بعض الأقاويل، ولو بالاجتهاد الخطأ.
إن قلت: إذا كان عقاب التقوّل ما نطقت به الآية الشريفة فَلِمَ شُرِّع الاجتهاد مع ذلك.
قلت: لا يخفى أنّ ذلك خطابٌ للنبيّ(ص)، ولمّا كان مؤيّداً بالإلهام والوحي كان التقوّل حراماً عليه(ص) وعلى غيره من سائر أفراد البشر إن صدر عن عمد.
ومنها قوله تعالى: >قُل إنّما أنذركم بالوحي< (الأنبياء: 45)، وفي هذه الآية يقول المحامي الشواف: «أي قل لهم يا محمد: إنما أنذركم بالوحي الذي أنزل عليّ، ممّا يعني أنّ مصدره محصورٌ بالوحي..، ولا يصحّ أن تخصّص بأنّ ما ينطق من القرآن فقط، بل يجب أن تبقى عامّةً شاملة للقرآن والحديث..»([46]).
ومنها قوله تعالى: >عالمُ الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلُك من بين يديه ومن خلفه رصداً<.
مقولة: إفادة الاجتهاد الظنّ
إنّ الاجتهاد يفيد الظنّ، وهو(ص) قادرٌ على تلقّى الحكم الشرعي من الوحي أو بواسطة الإلهام الذي هو حجّة عليه وعلى غيره، والقادر على اليقين يحرم عليه اتّباع الظن.
وقول الحنفية: إن الوحي غير مقدور له، مردود بأنّ الوحي وإن لم يكن مقدوراً له(ص) إلا بمشيئة الله تعالى، إلاّ أنّ النبي(ص) لمّا كان مبلّغاً عن ربّه، وكانت كثرة الوقائع تحتاج إلى بيان الحكم المتعلّق بكل واقعة، كان نزول الوحي لطفاً في حقّ المكلفين لانحصار علمه بالسماء، واللطف واجبٌ كما حُقِّق في محلّه.
ظاهرة تأخير الجواب النبوي عن بعض المستجدّات
لو كان(ص) متعبّداً بالاجتهاد لما أخّر الجواب عن كثير مما سُئل عنه، مع ما نقل عنه(ص) أنّه توقّف في كثيرٍ من الأحكام حتى يَرِد الوحي، كما في مسألة الظهار واللعان([47]) وميراث الخال والعمّة حتى ينـزل عليه الوحي([48]).
يقول المحامي الشواف: «كان عليه الصلاة والسلام ينتظر الوحي في كثير من الأحكام، كالظهار واللعان وغيرها، وما كان يقول حكماً في مسألةٍ أو يفعل فعلاً تشريعيّاً أو يسكت سكوتاً إلا عن وحي من الله تعالى..»([49]).
ويقول الشوكاني: «واحتجّوا أيضاً بأنه(ص) كان إذا سُئل ينتظر الوحي، ويقول: ما أنزل عليّ في هذا شيء، كما قال لمّا سُئل عن زكاة الحمير؟ فقال: لم ينزل عليّ في ذلك إلا هذه الآية الجامعة: >فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقالَ ذرّةٍ شرّاً يره<.
وكذا انتظر الوحي في كثير مما سُئل عنه، مثل انتظاره(ص) في مسألة الظهار في قصّة خولة بنت ثعلبة، حتى نزلت عليه الآيات الأولى من سورة المجادلة»([50]).
روى ابن ماجة عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي(ص) وأنا في ناحية البيت تشكو زوجها وما أسمع ما تقول، فأنزل الله: >قد سمع الله قولَ التي تجادلك في زوجها< ([51]).
التفكيك بين الدين والقوانين البشرية
إذا كان الدين يخضع لنظرية البشر، فما هو الفرق حينئذٍ بين الدين وبين القوانين البشرية؟ وما هو الأثر الذي يمكن أن يكون للأحكام والقوانين التي ترشّح من الفكر المادي المتغير للبشر في تكامل المجتمع، يقول تعالى: >عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فإنه يسلُك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيء عدداً< (الجن: 26 – 28).
مبدأ عدم أمر الله باتّباع الخطأ
يقول المحامي الشواف: «إن الاجتهاد معناه احتمال وقوع الخطأ، وبما أنه(ص) واجب الاتّباع فيعني أنه لو اجتهد وأخطأ لوجب علينا اتّباع الخطأ، وهذا أمرٌ باطل، لأن الله لا يمكن أن يأمر باتّباع الخطأ»([52]).
فإن قيل: إذا كان الحكم كما ذكره المحامي فَلِمَ شرّع الاجتهاد مع ذلك؟
قلنا: إنّ كلام الأستاذ المحامي يدور حول النبي(ص) ولمّا كان مؤيّداً بالإلهام والوحي كان الاجتهاد حراماً عليه(ص) وعلى غيره من سائر أفراد البشر إن صدر عن عمد، كما ذكرنا آنفاً.
مبدأ العصمة النبويّة عن الخطأ
يقول المحامي الشواف: «وفوق كلّ ذلك، فإنه معصومٌ عن الخطأ في التبليغ، ولا يجوز في حقّه احتمال الخطأ في التبليغ مطلقاً؛ لأن جواز الخطأ على الرسول ينافي مقدّمات الرسالة والنبوّة، فالإقرار بالرسالة في النبوّة يحتم الإيمان بعدم جواز الخطأ على الرسول في التبليغ وعصمته عن ذلك، وعليه فلا مجال مطلقاً للاجتهاد فيما يبلّغه من الأحكام»([53]).
مبدأ المنع عن مخالفة الرسول(ص)
إذا جاز عقلاً الاجتهاد في حقّ النبي(ص) فإنّ اجتهاده يكون دون النصّ، فيكون ظنياً محتملاً للخطأ، فتجوز مخالفته كاجتهاد غيره، ولكن مخالفة الرسول(ص) غير جائزة؛ لأن هذا يُبطل الغرض من بَعثه للناس، وهذا واضح البطلان، ولقوله تعالى: >ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يُدخله ناراً خالداً فيها.. < (النساء: 14)، إذاً الاجتهاد غير جائز في حقّه(ص).
مقولة العلم النبويّ الحضوري
لابدّ وأن يكون علم النبي(ص) بالموضوعات الخارجية الجزئية الصرفة، وكذا موضوعات الأحكام الكلية، وخصوصاً الأحكام الإلهية، حضورياً؛ لأن جهله بالموضوعات نقصٌ في رتبته وحطٌّ من منزلته، فيما بيانها من خصائصه ووظائفه، وأيضاً لا يجوز أن يُسأل عن حكم لم يكن علمه لديه حاضراً، وإلا لم يكن الحجّة على العباد، بل ولبطلت نبوّته وإمامته.
وبعبارة أخرى: إنّ العقل يرى أنّ اللطيف جلّ شأنه يجب أن يجعل حجّةً بينه وبين عباده يقوم بتبليغ أحكامه، وبيان نظامه، وذلك الحجّة جامعٌ لجميع صفات الكمال، وعار عن جميع خصال النقص، ولا يكون فيه ما يجعله عرضةً للانتقاص، ومسرحاً للتوهين، ومحلاً للانتقاد، بل يجب أن يكون المنـزّه عن النقائص في الخَلق والخُلق، ليصلح أن تقوم به الحجّة، ولا تكون لأحد عليه حجّةٌ أو تطاول في فضل أو علم.
وأين هذا من القول بجهلهم بتلك الأمور التي تؤول بهم إلى تلك اللوازم السيّئة والأعمال الممقوتة؟ وكيف تتفق تلك الخلال اللازمة مع أغراض ذلك الحكيم اللطيف، وألطاف ذلك القدير العليم؟! وكيف يأمر جلّ شأنه باتّباع من يجوز عليه الخطأ والغلط، ويحذّر من مخالفة من لا يؤمن من عثاره؟ وكيف يوجب الطاعة والتسليم لمن يسوغ سهوه ونسيانه، والفشل بجهله، ويزجر عن الاعتراض على من يخاف من سقطاته، ويخشى من هفواته..؟! أفيجوز على الحكيم أن ينصب علماً للناس مَن هاتيك شؤونه، وهذه صفاته؟!
الدليل على العلم الحضوري النبوي
بعث النبي(ص) للعالم أجمع، وللخليقة التي على المعمورة كافّة، للهيمنة عليها بأسرها، وتعميم الشريعة للعالم أجمع يتطلّبان الكفاءة والمقدرة اللتين لا تكونان في البشر مهما كان له من العلم والقدرة، وقوّة الفكر والمزاج، واعتدال الطبائع؛ فلابد وأن يكون لصاحب هذه الدعوة وتلك السيطرة من العلم الخاصّ والحضوري من لدن العالم جلّ وعلا ما يحيط بكلّ الأمور، ولولاه لكانت الرسالة ناقصةً، والإصلاح والعدل غير شاملين، فعلمه الحضوري بالأمور من أسس تلك الرسالة العامّة، وقاعدة لزومية لتطبيق تلك الشريعة الشاملة.
وممّا يؤيد ضرورة هذا العلم الحضوري:
1ـ إن الأكمل في الرسالة أن تكون الصفات في الرسول أتمّ الصفات، ولا تكون أتمّها ما لم يكن علمه حضورياً غيرَ معلّق على الإرادة؛ لأن العلم المعلّق على الإرادة كمالٌ لا أكمل، وفضيلةٌ لا أفضل.
2ـ إن إرسال الرسل والأنبياء من النِعم التي أسبغها المولى تعالى على عبيده، والتي يجب أن يشكرها العباد دوماً، معترفين بفضلها، مقرّين بجزيلها. أليس الأجدر في هذه النعم التي منّ بها اللطيف سبحانه على عباده أن تكون على أتمّ حال وأكمل صنعة وأحسن صبغة، مع قدرته جلّ شأنه على هذه الأتمّية، وعدم المانع عن إيجادها على صفة الأكملية وصبغة الأحسنية، أو تكون على صفة التمام والكمال، لا الأتمية والأكملية؟!
لا يرتاب العقل في أنه من كمال المنّة أن تكون النعمة أسبغ، والصفة أفضل، والصبغة أحسن، كما لا يشكّ في أن العلم الحضوريّ هو الأسبغ في النعمة، والأكمل في الصنعة، والأفضل في الصفة، مع قابلية المحلّ والحاجة إليه.
3ـ إنّ إرسال الرسل، وجعل الحجج، وإقامة البيّنات لطفٌ منه جلّ شأنه، وهل الأكمل في اللطف أن يكون على أجمل صورة، وأفضل صنعة، وأكمل تركيب، أو أن يكون على وجهٍ يحصل به اللطف من الجمال في الصورة، والكمال في التركيب، والفضل في الصنعة، والحجّة في الدلالة، غير أنه على غير الأعلى والأسمى، والأتمّ في الحجة، والأكمل في الدلالة.
لا يشكّ العقل في أنّ اللطيف جلّ لطفه إنما يجري نعمه وألطافه وحججه وآياته على الأتمّ الأرفع، الأجمل الأصبغ.
4ـ إنّ صفات الرسول(ص) مثالٌ لصفات الجليل تبارك اسمه؛ ولا شبهة في أن الأبلغ في المثالية أن تكون صفاتهم أكمل الصفات، وخصالهم أفضل الخصال؛ فالعلم الحضوري هو الأولى؛ لأنه الأبلغ في المثالية.
والذي يدلّ على ذلك أن لهذا العالم الملموس موجداً ابتدعه يلتمس الوصول إليه، والاهتداء إلى الوقوف عليه، وبالآثار يتعرّف ذلك المبدع الموجد، وأقربها إلى حسّه أن يكون له مثال يكشف عن سموّ صفاته، بعد أن تعذّر عليه الوصول إلى قدسيّ ذاته.
فإذا عرفنا بالآثار أن خاتم الأنبياء أكمل العالم صفاتاً وأفضلهم عملاً، عرفنا أنّ المثالية فيه أتمّ، أليس الأجدر فيها أن تكون على الطراز الأعلى والسنام الأرفع، أم على وجهٍ لا يخلو من قصور؟!
5ـ إنّ الرسول الأمين(ص) دليلٌ على الموجد سبحانه، المتفضّل بسوابغ النعم التي تفوق حدّ الإحصاء، والدليل يجب – بحكم العقل – أن يكون صالحاً للقيام بوظيفته.. أليس الأبلغ في الولاية والأمثل في الإشارة أن يكون الدليل على أحسن سمةٍ وأفضل صفة، أو يكفي فيه أن يتحلّى بمحاسن الخصال، وإن كان ثمّة ما هو أرفع مقاماً، وأعلى منزلة؟!
لا يشكّ العقل في أنّ الأجدر من الدليل أن يكون أعلى منزلة، إذا كان المدلول عليه لا يحيط به الوصف، ولا يصل إلى كنهه الحسّ، ليكون أقرب إلى الإشارة في تعريفه، وأقدر على البيان في وصفه.
6ـ إنّ النبي(ص) سفيرُ الله تعالى في الناس وأمينه على خلقه وشهيده عليهم، وكيف يكون الشهيد على الناس والسفير فيهم والأمين عليهم من لا يعلم شيئاً من حالهم، ولا يدري ماذا كان عملهم، ولا يكون خبيراً بما تجنّه ضمائرهم، وتطويه سرائرهم..؟!
فلو كان علمه حضورياً لحقّ أن يكون الشهيد على الأمّة، المخبر عمّا تعمله، والأمين على الناس الناصح لهم، والسفير فيهم، والوسيط بينه تعالى وبينهم، والمبلغ عنه أحكامه وتعاليمه، وعنهم الطاعة والعصيان.
7ـ لقد نطق القرآن المجيد في عدّة آيات بعلمه الحضوري، نذكر منها بعض الآيات الكريمة، مثل قوله تعالى: >ولا يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم< (آل عمران: 7)، حيث دلّ على أنّ النبي(ص) من الراسخين في العلم، الذين قرن الله جلّ شأنه علمهم بالتأويل بعلمه، فعلمهم بالتأويل في عرض علمه؛ وكيف يعلمون التأويل وعلمهم غائبٌ عنهم؟ وكيف يقرنهم جلّ شأنه في العلم بعلمه وعلمهم غير حاضرٍ لديهم؟
ومن هذه الآيات: >عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول< (الجنّ: 26)، ولا شكّ في أنّ نبيّنا الأكرم ممن ارتضاه تعالى للاطلاع على غيبه، بل الأخبار في تفسير هذه الآية الكريمة صريحةٌ بهذا، وهل العلم الحضوري إلاّ الاطلاع على الغيب؟ وهل المستبعد المستعظم لحضوريّ علمه إلا لكونه غيباً؟ والغيب مما استأثر به العلاّم جلّ شأنه، فأين هو عمّا نوّهت به هذه الآية الكريمة؟
ومنها قوله تعالى: >فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيد< (النساء: 41)، وقوله تعالى: >وجاءت كلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيد< (ق: 21)، إلى غيرها من الآيات المصرّحة بوجود الشاهد على الأمّة يوم البعث والحساب، وقد فسّرت بالنبي(ص) وأوصيائه الأمناء، وكيف يكونون الشهداء على الناس، وهم لا يعلمون بالعلم الحضوري؟ وهل يكون الشاهد إلا الحاضر المطّلع؟
ومنها قوله تعالى: >ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء< (النحل: 89)، فبهذا نفهم أنه(ص) عالمٌ بكلّ شيء، ولا يكون ذلك إلا بالعلم الحضوري.
الدليل الروائي على عصمة النبي(ص) عن السهو والخطأ
تكاثرت الروايات الواردة في وجوب تنزيه النبي(ص) عن الخطأ والسهو والنسيان منها:
1ـ ما رواه مسلم عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة: خرج النبي(ص) من غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، فجاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: >إنّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيراً< ([54]).
2ـ وروى الترمذي عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي(ص) قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ(ص): >إنّما يريدُ اللهُ ليُذهب عنكُم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيراً< في بيت أمّ سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء، وعلي خلف ظهره، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا نبيّ الله؟ قال: إبقي على مكانك، وأنت على خير([55]).
3ـ روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة، عن رسول الله(ص) أنّه قال: لا أقول إلاّ حقاً، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله، فقال: إنّي لا أقول إلاّ حقّاً([56]).
4ـ وروى أحمد أيضاً عن عبدالله بن عمر وقال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله(ص) أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله(ص) وهو بشر يتكلّم في الغضب والرضا، فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله(ص)، فقال(ص): اكتُب فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلاّ حقّ([57]).
5ـ روى السيوطي في الدرّ المنثور في تفسير قوله تعالى: >وما ينطق عن الهوى< قال: أخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء وحبة قالا: أمر رسول الله(ص) أن تسدّ الأبواب التي في المسجد؛ فشقّ عليهم، قال حبة: إنّي لأنظر إلى حمزة بن عبدالمطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان وهو يقول: أخرجت عمّك وأبا بكر وعمر والعباس، وأسكنت ابن عمك؟ فقال رجل يومئذ ما يألو يرفع ابن عمّه. قال: فعلم رسول الله(ص) أنّه قد شقّ عليهم، فدعا الصلاة جماعة، فلما اجتمعوا صعد المنبر، فلم يسمع لرسول الله(ص) خطبةٌ قطّ كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً، فلمّا فرغ قال: يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته، ثمّ قرأ: >والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى<([58]).
6ـ وأخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير قال: كان جبريل ينزل بالسنّة كما ينـزل بالقرآن([59]).
نظرية تجويز الاجتهاد النبوي، قراءة في الأدلّة والشواهد
استدلّ مثبتو الاجتهاد النبوي بوجوه:
النصّ القرآني وشرعنة الاجتهاد النبوي
أ – قوله تعالى: >إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكُم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً< (النساء: 105).
وجه الدلالة: أن المراد بالإراءة الرأي، والمعنى: لتحكم بما جعله الله لك رأياً.
ويلاحظ عليه: أنّ المراد بالإراءة في الآية الكريمة إيجاد الرأي وتعريف الحكم، فيكون مضمون الآية – على ما يُعطيه السياق – أن الله أنزل إليك الكتاب، وعلّمك أحكامه وشرائعه وحكمه، لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي، وعرّفك من الحكم فتحكم بين الناس، وترفع بذلك اختلافهم([60]).
قال الفخر الرازي: «إعلم أنه ثبت بما قدّمنا أنّ قوله: >لتحكم بين الناس بما أراك الله< معناه: بما أعلمك الله، ويسمّى ذلك العلم بالرؤية؛ لأنّ العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوّة والظهور.. ثم يقول: إذا عرفت هذا فنقول: قال المحقّقون: هذه الآية تدلّ على أنه ما كان يحكم إلا بالوحي والنصّ، وأنّ الاجتهاد ما كان جائزاً له.. »([61]).
ب – قوله تعالى: >ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرضَ الدنيا والله يُريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتابٌ من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم< (الأنفال: 67 – 68).
يقولون: إن النبي(ص) مال إلى رأي أبي بكر، بل وانزعج من مشورة عمر، فنزل القرآن بمخالفته، وموافقة عمر، فلما كان من الغد غدا عمر على رسول الله(ص) فإذا هو وأبا بكر يبكيان، فسأل عن سبب ذلك، فقال الرسول(ص): إن كاد ليسمنا في خلاف ابن الخطّاب عذابٌ عظيم، لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب([62]).
قال الجويني: «فأمّا الذين قالوا: إنّ الشرع ورد بتعبّده(ص) وبالاجتهاد، فقد استدلّوا بما جرى من أمر أسارى بدر، فإنّ النبي(ص) فاداهم باجتهاده ورأيه، ولم يُقْدم على ذلك عن قضية وحي، ولهذا عاتبه الربّ تعالى في قوله: >ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض<، وكان عمر بن الخطاب أشار على النبي(ص) أن يقتلهم، فقال(ص) عند نزول الآية: «لقد كان العذاب أقربَ إلينا من هذه الشجرة، ولو أنزل لما نجا منه إلاّ عمر»([63])، وقالوا: فهذه الآية مع سبب نزولها دلالة واضحة على حكمه(ص) بالاجتهاد».
يُلاحظ عليه:
أولاً: إنه لا يُعقل أن يكون قوله تعالى: >تريدون عرضَ الحياة الدنيا<، وقوله تعالى: >لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم< خطاباً للنبي(ص)، إذ لم يكن(ص) طالباً لعرض الدنيا، ولا مستحقّاً لذلك العذاب العظيم؛ لأن معنى ذلك أنّ الله تعالى قد أمر بأمرٍ، وبيّنه له، ثم خالفه والعياذ بالله، فإن الالتزام بهذا من أعظم العظائم، وجريمةٌ من أكبر الجرائم.
ويدلّ على ذلك: أنه جاء في بعض النصوص أنّ جبرئيل نزل على النبي(ص) يوم بدر، فقال: إن الله قد ذكره ما صنع قومك من أخذ الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموهم، ويضربوا أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر النبي(ص) ذلك لأصحابه، فقالوا: يا رسول الله! عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ فداءهم، فنتقوّى به على عدوّنا، ويستشهد منا عدتهم([64]).
فما تقدّم يدل على أن تخييرهم هذا إنما كان بعد تأكيدهم على رغبتهم في أخذ الفداء، وظهور إصرارهم عليه، فأباح لهم ذلك.
وبعد ما تقدّم نقول: لقد نصّ بعضٌ على أن النبي(ص) مال إلى القتل([65])، وذكر الواقدي أن الأسرى قالوا: لو بعثنا لأبي بكر، فإنه أوصل قريش لأرحامنا، ولا نعلم أحداً آثر عند محمد منه، فبعثوا إليه فجاءهم فكلّموه، فوعدهم أن لا يألوهم خيراً، ثم ذهب إلى النبي(ص) فجعل يفثؤه ويلينه، وعاوده بالأمر ثلاث مرات، كلّ ذلك والنبيّ(ص) لا يُجيب([66]).
فهل يصحّ قولهم: إن النبي(ص) قد جلس يبكي على نفسه مع أبي بكر، وأنّه لو نزل العذاب لم ينج منه سوى عمر بن الخطاب؟!
ثانياً: إنّ الالتزام بما ذكروه معناه تكذيب قوله تعالى: >وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يُوحى< (النجم: 3 – 4).
كما أنه لا يبقى معنى – والحالة هذه – لأمر الله تعالى للناس بإطاعة الرسول(ص) حيث قال: >أطيعوا الله وأطيعوا الرسول< (النساء: 59)، حتى إذا امتثلوا الأمر الإلهي وأطاعوه يؤنّبهم، ثم يتهدّدهم، لقد كان يجب أن يتوجّه التأنيب والتهديد للرسول(ص)، والمدح والثناء لهم، لأنهم عملوا بوظيفتهم.
ثالثاً: إنّ مجرد الإشارة على الرسول بالفداء لا تستوجب عقاباً، إذ غاية ما هناك أنّهم اختاروا غير الأصلح، وإذاً فلابدّ أن يكون ثمّة أمرٌ آخر قد استحقّوا العقاب لمخالفته، وهو أنهم حين أصرّوا على أخذ الفداء أصرّوا على مخالفة الرسول(ص) لهم بصورةٍ صريحة؛ إذ لا عقاب قبل البيان، ثم المخالفة.
ولكنّ الله تكرّم وتفضّل عليهم، وغفر لهم هذه المخالفة، وأباح لهم أخذ الفداء تأليفاً لهم، على ما فيه من عواقب وخيمة. وقد بلغ من حبّهم لعرض الدنيا أنّهم قبلوا بهذه العواقب أيضاً.
بل يمكن أن يكون إصرار بعض المهاجرين على أخذ الفداء راجعاً إلى أنهم قد صعب عليهم قتل صناديد قريش، حيث كانت تربطهم بهم صداقات ومصالح ووشائج، فهذا التعاطف مع المشركين من قبل بعضهم، ثمّ حبّ الحصول على المال، جعلهم يستحقّون العذاب العظيم، الذي إنما يترتّب على سوء النيّات، وعلى الإصرار على مخالفة الرسول(ص)، والنفاق في المواقف والأقوال والحركات، لاسيّما مع وجود رأيٍ يطالب بقتل بني هاشم الذين أخرجهم المشركون كرهاً، ونهي الرسول(ص) عن قتلهم، مع ملاحظة أنه لم يشترك من قوم صاحب ذلك الرأي أحد في حرب بدر، أما الخطأ في الرأي – مجرّداً عما ذكرناه – فلا يوجب عقاباً.
رابعاً: لمّا كان يوم بدر تعجّل الناس من المسلمين، فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله(ص): لم تحل الغنائم لقومٍٍ سود الرؤوس قبلكم، كان النبي(ص) – يعني من السابقين – إذا غنم هو وأصاحبه جمعوا غنائمهم، فتـنـزل نار من السماء على كلّها، فأنزل الله عزّ وجلّ: >لولا كتابٌ من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذابٌ عظيم فكُلوا مما غنمتُم حلالاً طيباً<، وقد قوّى الطحاوي هذه الرواية في شأن نزول الآية، فراجع([67]).
خامساً: روى الطبري، عن محمد بن إسحاق، قال: لمّا نزلت هذه الآية: >ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى<، قال رسول الله(ص): لو نزل عذابٌ من السماء لم ينجُ إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا رسول الله، الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال([68]).
ولعلّ هذا هو الصحيح؛ لأنه أسدّ الآراء، وهو الموافق لمراد النبيّ(ص).
قال المحامي منير محمد طاهر الشواف: «وأما الآيات التي أوردها من يقولون بأنّ الرسول اجتهد بالفعل، والتي توهّموا حصول الاجتهاد فيها، فإنّه لا يوجد فيها آيةٌ تؤيّد ذلك مطلقاً..»([69])، وقال أيضاً: القول بأنّ نبينا محمد(ص) اجتهد في بعض الأحكام، وأنّه أخطأ في بعض اجتهاده، ثم صحّح الله له هذا الخطأ، يعني أنّه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الناس شريعته من اجتهاده الشخصي لا من وحي الله إليه، وهذا كلّه باطل عقلاً؛ لأن محمداً(ص) – كباقي الأنبياء والرسل – معصومٌ عن الخطأ فيما يبلّغه عن الله تعالى عصمةً قطعية دلّ عليها الدليل العقلي.
وفوق ذلك كلّه، ورد الدليل الشرعي القطعي الثبوت والدلالة أنّ تبليغه عليه الصلاة والسلام الرسالةَ في كلّياتها وجزئياتها إنّما كان عن الوحي، وما كان يبلّغ الأحكام إلا عن الوحي. قال تعالى: >قل إنّما أنذِرُكم بالوحي< (الأنبياء: 45)، أي قل لهم يا محمد: إنّما أنذركم بالوحي الذي أنزل عليّ، ممّا يعني أن مصدره محصورٌ بالوحي، وقال تعالى: >وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحيٌ يوحى< (النجم: 3 – 4)، فكلمة «ما ينطق» من صيغ العموم، فيشمل ذلك القرآن والسنّة، ولا يوجد ما يخصّصها بالقرآن لا من الكتاب ولا من السنّة، فتبقى على عمومها وجميع ما ينطقه من التشريع هو من الله، ولا يصحّ أن تخصّص بأنّ ما ينطقه من القرآن فقط، بل يجب أن تبقى عامةً شاملة للقرآن والحديث، كما ورد معنا في بحث السنّة..([70]).
وقال في موضع آخر: «ويشمل الوحي أقوال الرسول وأفعاله وسكوته، فنحن مأمورون باتّباعه، قال تعالى: >وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا< (الحشر: 7)، وقال تعالى: >لقد كان لكُم في رسول الله أسوةٌ حسنة< (الأحزاب: 21)، فكلام الرسول وفعله وسكوته دليلٌ شرعي؛ لكونه وحياً من الله تعالى، وقد كان رسول الله سيّدنا محمّد(ص) يتلقّى الوحي، ويبلّغ ما يأتيه من الله تعالى، ويعالج الأمور بحسب الوحي، ولا يخرج عن الوحي مطلقاً، قال تعالى: >إن أتّبع إلا ما يُوحى إليّ< (يونس: 15)، وقال تعالى: >إنّما أتبع ما يوحي إليّ من ربي< (الأعراف: 203)، أي لا أتّبع إلا ما يوحى إليّ من ربّي؛ فحضّ عليه الصلاة والسلام أتباعه بما يُوحى إليه من ربّه، وهذا كلّه صريحٌ وواضح وظاهر في العموم..»([71]).
وقال أيضاً: «فمسألة أنّ الرسول(ص) مجتهدٌ أو غير مجتهد من العقائد، وليس من الأحكام الشرعية، فدليله يكون عقلياً ويكون شرعياً، وحيث إنه ثبت بالدليل العقلي والدليل الشرعي أنه لا يجوز في حقّ الرسول أن يكون مجتهداً فهو عقيدة من العقائد يجب التصديق والإيمان الجازم بها»([72]).
ج – قوله تعالى: >فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظّاً غليظَ القلب لانفضّوا من حَولك فاعفُ عنهم واستغفِر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزَمت فتوكّل على الله إنّ الله يحبّ المتوكّلين< (آل عمران: 159).
تقول الدكتورة نادية شريف العمري: «وقد اتفق العلماء على أنّ كلّ ما نزل فيه وحيٌ من عند الله لم يَجُز للرسول(ص) أن يشاور فيه الأمّة؛ لأنّه إذا جاء النصّ بطل الرأي والقياس..»([73]).
ويُلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في سلسلةٍ من آيات 139 إلى 166 من سورة آل عمران، وكلّها في أمر غزوات الرسول(ص)، وكيف نصرهم الله فيها، وفي بعضها يخاطب المسلمين وخاصّةً الغزاة منهم ويعظهم، وفي بعضها يخاطب الرسول(ص) خاصّة، ومن ضمنها هذه الآية: >وشاورهم في الأمر..<، فيظهر جلياً أنّ الأمر بالمشاورة في هذه الآية كان يقصد الملاينة معهم والرحمة بهم، ولم يكن أمراً بالعمل برأيهم.
روى ابن عباس أنّه لمّا نزلت: >وشاورهم في الأمر<، قال رسول الله(ص): «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لأمّتي..»([74]).
نصّ السنّة وشرعنة الاجتهاد النبوي
استدلّت الدكتورة نادية شريف العمري أيضاً؛ لإثبات اجتهاد الرسول(ص)، بما رواه البخاري عن ابن عمر قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة المنوّرة بجتمعون فتحين الصلاة ليس ينادى لها، فتكلّموا يوماً فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود. فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال(ص): «يا بلال! قُم فناد بالصلاة»([75]).
ويُلاحظ عليه:
أولاً: إنّ الحديث لا يتّفق مع مقام النبوّة؛ لأنّ الله سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة، وطبع القضية يقتضى أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقّق هذه الأمنية، فلا معنى لتحيّر النبي(ص) أياماً طويلة أو عشرين يوماً – على ما في رواية أبي داود – وهو لا يدري كيف يحقّق المسؤولية الملقاة على عاتقه، فتارةً يتوسّل بهذا، وأخرى بذاك؛ حتى يرشد إلى الأسباب والوسائل التي تؤمّن مقصوده، مع أنه تعالى يقول في حقّه: >وكان فضل الله عليك عظيماً< (النساء: 113)، والمقصود من الفضل هو العلم بقرينة ما قبله: >وعلّمك ما لم تكن تعلم<.
ثانياً: قد أوردنا هذا القسم من الروايات حول تشريع الأذان في كتابنا في الفقه المقارن، وناقشنا في إسنادها، فلا نطيل بذكرها هنا، مع أنّه قد وردت أحاديث أخر في مقابل تلك الأحاديث عن النبيّ الأكرم تدلّ على أنّ المشرّع للأذان هو الله تعالى، وأنّه هبط جبرئيل، وعلّم رسول الله(ص)، وهو علّمه بلالاً، ولم يُشارك في تشريعه أحد:
1ـ روى الحاكم عن سفيان بن الليل قال: «لمّا كان الحسن بن علي ما كان قدمت عليه المدينة قال: فقد ذكروا عنده الأذان فقال بعضنا: إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله بن زيد، فقال له الحسن بن علي: إنّ شأن الأذان أعظم من ذلك، أذن جبرئيل في السماء مثنّى، وعلّمه رسول الله وأقام مرّة مرّة، فعلمه رسول الله(ص)»([76]).
2ـ روى المتقي الهندي، عن هارون بن سعد، عن الشهيد زيد بن الإمام عليّ بن الحسين، عن آبائه عن عليّ إنّه قال: «إنّ رسول الله(ص) علم الأذان ليلة أسرى به وفرضت عليه الصلاة»([77]).
3ـ روى الحلبي عن أبي العلاء قال: «قلت لمحمّد بن الحنفية: إنّا لنتحدّث أنّ بدء الأذان كان من رويا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعاً شديداً وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرايع الإسلام ومعالم دينكم، فزعمتم أنّه كان من رويا رآها رجل من الأنصار في منامه، يحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام، قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا والله الباطل..»([78]).
4ـ وروى المتقي الهندي أيضاً أنه لمّا سرى برسول الله(ص) إلى السماء أوحي إليه بالأذان، فنزل به فعلّمه جبرئيل([79]).
بشريّة النبيّ(ص) ومسألة الاجتهاد
يقول الدكتور محمد سلام مدكور: «..وكثيراً ما كرّر أنه بشر؛ حتى لا يجعل لقوله وعمله العصمة في كلّ تصرّف وقول من عنده، فيؤول أمره في نظر الناس إلى ما آل إليه أمر عيسى من قبل، لكنه – صلوات الله عليه – فيما وراء الرسالة كان إنساناً، فله العصمة فيما أرسل به للناس من قِبَل الله وحي متلوّ وغير متلو، وله حكم الإنسان المجتهد فيما أفتى به من قولٍ أو فعل غير ذلك..»([80]).
وقال أيضاً: «وما دام الرسول بشراً وله عقلٌ ناضج وفكر سليم فإنّه قادر على الاجتهاد، ومن شأن المجتهد أن يصيب ويخطىء..»([81]).
ويلاحظ عليه أن قوله: «وكثيراً ما كرّر أنه بشر حتى لا يجعل لقوله وعمله العصمة..»، فيه أنّه خلاف الواقع، وخلاف ما ورد في الآيات والروايات والتاريخ الصحيح؛ إذ يستفاد منها أن الوثنيّين كانوا يعتقدون بأنّ النبي(ص) لا يجوز أن يكون بشراً؛ لأنّ البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب، وهو متعلّق بالمادّة منغمرٌ في ظلماتها، متلوّث بقذارتها، ولذا قال الله تعالى – حكايةً عنهم – : >وقالوا ما لهذا الرّسول يأكُل الطعامَ ويمشي في الأسواق..< (الفرقان: 7)، ولذا يتوسّلون في التوجّه إلى الله بالملائكة، فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله، ويقرّبوهم من الله زلفى، فالملائكة هم المقرّبون عند الله، المتصلون بالغيب، المتعيّنون للرسالة لو كانت هناك رسالة، وليس للبشر شيءٌ من ذلك؛ ولذا قال تعالى – حكايةً عنهم – : >..لولا أنزلَ إليه مَلَكٌ فيكون معه نذيراً أو يُلقى إليه كنزٌ أو يكون له جنّةٌ يأكُلُ منها.. < (الفرقان: 7 – 8).
من هنا، يظهر معنى قولهم: >ما لهذا الرّسول يأكُل الطعامَ ويمشي في الأسواق<، وأنّ المراد أن الرسالة لا تتّفق مع أكل الطعام والمشي في الأسواق لاكتساب المعاش، فإنها اتصالٌ غيبي لا يُجامع التعلّقات المادية، وليست إلاّ من شؤون المادية؛ ولذا قالوا في غير موضعٍ – على ما حكاه الله تعالى – : >لو شاء الله لأنزلَ ملائكةً< (المؤمنون: 24)، وقال الله تعالى في الجواب عنهم: >قل إنّما أنا بشرٌ مثلُكم يوحَى إليّ أنّما إلهُكُم إلهٌ واحدٌ<، أي إنّما تميّزت عنكم بالوحي، >فمن كان يرجوا لقاءَ ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربّه أحداً< (الكهف: 110).
روى السيوطي عن ابن عباس أنّه قال: نزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً غيره، وليست هذه في المؤمنين([82]).
وروى الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمد الحسن العسكري % أنه قال: قلت لأبي علي بن محمد %: هل كان رسول الله(ص) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال: بلى مراراً كثيرة. إنّ رسول الله(ص) كان قاعداً ذات يومٍ بمكّة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعةٌ من رؤساء قريش، منهم الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو الختري ابن هشام، وأبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، وعبدالله بن أبي أميّة؛ إذ إبتدأ عبدالله بن أبي أميّة المخزومي فقال: يا محمد! لقد ادّعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالاً هائلاً، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلَك رسولُه بشرٌ مثلنا تأكل كما نأكل، وتشرب كما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي.
فقال رسول الله(ص): اللهم أنت السامع لكلّ صوت، والعالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه: يا محمد! >وقالوا ما لهذا الرسول يأكُل الطعامَ ويمشي في الأسواق< إلى قوله عزّ وجلّ: >مسحوراً<، ثم أنزل الله عليه: >قل إنّما أنا بشرٌ مثلُكم<، يعني آكلُ الطعام وأمشي في الأسواق، >يُوحى إليّ أنّما إلهُكم إلهٌ واحد<، يعني قل لهم: أنا في البشرية مثلكم، ولكن ربّي خصّني بالنبوّة دونكم، كما يخصّ بعض البشر بالغنى والصحّة والجمال دون بعضٍ من البشر، فلا تنكروا أن يخصّني أيضاً بالنبوّة دونكم..([83]) والحديث طويل أخذتُ منه موضع الحاجة.
وممّا ذكرنا، يظهر الجواب من الروايات التي استدلّ بها الدكتور محمد سلام مدكور على كون الرسول(ص) مجتهداً، حيث قال: «يروى أنّ رجلاً دخل عليه(ص) يوماً يرجف خوفاً، وهمّ بالوقوع على قدميه، فقال له الرسول – فيما رواه ابن ماجة في باب الأطعمة – رويدك يا هذا، إنّما أنا بشر، أنا ابن إمرأةٍ أعرابية كانت تأكل القدي، وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه سمع النبيّ يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله»([84])، وغيرها من الروايات.
إذ هذه الروايات صدرت في مقابل من توهّم الربوبية والألوهية للنبيّ الأكرم(ص)، أو كان هذا العمل بخصوصه من خصائص الربّ والإله، وهذا لا يُنافي وجود خصوصيّات للنبيّ(ص) لا تكون لسائر الناس، ومع ذلك لايكون إلهاً وربّاً.
ويقول الدكتور محمد سلام مدكور أيضاً: «ومادام الرسول بشراً وله عقلٌ ناضج وفكر سليم فإنّه قادر على الاجتهاد، ومن شأن المجتهد أن يصيب ويخطىء، وفي الصحيحين: البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري أنه(ص) كان يقول: اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وما أنت أعلمُ به منّي، اللهمّ اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدّي، وكلّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، وأنت على كل شيء قدير»([85]).
ويُلاحظ عليه أنّ الأوحديّين من الرجال ربما يؤاخذون بلحنٍ خفيّ في كلام، أو بتبطّؤ يسير في حركة، أو بتفويت آنٍ غير محسوس، أو التفات، أو غمض عين ونحو ذلك فيعدّ ذلك كلّه ذنباً منهم، وليس من الذنب بمعنى مخالفة الموادّ القانونية، دينيةً كانت أو دنيوية، وقد اشتهر أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.
وكلّما دقّ المسلك ولطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقّق هذا الظرف مغفولاً عنها، لا يحسّ بها الإنسان المكلّف بالتكليف، ولا يُؤاخذ بها وليّ المؤاخذة والمحاسبة.
وينتهي ذلك – فيما يعطيه البحث الدقيق – إلى الأحكام الناشئة في ظرفي الحبّ والبغض، فترى عينُ البغض عامّةً – وخاصّة في حال الغضب – الأعمالَ الحسنة سيئةً مذمومة، ويرى المحبّ إذا تاه في الغرام واستغرق في الولَه أدنى غفلة قلبيّة عن محبوبه ذنباً عظيماً، وإن اهتمّ بعمل الجوارح بتمام أركانه، وليس إلا أنّه يرى أنّ قيمة أعماله في سبيل الحبّ على قدر توجّه نفسه، وانجذاب قلبه إلى محبوبه، فإذا انقطع عنه بغفلةٍ فقد أعرض عن المحبوب، وانقطع عن ذكره وأبطل طهارة قلبه بذلك.
حتّى أنّ الاشتغال بضروريّات الحياة من أكلٍ وشرب ونحوهما يعدّ عنده من العصيان؛ نظراً إلى أن أصل الفعل وإن كان من الضروريّ الذي يضطرّ إليه الإنسان، لكنّ كلّ واحدٍ من هذه الأفعال الاضطراريّة – من حيث أصله – اختياريّ في نفسه، والاشتغال به اشتغالٌ بغير المحبوب، وإعراضٌ عنه اختياراً، وهو من الذنب، ولذلك نرى أهل الوَلَه والغرام، وكذا المحزون الكئيب ومن على شاكلتهما يستكفون عن الاشتغال بأكلٍ أو شرب أو نحوهما.
ومن هذا القبيل، ينبغي أن يُحمل ما ربما يروى عنه(ص) من قوله: «إنّه ليُغان على قلبي فأستغفر الله كلّ يومٍ سبعين مرة»، وعليه يمكن أن يُحمل أيضاً بوجهٍ قوله تعالى: >واستغفر لذنبك وسبّح بحمد ربّك بالعشيّ والإبكار< (فاطر: 55)، وقوله تعالى: >فسبّح بحمد ربك واستغفره إنّه كان توّاباً< (النصر: 3).
وعليه يُحمل أيضاً ما حُكى عن عدّةٍ من الأنبياء الكرام، كقول نوح: >ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دَخَلَ بيتيَ مؤمناً< (نوح: 28)، وقول إبراهيم: >ربّنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يومَ يقومُ الحساب< (إبراهيم: 41)، وقول موسى لنفسه وأخيه: >ربّ اغفر لي ولأخي وأدخِلنا في رحمتك< (الأعراف: 151)، وما حُكي عن النبيّ الأكرم(ص): >..سمعنا وأطعنا غُفرانَك ربّنا وإليك المصير< (البقرة: 285)، وقوله تعالى: >..أولئك الذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيّين من ذرّية آدم وممّن حملنا مع نوحٍ ومن ذرّية إبراهيمَ وإسرائيلَ وممّن هدينا واجتبينا إذا تُتلى عليهم آياتُ الرّحمن خرّوا سُجّداً وبُكيّاً فخَلَفَ من بَعدهم خَلفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقَون غيّاً إلاّ من تابَ وآمن وعملَ صالحاً فأولئك يدخُلون الجنّة ولا يُظلمون شيئاً< (مريم: 58 – 60).
فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم وأنّهم يعيشون على الخضوع عملاً، وعلى الخشوع قلباً لله عزّ اسمه، فإنّ سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثل الخضوع، وبكاؤهم لرقّة القلب وتذلّل النفس آيةُ الخشوع، وهما معاً كنايةٌ عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلّما ذكّروا بآيةٍ من آيات الله بأن أثره في ظاهره، كما استولت الصفة على باطنهم، فهم على أدبهم الإلهي، وهو سمة العبودية إذا خلوا مع ربّهم، وإذا خلوا للناس فهم يعيشون على أدبٍ إلهيّ مع ربّهم، ومع الناس جميعاً.
ومن الدليل على أن المراد به الأدب العام قوله تعالى في الآية الثانية: >فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات<؛ فإن الصلاة – وهي التوجّه إلى الله – حالُهم مع ربّهم، واتّباع الشهوات حالُهم مع غيرهم من الناس، وحيث قوبل أولئك بهؤلاء أفاد الكلامُ أنّ أدب الأنبياء العام أن يواجهوا ربّهم بسمة العبودية، وأن يسيروا بين الناس بها، أي تكون حياتهم مبنيّة على أساس أنّ لهم رباً يملكهم ويدبّر أمرهم، منه بدؤهم، وإليه مرجعهم، فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم وأعمالهم.
ابن حزم الأندلسي وقصّة زواج النبي(ص) بزينب بنت جحش
قال ابن حزم: «قد يقع من الأنبياء قصدُ الشيء يريدون به وجه الله فيوافق خلافَ مراد الله تعالى، وأنّه تعالى لا يقرّهم على شيءٍ من هذا أصلاً، وربما عاتبهم على ذلك بالكلام، كما فعل مع نبيّنا في أمر زينب بنت جحش..»([86]).
ويلاحظ عليه:
أمّا قوله: قد يقع من الأنبياء قصد الشيء يريدون..، فقد أثبتنا خلافه بالأدلّة العقلية والنقلية.
وأمّا استدلاله بقصّة زينب بنت جحش، فإنّ الله تعالى يقول: >وإذ تقولُ للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه.. < (الأحزاب: 37 – 38)، وهم يقولون: نزلت هذه الآية عتاباً للنبيّ(ص) في إضماره حبّ زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة مولى رسول الله(ص)، وكان النبيّ دخل بيتها ففاجأته ريحٌ رفعت الستار، وإذا بها حاسرة، فأعجبه جمالُها، ووقع حبّها في قلبه الشريف، ولمّا علم الله بذلك كرّهها في نفس زيد ليطلّقها، ويتزوّجها النبيّ(ص)، فلمّا جاء زيد ليطلّقها، قال له النبيّ: أمسك عليك زوجك، قال ذلك وهو يحبّ أن تكون قد بانت منه لينكحها، فأظهر الله ما كان يخفيه النبيّ(ص) في قلبه الشريف..([87]).
هذا تفسير جمهور أهل السنّة لهذه الآية، وهو امتهانٌ للرسول(ص) وطعنٌ في شخصه الكريم بنسبة أمر لا يليق إليه، وهو رغبته في زوجة ربيبه، والنظر إليها بشهوة.
وبسبب هذه التفاسير تهجّم المستشرقون على النبيّ الأكرم(ص)، بأنّه كان مائلاً إلى الشهوات الجنسية ميلاً شديداً – نعوذ بالله تعالى – وألّفوا في ذلك تأليفات كثيرة، لتشويه سيرة رسول الله(ص)، مؤسّس الدين الحنيف.
والصحيح – وفق مذهب أهل البيت( – أنّ هذه الآيات نزلت لمحق عادةٍ جاهلية، كانت العرب لا تجيز التزويج بأزواج الأدعياء قياساً على أزواج الأبناء الحقيقيّين، فكانت مكافحة هذه السنّة الجاهلية بحاجةٍ إلى تضحية ممّن يعرض بنفسه للشناعة الراهنة ويتحمّلها، ومن ثم تحمّلها الرسول(ص) بنفسه كسراً لشوكتها.
فأوحى الله إليه أنّ زيداً سوف يطلّق زوجته، ولابدّ أن تتزوّجها أنت مَحقاً لشريعةٍ جاهلية، فلمّا أن وقع بين زيد وزوجته زينب تشاجرٌ وكراهية، وأراد طلاقها، نصحه النبي(ص) وقال له: >أمسك عليك زوجك واتق الله<، وهي وظيفة دينية إصلاحاً بين الزوجين مهما أمكن.
وقوله تعالى: >وتُخفى في نفسك ما الله مُبديه<، أي كنت تعلم أنّ من وراء الستر أمرٌ على شُرف الوقوع، وأنه سيطلّقها وتتزوّجها أنت كما أخبر الله تعالى، >وتخشى الناس< خوفاً من تعييرهم إيّاك، >والله أحقّ أن تخشاه<، أي أحقّ أن ترعاه في تطبيق شريعته ومكافحة شرائعَ جاهلية، وبقية الآية ظاهرة([88]).
من مجلة الاجتهاد والتجديد – العدد الأوّل.
الهوامش:
([9]) مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد 2: 291؛ والإحكام للآمدي 4: 165؛ والتحرير: 525؛ وتيسير التحرير 4: 183 وما بعدها؛ والتقرير والتحبير 3: 295؛ ومسلم الثبوت 2: 361؛ وأصول السرخسي 2: 91؛ وشرح الأسنوي 3: 194؛ وكشف الأسرار شرح أصول البزدوي 3: 925.
([14]) شرح الأسنوي 3: 192 ـ 194؛ والإحكام للآمدي 4: 165؛ وتيسير التحرير 4: 185؛ والتقرير والتحبير 3: 296.
([17]) إرشاد الفحول: 255؛ وشرح الأسنوي والبدخشي على المنهاج 3: 193 ـ 194؛ وتيسير التحرير 4: 184 ـ 185؛ والتقرير والتحبير 3: 296.
([19]) تيسير التحرير 4: 185؛ والتقرير والتحبير 3: 296؛ وكشف الأسرار للبخاري شرح أصول البزدودي 3: 925 ومابعدها؛ ومسلم الثبوت 2: 366.
([32]) نظام الحكم في الإسلام، للدكتور محمد فاروق النبهان: 356 ـ 358، نقلاً عن أصول التشريع الإسلامي: 86 ـ 88.
([48]) رواه أبو داود في المراسيل، والنسائي من مرسل زيد بن أسلم، ووصله الحاكم في المستدرك والطبراني في الصغير بذكر أبي سعيد.
([62]) تاريخ الخميس 1: 393؛ والمستصفى للغزالي 2: 356؛ وتاريخ الطبري 1: 169؛ والسيرة الحلبية 2: 190؛ وكنـز العمال 5: 265؛ والكامل 2: 136؛ ومغازي الواقدي 1: 107 و..