بدايةً، لابدّ من تسليط الضوء على نقطة الخلاف وبوضوح؛ فلربّما تمسّك الطرفان هنا بما يرجع ـ سلباً أو إيجاباً ـ إلى الشفاعة، والتوسّل، والاستغاثة، ممّا هو خارج عن الموضوع؛ فلا يُنكر أحدٌ من أهل السنة والشيعة إثبات الواسطة (الشفاعة)، والوسيلة (التوسّل)، والاستغاثة بالنبي 2 لقضاء الحاجات والتبرّك بأجزاء من بدنه وملابسهِ، وتقبيله في حياته الشريفة.
وهناك شواهد كثيرة على ذلك؛ من خلال عمل الصحابة في حياة النبي 2، بل كانت الاستغاثة والتوسّل بالأنبياء والأولياء في حياتهم من سُنن المجتمعات البشريّة، وهي عين التوحيد، فقد نقل القرآن الكريم موارد متعددة في هذا الخصوص؛ قال سبحانه: >وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ< (الأعراف: 134 ـ 135)؛ فقد جعل هؤلاء موسى % واسطةً للطلب من الله سبحانه كي يرفع عنهم العذاب من الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم([1])، وقد استجاب الله سبحانه دعاء موسى % ورفع العذاب عنهم بوساطته.
وقال سبحانه: > إلّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ< (الممتحنة: 4)([2])، وهكذا كان استغفار يعقوب % لأبنائه بعد أن طلبوا منه ذلك، قال سبحانه: >قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ< (يوسف: 97 ـ 98).
ويبيّن القرآن الكريم أيضاً استغفار الملائكة للمؤمنين، فقد جاء فيه: >الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ< (المؤمن: 7)، وحادثة توسّل أبي طالب بالنبي 2 وهو صغير لكي ينزل المطر حينما استسقى بوجهه معروفةٌ([3]).
وقد جاء في القرآن الكريم حول التوسّل بالنبي 2:>وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا< (النساء: 64)، بل يعتبر القرآن الإنفاق لصلوات الرسول 2 مضارعاً لنيّة القربة لله سبحانه: >وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ< (التوبة: 99).
وتعتبر الشفاعة والتوسّل بالأنبياء والأولياء في يوم القيامة بهدف النجاة من جهنّم أو علوّ الدرجات في الجنّة، من أركان عقائد كلّ من أهل السنّة والشيعة، وهذا كلّه خارجٌ عن محلّ الخلاف([4]).
وعليه؛ فنقطة الخلاف في هذه الأمور إنّما هي في وقوعها بعد وفاة النبي 2 و.. وهذا ما يُلزم بتمحور النقاش في هذه النقطة بالذات، وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا تحوّلت هذه المفاهيم إلى شرك بعد وفاة النبي رغم أنّها كانت توحيداً حال حياته؟
يعتقد بعض السَّلَفيين أنّ حال الميّت بعد الوفاة كحال الحجر والخشب، لا إدراك له ولا سمع، فلا يضرّ ولا ينفع، وحتى لو كان له ذلك فهو خارجٌ عن فَهْمِنا؛ لذا يتساوى الميّت والصنم في هذه الخاصيّة، ومعه يغدو عمل المؤمنين بالتوسّل والاستغاثة كعمل المشركين مع الأصنام؛ وهذا هو ما جعل التيّار السلفي يتناول هذا الموضوع من نافذة النصوص القرآنية التي تخاطب المشركين، كقوله تعالى: >وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ< (فاطر: 13 ـ 14)، فقد تحدّث محمّد بن عبدالوهاب حول هذه الآية في شرح كتاب التوحيد؛ فقال:mفبيّن الله تعالى أنّ دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شركٌ يكفر به المدعو يوم القيامة.. فكل ميّت أو غائب، لا يسمع ولا يستجيب، لا ينفع ولا يضرّn([5])، أما الشيخ ابن باز فيقول: mوأمّا دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك، فهو الشرك الأكبر، وهو الذي كان يفعله كفّار قريش مع أصنامهم وأوثانهم.. ولم يعتقدوا أنّها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوّهم، كما بيّن سبحانه ذلك منهم في قوله تعالى: >وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله< (يونس 18)، فردّ عليهم سبحانه بقوله: >قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ<n([6]).
إذن، فنصوص عقائد المشركين القرآنية تمثل أحد أدلّة هذا الفريق لتحريم هذه المظاهر، لكنّ الذي يبدو أنّ هذا الإستدلال لم يكن معمولاً به قبل ابن تيمية في القرن الثامن، فهو أوّل مَن قايَسَ عمل المشركين بعمل المؤمنين، معتقداً أنّهما على حدٍّ سواء([7])، وقد كرّر مُريدوه ومتّبعوه هذا الاستدلال بعده؛ حيث ينقل المناوي عن السبكي؛ فيقول:mويحسن التوسّل والاستغاثة والتشفّع بالنبي إلى ربّه ولم ينكر ذلك أحدٌ من السّلف ولا من الخلف، حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يفعله عالمٌ قبلهn([8]).
وجوه الامتياز بين اعتقادات المؤمنين وأوهام المشركين ـــــــ
وإذا أردنا نقد اعتقادات المؤمنين استناداً إلى الآيات المذكورة، فعلينا تحليل الخصائص الفكريّة للمشركين تحليلاً دقيقاً؛ بغية تحديد مدى دقّة المقاربة المفترضة هنا، وسوف نلاحظ أنّ هناك آيات تتحدّث عن عقائد المشركين أو تخاطبهم تستعصي عن قياسها بأعمال المؤمنين ومعتقداتهم، ومن جُملتها:
أولاً: إن الإله الذي كان يعبده المشركون أو يتقربون إليه بعبادة الأصنام، ليس له وجودٌ حقيقي أو خارجي؛ لأنه لا يتصف بصفات الإله الواحد، فلا مَعاد له، ولا يُرسل للناس أنبياءً ورسلاً من أنفسهم، ولا يكلّفهم بالواجبات، ولا يهديهم إلى الصراط المستقيم، لهذا لم يكن المشركون معتقدين بالمعاد، وكانوا يكذّبون الأنبياء وينكرون إنزال الكتب السماوية، ولا يلتزمون بأيّ واجب من ربّهم و.. وقد كشف الله تعالى عن مزاعمهم في آيات كثيرة، منها قوله عزّ اسمه: >فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى الله وَالله غَنِيٌّ حَمِيدٌ< (التغابن: 6)، وقوله تعالى: >وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ< (المؤمنون: 34)، وقوله: >وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ< (سبأ: 7)، وقوله سبحانه: >وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ<(ص: 4 ـ 5).
فما كان يعبده المشركون لم يكن سوى إلهٍ وَهمي، ليس له وجود خارجي، وإنّما هو صنيعة أوهامهم وتصوّرات أذهانهم؛ لذا لم يكن قولهم حول عبادتهم الأصنام: >مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى<(الزمر: 3)، سوى حجّة تذرّعوا بها، فهم لم يؤمنوا بالله الحقّ حتى يتقرّبوا له، ولعلّ ذلك هو السبب الذي جعل الله تعالى يصفهم بالكذب والكفر؛ حيث يقول في الآية نفسها: >…إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ<؛ لأن المشرك يتقرّب إلى إلهه الوهمي لا الإله الحق، الواحد الأحد، الجامع لتمام الأسماء الحُسنى والصفات العليا التي يؤمن بها المسلمون؛ إذاً، فعمل الموحّد في تبرّكه وتوسّله وزيارته و.. يعدّ تقرّباً للإله الحقّ وبإذنه، أمّا عمل المشرك فهو تقرّب للإله الوهمي المختلق له.
ثانياً: لا يرى الموحّد العزّة إلاّ من الله، ولا يطلبها إلاّ منه: >مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا<(فاطر: 10)، أما المشرك، فيتّخذ آلهةً غير الله لنصرته: >وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا< (مريم: 81)، كما لا يرى الموحّدُ النصر إلاّ من عنده: >وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ< (آل عمران: 126)، أمّا المشرك فيتّخذ
آلهةً غير الله لنصرته: >وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ<(يس: 73)، إلى غيرها من عناصر الاختلاف العقيدي؛ لذا لا يمكن أبداً مقارنة عمل المشرك بعمل الموحد، أو مطابقة خصائصهما الفكرية والعقدية، أو اتّهام الموحّد بالشرك اعتباطاً وبلا
دليل و..
إطلالة على حقيقة الشرك والعبادة ـــــــ
حذراً من تهمة الشرك الاعتباطيّة، نحاول هنا الإشارة إلى بعض النقاط الدالّة وهي:
النقطة الأولى: إن الشرك بالله تعالى من أعظم الكبائر وهو ظلمٌ عظيم لا يغتفر؛ حيث يقول تعالى: >وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ< (لقمان: 13)، وقال: >إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا< (النساء: 48، 116)، وعلى هذا؛ يفترض تَجَنّب اتّهام أيّ شخص أو وصفه بهذا الظلم العظيم والعمل القبيح الذي لا يغتفر، خاصةً إذا كان من المسلمين المعتقدين بالله والنبوة والمعاد، إلاّ بإقامة الأدلّة القوية المحكمة على ذلك.
النقطة الثانية: تختصّ العبادة بالله وحده لا تليق إلاّ به، ولم يأذن الله لأيّ أحدٍ أن يجعل نفسه ـ ولو للحظةٍ واحدة ـ إلهاً؛ ولهذا لا يعتبر سجود الملائكة لآدم (البقرة 34) أو سجود إخوة يوسف له (يوسف 100) من نوع عبادة غير الله تعالى.
كما أنّ ما كان يفعله المؤمنون الموحّدون من طوافهم حول الكعبة وسعيهم بين الصفا والمروة، لم يكن عبادةً للكعبة أو للصفا والمروة؛ فقد كانوا واقفين على هذا المبدأ الرئيس؛ كما أنهم في حياة النبي 2 عندما كانوا يطلبون شفاعته، أو يتبركون بأعضاء بدنه وملابسه أو يتوسّلون به إلى الله في طلب حوائجهم، وكذلك بعد وفاته 2 فهم يعتقدون ـ ككلّ مؤمنٍ موحّد ـ أنّ العبادة مختصّة بالله وحده، أمّا تلك الأمور فخارجة عن دائرتها، أمّا المشركون فكانوا يعبدون شفعاءهم؛ لاعتبارهم لهم آلهة، كما قال الله تعالى: >مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى< (الزمر: 3)، وهنا يكمن الاختلاف الأساس بين إيمان الموحّدين ووهم المشركين؛ إذاً فأيّ معنى لذلك القياس والتشبيه، تشبيه المسلمين بالمشركين وقياسهم عليهم، مع وضوح الفارق بين الأمرين؟
هذا، وهناك نقاط اختلاف كثيرة بين إيمان الموحّدين وظنون المشركين، نشير إلى عددٍ منها ضمن تعليقنا على رسالة الأستاذ السقّاف.
النقطة الثالثة: لا يقبل الشرك البرهان كما لا يقبل الاستثناء، يقول تعالى: >وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ< (المؤمنون: 117)، فجملة (لا برهان له) صفةٌ للإله الآخر؛ فلا دليل على عمل المشركين؛ بل لا يمكن لأيّ شخص اتّخذ إلهاً غير الله، إقامة الدليل على عمله سوى اتّباع الظنّ وهَوى النفس، كما يقول تعالى: >إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى< (النجم: 23)، أو التذرّع باتّباع ما وجد عليه آباءه، كقوله تعالى عنهم: >قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ<(المائدة: 104)، أمّا الموحّد فيمكنه إقامة الدليل على عمله.
النقطة الرابعة: لا يجب اعتبار الفعل الصادر من العبد شركاً بمجرّد عرضه مقترناً بفعل الله تعالى، كما لا يجب اعتباره متناقضاً مع التوحيد؛ لأن الله تعالى قد ذكر وأيّد الكثير من هذه الموارد في القرآن الكريم، فهو يصف الرسول 2 بالمُغني في قوله: >..وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ..< (التوبة: 74)، وقوله: >وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ< (الأنفال: 62)، فهو يعتبر المؤمنين مؤيّدين للرسول 2، كما يصف الملائكة بالمدبّرات في قوله: >فَالْمُدَبِّرَاتِ أمراً< (النازعات: 5)، فحَسب الرؤية التوحيديّة لا تعتبر هذه الأمور شركاً بالله تعالى؛ لأنها أفعالٌ في طول فعل الله لا في عَرضه، أي أنّ الموجودات جميعها في هذا النظام لا تمتلك شيئاً من ذاتها ولا توجد ولا تؤثر في غيرها إلاّ بإذن الله تعالى.
ويتجلّى هذا المعنى في خطاب إبراهيم % لآزر؛ حيث قال: >…لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ< (الممتحنة: 4)، فقد وعده بالاستغفار، لكنّه قال له: لا أملك لك من الله شيئاً؛ لأن كلّ شيء بإذنه سبحانه، وهذا هو الفارق الرئيس بين رؤية المشركين وعقائد الموحّدين، فالمشرك يعتقد أنّ الأصنام لها القدرة والاستقلال في أمر الوجود بخلاف المؤمنين الموحّدين.
ولابدّ هنا من معالجة أمرين:
أ ـ لم يحدث بعد وفاة الرسول الأكرم 2 تغيّر جوهري في التوسّل، والاستغاثة، والشفاعة، بحيث يصل إلى أن تتحوّل تلك المعاني التوحيديّة إلى شرك؛ لأنّ المؤمنين الذين عاصروه كانوا يعتقدون بعدم استقلاله عن الله سبحانه في إجراء هذه الأمور، وكانوا يطلبونها للتبرّك وحبّاً وكرامة لله ولرسوله، وطلب الشّفاء والبركة من وجوده، وكان هذا الاعتقاد سائداً بين المؤمنين بعد وفاته، وقد قلنا: إنّ الحدّ الفاصل بين اعتقاد المؤمنين والمشركين هو هذه النقطة الهامّة.
ب ـ إنّ الرسول الأكرم 2 حيّ بعد وفاته، يسمع صوتنا، يقول السيوطي:mأحاديث حياة الأنبياء في قبورهم متواترةn([9])، وفي كتاب (إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء) يكتب أيضاً:mحياة النبي 2 في قبره وسائر الأنبياء معلومةٌ عندنا علماً قطعيّاً؛ لما قام عندنا من الأدلّة في ذلك، وتواترت به الأخبار الدالّة على ذلك، وقد ألّف الإمام البيهقي جزءاً في حياة الأنبياء في قبورهمn([10])، ويقول ابن قيّم الجوزيّة:mصحّ عن النبي أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء.. وقد أخبر بأنّه ما مِنْ مسلمٍ يسلّم عليه إلاّ ردّ عليه روحه حتى يردّ % إلى غير ذلك ممّا يحصل، من جملته القطع بأنّ موت الأنبياء إنّما هو راجع إلى أن غُيّبوا عنّا بحيث لا ندركهم وإن كانوا أحياء موجودين كالملائكة، فإنَهم أحياء موجودون ولا نراهمn([11]).
وينقل ابن قيّم عشرات الروايات من الصحاح، والمسانيد، والسنن حول الحياة البرزخية وعلاقة الأموات بالأحياء، يقول:mأن يقول المُسَلّم على أهل القبور: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، هذا خطابٌ لمن يسمع ويعقِل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميّت يعرف زيارة الحي ويستبشر بهn، كما ينقل روايات كثيرة ضمَّنَها فصول متعدّدة منها: mالموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهمn، mإخبار الأموات بما حدث في أهلهم بعدهم وبما يحدثn، mإنفاذ أبي بكر وصيّة ثابت بن قيس التي أوصى بها في المنام بعد المماتn و..([12])، ثم يشرع ابن قيّم في تفسير آية: >وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ< (فاطر: 22)، يقول:mفسياق الآية يدلّ على.. أن مَنْ في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البتة..n([13]).
والمتحصّل من ذلك كلّه أنّ النبي الأكرم 2 في عالم البرزخ يسمع صوت الزائر والمتوسّل والمستشفع، كما كان في حياته 2 يجيب المستغفر، والمتوسّل والمتشفِّع، كما أنّ منشأ التبرّك بحاجيات الرسول وأغراضه 2 وبالقبر وتقبيل الجدران والحائط المحيط بالقبر و.. منشأ الحبّ، كان ذلك كلّه رائجاً في زمان
حياته 2، وقد أحسن الذهبي وأجاد عند ترجمة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، استطراداً للردّ على شيخه ابن تيمية؛ حيث قال:mفمن وقف عند الحجرة المقدّسة ذليلاً مسلّماً، مصلّياً على نبيّه فيا طوبى له، فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحبّ، وقد أتى بعبادةٍ زائدة على من صلّى عليه في أرضه أو في صلاته؛ إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه والمصلّي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلّى عليه واحدةً صلّى الله عليه عشراً، ولكن من زاره صلوات الله عليه وأساء أدب الزيارة أو سجد للقبر أو فعل ما لا يشرع فهذا فَعَلَ حسناً وسيئاً؛ فيعامل برفق، والله غفورٌ رحيم، فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلاّ وهو محبّ لله وللرسول، فحبّه المعيار والفارق بين أهل الجنّة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب.. رزقنا الله وإيّاكم ذلك، آمينn([14]).
إذن، فهذه الأمور ليست شركاً حتى نقارنها بعمل المشركين، ولم تكن غير مشروعةٍ لكي نعبّر عنها بالبدعة؛ لأنّ هذا الأمر كان رائجاً بين الصحابة، فقد كان ذلك سيرة الصحابة والتابعين؛ فالصحابي عبدالله بن عمر تبرّك بمنبر رسول الله 2 بعد وفاته، ولم يَنْهَهُ أحدٌ من الصحابة، بل على العكس هناك روايات تدلّ على أنّ بعض الصحابة غير ه أقدموا على ذلك أيضاً، يكتب ابن أبي شيبة بسنده عن يزيد بن عبدالملك بن قسيط يقول:mرأيت نفراً من أصحاب النبي 2 إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعا فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلكn([15])، واقتدى سالم بن عبدالله بن عمر بأبيه أيضاً([16]).
أمّا السلفيّون فيقولون: إنّ فعل عبدالله بن عمر اجتهاد منه لم يوافقه أبوه وسائر الصحابة عليه([17])، فإذا كانت هذه الأمور اجتهاديّةً، فلا مبرّر لاتّهامكم الآخرين، وأمّا قولكم: إنّ الصحابة والتابعين لم يوافقوا على فعل ابن عمر، فهو كلامٌ بلا دليل؛ لهذا رجّح العسقلاني فِعْلَ ابن عمر في التبرّك بآثار الصالحين وجعله حجّة([18])، وينقل الدارمي في سننه بسندٍ صحيح عن أبي الجوزاء أوس بن عبدالله يقول: mقحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتّقت من الشحم، فسمّي عام الفتقn([19]).
وينقل ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح([20]) عن أبي صالح السمّان عن خازن عمر يقول:mأصاب الناس قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجلٌ إلى قبر النبي، فقال: يا رسول الله! استسق لأمّتك فإنّهم هلكوا..n([21])، وينقل الحاكم بسندٍ صحيح على شرط الشيخين، أقرّ الذهبي بصحّته، عن داود بن أبي صالح يقول:mأقبل مروان يوماً، فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقَبَلَ عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: جئت رسول الله 2 ولم آت الحجر، سمعت رسول الله 2 يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهلهn([22]).
ولمن أراد التوسّع فليراجع سيرة الصحابة؛ ففيها آثار كثيرة.
* * *
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلمية لجامعة طهران، وأستاذ مساعد.
[1] ـــ الأعراف: 133.
[2] ـــ انظر: مريم: 47.
[3] ـــ انظر: البخاري، محمد، صحيح البخاري، فتح الباري2: 494، ح1008، 1009.
[4] ـــ انظر: البيهقي، أحمد، الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنّة والجماعة: 104؛ والنسفي، أبو حفص، شرح العقائد النسفية: 148؛ والطوسي، نصير الدين، تجريد الاعتقاد مع كشف المراد: 416؛ والحلّي، حسن، كشف المراد: 416؛ والعلامة الحلّي يقول: mاتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيn.
[5] ـــ آل الشيخ، عبدالرحمن، فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد: 430.
[6] ـــ ابن باز، عبدالعزيز، رسالة إلى الشيخ واعظ زاده: 14.
[7] ـــ انظر: ابن تيمية، مجموعة الفتاوى 1: 157؛ ورسالة إلى أتباع الشيخ عديّ بن مسافر: 31.
[8] ـــ انظر: المناوي، فيض القدير 1: 170، رقم: 1508.
[9] ـــ السيوطي، جلال الدين، مرقاة الصعود: 15.
[10] ـــ نقلاً عن الكتاني، محمد، نظم المتناثر من الحديث المتواتر: 35.
[11] ـــ ابن قيم الجوزية، الروح: 5.
[12] ـــ المصدر نفسه.
[13] ـــ المصدر نفسه: 59 ـ 60.
[14] ـــ الذهبي، محمد، سير أعلام النبلاء 4: 483 ـ 484، الرقم: 185.
[15] ـــ ابن أبي شيبة، المصنّف 3: 435، ح15876.
[16] ـــ انظر كتاب: ابن حجر، أحمد، فتح الباري ج1 ص567 ـ رقم 483.
[17] ـــ رسالتان بين الشيخ واعظ زادة والشيخ ابن باز: 16.
[18] ـــ ابن حجر، أحمد، فتح الباري 1: 569.
[19] ـــ الدارمي، عبدالله، سنن الدارمي 1، باب ما أكرم الله نبيّه بعد موته: 43، وحول سند هذا الحديث انظر: السقّاف، حسن، تعليق على الرسالتين بين الشيخ واعظ زادة والشيخ ابن باز: 29.
[20] ـــ انظر: ابن حجر، أحمد، فتح الباري 2: 495.
[21] ـــ ابن أبي شيبة، المصنّف 6: 359، الرقم: 31993.
[22] ـــ الحاكم النيشابوري، المستدرك 4: 12، باب الفتن والملاحم.