أحدث المقالات

مقدمة

مع اهتمام العلماء الشيعة بموضوع ولاية الفقيه، إلا أنهم أغفلوا بعضاً من زواياه السياسية والتطبيقية؛ حيث لم يوفقوا للوصول إلى تحقّقها عملياً وعلمياً، وكذلك لحداثة عهد الجمهورية الإسلامية القائمة على هذا المبدأ؛ فبعد تجربة الجمهورية الإسلامية ظهرت العديد من النظريات حول الأبعاد والزوايا السياسية لولاية الفقيه، مثل: أركان نظام ولاية الفقيه، وظاهرة تشكيل السلطة في هذا النظام، ووظائفه، وكيفية توزيع السلطات بين القوى الحكومية والمراكز الاجتماعية والسياسية، وكيفية تعيين مكانة السلطات في هذا النظام، والحدود والوظائف التي يتمتع بها الولي الفقيه، وطريقة تنحّيه وعزله عن منصب القيادة…

وسنحاول هنا الإجابة عن مجمل هذه التساؤلات على أساس نظريتي: الانتخاب والتنصيب، ولفعل ذلك نجري مقارنة بين هاتين النظريتين باختلافاتهما والنقاط المشتركة بينهما.

بنية النظام السياسي

المراد من البنية: كيفية ربط المجموعات السياسية والاجتماعية وتحديد عدم ارتباطها مع المجموعات السياسية؛ وبالأساس فالبنية هي المظهر للتنظيم والتنسيق للمجموعات من الأشياء والأفراد والأجزاء والقوى وربطهم مع بعضهم البعض لتعطي مجموعة خاصة منظمة تختلف عن باقي المجموعات.

والمقصود من النظام السياسي: بنية معقدة وشاملة تقوم بحفظ وجود المجتمع وكأنه عضو واحد عن طريق إدارة السلطة المركزية السياسية؛ ففي المفهوم المحدود تكون الدولة بمثابة البنية (الهيئة) الأصلية للنظام السياسي والمسيطرة على أداة القهر والقدرة الشامل للمجتمع بأكمله. وبتعبير آخر النظام السياسي هو مجموعة من الهيئات والبنى السياسية التي تقوم بتأمين العلاقات بين الطبقات الاجتماعية وإيجاد النظم في المجتمع، وبذلك تسير صناعة السلطة.

الملاحظة الجديرة بالذكر أنّ مصطلح «الحكومة» و «الدولة» مرادف لـ «النظام السياسي»، وبما أن هاتين الكلمتين: الدولة والحكومة، تعطيان معنى حقوقياً خاصاً، نستخدم هنا مصطلح النظام السياسي للتعبير عنهما، وهو يستوعب معنى البنية وطريقة وكيفية عمل المؤسّسات الحكومية أيضاً.

أركان النظام السياسي في نظرية ولاية الفقيه

إن تشكيل النظام السياسي قائم على أساس أركان، وبدونها لا يمكن تشكيله؛ ومن أهمّها: 1 ـ السيادة. 2 ـ الحكومة. 3 ـ الشعب. 4 ـ الأرض ومنطقة النفوذ الجغرافية والسياسية. وبدون شك، من غير الممكن تشكيل النظام السياسي بدون حضور المجموعات المشكلة لأساساته، وما لا يُتصوّر هو تشكيل أمة بدون وجود أرض، وكذلك وجود القائد على رأس النظام السياسي يعتبر من أهم العناصر الحياتية والاجتماعية لتشكيل وتنظيم العلاقات السياسية والاجتماعية.

و نظراً لأهمية هذا الموضوع، سيتم البحث في أهم أركان النظام القائم على نظرية ولاية الفقيه (القائد)، وشروط ذلك، والوظائف والصلاحيات التي يتمتع بها الولي الفقيه على أساس نظريتي: الانتخاب والتنصيب.

 

شروط القيادة بين نظريتي: الانتخاب والتنصيب

بناء على اعتقادات الشيعة، تعيّن قيادة النظام السياسي الاجتماعي للمسلمين من الله عز وجل للنبي(ص)، ومن ثم للأئمة الاثني عشر. وبعد غياب الإمام المعصوم(ع) تطرح تساؤلات منها: من يتولى قيادة النظام السياسي الاجتماعي والمعنوي؟ هل الشعب مؤهل شرعاً لانتخاب القائد والموجّه؟ هل أيّ إنسان مؤهل لاستلام أمور المسلمين أم يجب أن يمتلك إمكانات وكفاءات وشروط خاصة، وما هي؟ وكيف يمكن أن تكون مؤهلة لإثبات قيادته؟

من نقاط الخلاف الرئيسة بين النظام السياسي لولاية الفقيه وبقية الأنظمة السياسية أنّ منصب القائد يتطلّب شروطاً وصلاحيات يتعذر على أغلب الأفراد الوصول إليها، يضاف إليه: إن القائد ملتزم ـ عملياً واعتقادياً ـ بحفظ الشروط والصفات المطلوبة وضمان إجراء الأحكام والحدود الدينية، وتأمين العدالة والتوازن الاجتماعي، والوقوف بوجه الاستبداد والديكتاتورية؛ مما يجعل من النظام نظاماً متجدّداً دائماً. إنّ المناخ الشيعي يؤكّد دوماً ـ اعتماداً على النصوص الدينية وسيرة النبي والأئمة المعصومين ـ على الشروط والصلاحيات التي تتعلّق بحاكم المسلمين في زمن الغيبة، ومن أهمها:

أ ـ الشروط العامة: مثل العقل السليم، وحسن التدبير، والشجاعة واللياقة والاستعداد، والصبر والتحمل وسعة الصدر والسماحة والعفو، والقبول به من قبل الشعب، والرؤيا السياسية والاجتماعية، والوقار والتواضع والتقوى والأمانة، والسلامة الجسدية، والصرامة في إجراء الأحكام وتطبيق الحدود الإلهية، وعدم المصالحة مع الأعداء و… وهذه كلّها تعتبر ـ نوعاً ما ـ ضرورية للقائد.

ب ـ الشروط الخاصة المختصة بولي الفقيه: وهي عبارة عن: 1 ـ الإسلام والإيمان، والمقصود بالثاني أن يكون شيعياً اثنا عشرياً. 2 ـ العدالة، وهي عنصر ضمني من الزهد والورع. 3 ـ التفقه، وهو الاجتهاد في الأحكام والمقرّرات الإسلامية. 4 ـ طلب الحلال. 5 ـ الرجولة. 6 ـ الحرية. 7 ـ البعد عن الصفات غير الحميدة مثل البخل والطمع والخوف والتواطؤ والجفاء والخشونة. 8 ـ الكمال من البلوغ والعقل. 9 ـ قوة الذاكرة.

وبالبحث في الكتب والمقالات الفقهية، وعلى الرغم من الاختلاف في التعبير عن الصفات إلا أنه تم الاتفاق عليها وهي: الكمال والإسلام والإيمان وطلب الحلال والعدالة والتفقه والرجولة والبعد عن الصفات غير الحميدة والتدبير السياسي.

وعلى الرغم من اتفاق أصحاب نظريتي: الانتخاب والتنصيب حول السؤال المطروح «من هو الشخص الحاكم؟» وحول الشروط المتعلقة به، إلا أن هناك اختلافاً في طريقة تحقّق منصب الولاية للفقيه الجامع للشروط. ونبين هنا جزءاً من ذلك:

أ ـ الأعلمية والأفقهية: اصطلاح أعلم وأفقه مختلفان، فالمراد من الأفقه في الاصطلاح الفقهي: الأعلم بالمسائل الفقهية ومبادئ استنباط الأحكام، أما اصطلاح الأعلم فهو أكبر وأوسع؛ لأنه يشمل الاطلاع على شروط الزمان والمكان والتنبؤ السياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى: الأعلمية في رأي الفقهاء بمعنى الفقيه والمجتهد القادر على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأدلة بشكل أفضل من بقية الفقهاء والمجتهدين المعاصرين له، أما الأعلمية في موضوع الولاية والحكومة فليست منحصرةً في القدرة الفكرية على ذلك، بل تستوعب قدرة الفقيه على التمتع بالحنكة والرؤية السياسية والاجتماعية ومعرفة الحوادث في زمانها ومكانها.

يرى أصحاب نظرية الانتخاب أنّ الولي الفقيه يجب أن يكون أعلم وأفقه مجتهدي زمانه، أعلم في الأحكام الشرعية وموضوعات الأحكام والحوادث والظواهر السياسية والاجتماعية. ويعتقدون أيضاً أن الأعلمية الفقهية من أهم الشروط اللازم توفرها في الولي الفقيه في كلّ عصر من العصور، وقد استدلوا على ذلك بالقرآن والروايات والفطرة. وكذلك يرون لزوم أن يكون وليّ أمر المسلمين أفقه وأعلم من البقية بالكتاب والسنّة. وفي المقابل يعتقد أصحاب نظرية التنصيب أن الأعلمية لا تنحصر بالأعلمية الفقهية لهذا لا يعتقدون بشرط الأفقهية هنا، وكذلك الاجتهاد ليس من شروط الولاية، ويدّعون أن هناك إجماعاً على أنّ الفقه هنا يعني قدرة الولي على استنباط الأحكام والاجتهاد، وفي ذلك يقول الإمام الخميني: مصطلح الاجتهاد في الحوزات غير كافٍِ، فأيّ شخص إذا كان أعلم في العلوم الموكلة إليه ولا يستطيع تشخيص مصلحة المجتمع أو لم يستطع تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من غير المفيدين، وبشكل عام يفتقد الحنكة الصحيحة والقدرة على اتخاذ القرار في النواحي الاجتماعية والسياسية، فإن هذا الشخص لا يعتبر مجتهداً في المسائل الاجتماعية والحكومية، وغير قادر على استلام زمام المجتمع أبداً.

وهناك موارد عدة يمكن الدفاع من خلالها عن نظرية الانتخاب، لكن في حال عدم توافر الأعلم فإنّ نظرية الانتخاب ستواجه مشكلة؛ لأنّ الانتخاب لن يتحقق؛ لعدم توافر مجاله، أمّا نظرية التنصيب فهي تتفوّق على صاحبتها من حيث عدم التقيّد بمسألة الأعلمية.

ب ـ المرجعية والقيادة: من نقاط الاختلاف بين نظريتي: الانتخاب والتنصيب، التوأمة بين المرجعية والقيادة السياسية؛ فأصحاب نظرية الانتخاب يرون تلازم القيادة مع المرجعية الدينية، والنص التالي يدلّ على ذلك: ليس من الصحيح التفريق بين القيادة النظامية والمرجعية والقيادة الدينية. وفي المقابل يرفض بعض أنصار نظرية التنصيب التلازم هنا، فيكفي عندهم اجتهاد الولي الفقيه، وفي ذلك يقول الإمام الخميني: أنا بدايةً كنت معتقداً ومصراً على اشتراط المرجعية ولزومها، لكن يكفي تأييد الخبراء المحترفين للمجتهد العادل. وإذا انتخب الشعب الخبراء لكي يختاروا المجتهد العادل لقيادة الحكومة واستلام منصب القيادة، فاختياره يتمتع بقبول المجتمع وانتخابه يكون عن طريق الشعب وحكمه نافذ. وقد أكّدت على ذلك في الدستور، لكنّ الأصدقاء أصرّوا على شرط المرجعية وأنا قبلت ذلك. وأنا في ذلك الوقت علمت أنه في المستقبل القريب سوف لن يكون قابلاً للتطبيق.

ج ـ القبول الشعبي: الاختلاف الآخر بين النظريتين يكمن في انتخاب الشعب؛ فأصحاب نظرية الانتخاب يعتقدون أن قبول العامة من الشعب أحد شروط القيادة للتصدّي لمقام الولاية، وعلى أساس هذه النظرية يغدو الفقهاء الجامعون للشرائط قد منحوا الولاية من المعصوم شرط قبول الشعب لهم، وبذلك لا يملك أحد من الفقهاء الجامعين للشرائط حق العمل بصفته وليّ الأمر قبل انتخابه من قبل الشعب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لأن القيادة شأن عام متعلق بعامة الشعب؛ فمن الضروري أن يكون قبول الشعب شرطاً مهماً. وأوضح الأشكال التي تدلّ على قبول عامة الشعب مشاركتهم جميعاً في انتخاب القيادة أو البيعة لها.

أما بالنسبة لنظرية التنصيب، فإن كل الفقهاء الجامعين للشروط لهم الحق بممارسة الولاية المستمدة من المعصومين دون العودة للشعب، وفي حال تعدّد الفقهاء الواجدين للشروط، لا يحقّ للفقيه غير الأصلح وغير الأفضل التدخل في دائرة عمل الولي الأصلح؛ لأنه يخرّب بذلك عمله، وبذلك يتم رعاية النظم والوقاية من التفرقة والتجزءة، وفي بعض الأحيان لا يتم تطبيق الولاية من قبل الفقيه الأعلم، بمعنى أنّه لا يحصل احتكاك بين الفقهاء الجامعين الشروط وهنا يستطيع كلّ منهم تطبيق ولايته في أمور اجتماعية وسياسية متعلقة بالمسلمين على حدة، مثل إجراء الحدود وأخذ الأموال الشرعية والتصرف بها بما ينفع العامة. وعليه فالفقيه الجامع للشروط يملك حقّ الولاية بشرط أن لا يسبّب تخريباً في عمل بقية الفقهاء.

نطاق وظائف وسلطة القائد

من أهم الأبحاث الراجعة إلى مبدأ الحكومة الإسلامية تعيين حدود سلطة الولي الفقيه. واليوم يعدّ هذا الموضوع من أهم الموضوعات وأكثرها اختلافاً بين أصحاب نظريتي: الانتخاب والتنصيب. وقبل الدخول في البحث نذكّر ببعض النقاط المهمة:

1 ـ الاختلاف بين الوظائف والصلاحيات: فالوظائف تطلق على المسؤولية وتقترح على الموكل له أو الملزم بتنفيذه، وأيّ تقصير أو عجز يعزل من منصبه. وقد جاء في الدستور الإيراني تحديد وظائف القائد كالتالي: «في أي وقت لا يستطيع القائد القيام بوظائفه يعزل من مقامه». أمّا الصلاحيات فتطلق على الأمور التي يمكن للقائد ممارستها دون حاجة لإذن أحد.

2 ـ التناسب بين دائرة الوظائف والصلاحيات: تتناسب دائرة الصلاحيات على أساس تحديد الوظائف؛ فإذا كان شخصٌ ما مسؤولاً عن شيء فلابدّ من امتلاكه الأدوات والإمكانات والصلاحيات التي تتناسب مع الدائرة المسؤول عنها؛ ليؤدي وظيفته على أكمل وجه، وإلا فتعيين الوظائف يغدو خطأ صرفاً؛ وهذه المناصب السياسية والاجتماعية تعطى دائماً على أساس الحقوق لمن يستحق ذلك؛ كي يقوم بعمله على أكمل وجه وتكون أعماله قابلة للمراقبة.

3 ـ تحديد نطاق الوظائف والصلاحيات في الحكومة الدينية ناتج عن أجوبة الأسئلة التالية: هل حدّدت سبل خاصة بإدارة الأمور السياسية والاجتماعية للشعب من قبل الخالق عز وجل أم أنها طرق عقلانية قابلة للتأييد؟ هل أوجب الخالق على علماء الدين تطبيق ولايتهم السياسية والاجتماعية وتشكيل حكومة؟ هل صلاحيات الولي الفقيه تقع في نطاق سلطة الحكومة العادية؟ هل سلطة الحاكم الإسلامي محدودة بالقوانين، أي بالأحكام الأولية أو الثانوية أم أنّها أعم من ذلك؟

أـ الوظائف والصلاحيات

إنّ حدود ووظائف ولاية الفقيه من الموضوعات المهمة التي بحث فيها علماء الشيعة. وهناك آراء وكلمات مختلفة جداً للفقهاء هنا، لكن وبنظرة العامة يمكن تصنيف أقوالهم في ثلاثة محاور:

أ ـ قسم من الفقهاء حصر وظيفة الفقيه الشرعي بالإفتاء والقضاء، ومن البديهي أنّ أيّ مسلم يتمتع بشروط الإفتاء ـ مثل الفقاهة والعدالة ـ يستطيع أن يمارس عمل المفتي؛ لأن الإفتاء ليس منصباً يمكن أن يعزل أو ينصب. أمّا القضاء وهو الحكم بين الناس بهدف إنهاء العداء وإحقاق الحقوق، فهو منصب لكنه يختلف عن الولاية.

ب ـ قسمٌ آخر من الفقهاء يعتقدون أنّ نطاق وظائف الفقيه ـ إضافةً إلى الإفتاء والقضاء ـ يصل إلى الأمور الحسبية وهي الأمور التي لا يرضى الخالق بتركها ولم يعيّن المتصدي الخاص الذي يقوم بإنجازها؛ لذلك فوظيفة الفقيه متابعتها، فمثلاً حماية الأفراد الذين لا يملكون المعين كالأيتام، والتصدي لأمور الغائبين والقاصرين والوقوف العامة تدخل في الأمور الحسبية. وبذلك يقيد هذا الفريق من دائرة ولاية الفقيه.

ج ـ وفي مقابل هذين النظرين، يرى بعض فقهاء الشيعة كالمحقق الكركي والعلامة النراقي والشيخ محمد حسن النجفي والشيخ الخراساني والسيد البروجردي والإمام الخميني.. أن دائرة ولاية الفقيه تضم تمام الأمور التي يتمتع بها النبي الأكرم(ص) والأئمة المعصومين(ع) في مجال الحكم؛ إلا إذا كانت هناك أدلّة خاصة تقيّدها بالمعصومين؛ من حيث اختصاصها بشخصهم وعصمتهم؛ من هنا تدخل مجمل الأمور المتصلة بالسلطة في دائرة ولاية الفقيه كتشكيل الحكومات وتدبير السياسات وإدارة الدولة وجمع الضرائب والتصرّف في المصالح العامة وإجراء الحدود وتطبيق الشريعة وقوانين الحرب والصلح، وحماية البلاد ونظمها. يقول الإمام الخميني في ذلك: يتمتع الفقيه العادل بتمام صلاحيات النبي والأئمة في كلّ المسائل المرتبطة بالحكومة…

1 ـ نطاق الوظائف في نظرية التنصيب

نستنتج من كلمات الإمام الخميني أعلاه أن وظائف الفقيه الشرعي ـ طبقاً لنظرية التنصيب ـ هي الإفتاء والقضاء والولاية والقيادة السياسية للمجتمع. ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن ذلك لا يتمّ إلا عبر النص والتنصيب الإلهي؛ لذلك توكل هذه المسؤوليات من قبل الخالق للفقهاء، واستمرارية هذا التوكيل مرتبطة بحفظ الشروط. يقول الإمام الخميني: ينصب الفقيه من قبل المعصومين^ للقضاء والولاية والحكومة وكل ما يحتاجه المسلمون في حياتهم ومعاشهم، وكل ما يرتبط بإصلاح الحياة وتنظيم السياسة الدينية.

2ـ نطاق الوظائف في نظرية الانتخاب

يعتقد أصحاب هذه النظرية أنّ منطلق اعتبار منصب ولاية الفقيه يقوم على انتخاب العامة، وبالطبع فالفقيه غير المنتخب لا يملك ـ حسب الشريعة ـ زمام الأمور، بل يختص فقط بالإفتاء والتبليغ والقضاء والحكم.

ب ـ نطاق وحدود سلطة ولاية الفقيه

عندما تعطى الوظائف لشخص أو دولة أو مجموعة يجب أن تهيأ الإمكانات اللازمة لذلك؛ فكلما كان نطاق الوظائف أكبر أو أخطر وجب توسيع الحدود والسلطات والصلاحيات أيضاً. وقبل الدخول في البحث يجب الالتفات للنقاط التالية:

1 ـ أصحاب النظريتين يعتقدون بولاية الفقيه.

2 ـ كلتا النظريتين تقول بوجوب امتلاك ولي الفقيه للوظائف والقدرة اللازمة لإدارة أمور المجتمع وإقامة الحدود والقوانين الشرعية.

3 ـ حسب نظرية التنصيب يفوّض منصب الولاية للفقيه من قبل الخالق عز وجل، ويقوم الشرع أيضاً بتحديد نطاق هذا المنصب، أمّا على أساس نظرية الانتخاب فيلقي الشعب الولايةَ على عاتق الفقيه ويعين مجالها له.

1ـ نطاق السلطة في نظرية التنصيب

يعتقد أصحاب هذه النظرية أن للشارع دوراً رئيساً في تعيين حدود سلطة الولي الفقيه، من هنا يثبت للفقيه تمام ما ثبت للرسول’ والأئمة، لأنّ الوظائف والمسؤوليات المتشابهة تتطلب نطاقاً متساوياً ومتشابهاً. ويرون أنه ليس للناس دور في ذلك كما لم يكن لهم دور في ولاية المعصومين؛ كما يرون أنّه يفترض عدم تحديد نطاق سلطة الولي الفقيه فتشمل تطبيق الشريعة وإقامة الحدود وتشكيل النظام السياسي والاجتماعي، وأخذ الخراج والضرائب الدينية وصرفها في مصلحة الأمة الإسلامية و..

بناء على ذلك، تكون حدود ولاية الفقيه على أساس نظرية التنصيب كما يلي:

1 ـ يمتلك الولي الفقيه في أمور الحكومة كلّ ما كان يملكه الرسول والأئمة من سلطات حول هذا الموضوع، يقول الإمام الخميني: يمتلك الفقيه العادل كل السلطات الحكومية والسياسية التي كان يمتلكها الرسول(ص) والأئمة المعصومين(ع) ولا يوجد أي تفاوت أساساً؛ لأن الوالي هو مجري أحكام الشريعة ومقيم الحدود الإلهية، وهو الذي يأخذ الخراج والضرائب ويتولى صرف هذه الأموال بما يطابق مصلحة المسلمين. إن هذا التوهم الذي كان يقول بأنّ سلطة الرسول’ أكبر من سلطة أمير المؤمنين^ أو سلطة أمير المؤمنين(ع) اكبر من سلطة الفقيه ما هو إلا توهم خاطئ وباطل.

2 ـ تتحدّد سلطة الولي الفقيه على أساس الأهداف والأحكام الإسلامية المطلقة، لكنّها غير محدودة بالقوانين الأولية والثانوية للشرع، وهذا ما طرحه الإمام الخميني أيضاً.

3 ـ سلطة القائد أو القيادة في النظام السياسي الإسلامي أكبر من الأحكام الاجتماعية والقوانين الموضوعة بما فيها الدستور، كما أشار إلى ذلك الإمام الخميني؛ فالدستور غير قادر على تقييد سلطة القائد، وطبقاً للمادة السابعة والخمسين والفقرة الثامنة من المادّة المائة والعشرة من الدستور الإيراني، يتمتع القائد بالسلطة المطلقة، وهذا ما يطابق وجهة نظر القائلين بالتنصيب، أمّا ما جاء في المادّة المائة والعشرة ومثلها فلا يراد منه حصر سلطة القائد؛ من هنا بإمكانه أحياناً تعطيل بعض الأحكام الشرعية، بل بمقدوره تعطيل الدستور نفسه.

ويلزم هنا التذكير بأن القائد يستطيع مؤقتاً تعطيل العمل بالدستور والأحكام الأولية وفق شرطين: 1 ـ الظروف الاضطرارية عندما يصل وضع النظام إلى مكان مغلق ومعضلة جادة، ولا يوجد حلّ بأية طريقة ممكنة. 2 ـ وجود مصلحة أو مصالح عليا للمجتمع والنظام السياسي تتقدم على نقض الدستور والأحكام الأولية.

2ـ نطاق السلطة في نظرية الانتخاب

تقوم حدود سلطة الولي الفقيه في نظرية الانتخاب على رعاية المبادئ والمقدمات التالية:

1 ـ الولاية من المقولات العقلية، وهي نتاج عقد بين طرفين: الشعب من جهة والفقيه من جهة أخرى. ويقوم على الإيجاب من طرف الشعب والقبول من جانب الفقيه العادل، وهذا العقد يعتبر توافقاً عقلائيّاً مقبولاً من الله تعالى؛ لذا فالأدلة الشرعية على صحّة ونفوذ العقود مثل التعهد والالتزام بالقواعد الشرعية تكون شاملة له.

2 ـ ينشأ اعتبار الولاية وشرعيتها من البيعة؛ وبذلك لا يتمتع الفقيه الذي لا ينتخب من قبل الشعب بوظائف في الحكومة ولا يحقّ له ـ شرعاً ـ الإمساك بالأمور السياسية للمجتمع، ولا يملك أيّ سلطة؛ فالبيعة وسيلة لإنشاء الولاية بعد قبول الشعب، بمعنى أنه بعد قبول طرفي العقد: الفقيه والشعب، بشروط كل منهما، يبايع الشعب الشخص الواجد للشروط ويرضون بحكمه، وبتلك البيعة تتم الولاية، كما أنّ تحقق الولاية بالفعل متوقف على البيعة.

3 ـ البيعة في هذا العصر الحاضر غير ممكنة إلا عبر الانتخابات العامة؛ فالشعب يبايع بالحضور في الانتخابات والإدلاء برأيه، ومن الممكن إعطاء منصب الولاية للولي الفقيه بطريقة غير مباشرة عن طريق الخبراء الموثوقين والمنتخبين؛ ولا شك أنّ الفقيه الذي يحصل على أصوات أكثر يتسلّم زمام أمور المسلمين؛ فدليل النظام هو الذي يثبت الولاية، وهو أيضاً مبرّر لقائد الدولة أن يملك سلطةً على البقية، ويمكن تحديد ذلك بطريقتين: 1 ـ أصوات الأكثرية (الشهرة). 2 ـ شهادة العدول.

4 ـ البيعة عقد سياسي اجتماعي بطريقة خاصة بين الحاكم الإسلامي والشعب، تماماً مثل عقد البيع، فكل الخصوصيات التي يتمتع بها عقد البيع يمكن إجراؤها على البيعة، يقول الشيخ المنتظري: البيع والبيعة كلاهما من مصدر واحد وحقيقتهم واحدة، فالبيعة معاملة بين أفراد المجتمع والقائد (إمامهم) وبتلك البيعة التي يقوم بها الشعب تصبح نفوسهم وأموالهم وإمكاناتهم تحت تصرّف القائد، وفي المقابل يتعهّد القائد بإدارة أمورهم الاجتماعية ومراعاة مصالحهم؛ فتتمّ بذلك المعاملة بينهم.

5 ـ الولاية معاهدة سياسية اجتماعية ملزمة، مثلها مثل المعاملات المتعارفة كالبيع بشروطها الضمنية. والشروط الضمنية للعقد متعلّقة بقبول ورضا كل من الطرفين، أي الشعب والحاكم؛ فالولاية السياسية تملك قابلية الانعطاف والانقباض والانبساط لكلّ من الطرفين، وفي هذا يقول الشيخ المنتظري: مثلما في كلّ معاملة رسوم يقوم كلا الطرفين قبل العقد بالتوافق على المقدار والكيفية وخصائص المعاملة، كذلك الحال فيما يتعلق بالبيعة؛ حيث ينطبق عليها المعنى والمفهوم ذاته، فبعد الحوار وتراضي الطرفين تكون وسيلة الإنشاء وإيجاد المسؤولية الحكومية، وبعده يتم انتخابه بوصفه رئيساً لهم؛ وبهذا التسليم يتم إعلان رئاسته وولايته.

إنّ الهدف من انتخاب القائد ورئيس الجمهورية التأكيد على أنّ الشعب هو أساس الدولة وركيزة النظام، وقدرات القائد والرئيس إنّما تأتي من طرف هذا الشعب؛ فتكون محدودة بنطاق انتخابهم له ضمن الضوابط الشرعية.

وعليه ونظراً للأسس الفقهية تكون حدود صلاحيات القيادة ـ وفقاً للانتخاب ـ كما يلي: 1 ـ محدّدة بموازين ومقررات الشرع. 2 ـ الشروط الضمنية للبيعة هي الانتخابات العامة. 3 ـ محدّدة بإطار الدستور.

وترى مجموعة من أنصار نظرية الانتخاب أنّ الإسلام يقرّ جملة قوانين، وحيث كان عامة الشعب من المسلمين فيتعهد الولي الفقيه للشعب بالعمل ضمن إطار الأحكام والشروط الشرعية؛ من هنا يمكن للحاكم ممارسة نفوذه متخطّياً الدستور ضمن شروط العقد مع الشعب؛ لأن موازين الشرع أعمّ وأوسع من الوظائف والصلاحيات المدرجة في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ وبذلك يمكن أن تكون شروط العقد أوسع أو أضيق من الأحكام الدينية.

ويرى بعضهم أن دائرة عمل الولي الفقيه محدودة بالدستور؛ لأنّه هو الميثاق العام، وقد جاء ضمن تعهد الحاكم وبيعة الشعب بحيث حصل إلزام بالعمل به؛ وبهذا لا يقبل أيّ اقتراح يتخطّاه ولا يحق لأحد التخلّف عنه، ويمكن للطرفين الاحتجاج على بعضهما ومطالبته بالوفاء به؛ فالشعب ـ حسب الفرض ـ قد صوّت على الدستور، ومجلس الشورى ـ بوصفه مركزاً لسنّ القوانين ـ وكذا القائد والخبراء قد انتخبوا هم أيضاً على أساس الدستور؛ وهذا معناه ـ لزوماً ـ انحصار حدود عمل القائد بهذا الدستور وما يعطيه له من صلاحيات.

يدار البلد ـ إيران ـ على أساس الدستور والقوانين المصوبة حديثاً في مجلس الشورى الإسلامي التي تحدد قدرات القائد، وقد جاء في المادّة المائة وسبعة: (يتساوى القائد أمام القانون مع سائر أفراد الشعب، وكل إدارة لا أصل لها في مجلس الشورى الإسلامي … تعدّ غير قانونية وجميع أعمالها مخالفة للقانون)، فهذه المادّة توجّه على أساس اللحاظ العرفي الحقوقي؛ فلا يستطيع القائد أن يعمل ولايته على نطاق أوسع من الحدود الدستورية ولو كانت مطابقةً للأحكام الشرعية. بعبارة أخرى: يعتقد أصحاب نظرية الانتخاب أنّ الدستور ميثاق المواطنين مع الحاكم؛ لذلك لا يحق له نقضه إلا عن طريق إعادة النظر فيه.

جاء في المادّة المائة وعشرة من الدستور الإيراني أنّ صلاحيات الولي الفقيه دستوريّاً هي: 1 ـ تحديد السياسات العامة للنظام الجمهوري الإسلامي في إيران بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام. 2 ـ الرقابة على حسن تنفيذ السياسات العامة للنظام. 3 ـ الأمر بالرجوع إلى الرأي العام. 4 ـ القائد العام للقوات المسلحة. 5 ـ إعلان الحرب والسلم والتعبئة العامة. 6 ـ تعيين وعزل وقبول استقالة: أ ـ الفقهاء في مجلس صيانة الدستور. ب ـ رئيس السلطة القضائية. ج ـ رئيس الإذاعة والتلفزيون. د ـ القائد العام لحرس الثورة الإسلامية. و ـ القادة العامّين في الجيش والشرطة. 7 ـ حلّ الخلافات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث. 8 ـ حلّ مشاكل النظام غير القابلة للحلّ بالطرق العادية عن طريق مجمع تشخيص مصلحة النظام. 9 ـ البت برئاسة الجمهورية بعد الانتخاب من قبل الناس. 10 ـ عزل رئيس الجمهورية مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح البلد، وبعد حكم المحكمة العليا بتخلّف الرئيس عن وظائفه القانونية، أو رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته على أساس المادّة التاسعة والثمانين. 11 ـ العفو أو التخفيف من عقوبات المحكومين في حدود الموازين الإسلامية بعد تقديم اقتراح من رئيس السلطة القضائية.

من هنا، يمكن بعقد الانتخابات تحديد الولاية في مدة زمنية معينة مثل عشر سنوات، وتفكيك السلطات أو توحيدها، وإدراج أيّ شرط آخر يتم التوافق عليه والمبايعة وفقه، فتكون له قدرة تحديد ولاية الفقيه وسلطته، إنّ أنصار نظرية الانتخاب يقولون: وفقاً لما تقدّم إذا كان القائد يتعيّن من طرف الخبراء والناس؛ فما المانع أن يكون انتخابه ـ مثل رئيس الجمهورية ـ محدوداً بست سنوات أو عشر مثلاً؟

وعلى الرغم من الخلافات بين أنصار نظرية الانتخاب في نتائج النظرية ومعطياتها، إلا أنّ من نتائج نظريّتهم:

1 ـ الالتزام بالدستور بوصفه الميثاق الشعبي المأخوذ في بيعة الشعب للقائد مع الالتزام بموازين الشرع الإسلامي، وهذا الأمران ليس لهما نتيجة واحدة؛ فتختلف الصلاحيات في الشرع الإسلامي عنها في الدستور.

2 ـ الالتزام بمقولتي: الدستور والقوانين المصادق عليها من السلطة التشريعية؛ وهنا من الممكن أن يتخذ المجلس النيابي قوانين ومقررات جديدة تضيّق أو توسّع من مهام القائد ووظائفه نسبةً للدستور.

3 ـ نظراً لقيام العقد (البيعة) على التراضي بين الطرفين؛ لذا فأيّ طرف من أطراف العقد ـ أي الشعب والقائد ـ يحقّ له المبايعة ضمن نطاق الدستور أو خارجه، كما يحقّ له ضمن نطاق الشريعة الإسلاميّة أو خارجها.

4 ـ على خطّ آخر، يرفض العلماء الشيعة بعض مبادئ نظرية الانتخاب؛ لأنهم يتفقون على أنّ بيعة الشعب ليست جزءاً من ولاية الفقيه، بل التزام وتعهد منهم بطاعة الحاكم ضمن الشريعة الإسلامية، كما أن مقياس البيعة ضمن شروط وحاجات يواجه مشاكل؛ لأن اشتراك الطرفين في العقد ليس سبباً لاشتراكهما في الأحكام الفقهية؛ من هنا لا يرى بعض الفقهاء البيعة ذات صفة إلزامية.

(*) أستاذ جامعي، وعضو الهيئة العلمية في جامعة العلوم الطبية في طهران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً