تيّار أكاديميّة العلوم الإسلاميّة
د. الشيخ عبد الحسين خسروپناه(*)
مقدّمة ــــــ
تأسَّست أكاديميّة العلوم الإسلاميّة على يد المرحوم الأستاذ السيد منير الدين الحسيني الهاشمي، ومن ثم توسَّعت بجهود البعض من تلامذته، أمثال: السيد مير باقري. وتمكَّن السيد مير باقري بحنكته الإداريّة وقدرته العلميّة أن يقدِّم مقولة أستاذه إلى مخاطَبيه بصورة علميّة. ولد السيد الحسيني الهاشمي في مدينة شيراز في العشرين من شهر آبان 1322هـ.ش، وكان والده السيد نور الدين الحسيني الهاشمي (المعروف بآية الله الشيرازي) من مراجع الطراز الأوّل في إيران في ذلك الوقت، وهو مؤسِّس حزب «برادران»، أي الإخوة، وهو حزبٌ دينيّ معادٍ للاستعمار. وتوفيّ السيد نور الدين سنة 1335هـ.ش في ظروفٍ غامضة. وارتدى السيد منير الدين الزيّ الدينيّ بعد وفاة والده، وهو في الثانية عشر من عمره. وانتخب من قبل حزب برادران خَلَفاً لأبيه، ولكنْ طبقاً للقانون الداخليّ لهذا الحزب، الذي كان ينصّ على وجوب أن تكون قيادة الحزب بيد مجتهد أعلم عادل، فإنه لم يقبل بهذا الانتخاب؛ لأنّ عمره لم يزد آنذاك عن الثلاثة عشر سنة، وهاجر سنة 1339هـ.ش إلى مدينة قم المقدّسة. وواصل السيد منير الدين دراسته الدينيّة في شيراز وقم والنجف الأشرف. وبالإضافة إلى دراسته مارس النشاط السياسيّ والفكريّ ضدّ النظام المستبدّ والماركسيّين. وبسبب هذه النشاطات تمّ نفيه إلى خارج البلاد. وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران شارك في «مجلس الخبراء وإعداد الدستور»، ممثلاً عن أهالي محافظة فارس (شيراز). وفي ما يتعلَّق بقضيّة بني صدر لفت أنظار جامعة المدرِّسين للحوزة العلميّة في قم إلى انحرافاته الفكريّة؛ لما كانت لديه من معرفة حصل عليها من خلال الاطّلاع على مؤلَّفاته، وبالتالي أعرضت جامعة المدرِّسين عن دعمها لبني صدر. وأخيراً توفيّ السيد منير الدين الهاشمي في شهر إسفند 1379هـ.ش، عن عمر ناهز 57 سنة([1]).
الشخصيّة الفكريّة للسيد منير الدين ــــــ
امتاز السيد منير الدين الهاشمي منذ فترة شبابه بأنّه ذو ذهنيّة وقّادة، ومن أهل الفكر والتأمّل. ومن هنا فقد كانت منظومته الفكريّة متباينة عن العلوم العقليّة والنقليّة الشائعة في الحوزة العلميّة. ويمكن القول: إن اثنين من عقائده هي التي أصبحت السبب في أن ينأى بنفسه عن الذهنية العقليّة والنقليّة المتداولة في الحوزة العلميّة، وهما:
أـ اعتقاده بالدين الجامع: فهو يعتقد بشمولية خاصّة للدين؛ بمعنى أنّ الدين بإمكانه التأثير في جميع الميادين، ومنها: الثقافة، والفلسفة.
ب ـ الاعتقاد بفاعليّة الدين: وهذا يعني أن شمولية الدين هي بالشكل الذي يجب أن تتحمّل معه القيادة مسؤولية التكامل العينيّ للمجتمع، بمعنى أن قيادة التكامل العيني للمجتمع يجب أن تقوم على محور الدين، وأن لا يكون الوضع بالشكل الذي يكون فيه الدين متحدِّثاً فقط، والآخرين منفِّذين، بل يجب على المعنيّين بالفهم والاستنباط من الدين أن يسعوا إلى ترجمة الدين بشكلٍ عمليّ في أوساط المجتمع أيضاً.
وعليه يمكن القول بأنه كان يحمل هاجس فاعليّة الدين، فضلاً عن هاجس الحجّيّة في الفهم والاستنباط من الدين، أي إنه كان يرمي إلى أن يعرف متى يمكن القول بأنّ نظريّةً أو نوعاً من الفهم دينيٌّ. وكان يقول أيضاً: يجب على الدين أن يتحمَّل مسؤولية قيادة التكامل العيني للمجتمع.
ولتوضيح قيادة التكامل العينيّ للمجتمع من قبل الدين يمكن أن نشير إلى نظريّتين أخريين:
البعض متأثِّرون بالغرب، وهاجسهم تأويل الدين بالتعاليم الحسّية والتجريبية. وبعض الأفراد، مثل: بازرگان وشريعتي، وجَّهوا بعض الانتقادات للغرب، ولا يمكن اعتبارهم من المتأثِّرين بالغرب بشكل كامل، إلاّ أنّهم وافقوا على أية حال على بعض النظريّات الغربيّة، من قبيل: العلوم الطبيعيّة، أو العلوم الاجتماعيّة. فقد أخذوا بهذا الجزء، واعتبروه هو الأساس، وأوّلوا النصوص الدينيّة ضمن تلك الدائرة. الهاجس الأكبر لهذه المجموعة هو تأويل النصوص الدينيّة، أكثر منه إلى حجّيّة الفهم المستند على النصوص الدينيّة.
المجموعة الثانية هم الذين يشغلهم هاجس حجّيّة فهم النصوص الدينيّة في مقابل المجموعة الأولى. وهم مخالفون للتأويل، ولكنْ لم يكن لديهم اهتمامٌ بالتحقق العيني للدين، أي إنهم لا يعيرون أهمّية لإيصال قضية العينية إلى مستوى الحجّيّة، ولم يكن لديهم إيمان بوجوب قيام الحوزة بإضفاء صفة العينيّة على أسلمة المجتمع، بل يرون أن مسؤولية الحوزة العلميّة تكمن في إعطائنا أسلوب الاستنباط في فهم الدين وحجيّة النصّ الدينيّ، ولكنّها تعمل على تحقيق التعاليم الإسلاميّة في المجتمع عن طريق العرف، وإذا اجتمع عدد من المتديّنين والمتشرِّعة فبإمكانهم تطبيق تعاليم الإسلام وقوانينه.
السيد منير الدين يعارض كلا الاتّجاهين. فهو يرى أنّ حجّيّة فهم الدين أمرٌ لازم، وأسلوب المجموعة الأولى خاطئ، أي إن أسلوب الأصوليّين والأسلوب المتداول في الحوزة لفهم الدين واجبٌ، ولكنْ يجب أن نهتم أيضاً بمسألة اشتراك الدين في مسألة التكامل العينيّ، بمعنى أنه فضلاً عن ذلك يجب أن نستخرج طريقة من الدين تؤدي بنا إلى كيفية تطبيق المعارف الدينيّة على أرض الواقع بشكل عمليّ. وانطلاقاً من امتلاك الدين للشمولية الكاملة في مختلف الميادين يجب عليه أن يبيّن نفسه في العمل الاجتماعيّ والتطبيق العيني في المجتمع. ولغرض مشاركة الدين في الميدان الاجتماعيّ يجب أن نستعين بالدين نفسه، وليس بمقدور عرف المتديّنين أن ينجز هذه المشاركة بشكل عيني.
هاتان النظريّتان لهما منطلقان في شخصيّة السيد منير الدين الفكريّة:
أـ قابليّته الإيمانيّة: فقد كان شديد الاعتقاد، ولديه إيمان كبير بالنصوص الدينيّة، وكان من أهل الدعاء والذكر والبكاء. وهذا التعبُّد والإيمان الاستثنائي الذي يتحلّى به يصبح السبب في سعيه ليكون للدين حضورٌ فاعل في الميدان الاجتماعيّ أيضاً.
ب ـ تأثُّره بوالده: فقد كان لوالد المرحوم الحسيني هاجس التطبيق العيني للإسلام، والحفاظ على حجيّة الدين في جميع مراحل اتّخاذ القرارات، وكان يعارض مختلف التيّارات غير الأصيلة، من الصوفية والبهائية والماركسية، ويؤكِّد على حضور الدين في المجتمع، ولم يسعَ فقط إلى إثبات حجّيّة الفهم الدينيّ.
وعندما كان السيد منير الدين ينتقد الأيديولوجيّات المخالفة، كالماركسية والاشتراكية، فقد كان ينقدها على الأكثر من زاوية المنهج والأسلوب. ولدى توجيه النقد للمدارس الفكريّة يمكن العمل بنوعين من النقد: أوّلاً: نقد آراء ونظريّات تلك المدرسة؛ وثانياً: نقد جذور تلك المدرسة، أي نقد منهجها؛ لأنّه لكلّ منظومة فكريّة منهجاً معيَّناً قطعاً، حتّى وإن لم يذكر ذلك بصراحة في أدبيّاتها. ومن هنا فالنقد الجذري والأساسيّ لأيّ منظومة فكريّة إنّما هو نقدٌ لمنهجها.
العلم الدينيّ لدى أكاديميّة العلوم الإسلاميّة ــــــ
لغرض تطبيق الدين بشكل عينيّ في المجتمع كان السيد منير الدين يرى في بداية الأمر أنه بعد تأمين حجّيّة الفهم من قبل علماء الدين، والحصول على الفهم المستند على الدين، يكفي أن يقوم الخبراء المهذَّبون والملتزمون بتطبيق ذلك الفهم في المجتمع. وهذا الرأي هو ذات الرأي الشائع في أوساط الحوزة العلميّة، والقائل: إنه يجب أن يصار إلى تحديد الآراء والفتاوى الدينيّة المتعلِّقة بهذه الأمور، ومن ثم يعمل الخبراء في المجتمع على أساس هذه الآراء. ولكنَّه غيَّر رأيه فيما بعد، ورأى أنّ تهذيب الخبراء ضروريٌّ، إلاّ أنّه غير كافٍ. بل إن الطرق والأساليب المطبَّقة تحتاج هي الأخرى إلى التهذيب، بمعنى أنه يجب على الحوزات العلميّة القيام بثلاثة واجبات، وهي:
1ـ علم الحكم الإسلاميّ: أي إن الأحكام التي يستنبطونها من الدين يجب أن تتّصف بالحجّيّة.
2ـ علم الموضوع الإسلاميّ: أي عندما نريد أن نعرف الموضوعات لا ينبغي الرجوع إلى رأي العرف. كلاّ، فالأمر ليس بهذه الشاكلة، بل إن بعض الموضوعات، كالتنمية والاقتصاد، فيها الدينيّ وغير الدينيّ.
3ـ المنهج الإسلاميّ في علم الموضوع: يجب أن يكون ذات المنهج المتَّبع في علم الموضوع مستنداً إلى الوحي، ليصبح علم الموضوع إسلاميّاً هو الآخر.
هذه الأسس هي التي تسبَّبت في إقبال السيد منير الدين على مقولة العلوم الإسلاميّة. فقد توصَّل إلى النتيجة التالية، وهي: إنّ جميع العلوم الغربيّة ـ بشكل مطلق ـ بعد عصر النهضة مبنية على مقدّمات غير إسلاميّة، ولذا فهي غير مفيدة. وفي بداية الثورة ركَّز أكثر اهتمامه على مواضيع الاقتصاد الإسلاميّ؛ لأسباب اجتماعيّة أو معرفيّة، ولكنّه التفت فيما بعد إلى أن الاقتصاد لا يمثِّل سوى ميداناً واحداً في هذا الوادي، ولابدّ من البحث عن مسألة النموذج والمنظومة الإسلاميّة، أي المنظومة التي تكون جميع مفاصلها منسجمةً مع الإسلام والحجّيّة الإسلاميّة. فكان هاجسه يتمثَّل بمشروع متكامل يشمل المتغيِّرات الثلاثة، المتمثِّلة بالثقافة والسياسة والاقتصاد؛ لكي تتحقَّق التنمية الاجتماعيّة الإسلاميّة.
ولدينا بشكل عامّ مشروعان هندسيّان اجتماعيّان، هما:
1ـ المشروع الهندسيّ الاجتماعيّ المبنيّ على المقدّمات الحسّية، الذي ينتهي بالتنمية الإلحاديّة غير الإلهيّة.
2ـ المشروع الهندسيّ الاجتماعيّ المبنيّ على الدين، والذي ينتهي بالتنمية الإلهيّة للمجتمع.
فكان يؤمن أن هذا البرنامج الهندسيّ لتنمية المجتمع بحاجة إلى منهج ثقافيّ منتظم. وبدون هذا المنهج لا يمكن الوصول إلى البرنامج التنمويّ. وهذا المنهج الثقافيّ المنظَّم غير ممكن هو الآخر بدون إجراء التغيير في فلسفة المنهج؛ إذ إن فلسفة المناهج يجب أن تكون على أساس فلسفة متكاملة، بمعنى أنه يجب أن تكون لدينا فلسفة عامّة، وعلى أساسها نحصل على فلسفة المنهج.
وبهذا الشكل فقد توصَّل إلى الأسس من خلال الاحتياجات. ففي البداية كان يحمل هاجس الاقتصاد الإسلاميّ، ولكنّه التفت فيما بعد إلى أنّ الاقتصاد يمثِّل عنواناً واحداً من عناوين التنمية، والعنوانان الآخران له هما: الثقافة؛ والسياسة. ولهذا يجب أن نهتمّ بتنميتها أيضاً. ومن ثمّ رأى أن تنمية هذه العناوين الثلاثة بحاجة إلى منهج، والمنهج يريد هو الآخر فلسفة المنهج، وفلسفة المنهج بحاجة إلى فلسفة متكاملة. كما أنه في موضوع منهج التنمية يعتقد بأنه يجب علينا أن نحصل على ثلاثة مناهج:
1ـ منهج الاستنباط، أو منهج الحجّيّة في فهم الدين.
2ـ منهج العلوم، أو منهج أسلمة العلوم العمليّة.
3ـ منهج التخطيط، الذي يتكفَّل قضية الإسلام في الفهم التنفيذيّ للمجتمع.
يتكفَّل علم أصول الفقه المنهج الأوّل فقط. ومن هنا لابدّ من أن يتحقَّق نوعٌ من التكامل والتغيير في علم أصول الفقه؛ لكي نحصل على المنهجين الآخرين أيضاً. ولكنْ قبل الحصول على هذه المناهج الثلاثة لابدّ أن نمتلك فلسفة منهجيّة، أو حسب تعبير البعض من أعضاء الأكاديميّة: أن نمتلك منطق المنهج، والذي يحتاج هو الآخر إلى فلسفة جامعة.
إذاً يجب علينا أن ننتج في البداية فلسفةً جامعةً، باسم (فلسفة الأسلمة) أو (فلسفة الكيفيّة والعمل الإسلاميّ)، تتكفَّل بإنتاج فلسفة المناهج، والتنسيق بينها؛ ليتسنّى الحصول على المناهج على أساس هذه الفلسفة، وينبثق المشروع الهندسيّ لتنمية المجتمع على أساس هذه المناهج.
الفلسفة الجامعة (فلسفة الأسلمة، وهي فلسفة الكيفيّة والعمل الإسلاميّ)
فلسفة المناهج (منطق المنهج)
منهج التنمية المشتمل على:
1ـ منهج الاستنباط، أو منهج الحجّيّة في فهم الدين.
2ـ منهج العلوم، أو منهج أسلمة العلوم العمليّة؛ النموذج.
3ـ منهج التخطيط.
برنامج التنمية الإسلاميّة ــــــ
وعليه فقد تبنَّت أكاديميّة العلوم الإسلاميّة مقولة العلم الدينيّ من حيث التطبيق الكامل للإسلام على أرض الواقع، وهاجس التطبيق العيني للإسلام، أي بما أنها تسعى إلى المشاركة الفاعلة للدين في الميدان الاجتماعيّ فإنها توصَّلت إلى وجوب اكتشاف وتدوين مفاهيم عمليّة جديدة. ولو تحقَّق هذا الحضور للدين في جميع الميادين الأخرى فسوف لن نمتلك العلوم الإسلاميّة فحسب، بل سنمتلك الصناعة والتكنولوجيا الإسلاميّة أيضاً.
الثورة الإسلاميّة في إيران هي ثورة سياسيّة وثقافيّة، تؤمن بمشاركة الدين في ميدان الحياة البشريّة من أوسع أبوابها، وعلى مستوى العالم، إلاّ أن هذه الفكرة بحاجة إلى العلوم والمفاهيم العمليّة، ليتسنّى لها تطبيق الصلة القائمة بين الأفكار والشعارات بشكلٍ عينيّ في الميدان الاجتماعيّ. إن شعارات الثورة الإسلاميّة يمكن أن تتحقَّق في ظلّ تطبيق العلوم والمفاهيم العمليّة الجديدة. فلا يمكن أن نأخذ بعض الجوانب من الغرب؛ ذلك أن الغرب عبارة عن وحدة واحدة، وكلٍّ متّصل، وجميعُ عناوينه، أي علومه وثقافته، متَّصلة ببعضها البعض، ولا يمكن فصل بعض عناوينه عن سائر أجزائه الأخرى. فالغرب عبارة عن منظومة متشابكة ومنسجمة مع بعضها البعض، بحيث إنّ أجزاءه يحاكي بعضها بعضاً. ومن هنا يجب أن تكون لدينا شبكة فلسفيّة ودينيّة؛ لتكون قادرة على توجيه عمليّة إنتاج العلم وتطويرها، وتمتلك الجرأة النفسية المبنيّة على الإيمان الدينيّ لتجاوز حدود القوالب التقليديّة في العلم. وبهدف تحقيق هذا الهدف قامت أكاديميّة العلوم الإسلاميّة بتأسيس فلسفة العمل الإسلاميّ ومنطقه. وهذه الفلسفة يجب أن تكون مستندة إلى القواعد الدينيّة من جهة، وتمتلك القدرة على قيادة العلوم من جهة أخرى، بمعنى أنْ تهتمّ بتوليف العلم والمعتقدات من جهة، وتمتلك القدرة على إدارة إنتاج الثقافة والعلم في المجتمع من جهة أخرى.
وترى الأكاديميّة أنّنا لم نكن نمتلك العلم الدينيّ في أيّ مرحلة من المراحل التاريخيّة، حتى في مرحلة بلوغ الحضارة الإسلاميّة ذروتها، عندما ازدهرت فيها علوم الطبّ والرياضيّات والنجوم؛ لأنه حتّى في تلك المرحلة لم تكن هناك علاقة منطقيّة بين العلم والدين؛ لأنّ هذه العلوم بلحاظ المقدّمات والمنهج لم تكن دينيّة. أجل، البعض من موضوعات هذه العلوم كانت نابعة من الثقافة الإسلاميّة، وكان هناك الكثير من العلماء المتَّقين والمؤمنين. ولذلك لا يمكن القول: إنّ علوم الطبّ والنجوم كانت لها حجّيّة دينيّة في ذلك الوقت؛ لأنه لا توجد علاقة منطقيّة بين هذه العلوم والدين.
كما أننا لا نمتلك فلسفة إسلاميّة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لأنّ الفلسفات الموجودة ليست إسلاميّة من حيث المفاهيم والمقدّمات والمنهج. وبالرغم من أن بعض الموضوعات المطروحة في الفلسفة نابعة من الثقافة الإسلاميّة، وأن النفس الدينيّ والدوافع الدينيّة للفلاسفة كانت مؤثِّرة في فلسفتهم، إلاّ أنّه لم تتكوَّن علاقة منطقيّة بين العقل والوحي.
الملاحظة الأخرى برأي الأكاديميّة أنّها ترى العلوم الجامعيّة، وبخاصّة الفنّية والهندسيّة منها، تسعى إلى إحداث التغيير في عالم الطبيعة، وكذلك السيطرة على التغييرات. فعلى سبيل المثال: عندما يكون هناك جفافٌ فالعلوم الموجودة تعطينا القدرة على التصرُّف في شؤون الطبيعة، وكذلك السيطرة على التغييرات في الطبيعة. فالعلم يقول لنا كيف يمكن إحداث التغيير في العالم، ولكنْ ما هي حدود هذا التغيير؟ هذا الأمر مرتبطٌ بنا، وتقول الأكاديميّة: إنّه يجب علينا أن نصل إلى المرحلة التي نحصل فيها على كيفية التحكُّم بالتغيير من الدين.
فلسفة الكيف والصيرورة ــــــ
تؤمن أكاديميّة العلوم الإسلاميّة أن الفلسفة الإسلاميّة كانت وما تزال فلسفة كيف؟ ولماذا؟ أي هي عبارة عن فلسفة نظريّة بحتة. ومن هنا لا تستطيع أن تتكفَّل السيطرة على التطبيق العينيّ للعلوم وقيادتها، بمعنى أنها لا تستطيع أن تنتج العلوم، ولا تستطيع أن تسيطر على العلوم المنتجة، ولم تدَّعِ ذلك أيضاً، في حين أنّنا نتمنّى على الفلسفة أن تسيطر على عمليّة التطبيق العيني على أرض الواقع، بنفس الشكل الذي تمكَّنت فيه الفلسفات الحسّية الغربيّة من إخضاع العلوم لإشرافها، من خلال إيجاد التنسيق بين العلوم. أي إن نظام العلوم الطبيعيّة والعمليّة يتكوَّن على أساس الفلسفة الوضعيّة، فهي تُنتَج من جهة، وتسيطر كذلك على الفلسفة الحسّية لهذه العلوم، فالفلسفة هي أمّ العلوم حقّاً. تقول الأكاديميّة: لو كنّا نتمنّى على الدين أن يكون له وجود عينيّ في المجتمع، ويسيطر على الثقافة والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، فيجب أن تشرف الفلسفة النابعة منه على العلوم، يجب أن تكون لدينا فلسفة تُعنى بكيفيّة الحركة في التطبيق العينيّ والسيطرة عليها؛ لأن العالم هو عالم التغيير، ومهمة العلوم هي السيطرة على التغيير، فالفلسفة أيضاً يجب أن تكون فلسفة الحركة والتغيير والصيرورة. هذه الصيرورة يجب أن تُعنى بثلاث مسائل مهمّة:
1ـ الوحدة والكثرة؛ بسبب استناد إدارة التغييرات الاجتماعيّة على التنسيق على محور واحد.
2ـ الزمان والمكان؛ بسبب ضرورة التكامل المستمرّ للنظم الاجتماعيّة.
3ـ الإرادة والوعي؛ بسبب ضرورة إدارة الصلاحيّات والإرادات في النظام الاجتماعيّ.
وتدير العلوم النظام الاجتماعيّ بطريقة تؤدّي بالمجتمع إلى الفساد، وكأنّ أفراد المجتمع لا خيرة لهم من أمرهم. هذه العلوم تدير دفّة الإرادات من فوق. ومن هنا يجب علينا بدايةً أن نحدِّد مصير الإرادة والاختيار في الفلسفة؛ لكي نستفيد من هذا البحث في موضوع إدارتها من قبل العلوم.
أصالة الفاعليّة ــــــ
تؤمن أكاديميّة العلوم الإسلاميّة بما يلي: بما أن المتغيِّرات الثلاثة هي أركان الفلسفة يجب أن تكون مبنية على محور واحد، ويجب أن تكون لدينا قاعدةً أساسيّة نقوم على أساسها بدفع هذه المواضيع الثلاثة إلى الأمام. فالقاعدة الأساسيّة لفلسفة الملا صدرا وشيخ الإشراق هي أصالة الوجود وأصالة الماهية، ولكنْ ليس بمقدور الاثنين إيصالنا إلى مرحلة الفلسفة والعمل الإسلاميّ. ومن هنا لابدّ من تعريف قاعدة جديدة.
القاعدة التي يطرحها السيد منير الدين هي أصالة الربط بداية، أي إنّ موجودات العالم مرتبطة ببعضها البعض بشكل كامل، على الرغم من أنها تبدو منفصلة في الظاهر، ولكنّها تصل فيما بعد إلى أصالة التعلُّق، أي موجودات العالم ليست مرتبطة ببعضها فقط، بل إنها تتعلَّق ويتقوّم بعضها بالبعض أيضاً. فبعد أصالة الربط تنتهي المسألة بأصالة التعلُّق. ومن ثم يقول: جميع هذه الموجودات ترتبط بحقيقة أعلى. وهنا يطرح أصالة الفاعليّة ويفسِّر الوحدة والكثرة، والزمان والمكان، والاختيار والإرادة، على أساس أصالة الفاعلية. وهذا التفسير يتحوَّل في شكله المتكامل إلى نظام الولاية.
وهذه الفلسفة ترى أن الهويّة، والتغيُّر، والانسجام، والوحدة، وبكلمة واحدة: جميع شؤون المخلوقات، يتمّ تفسيرها على أساس التولّي والولاية. فجميع شؤون المخلوقات تعود إلى التولي، وجمعيها تنضوي تحت الولاية الإلهيّة، سواءٌ أقرّت بهذه الولاية أم لم تقرّ بها؛ لأنه بما أننا نقول في الفلسفة بأصالة الربط، وأصالة التعلّق، ومن ثم الفاعليّة، فجميع الموجودات هي شؤون الحقّ تعالى، ويجب علينا أن نفسِّر المسائل الثلاثة السابقة على أساس أصالة الفاعليّة، وبعبارة أخرى: أصالة الولاية. وعلى هذا الأساس فإنّ الأكاديميّة غير معنية بصدق وكذب الإدراكات، بل ترى أن المعيار هو الحق والباطل؛ والإدراك الذي يكون نتاجاً لقضية التولّي، هو إدراك حقّ، ولكن الإدراك الذي يكون نتاجاً لقضية التولي بولاية الباطل هو إدراك باطل. ومن هنا يجب أن يدور الحديث عن معرفة الحق والباطل، وليس عن الصادق والكاذب. حتّى أنه يستفاد من بعض أقوال الأكاديميّة أنهم لا يوافقون على أصل التناقض أيضاً. ويرون أن جميع هذه العلوم والنظريّات والتكنولوجيا هي نتاج قضية ولاية الباطل، وليس فلسفة الغرب وحدها، بل حتّى فلسفة الملا صدرا؛ بما أنّ لها جذوراً في فلسفة اليونان، فهي مبنيّة على التولّي بولاية الطاغوت. كما أن المعيار في مصداقية الأفكار النظريّة هو في تطابقها مع الوحي. وبناء على ذلك؛ وانطلاقاً من درايتها بعلم المعرفة، تؤمن الأكاديميّة بتقدُّم الإيمان على المعرفة؛ إذ يجب أن نؤمن في البداية، ومن ثم نفهم، وعلى أساس هذه الولاية الإيمانيّة تتكوَّن الفلسفة. وهذه الفلسفة تنتج ثلاثة أنواع من المنطق والمناهج، وهي: منطق فهم الدين، ومنطق الفهم العمليّ، ومنطق الفهم التنفيذي، ومن ثم تعمل على تكاملها، وفي المرحلة اللاحقة يوجد نوعٌ من التنسيق الدينيّ في تكامل هذه الأنواع من المنطق، التنسيق الذي يجعل على أساسه المعلومات المتخصِّصة، ومن ثم إيجاد الثقافة العامّة للمجتمع وتكاملها، قائماً على محور الدين. كلّ هذه الأمور قائمة على الدين.
يمكن القول: إن مراد الأكاديميّة من شمولية الدين لا يعني أن نحصل من الدين على الجواب لكلّ سؤال, بل يرون أنّه إذا وفقنا في أن نحقِّق الفلسفة ومنطق المناهج على أساس الإيمان والولاية فكل نتيجة نحصل عليها من هذه الفلسفة ستكون دينيّة، وكلّ علم وتكنولوجيا نحصل عليها من هذا المنهج سيكون دينيّاً؛ لأن هذا المنطق للمناهج قائمٌ على الوحي والدين.
جهويّة العلوم ــــــ
بعد أن أصبح من الواضح أنه يمكن تقسيم العلوم إلى: إسلاميّة؛ وغير إسلاميّة، على أساس الفلسفة وتقدّم الإيمان على المعرفة، فإنه يؤكِّد على أن العلوم مطلقاً، بما فيها العلوم الأساسيّة، والتجريبيّة، والعلوم الإنسانيّة والعمليّة، لها وجهة معينة. ومن هنا فإن جميع العلوم يمكن تفكيكها إلى: إسلاميّة؛ وغير إسلاميّة. الموالون للأكاديميّة ذكروا أدلّة مختلفة على جهويّة العلوم، نشير لها بشكلٍ مختصر:
الدليل الأوّل على جهويّة العلوم ــــــ
1ـ لا توجد أيّ دراسة علميّة بدون هدف محدَّد. وكلّ مَنْ يعمل في ميدان الأبحاث والدراسات له دافع معين؛ فإمّا يسعى إلى دفع شبهة معينة؛ أو له دافع مادّيّ؛ أو غير ذلك.
2ـ رغم أنّ حقيقة الدافع في كلا مجتمعي المؤمنين والكافرين واحدة من حيث المبدأ فإنّ دافع المؤمن يختلف عن دافع غير المؤمن. فالدافع الإيمانيّ وتكامله في الفرد الربّاني والمؤمن في المجتمع الإسلاميّ هو غير الدافع غير الإيمانيّ في المجتمع المادّيّ؛ ذلك أن منظومة الاحتياجات والتغيّر في كل واحدة من الحاجات يغيّر منظومة الاحتياجات. فحاجة المجتمع المادّيّ هي البحث عن اللذة، إلاّ أن حاجة المجتمع الدينيّ هي القرب من الله تعالى. وبما أن الحاجات متباينة فالدوافع أيضاً مختلفة.
3ـ تتبع قضية التنمية وتكامل العلوم قضية تكامل الحاجات وإشباعها. وعليه تتغيَّر وجهات الأبحاث والعلوم؛ لأن العلوم لا تسعى إلى كشف الحقيقة. وحتّى لو قلنا جدلاً بأن العلوم تكشف الواقع فإننا نذهب إلى كشف الواقع الذي يحقِّق لنا حاجة معينة، وكلّ معادلة هي كاشفة لعلّة ومعلول يكون فاعلاً باتّجاه إشباع حاجة خاصّة.
وبناء على ذلك للعلوم وجهة معينة. والعلوم التي ترى النور في المجتمع الغربيّ هي وليدة متطلَّبات ذلك المجتمع. ولو أخذنا بنفس هذه العلوم، وتحكَّمنا بالعينية والتغيير بهذه العلوم، سوف تنساق حاجات مجتمعنا الدينيّ رويداً رويداً باتّجاه حاجات ذلك المجتمع.
الدليل الثاني على جهويّة العلوم ــــــ
توفِّر الفلسفة مقدّمات العلوم. وقد تركت القاعدة الوضعية المتطرِّفة أثرها على جميع العلوم المتداولة. فبما أن منطلقات هذه العلوم غير دينيّة، بل حتى معادية للدين، فهذه العلوم غير دينيّة أيضاً. ومن هنا يجب علينا القيام بتغيير هذه المنطلقات غير الدينيّة في فلسفة العلم.
الدليل الثالث على جهويّة العلوم ــــــ
وهو يعبِّر عن إثبات جهويّة العلوم على أساس علم المعرفة، وسنشرحه على النحو التالي:
1ـ الإرادة موجودة في جوهرة الوعي، وهي من مقوِّماتها. ولا وجود للوعي بدون إرادة. وأعمال الإنسان من حيث المبدأ إراديّة، سواء الجوارحية منها أو الجوانحية. «عمليّة ظهور العلم عمليّة إرادية، وكيفية إرادة الإنسان لها دخلٌ في نوع فهمه وكيفية فهمه بشكل نسبيّ وبدرجات مختلفة»([2]).
2ـ عمل الإنسان وفعله الذي ينتهي إلى إنتاج العلوم في قضية التولّي يختلف عن الفعل الذي لا ينتهي إلى إنتاج العلوم في قضية التولّي.
وبما أن الإرادة من مقوّمات الوعي، والعلوم هي وليدة الوعي، لو اخترتم الولاية الإلهيّة ستكون العلوم الناتجة هي علوم الحقّ، ولكنْ لو اخترتم ولاية الباطل ستكون العلوم الناتجة باطلة. «كما أن العلم الدينيّ يعني لو أن الولاية الإلهيّة كانت مهيمنة على عمليّة اكتشاف العلم في جميع مستوياته فهذا العلم هو علم دينيّ، ولو لم تكن الولاية الإلهيّة مسيطرة على عمليّة اكتشاف العلم، بمعنى لو لم تكن قضية التولّي والولاية المشرفة على عمليّة إنتاج العلم وظهوره ولاية حقّ، سيكون هذا العلم باطلاً هو الآخر. وبناء على ذلك سنجد بعضاً من أنواع العلم، إلهيّاً، وانتقائيّاً، وإلحاديّاً»([3]).
خلاصة القول ــــــ
من خلال ما تقدّم نخلص إلى أن جميع العلوم، بما في ذلك العلوم الأساسيّة، كالرياضيّات، يمكن أن تقسَّم إلى نوعين: إسلاميّ؛ وغير إسلاميّ. كما أنّ الفلسفة ـ وهي أساس جميع هذه العلوم ـ؛ بما أنّها مبنية على الإيمان والولاية الإلهيّة، هي إسلاميّة. وعليه يجب أن نعلم أن مراد الأكاديميّة من الدين في موضوعة شمولية الدين ليس الدين بمعنى القرآن والسنّة، بل الإيمان الذي يجري مجرى الدم في عروق الفلسفة والعلوم.
دراسة سلبيّات مقولة أكاديميّة العلوم الإسلاميّة ــــــ
تنطوي مقولة أكاديميّة العلوم الإسلاميّة، التي مرّ ذكرها في الجزء السابق، على الكثير من الإشكاليات والنقص:
1ـ النقص في «فلسفة الصيرورة» ــــــ
الإشكالية الأولى على «فلسفة الصيرورة» هي أن هذه الفلسفة على درجة كبيرة من النقص. و«فلسفة الصيرورة» هي نوعٌ من «الفلسفة المضافة إلى الواقع»، والتي تناول فيها السيد منير الدين ثلاث مسائل، هي: «فلسفة الوحدة والكثرة»؛ و«فلسفة الزمان والمكان»؛ و«فلسفة الإرادة والوعي». في حين أن الفلسفات المضافة للواقع أكثر بكثير من هذه الأنواع الثلاثة. فكان يجب عليه أن يتناول منظومة من الفلسفات المضافة الأخرى، من قبيل: فلسفة الوجود، وفلسفة الإنسان، وفلسفة المعرفة، وفلسفة الدين، وفلسفة الفهم، وهي أسس الفلسفات الأخرى، وتتولَّد منها فلسفات أخرى، كفلسفة الأخلاق، وفلسفة علم الاجتماع، وفلسفة التاريخ، وفلسفة السياسة، وغيرها. إن أساس جميع الفلسفات وقاعدتها هي «فلسفة المعرفة»، و«فلسفة الإنسان»، و«فلسفة الفهم». ولم تتطرَّق الأكاديميّة بالقدر الكافي إلى مواضيع هذه الفلسفات. ويقوم هذا التيّار الفكريّ بإجراء أبحاثه على أساس أصالة الفاعلية، ولكن لا تجرى في الفلسفة أيّة دراسة عن قانون العليّة. إذا كان هذا التيّار الفكريّ يريد أن يؤسِّس لفلسفة جامعة شاملة، تصبح أساساً للعلوم أيضاً، فهناك الكثير من المواضيع الأخرى التي لم يتطرَّق لها. إذا كانت الأكاديميّة تريد أن تحمل هاجس الفلسفة والتغيير لن تستطيع الوصول إلى مرحلة الفلسفة بدون امتلاك الفلسفة التساؤليّة والوصفيّة. كما أن فلسفة الغرب لم تقم هي الأخرى بهذا العمل. واذا كانت فلسفة الغرب قد تمكَّنت من الوصول إلى الفلسفة العمليّة، وتتطوّر الفلسفة في مراحل عصر النهضة والعصر الجديد والمعاصر، وتصبح منطلقاً ومصدراً للعلوم، فالسبب في ذلك يعود إلى أنّ فلسفة المعرفة أصبحت أساساً لسائر الدراسات. ومن الواضح أن فلسفة المعرفة هي من نوع الفلسفة التساؤلية والوصفية، وليس الفلسفة.
وخلاصة القول: رغم ضرورة الفلسفة فإن نفس الإشكالية التي تسجلها الأكاديميّة على الفلسفة الإسلاميّة المتداولة تُسجَّل عليهم أيضاً، وبنحو أشدّ. صحيحٌ أن الفلسفة الإسلاميّة لم تتطرَّق إلى فلسفة الصيرورة والعمل، وهي غير قادرة على مسك إدارة شؤون العمل، ولكنّ الأكاديميّة ذهبت إلى فلسفة الصيرورة بدون القيام بدراسة الفلسفة التساؤلية والوصفية، في حين أن الفلسفة النظريّة تُقدَّم على الفلسفة العمليّة. صحيحٌ أنه يجب أن يصار إلى تصحيح هذا النقص الموجود في الفلسفة الإسلاميّة؛ لتتمكن من الإشراف على العلوم، إلاّ أن هذا الإجراء لا يمكن تنفيذه بدون الفلسفة النظريّة: (فلسفة الوجود، وفلسفة الإنسان، وفلسفة الدين، وفلسفة المعرفة، وغيرها). فإذا كنّا نفتقر لفلسفة الإنسان سوف لن يصبح لدينا فلسفة علم الاجتماع. وبدون فلسفة علم الاجتماع ليس بمقدورنا القيام بالإشراف على الاختيار والإرادة والسيطرة عليها. فالسيطرة على الإرادة تحتاج إلى الفلسفة النظريّة، فضلاً عن حاجتها لفلسفة الصيرورة والفلسفة العمليّة.
2ـ عدم وجود الدليل على حصر موضوعات «فلسفة الصيرورة» ــــــ
ذكر السيد منير الدين ثلاثة مواضيع لفلسفة الصيرورة، وهي عبارة عن: الوحدة والكثرة؛ الزمان والمكان؛ والإرادة والاختيار. فما هو الدليل على حصر موضوعات فلسفة الصيرورة بهذه المواضيع الثلاثة، في حين أن هناك مفاهيم أخرى أيضاً مؤثِّرة في السيطرة على التغيير، مثل: مفهوم العليّة؟!
3ـ الإبهام في الألفاظ والمفاهيم، وعدم وضوح التعريف بها ــــــ
المصطلحات المستخدمة في مواضيع الأكاديميّة وأساتذتها، ولغة هذه المجموعة بشكل عامّ، هي لغةٌ مبهمة وبطيئة الفهم، في حين ينبغي عليهم تعريف المصطلحات والمفاهيم الأساسيّة بشكل واضح؛ ليتّضح مرادهم للمخاطب. ولا يستطيع المؤيِّدون للأكاديميّة اتّهام مَنْ يخالفهم بعدم الفهم؛ لأنه ينبغي الاعتراف قبل كل شيء بعجز مقولة الأكاديميّة في خلق حالة التفاهم المشترك.
4ـ الإبهام في العبور من فلسفة الصيرورة إلى فلسفة المنهج ــــــ
زعمت الأكاديميّة أنّه يجب أن نستفيد من فلسفة المنهج؛ لغرض السيطرة على العينية المتولِّدة هي الأخرى من فلسفة الصيرورة. ولكنّها لم توضِّح لنا كيف توصَّلت من فلسفة الصيرورة، والبحث في المواضيع الثلاثة المتقدّمة، إلى فلسفة ومنطق المناهج. الصلة بين الأساليب التي طرحتها بواسطة فلسفة الصيرورة غير واضحة، ويجب أن توضح لنا كيف يتمّ استخراج الأساليب التي تطرحها من فلسفة الصيرورة؟
5ـ نفي أصالة الوجود والماهية ــــــ
بعد نفيها لأصالة الوجود والماهية وضعت الأكاديميّة أصالة الربط محلّهما. والسؤال هنا: إنّه بغضّ النظر عن فائدة موضوع أصالة الوجود أو الماهية عندما نواجه أمراً خارجيّاً كفلاسفة يتبادر إلى ذهننا مفهومان عنه. والسؤال هنا: أيٌّ منهما أصيل، الوجود أم الماهية؟ واقعنا الخارجيّ هل هو بإزاء مفهوم الوجود أو مفهوم الماهية؟ هذا السؤال هو سؤال فلسفيّ، وبحاجة إلى إجابة؛ إذ لا يمكن القول: لا هذا، ولا ذاك. بل إن الأصالة إما مع الربط أو شيء آخر. وإذا كنتم تقولون بأصالة فاعلية الربط أو التعلُّق فهل هذه الأمور من سنخ الماهيّة أو الوجود؟
6ـ ضرر حدود الدين الإسلاميّ وما يتوقَّعه الإنسان من الدين ــــــ
وفي موضوع حدود الدين تؤمن بشمولية الدين في ميدان التحقُّق العيني للدين. ولكنْ ـ كما سبق ـ لا يعني ذلك أنها تقول بوجود أجوبة عن جميع الأسئلة في النصوص الدينيّة، بل مرادها بذلك أنه يجب أن نأخذ منطق المناهج الثلاثة: (منطق منهج الفهم، والعمل، والتخطيط) من الدين، وأن يكون الدور المشرف والموجّه للدين حاضراً في جميع الميادين.
تكمن إشكالية هذا الرأي في أنّ هذا الموضوع في الأكاديميّة لا يعدو كونه مجرّد زعم محض، وإنّها لم تُقِمْ أيّ دليل لهذا الزعم. وتتمثّل إشكالية المخالفين للعلم الدينيّ أساساً في أنّ الإيمان والمعتقدات الدينيّة إنّما تلعب دوراً في اختيار الموضوع، وحتى الفرضيّة عند الجمع فقط، ولكن عند الحكم والتقييم ليس لها أيّ دور. يعتقد المعارضون للعلم الدينيّ أن الدين ليس له أيّ دور في علم منهج الإثبات، وتقييم العلوم، وإشراف الدين، بل يجب عند التقييم القيام بإثبات المعلومات التجريبية بالمنهج التجريبي. ولو زعم أحدٌ أنّ الدين له دورٌ في أسلوب إثبات المعلومات التجريبية، وأن علم منهج إثبات العلوم هو علمٌ دينيّ، يجب أن يوضح هذه المسألة ويقوم بإثباتها. ومن هنا يجب على أكاديميّة العلوم أن تبين لنا أن الإيمان والمعتقدات الدينيّة تلعب دور المشرف والموجّه في منهج الإثبات وتقييم العلوم، وأن علم منهج إثبات العلوم في حدّ ذاته هو علم دينيّ.
7ـ الإشكاليّة على أدلّة جهويّة العلوم ــــــ
تعتبر الأدلّة التي تقدَّمت بها أكاديميّة العلوم الإسلاميّة على جهويّة العلوم ناقصة.
فالدليل الأوّل على جهوية العلوم ناقص؛ ذلك أنّه بالنسبة إلى القاعدة القائلة بأن الدافع وحاجتنا إلى البحوث العلميّة هي التي تحدِّد لنا الوجهة الصحيحة يجب أن نرى في أيّ بُعد من الأبعاد تحدِّد لنا هذه الوجهة الدوافع والحاجة؛ بمعنى هل أن الدافع والحاجة فقط هما اللذان يقولان لنا ما الموضوع الذي يجب أن نختاره للبحث العلميّ، ولكنْ بعد أن يدفعنا دافع خاصّ نحو جهة معينة يجب أن نبيِّن عندها ما هو التأثير الذي يمتلكه الدافع في دراسة معلومة تجريبيّة وإثباتها؟
وتقول الأكاديميّة في الدليل الثاني: الفلسفة الوضعية مقدّمة جميع العلوم التجريبية.
ولكن يقال في موضوع التعارض بين مقدّمات العلم والدين أنه يمكن الأخذ ببعض المقدّمات الوضعية، مع إجراء بعض التغيير عليها، بحيث لا يحصل أي تغيير في النتائج العلميّة المستحصلة. وكمثال على ذلك: تقول إحدى القواعد الوضعية للعلوم: إن منهج إثبات نتائج العلوم ودراستها هو منهج علميّ. وبإمكاننا إنكار هذا الحصر والقول: إن المنهج العلميّ هو أحد أساليب الإثبات، وليس الأسلوب الوحيد الموجود. وعليه عندما نقوم بدراسة المعلومات بالأسلوب التجريبي لن يحصل أيّ تغيير فيها. ومن هنا من الممكن أن لا يختلف الوضعي عن غير الوضعي في اكتشاف معادلات العالم، إلاّ إذا تمكَّنت الأكاديميّة من بيان هذا الاختلاف. التحدّث على هذا النحو من قبل المؤلِّف لا يعني أن المنهج الوضعي في مجال الماهية يأخذ بالاستقراء، بل إنه ينتقد هذه المدرسة بشدّة. ولكنْ على أيّ حال يجب على تيّار الأكاديميّة أن يجيب عن التساؤلات المتقدّمة.
8 ـ وجود النقص في مواضيع فلسفة العلم ــــــ
المواضيع التي طرحتها الأكاديميّة في باب فلسفة العلم على درجة كبيرة من النقص. فالكثير من مواضيع فلسفة العلم، مثل: ماهيّة حقيقة الاستقراء، وكيفية تأثير دافع العالم في علمه، وأسئلة أخرى تعدّ من الأسس المهمة في العلم الدينيّ، نالها الحيف والنسيان في أبحاث الأكاديميّة.
ومنها: التساؤل عن المسار الذي يقطعه العلم التجريبي؟ هل للدوافع دورٌ في التوضيح والكشف حقّاً؟ هل أن الاستقراء والتجربة يكشفان الحقيقة؟ وعشرات الأسئلة الأخرى لم تتطرَّق لها الأكاديميّة. وعلى أيّ حال للعلم الدينيّ منهج علميّ؛ وآخر دينيّ. ولو فرضنا أنّكم حصلتم على المنهج الدينيّ بإمكانيّاتكم الذاتيّة فإنّه في المنهج العلميّ يجب أن تأخذوا بنظر الاعتبار آراء الآخرين وما حصل في الغرب، في حين أن الأكاديميّة لم تتناول هذه المواضيع.
9ـ سلبيّات الآراء العلميّة ــــــ
تواجه الآراء العلميّة لأكاديميّة العلوم الإسلاميّة الانتقادات التالية، ومن جوانب متعدّدة:
أـ من أهم الشبهات والإشكاليات الموجودة لدينا على آراء الأكاديميّة هو موضوع إنكار الصدق والكذب. فقد وضعوا ـ كما مرّ علينا ـ صدق المعلومات وكذبها جانباً، وذهبوا نحو الحقّ والباطل. وعليه فسؤالنا هو: هل تؤمنون بوجود حقيقة وراء الذهن أم لا؟ إذا كانت هناك حقيقة ما وراء أذهاننا فيجب أن توضِّحوا مسؤولية الذهن والعين. وفي خصوص المعرفة الذهنية للإنسان هل هي مطابقة للواقع أم لا؟ يجب عليكم أن توضِّحوا قضية الصدق والكذب. ليس باستطاعتكم القول: إنه لا شأن لنا بالصدق والكذب. يجب عليكم أن تجيبوا عن هذه الأسئلة الثلاثة:
أوّلاً: هل هناك واقعٌ ما خارج ذهننا وذهنكم أم لا؟
وثانياً: إذا كان هناك واقع ما فهل أن معرفتنا الذهنية تنظر للواقع أم لا؟
وثالثاً: هل أن معرفتنا الذهنية مطابقة للواقع أم لا؟
ومن حيث المبدأ يعتبر التحدُّث عن الغير وكشفه من الصفات الذاتيّة للعلم. وهل يمكن أن لا نتحدَّث عن الصدق والكذب؟ وهل أن الحقّ والباطل لا يجتمعان مع الصدق والكذب، حتّى تقولوا لا للصدق والكذب، ولكنْ نعم للحقّ والباطل؟!
نحن نرى أننا نصل إلى الحقّ والباطل المعرفيّ من خلال الصدق والكذب المعرفيّ. وكلّ معلومة حقّ هي صادقة أيضاً، وكل معلومة باطلة هي كاذبة. والواقع أن الرأي المعرفيّ للأكاديميّة ـ شاؤوا أم أبَوْا ـ عبارةٌ عن خليط من رأي البراغماتية والانسجام، وهو بعيد عن الواقعيّة المعرفيّة.
ب ـ ما هي النصوص الدينيّة التي يستفاد منها أن الحقّ والباطل هما غير الصدق والكذب؟ أنتم تقولون بوجوب أن نأخذ كل شيء من الدين، فمن أيّ النصوص الدينيّة أو من أيّ منهج دينيّ جئتم بهذا الأمر؟ وتجدر الإشارة إلى أن موضوع الصدق والكذب ورد في الآيات والروايات الإسلاميّة كموضوع الحقّ والباطل، وأقامت علاقة وثيقة ومباشرة بين الصدق والكذب والحقّ والباطل.
ج ـ تشابه رأي أكاديميّة العلوم مع النظريّة الإيمانيّة ـ كما سبق في نقل رأي الأكاديميّة ـ، فإنها تحدَّثت بصريح العبارة عن تقدّم الإيمان على الفهم والمعرفة. هذا الاتجاه هو رأي البعض من علماء المسيحيّة في باب العلاقة بين الوحي والعقل، والذين يقولون بتقدّم الإيمان والوحي على العقل. وهذا هو عين كلام (آنسلم) المعروف، والقائل: «آمِنْ كي تفهم». في حين أصبح من الواضح في دراسات فلسفة الدين والكلام الجديد أن الإيمان لا يمكنه أن يتقدَّم على الفهم؛ ذلك أن الإيمان وصفٌ نسبيّ، وبحاجة إلى الطرف الذي ينسب اليه. وبعبارة أخرى: إنّ العلم والمعرفة شرطٌ للإيمان، وليس بمقدور الإنسان أن يؤمن بشيءٍ ما لم يعرفه ويعلمه.
الدليل الأهمّ لدى الإيمانيّين أنّ أيّ برهان لابدّ وأن يكون مبنياً على مقدمات أو فرضيّات خاصّة. فلو أن شخصاً لم يقبل بأيّ فرضيّة كمقدّمة للبرهان ففي هذه الحالة ستكون المحاجّة مع هذا الشخص مستحيلة. المقدّمة المفروضة لبرهان ما يمكن أن تستنتج من برهان آخر، وبهذا الشكل يتم إثباتها. ولكن لا يمكن الاستمرار بهذا النهج إلى ما لا نهاية؛ إذ يجب علينا أن نصل في مكان ما من هذا السياق إلى فرضيّات أساسيّة، أي إلى الأمور التي قبلنا بها بدون إثبات، لمجرد أن هذه الأمور هي من الأهمّية بمكان، بحيث لا يوجد أي شيء آخر أكثر أساسيّة منها قادر على إثباتها، وبغير هذه الحالة لا يمكن أن نتوصَّل إلى أيّ علم.
وبناء على ذلك فالنقطة المهمّة، طبقاً لرأي الإيمانيّين، ما يلي: «يرى المؤمن المخلص أنّ أهم الفرضيّات يمكن أن نجدها في نفس منظومة المعتقدات الدينيّة. الإيمان الدينيّ هو الذي يبنيه الشخص في حياته. وحسب تعبير (پُل تيليش) فالإيمان الدينيّ هو ذلك الخوف الأخير للشخص. وفي هذه الحالة فإن فكرة تقييم الإيمان بواسطة المعايير العقليّة والخارجيّة ستكشف عن خطأ فاحش، ذلك الخطأ المعبِّر باحتمال كبير عن فقدان الإيمان الحقيقيّ»([4]).
هذا البرهان غير تامّ؛ للأسباب التالية:
الأوّل: لا شكّ أن النظام الدينيّ للمؤمنين له دورٌ بالغ في توجيه حياتهم وأهدافهم. وبعبارة أخرى: المعتقدات الدينيّة هي الأساس في سلوك وأعمال كلّ مؤمن صادق. ولكن لا يعني ذلك أن المعتقدات الدينيّة هي أكثر العناوين المعرفيّة أهمّية. وفي هذا البرهان خلط المؤمنون بين النصوص الأساسيّة والرئيسيّة للمعرفة مع النصوص الدينيّة الأساسيّة.
والثاني: إن الإيمان بالله والآخرة هو من أهمّ العناوين الدينيّة التي تحدِّد موت المؤمنين وحياتهم، إلاّ أنها ليست العناوين الأساسيّة لعلم المعرفة. فالعناوين الأساسيّة والبديهية في تعبير علم المعرفة هي العناوين التي تكفي لتصديق تصوّر الموضوع ومحموله، وإذا كان ممّا يمكن البرهنة عليه. فهي ليست بحاجة للبرهنة في التصديق، مثل: الأصل في استحالة اجتماع النقيضين، وأصل العلّيّة، وأصل الهوية، وغيرها. ويتحقَّق التصديق بأصل امتناع التناقض بتصوُّر الموضوع والمحمول، بل إنّ الشخص الشكّاك والمنكر للواقعيّة والمؤمن بالنسبيّة لا يستطيع هو الآخر أن ينكر ذلك أيضاً. إلاّ أن عنوان «الله موجود» ليس من النوع الذي يتحقَّق تصديقه بتصوّر الموضوع والمحمول، أو يستلزم إنكاره اجتماع النقيضين.
وتجدر الإشارة إلى أنه لو كان بإمكان البعض إثبات وجود الله عن طريق العلم الحضوري فبإمكاننا حينئذٍ اعتبار مقولة: «إن الله موجود» من سنخ الوجدانيّات والبديهيات الثانويّة. إلاّ أن مشكلة الوجدانيات هي في عدم قابليتها للانتقال، ولا يمكن نقلها إلى أشخاص محرومين من العلم الحضوري.
والأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هو أن تقييم الإيمان بواسطة المعايير العقليّة والخارجيّة لا تكشف حتماً عن فقدان الإيمان الحقيقيّ؛ ذلك أنه يمكن تقسيم إيمان المؤمنين إلى نوعين، هما: الإيمان المعلّل؛ والإيمان المدلّل.
الثالث: إنّ الإيمان المعلّل هو الإيمان الحاصل عن طريق التأثُّر بالأسرة أو المحيط، وليس عن طريق البرهان والاستدلال. وميزة هذا النوع من الإيمان أنه يتضرَّر أمام أدنى شبهة فكريّة، أو زوال العلّة.
إلاّ أن الإيمان المدلّل هو وليد البرهان والاستدلال، ولن تتمكَّن الحوادث والتحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة والشبهات الدينيّة المنشأ أن تؤدي إلى زواله. وبناءً على ذلك إذا كانت العناوين والمعتقدات الدينيّة معقولة فبإمكانها المساعدة في تقوية الإيمان.
د ـ السلبيّة الأخرى للأكاديميّة تعود إلى قولها بتقدُّم الإرادة على المعرفة. وهي المقولة التي أقرّ بها (شوبنهاور) في القرن التاسع عشر؛ إذ كان يرى أن للإنسان ساحتين، هما: ساحة الفكر؛ وساحة الإرادة. ويعتقد أنّ ساحة الفكر تتعلَّق بالظواهر، وهي مجرد وجود تلك الإرادة. وهي مؤثِّرة كذلك في العلم والفكر أيضاً. وبناء على ذلك اعتبر (كانْت) أن الشيء في الواقع هو علّة الشيء في الظاهر، ولكن اعتبر (شوبنهاور) أن المشية والإرادة هي علّة الظواهر. فالعلوم النظريّة والمعرفيّة تابعة هي الأخرى للمقاصد والإرادة العمليّة. وهذا الزعم يقرِّبه من المدرسة البراغماتية؛ ذلك أنه يرى أن العقل في استخدام المشية والإرادة. ومن هنا ليس الإنسان وحده مَنْ له علاقة بعالم الظواهر التي يختارها طبقاً لطلباته. ولكنْ تجدر الإشارة إلى أن العقل برأي (شوبنهاور) إذا بلغ مرحلة البلوغ والنضج والسمو بإمكانه التحرُّر من أسر الإرادة. ولهذا السبب فهو يرى أن الفلاسفة والفنانين قد تحرَّروا من هذا الأسر. هذا القول لا يبشِّر بشيء سوى بالنسبيّة والشكّ.
10ـ الخلط بين مقامي الثبوت والإثبات ــــــ
يبدو أن أكاديميّة العلوم قد خلطت بين مقامي الثبوت والإثبات في باب العلاقة بين الوحي والعلم؛ وذلك أن الوحي وأصالة الولاية صحيحة في مقام الثبوت والتحقُّق، وأمّا في مقام العلم والإثبات فالأولوية للعقل. صحيحٌ أن كلّ شيء بلحاظ الواقع والتحقُّق الخارجيّ هو تحت سلطة الله تعالى وولايته، وكلّ شيء هو مخلوقٌ، حتّى الشيطان والكفّار والملحدين هم تحت الولاية التكوينية للحقّ تعالى، وإنْ لم يتولَّوْه بالولاية التشريعيّة، ولكنّ الكلام يدور حول مقام الإثبات وعلمنا. ففي مقام إيجاد العلم لا يوجد أيّ سبيل إلى ذلك، سوى بالشروع من العقل. فهل يصحّ أن نقترح على الشخص الذي لم يتّضح له وجود الله تعالى بعد أنه ستصبح لديه المعرفة والعلم بوجود الله تعالى بتولّيه بولاية الله حتّى يؤمن بعد ذلك بالله تعالى؟ هذا الإشكال في الواقع هو إشكال معرفيّ؛ ذلك أن أوّل المعرفة لا يمكن أن تكون بالتولّي الإرادي بولاية الله، وعلى أساس الحقّ والباطل، الذي تقول به الأكاديميّة، بل إن السبيل الوحيد الممكن إلى ذلك هو أن نبدأ الطريق بالاستفادة من المعرفة العقليّة المطابقة للواقع.
وبعبارة أخرى: إن رأي الأكاديميّة في إثبات كون مقولةٍ ما دينيّةً هو رأي غير مجدي. ولو فرضنا أننا وافقنا على رأي الأكاديميّة في خصوص أن المعارف هي إمّا حقّ او باطل على أساس قاعدة التولّي بولاية الله وولاية الشيطان فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: بأيّ معيار تثبتون أو تبيِّنون أن المعرفة «س» هي حقّ، والمعرفة «ص» باطلة، أي بأيّ أداة يمكن أن نحدِّد أنّ الفرد في إنتاجه لعلمه هل كان يتولّى بولاية الله أم بولاية الشيطان؟
بضع نقاط ختاميّة ــــــ
1ـ مسألة جهويّة العلوم وإنْ كانت قولاً صحيحاً، ولكنْ لا يمكن تطبيقه بنفس النمط في علوم الرياضيّات والعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة. إنّ إحدى أهمّ أخطاء الأكاديميّة عدم الفصل بين العلوم الأساسيّة والعلوم الاجتماعيّة، وإعطاء وصفة علاجية واحدة لجميعها، أو على الأقل عجز الأكاديميّة في إثبات تشابه العلوم الغربيّة. يجب على الأكاديميّة أن تكون قادرة على توضيح وإثبات كيفيّة سراية الدافع وجهويّة العلوم في مقام التقييم إلى جميع علوم الرياضيّات والطبيعيّات والعلوم الإنسانيّة، بالرغم من أن هذا التأثير لا شكّ فيه في مقام جمع المعلومات والتساؤلات والمتطلبات.
2ـ المشكلة الأخرى للأكاديميّة هي عجزها عن قراءة الإرث العظيم للمفكِّرين الإسلاميّين في المجتمع، وبناء الحضارة الإسلاميّة، وضعفها في مواجهة الحداثة. هذا النوع من التعامل مع الحضارة الإسلاميّة وإرثها التقليديّ، وبخاصّة بين الشباب الجامعيّين وطلبة العلوم الدينيّة، يجرّ هؤلاء الشباب إلى فقدان الهويّة.
3ـ لم تنجُ الأكاديميّة من سلبيّة التصرُّف والفعل أيضاً؛ إذ لم يستخدم هذا التيّار أسلوباً صحيحاً في كيفية بثّ أفكاره وآرائه في أوساط المجتمع. وبدلاً من أن يوصل أفكاره إلى النخب الحوزوية والجامعية، ويخلق جوّاً من الارتياح الاجتماعيّ بين النخب العلميّة الخاصّة، اتَّجه إلى الجامعيّين وعموم الطلبة، وألغى العلم الحديث والتكنولوجيا والثقافة الغربيّة جملةً وتفصيلاً، وتسبَّب بخروج طيف واسع من الجامعيين الملتزمين في مختلف الاختصاصات الفنّية والهندسيّة والعلوم الأساسيّة من الجامعة، وأحدث خللاً في توازن الطاقات الدينيّة في هذه المؤسَّسات العلميّة.
4ـ إنّ الأكاديميّة، وبسبب عدم امتلاكها للمعلومات الكافية عن فلسفة الغرب، وعجزها عن نقدها، أقحمت نفسها في نقد الحكمة المتعالية، ودفعت الشباب ـ من دون أن ترغب هي بذلك ـ للاقتراب أكثر فأكثر من الغرب، من خلال قطع صلتهم بالثقافة الإسلاميّة.
5ـ أقحمت أكاديميّة العلوم الإسلاميّة نفسها في مغالطة أخرى في باب الترويج لأفكارها، كمغالطة التطبيق غير المدلّل لتوجيهات السيد القائد على آرائها وأقوالها. فقد بادر سماحة السيد القائد في عقدي السبعينات والثمانينات (من السنة الإيرانيّة) إلى طرح عناوين مهمّة، من قبيل: الغزو الثقافيّ، والناتو الثقافيّ، وثورة البرمجيات وإنتاج العلوم، وحكم الشعب الدينيّ، وغيرها. وقامت كوادر الأكاديميّة في اجتماعاتها التوجيهيّة مع طلاّب الجامعات والمدارس الدينيّة بتطبيق مقولات ورؤى السيد القائد على آرائها، وسَعَتْ من خلال هذا الأسلوب إلى استقطاب المزيد من المؤيِّدين لها.
الهوامش
___________________
(*) أستاذٌ جامعيّ، ورئيس مركز الدراسات والأبحاث في الحوزة العلميّة في مدينة قم، وعضو الهيئة العلميّة في مركز الدراسات الثقافيّة (قسم الفلسفة والكلام) في إيران، له مؤلَّفات عدّة في فلسفة الدين والكلام الجديد.
([1]) مكتب أكاديميّة العلوم الإسلاميّة، ذكرى من الأستاذ، ذكرى من المفكِّر القدير والعالم النحرير سماحة حجة الإسلام والمسلمين الأستاذ السيد منير الدين الحسيني الهاشمي: 14 ـ 74، دار نشر فجر الولاية، قم، العدد الأوّل، 1380هـ.ش.
([2]) فريق الدراسات الفلسفيّة لمكتب أكاديميّة العلوم الإسلاميّة، حوار علميّ حول مفهوم العلم الدينيّ: 87.