أ. محمد مجتهد شبستري(*)
يدور بَحْثي هنا بشكلٍ رئيس حول نوعٍ من الأبحاث الفلسفية الخاصّة بأوروبا المركزية والقارّية، وإن اللغة التي أحيل إليها هي اللغة الألمانية. ولبيان بَحْثي أحتاج إلى ذكر عددٍ من المقدّمات على سبيل التوطئة والتمهيد. ومن الضروري التنويه إلى أن هذه الأبحاث رغم تداولها في اللاهوت المسيحي الحديث، إلاّ أنها تحتوي على نوعٍ من العناصر المفهومية والاصطلاحية، بحيث لا تخلو من فائدةٍ حتّى بالنسبة إلينا أيضاً.
المقدّمة الأولى: إننا نعيش في عالمٍ تهاوَتْ فيه الحدود بين اللاهوت والأديان، بحيث ما عاد بالإمكان التمييز بين حدود ما هو من صلب الدين وبين ما هو من خارج الدين في جميع الموارد بشكلٍ واضح، ولم يَعُدْ القَطْع والجَزْم القديم قائماً في عصرنا الحاضر. ومن هنا صار بالإمكان التجسير بين ثيولوجيا وثيولوجيا مغايرة، والقيام بتحليل المفهوم الموجود في الثيولوجيا الأخرى على غرار الأولى.
المقدّمة الثانية: هناك في اللغتين العربية والفارسية مصطلحٌ باسم (الوَحْي). ويتمّ استعمال هذا المفهوم في بعض الأحيان لترجمة المصطلح الألماني (Offenbarung) [الذي سيكون محور هذه المحاضرة]([1]). وهذا المصطلح يعني في اللغة الفارسية «الانكشاف» والوضوح، رغم أننا نترجمها إلى الوَحْي، ولكنّها ترجمةٌ خاطئة. إن للوَحْي و(Offenbarung) وما يقابله في الإنجليزية معنىً مختلفاً. إن الـ (Offenbarung) منبثقٌ من اللاهوت المسيحي. وإن هذا الـ (Offenbarung) في اللاهوت المسيحي يتحدَّث عن ظهور الله للإنسان؛ من أجل التكامل أو التطهير أو نجاة الإنسان. وبعكس ذلك ما في اللاهوت الإسلامي، حيث يتم الحديث عن الوَحْي، بَيْدَ أن الوَحْي على ما جاء في لاهوتنا التقليدي (قبل ظهور الفلسفة الإسلامية) يعني «الإشارة السريعة الخفيّة». وفي القرآن الكريم ـ في حدود بَحْثي ـ لم أجِدْ استعمالاً للوَحْي بمعنى اتّضاح شيءٍ وانكشافه. وعليه فإن بحثنا هنا لا يدور حول الوَحْي بمعناه الشائع في اللاهوت الإسلاميّ، بل موضوع بحثنا يدور حول الـ (Offenbarung) بمعناه المفهوم عند المتألِّهين المسيحيّين.
المقدّمة الثالثة: إن الأبحاث الثيولوجية في اللاهوت المسيحي الحديث لا تقوم على تصوُّرٍ رمزيّ أو مجازيّ([2]) عن العالَم؛ لتكون بصدد البحث عما إذا كان هذا الرمز (الذي يُسمّى عالماً) يستند إلى شيءٍ أم لا؟ وما هو ظاهره وباطنه؟ وما إلى ذلك. إن هذا الكلام لا يتمّ تداوله في اللاهوت المسيحي. إن مذاهب من قبيل: الماركسية، والتاريخانية([3])، والوضعية، وحتّى المسيحية التقليدية والمثاليّة التقليدية في العالم، تعمل على تصوير العالم بوصفه رمزاً، وكانت تبحث عن كيفية فهم هذا الرمز أو العمل على تغييره. إن المراد من الرمز هو ذلك الشيء الذي يحتوي على بنية محدَّدة ومتجسِّمة ومعيَّنة ومتبلورة يمكن الإشارة إليها. وبما يتناسب وهذه الرؤية لا يمكن العثور على هذا النوع من المفاهيم والمصطلحات الميتافيزيقية في اللاهوت المسيحي الحديث كثيراً.
المقدّمة الرابعة: إن الإيمان في اللاهوت المسيحي الحديث لا يعني الاعتقاد بالقضايا المطابقة للواقع، أي إنه لا يتمّ طرح الإيمان بوصفه سلسلة من القضايا المحدّدة المتطابقة مع الواقع، وإنما المطروح هو نوعٌ من التوجُّه أو الاتّجاه المحدَّد. إن حقيقة هذا الاتّجاه كما سنلاحظ هي نوعٌ من التفسير (interpretation). إن هذا اتّجاهٌ هرمنيوطيقي. وعلى هذا الأساس فإن الإيمان في اللاهوت المسيحيّ الحديث ليس اعتقاداً بصورة عن واقعية القضايا التي تقدِّم صورة عن الواقعية. إن اللاهوت المسيحي الحديث هو الكلام المسؤول عن هذا التوجُّه المحدَّد والاتجاه التفسيري الذي يحتوي على قابلية الحوار والبحث العقلاني.
إن هذا الفرع من اللاهوت المسيحي ـ الذي يعمل الوجوديّون على الترويج له ـ قد أضاف بعض العناصر إلى هذا الاتّجاه التفسيري، ويقول: إن هذا الاتّجاه التفسيري هو نوعٌ من الاعتراف والاعتماد أيضاً. إن هذاالاتّجاه التفسيري الذي يعمل الإنسان على إيجاده بكلّ طاقته قد تخلّى عن رؤية العالم على عدّة طبقاتٍ، ولا يبحث عمّا وراء الطبيعة([4]). كما أن الفلسفة الحديثة هي كذلك في الأصل والأساس أيضاً.
وأما المقدّمة الخامسة فهي أن اللاهوت المسيحي الحديث ـ بخلاف اللاهوت المسيحيّ التقليدي ـ يخلو من الأبحاث التي تعمل على وصف الله وتعريفه. وإنما يتمّ تركيز البحث على أفعال الله؛ حيث يتمّ البحث في اللاهوت المسيحيّ الحديث عن: ماذا فعل الله؟ وماذا يفعل الآن؟ وماذا سيفعل في المستقبل؟ إن اللاهوت المسيحيّ الحديث يتحدَّث عن سلسلةٍ من الأفعال، التي ليست هي أفعال الإنسان، وإنما هي أفعال الله، واللاهوت يحكي عن تلك الأفعال بلغةٍ قابلة للدفاع. إنه بحثٌ عن أفعال كائنٍ، حيث يبحث عن: ماذا يجب تسمية ذلك الكائن؟ وكيف نسمِّيه؟ وكيف نتحدَّث عنه؟ وإن التعبير عنه بلفظ الله إنما هو مجرَّد اعتبار وتواضع!
يتمّ البحث في اللاهوت المسيحي الحديث عن أن هناك كائناً له شأنٌ بالإنسان، ويتمّ البحث عن هويّة ذلك الكائن، ومَنْ تراه يكون؟ إن المسألة تكمن في أن هناك شيئاً (خطاب وكلام أو معرفة أو رحمة واهتمام و…) يأتي من جهةٍ (وكان هذا ما يقوله عرفاؤنا أيضاً). إن اللاهوت الحديث على حدّ تعبير (پول ريكور) ـ اللاهوتي المسيحيّ ـ هو ذلك الخطاب أو الرحمة أو العناية والاهتمام. والعنصر الأهمّ في هذه الرواية هو أنه يتمّ الحديث عن شخصٍ، وأنه فعل كذا، ويفعل كذا، وسيفعل كذا.
وعلى هذا الأساس لم يعُدْ هناك في اللاهوت المسيحي الحديث كلامٌ عن إله الفلاسفة. في اللاهوت المسيحيّ التقليدي (منذ تاريخٍ ما فصاعداً) قد تحدَّثوا عن الله بلغةٍ فلسفية، واستفادوا في ذلك من المفاهيم الفلسفية الإغريقية. وأما في اللاهوت المسيحيّ الحديث فلا يَرِدُ الكلام حول علّة العِلَل والوجوب والإمكان وما إلى ذلك، وبحَسَب المصطلح تنحّى «الإله» جانباً، فصاروا يبحثون عن «الألوهية». إن المتألِّهين المسيحيّين الحداثويّين منهمكون في توفير فَهْمٍ وتفسير للألوهية. إن هذه الألوهية لا تحتوي على خصائص ميتافيزيقية محدَّدة. عندما يتحدَّث هؤلاء عن مصطلح الـ «الإله» فعلينا أن نلتفت إلى أنهم لا يريدون به ذلك الشيء الموجود في أذهاننا، ولا حتّى ذلك الشيء الذي كان موجوداً في اللاهوت المسيحيّ التقليدي قديماً. كنتُ أتحدَّث قبل بضعة أعوام مع أحد القساوسة، وقال لي في حينها: كان اهتمامنا في يومٍ ما ينصبّ على أن نقول للمؤمنين المسيحيين كيف يمكن الإيمان بالله؛ إذ كان بمقدورنا أن نقول بالتحديد: إن الله كذا وكذا، ونقدِّم له تصويراً وتعريفاً محدَّداً عن الله، ونطلب منهم أن يؤمنوا به. وأما الآن فإن مشكلتنا تكمن في هذه الناحية بالتحديد؛ حيث أخذ الناس يسألوننا ويقولون: ما الذي تعنونه عندما تتحدَّثون عن الله؟ بمعنى: ما الذي تقولونه أصلاً؟ وهذا هو كلام (فريدريك نيتشه)([5])؛ حيث قال بموت الإله؛ بمعنى أنه لم يعُدْ معروفاً مَنْ هو الله؟ كالإنسان الذي ضيَّع تاريخ أمّةٍ أو حضارة. كان هذا القسّ يقول: عندما تتحدَّث عن الله يسألونك: ماذا يعني الله؟
إن هذه التحوُّلات التي ظهرت في اللاهوت المسيحي الحديث قد أحدثَتْ تغييراً في معنى الـ (Offenbarung). وهذا نوعٌ من الاستدارة الهرمنيوطيقية، قد حدث في معنى «الانكشاف» في اللاهوت المسيحيّ الحديث.
المقدّمة السادسة: إن «اللاهوت» المسيحي يختلف كثيراً عن ذلك المفهوم الذي تبلور في العالم الإسلامي تحت عنوان «الكلام والإلهيّات». إن اللاهوت المسيحي «الثيولوجيا» يعني معرفة الله؛ وأما الكلام الإسلاميّ فلا يعني معرفة الله، وإنما يحتوي على عناصر ومقوِّمات أخرى. وعليه لا ينبغي اعتبار الثيولوجيا والكلام شيئاً واحداً، بمعنى أننا لا نستطيع القول: إن لدينا لاهوتاً مسيحيّاً كما لدينا إلهيّات إسلامية، وبذات المعنى والمفهوم. ولا يمكن القول: إن كتاب إلهيّات ابن سينا يشبه كتاب لاهوت أوغسطين. إن بنية ونسيج ومواقف الحركة بين الأمرين مختلفة تماماً.
بعد بيان هذه المقدّمات نقول: في بداية الأمر، حيث تمّ تأسيس العناصر الأصلية المكوِّنة للاهوت المسيحي التقليدي على يد آباء الكنيسة، كان الفَهْم يقوم على أن الـ (Offenbarung) عبارةٌ عن سلسلةٍ من المعلومات تُعطى إلى الإنسان من قِبَل الله، بمعنى أنها قضايا صادقةٌ يتمّ تقديمها إلى الإنسان، وهي تتطابق مع الواقع بشأن الكَوْن والإنسان والخالق والماضي والمستقبل وما إلى ذلك. كانت هذه هي المرحلة الأولى من فَهْم معنى الـ (Offenbarung).
وفي المرحلة الثانية قالوا: إن الأمر ليس كذلك، ولا سيَّما في بداية ظهور الفلسفات الوجودية، حيث قالوا: إن الـ (Offenbarung) ليس مجموعة من المعلومات التي يقدِّمها الله ويضعها تحت تصرُّف الإنسان، وإنما الـ (Offenbarung) عبارةٌ عن تجلّي وظهور الله للإنسان من طريق ظهور السيد المسيح، بمعنى أن الـ (Offenbarung) هو ذات هذا التجلّي والظهور، ولا يقوم أساسه على القضايا الصادقة، وإنما هو يقوم على حادثةٍ. إن هذه الحادثة عندما تتحقَّق لا تكون نتيجتها سلسلةً من القضايا التي يتمّ وضعها تحت تصرُّف الإنسان، بل إن نتيجتها هي أن يطرأ تغيُّرٌ على الإنسان، ويحصل على ولادةٍ جديدة. وبعبارةٍ أخرى: يحدث تغيُّرٌ في وجود الإنسان. إن الـ (Offenbarung) يعني ظهور الله وانكشافه على طول التاريخ، وإن هذا الظهور مستمرٌّ حتّى بعد السيد المسيح×؛ وذلك لأن السيد المسيح× موجودٌ بوجود الكنيسة، وإن الظهور أمرٌ مستمرّ، وهذا على سبيل المثال يشبه ما نراه من «استمرار الخلق».
إن التحوُّل الثالث الذي طرأ على معنى الـ (Offenbarung) هو أن الانكشاف لا يمكن أن يكون بمعنى انكشاف الله وظهوره في عالم الخارج، وفي حادثةٍ معيّنة. إن هذا الرأي ينطوي على الكثير من المشاكل الفلسفية وغير الفلسفية، بل الأمر على هذه الشاكلة، وهو أن الإنسان يحصل على معرفةٍ أو تجربة عن الله، ويُعبِّر عنها الإنسان بـ (Offenbarung)، وهذا التعبير عبارةٌ عن تفسير. إن المعرفة التي تظهر للإنسان يعمل على تفسيرها بأنها انكشافٌ لله. هذا تفسيرٌ للتجربة التي أدركها الإنسان. وهذا هو الكلام الأخير الذي يتمّ بحثه حول هذا الأمر في اللاهوت المسيحيّ الحديث. إن هذا المعنى أوّلاً: قد خلَّص مفهوم الـ (Offenbarung) من الكثير من المشاكل الفلسفية؛ وثانياً: إنه يمثِّل حاليّاً البيان الأكثر مقبوليّةً من بين البيانات التي يتمّ تقديمها في تفسير لـ (Offenbarung).
وفي ما يلي نسعى إلى بيان طريقة ظهور هذا التحوُّل الثالث إلى حدٍّ ما، في محاولةٍ منا لإيضاح ما نريد قوله. وهذا هو المقصود من الاستدارة الهرمنيوطيقية في اللاهوت الحديث.
في بداية هذا التحوّل تمّ البحث في هذه النقطة، وهي: كيف توصَّل آباء الكنيسة إلى هذه النتيجة القائلة بأن الـ (Offenbarung) يعني إعطاء معلومات؟ والجواب الذي تمّ تقديمه عن هذا السؤال هو أن هذا البيان ـ الـ (Offenbarung) بما هو معلوماتٌ ـ كان عبارةً عن بيانٍ دفاعيّ([6])؛ بمعنى أن المسيحيين كانوا يرومون القول: إن ديننا هو وحده الدين الحقّ، وهم يبيِّنون هذا الكلام على الصيغة التالية: إن الله قد زوَّدنا بمجموعةٍ من المعلومات بواسطة ظهور السيد المسيح×، وإن هذه المعلومات لا توجد عند أيّ شخصٍ من بني البشر، وبالتالي يجب أن ينضوي الجميع تحت مظلّتنا؛ وذلك لأننا نمتلك معلوماتٍ لا يمكن الحصول عليها بواسطة العِلْمَيْن العقلانيّ والتجريبيّ العادي للبشر. إن هذه عبارةٌ عن معلومات خاصّة لا توجد إلاّ في يد الكنيسة، ولا يمكن لأيّ شخصٍ آخر أن يصل إليها. وبطبيعة الحال هناك الكثير من العقلاء في العالم خالفوا هذا الادّعاء، إلاّ أن الغاية من جهود الكنيسة لم تكن تهدف إلى إسكات المخالفين العقليّين، وإنما كانت الغاية من ذلك إقناع عامّة الناس، وقد نجحوا في ذلك. كما أضافَتْ الكنيسة أن طريق الوصول إلى هذه المعلومات يفوق الطبيعة([7])، كما أن محتوى هذه المعلومات يفوق الطبيعة أيضاً. إن هذا الكلام يعني أن هذه المعلومات تتعلَّق بسلسلةٍ من الكائنات، وترتبط بمساحاتٍ من الوجود تفوق المساحات الطبيعية، وإن الإنسان لا يمتلك أيّ طريقٍ للتعرُّف عليها.
كما قالت الكنيسة بشأن الإيمان: إن الإيمان عبارةٌ عن الحصول على هذه المعلومات فوق الطبيعيّة، واعتناقها. وعلى هذه الشاكلة، ومن الناحية المنطقية، في اللاهوت المسيحيّ التقليدي كان حدوث وتحقُّق الـ (Offenbarung) مقدَّماً على ظهور الإيمان. فلو لم يتحقَّق الـ (Offenbarung) لما تحقَّق الإيمان. وعلى هذا الأساس كان كلٌّ من: متعلَّق الإيمان؛ وما يفهم من الـ (Offenbarung) الوَحْي، خارجاً عن حدود إدراك الناس؛ إذ إن كلاًّ من المجرى والمحتوى كان يفوق الطبيعة.
لقد أظهرَتْ هذه التصوّرات أشكالاً متنوّعة على طول التاريخ. وفي سياق حَلّ وفَصْل هذه المشاكل والجَدَل الفلسفي قال المتألِّهون المسيحيّون: حيث تمّ طرح هذه الأبحاث في العهدَيْن علينا أن نسأل: هل ألفاظ العهدَيْن هي من عند الله أيضاً أم المعنى وحده هو الصادر عن الله فقط؟ تمّ تأليف الكثير من الكتب لحلّ هذه المشكلة، وتمّ تقديم مختلف النظريات حول ما إذا كانت ألفاظ العهدَيْن قد طُرحَتْ على نحو الإملاء. واستمر الكلام حول هذه الأبحاث قائماً لفترةٍ من الزمن. وكانت كلّ نظرية يتمّ تقديمها للإجابة عن هذا السؤال تصطدم بمشكلةٍ. تخلّى بعض المتألِّهين المسيحيّين عن فكرة أن الألفاظ كانت من عند الله، وقالوا بأن الألفاظ قد تمّ اختيارها من قِبَل الذين ألَّفوا الكتاب المقدَّس، وأن المعاني قد أُمليَتْ عليهم. والشيء الذي كان حاسماً جدّاً هو أن بعض الأسئلة كان مستعصياً على الجواب.
إن السؤال المعرفي الهامّ الذي لم يكن له جوابٌ هو أن المحتويات فوق الطبيعية والمعارف التي تُعْطَى للناس من طريق هذه الكتب لا تقبل الوصول إلى الناس أبداً؛ إذ كيف يمكن للناس أن يفهموا شيئاً لا يمتلكون القدرة على فَهْم قواعده وأركانه؟! وبعبارةٍ أخرى: كيف يمكن فَهْم هذه المفاهيم ما فوق الطبيعية؟ إن هذه الأسئلة لم تحصل على إجاباتٍ صحيحة.
هناك مَنْ قال: إن المحتوى يفوق الطبيعة، إلاّ أنه صيغ بشكلٍ (لغويّ) ليكون مفهوماً من قِبَل الناس، من قبيل: أن نبسِّط محتوىً ما ليسهل فَهْمه على الطفل. ومن هنا فقد سعَوْا إلى حفظه، ولكنّهم كانوا يقولون أحياناً: في مقام تفسير هذه النصوص نعمل على الفصل بين الظَّرْف والمظروف، ونفسِّر هذا الكتاب على أساسٍ من هذا الفَهْم، وهو أنه قد تبلور ـ بمبادرةٍ من الله ـ ارتباطٌ ما بين الله والإنسان([8]). وفي هذا الارتباط تمّ إرسال خطاب الله إلى الناس في ظَرْف الثقافة المفهومة والمعقولة لعصر مؤلِّفي الكتاب المقدَّس، ولم يكن هناك طريقٌ آخر غير هذا الطريق. إن خطاب الله هو المظروف، وثقافة العصر تشكِّل ظَرْفاً لذلك الخطاب. إن كلّ كلامٍ خاطئ ومرفوض في الكتاب المقدَّس إنما يرتبط بذلك الظَّرْف، إلاّ أن ذات المظروف ـ أي كلام الله ـ مُصانٌ من كلّ خطأ. يُقال في هذا الرأي: إن الـ (Offenbarung) يتمّ عَرْضه وتقديمه بلغة أبناء ثقافةٍ ما، وبما يتطابق مع رؤيتهم واعتقادهم. إنما كانت تأتي هذه المحاولات؛ لكي يتمكَّنوا من إفهام الأذهان وإقناعها بأن المعلومات والمعارف إنما جاءت من جهةٍ لا يمكن لأحدٍ أن يصل إليها؛ فهي نوعٌ خاصّ من أنواع المعرفة. بَيْدَ أنهم عندما صاغوا هذه الحلول واجهوا إشكالاً كبيراً وجوهرياً.
وهذا الإشكال هو: إذا كان المحتوى والمظروف مختلفاً عن الظَّرْف فما هي وسيلتكم للتمييز بين الظَّرْف والمظروف؟ وما هو الأسلوب العقلانيّ الذي يمكن بواسطته الفصل بين الظَّرْف والمظروف؟ ليس هناك طريقٌ للفصل بينهما. وبذلك لم تَحْظَ هذه النظرية بالقبول. وبالتالي توصَّلوا إلى أن الادّعاء القائل بأن الـ (Offenbarung) يعني أن الله يوصل إلى الناس سلسلةً من القضايا بطرقٍ غير طبيعية، ومحتوياتٍ تفوق الطبيعة، وهي موجودةٌ في كتاب، لا يمكن الدفاع عنه بأيّ طريقةٍ من الطرق، وهو يواجه إشكالاتٍ متعدّدةً من مختلف الجهات، وعلى مَنْ يدّعي هذا الأمر أن يتخلّى عن مدَّعاه. وفي نهاية المطاف وقف أحد المتألِّهين المسيحيين على إشكالٍ في غاية الأهمّية؛ حيث قال: إن الذي يدّعي أن الله قد أعلن عن بعض القضايا، أو أن الله قد أظهر نفسه، عليه أن يثبت وجود الله أوّلاً، لينتقل بعد ذلك إلى الادّعاء بأن الله قد أظهر نفسه. ولكنْ هل هذه المقدّمة حاصلةٌ؟ وهل مسألة الله إيمانيّةٌ أو قابلةٌ للإثبات ومفروغٌ عنها؟ حيث إن وجود الله غير قابلٍ للإثبات في العصر الحاضر تكون مسألة الله مسألةً إيمانية، أي إنه من المعقول أن يقول شخصٌ ما ـ على سبيل المثال ـ: إني أبحث عن معنى المعاني، وأطلق عليه اسم الله. أو يقول ـ على حدِّ تعبير كركيغارد([9]) ـ: إني أقفز نحو موضعٍ، وأقبل بخطابٍ أرى أنه يصدر من مبدأ أُسمّيه الله. وفي عصرنا أضحى القَفْز والتقحُّم بَحْثاً واكتشافاً. وهذا غير التصوُّر التقليدي لمفهوم الله. لا يمكن الإخبار عن إلهٍ على هذه الشاكلة، والقول بأنه قد تكلَّم، أو أنه قد أظهر نفسه.
وكانت النتيجة هي أن قالوا في اللاهوت المسيحي الحديث: إن الـ (Offenbarung) عبارةٌ عن بَحْثٍ تفسيريّ، فلا يعني أن الله قد أوصل لنا بعض القضايا، ولا يعني أنه قد أظهر نفسه. ثم جاء متألِّهان على غاية من الشهرة ـ أحدهما بروتستانتي؛ والآخر كاثوليكي ـ، وقدَّما رؤيةً جديدة، وهما كلٌّ من: (كارل رانر)([10]) في الكاثوليكية، حيث كان مفكِّراً من طرازٍ رفيع، وكان له دَوْرٌ رئيس في تدوين لائحة الفاتيكان الثانية في عقد الستينيّات من القرن العشرين. وكان من بين الذين خلَّصوا الكنيسة الكاثوليكية من الكثير من المسائل اللامعقولة. وبين الكاثوليك كان هناك المفكِّر الشهير (بانين بيرغ)([11])، فقد بادر في هذا الشأن وقال: إن القضية هي أن بعض الخطابات تأتي أحياناً، وتحصل بعض التجارب للناس، ويحصل الناس على معرفة عن الله، وإن تلك المعرفة بحيث إذا أُريد بيانها يُقال: إن الله يتكلَّم معنا. إن هذا البيان عبارةٌ عن بيانٍ تفسيريّ. إن سِنْخ التجربة بحيث تبدو وكأنّ الله يتكلَّم مع الإنسان. وهو يرى أن هذا هو معنى الـ (Offenbarung). يُقال في هذا الرأي: إن عيسى× قد تحدَّث إلى الحواريين، وإن الحواريين قد عاشوا تجربة كلام الله، وقد نقلوا بدَوْرهم هذا الكلام في الإنجيل، في حين أن خطاباً يصل إلينا بواسطة هذه الكتابات، حيث نعتبرها كلام الله.
وقد أضاف كارل رانر نقطةً أخرى موجودةً بين عرفائنا أيضاً، وذلك إذ يقول: إن كلّ إنسانٍ لديه في داخله معرفةٌ مُبْهَمة وغامضة عن الله؛ وتارةً تتبلور هذه المعرفة الموجودة في الداخل وتظهر إلى الخارج إثر تفاعلها مع الرموز الموجودة في الخارج، ولا وجود لها في داخل الإنسان. وإن البحث الهرمنيوطيقي الوجودي لـ (پول ريكور)([12]) هو على هذه الشاكلة أيضاً. فهو يقول: إن الإنسان عندما يقدِّم نفسه فإنه لا يقدِّمها في فراغٍ، وإنما يقدِّم نفسه ضمن ارتباطٍ([13]) مع سلسلةٍ من الأمثلة والرموز الموجودة في الخارج. وهو هنا يتقدَّم خطوةً على هايدغر([14])، ورُبَما قام بتكميل كلام هايدغر.
وعلى أيّ حالٍ هذا هو كلام رانر. والكثير من المتألِّهين المسيحيّين الآخرين يتكلَّمون بمثل هذا الكلام. فهذه تبرز أحياناً وتمور، وتظهر عبر التواصل والارتباط مع الرموز. ويتعاطى مع التاريخ على حدّ تعبير بانين بيرغ، يتحدَّث بانين بيرغ عن لاهوت التاريخ، أو من طريق الثقافة، وهو قول پول تيليش([15])، وقد ترجمها السيد فرهاد پور بشكلٍ جيّد.
هذه هي المرحلة الأخيرة، حيث تحقَّق هذا التحوُّل في اللاهوت المسيحي الحديث. وقد أطلقْتُ عليه عنوان الاستدارة الهرمنيوطيقية، والذي يبدو من بين جميع النظريات المتنوِّعة المرتبطة بالـ (Offenbarung) هو الأقرب إلى القبول. وهذا هو الشيء الذي أسعى بدَوْري إلى مواصلته ومتابعته في إيران. وهذا ما أفهمه عندما أتحدَّث عن الرواية النبويّة التفسيريّة، بمعنى أن الموجود في الكتاب المقدَّس هو نوعٌ من المعرفة، وأن هويّة هذه المعرفة هي معرفةٌ تفسيريّة، ومعرفة قراءة، ومعرفة رواية وصلَتْ إلى نبيِّ الإسلام، وإن لغة هذه المعرفة لغةٌ استعارية. إن القول بأن الله قد أظهر نفسه يعني التجسيم([16])، وهذا المعنى منذ البداية لم يقع مورداً للقبول بين المسلمين لحُسْن الحظّ. فلم يكن الانكشاف والظهور بمعنى التجسُّد والتجسيم موجوداً بين المسلمين، بل إن عرفاءنا كانوا يؤمنون بهذا المعنى القائل: إن الله موجودٌ في قلب الإنسان.
إن المعنى الذي يقصده العرفاء من الانكشاف هو معنىً مختلف. إنهم يقولون: إن الله في قلب الإنسان. كما يقول ميستر إكهارت([17]) الألمانيّ بدَوْره: إن الله يبذر حبّةً في قلب الإنسان، وهذه الحبّة تنمو. وهذه العبارة الجميلة من ميستر إكهارت تبقى عالقةً في ذهني أبداً. يُعتبر إكهارت من أكبر العرفاء المسيحيين. إن ميستر إكهارت واعظٌ متألِّه ألمانيّ، بَيْدَ أن مواعظه التي تمّ جمعها في مجلَّدين لم تُتَرْجَم إلى اللغة الفارسية للأسف الشديد، وهي من نوع المواعظ التي ترقى إلى العرفان العالميّ من الطراز الأوّل. وقد ورد عن كارل رانر وبانين بيرغ وپول تيليش ما يشبه هذا التعبير الذي قاله إكهارت، وهم بأجمعهم من المؤسِّسين والعاملين على تطوير اللاهوت المسيحيّ الحديث. يمكن للإنسان المعاصر أن يضع هذه الادّعاءات مع الفلسفات المعاصرة في سلّةٍ واحدة، ويحاورها. وكان يورغن هابرماس([18]) ـ الذي جاء إلى إيران قبل بضع سنواتٍ ـ يقول في حوارٍ خاصّ: أنا أتحاور مع المتألِّهين الكاثوليك؛ لأنهم يستندون إلى مبانٍ مُحْكَمةٍ، ولكني لا أستطيع التحاور مع البروتستانت؛ لأنهم لا ينطلقون من المباني التي ينطلق منها الكاثوليك.
والخلاصة هي أن علينا أن نفكِّر في الأبحاث المرتبطة باللاهوت الحديث الذي يعاني في مجتمعنا من مختلف أشكال الغُرْبة؛ وذلك لأن اختيار هذه الأبحاث يخضع للضغط في مجتمعنا، سواء من قِبَل أدعياء الدّين أو من قِبَل خصوم الدين على السواء. إن هذه الكلمات الجديرة بالاستماع موجودةٌ في عالمنا المعاصر، وكلّ جُهْدي يصبّ في أن ألفت انتباهكم إلى هذه الكلمات وأمثالها.
الهوامش
(*) من أبرز رموز الحركة الفكريّة الإصلاحيّة في إيران، اشتهر بنظريّة تعدُّد القراءات الدينيّة، وبنقده لنظريّات حقوق الإنسان في الإسلام.
([1]) ما بين المعقوفتين إضافةٌ من عندنا. (المعرِّب).
([5]) فريدريك فيلهيلم نيتشه (1844 ـ 1900م): فيلسوفٌ ألمانيّ، وناقدٌ ثقافي، وشاعرٌ وملحِّن ولغويّ. كان لأعماله تأثيرٌ عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث. المعرِّب.
([9]) سورين كيركيغارد (1813 ـ 1855م): فيلسوفٌ ولاهوتي دانماركي. كان لفلسفته تأثيرٌ كبير على الفلسفات اللاحقة، ولا سيَّما في ما يُعْرَف بالوجودية الإيمانية (مقارنة بالوجودية الإلحادية). المعرِّب.
([10]) Karl Rahner (1904 – 1984).
([12]) پول ريكور (1913 ـ 2005م): فيلسوفٌ فرنسي، وعالمُ إنسانياتٍ معاصرٌ. من ممثِّلي التيار التأويلي، ثمّ اهتمّ بعد ذلك بالبنيوية. يُعَدّ امتداداً لـ (فرديناند دي سيسور). من أشهر أعماله: (نظرية التأويل)، و(الخطاب وفائض المعنى). المعرِّب.
([14]) مارتن هايدغر (1889 ـ 1976م): فيلسوفٌ ألماني. تميَّز بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين للميلاد، ومن أهمّها: الوجودية، وما بعد الحداثة. من أهمّ إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والإبستيمولوجية؛ ليطرح عِوَضاً عنها أسئلةً أنطولوجية، وهي أسئلةٌ تتركَّز في الأساس على معنى الكينونة (Dasein). المعرِّب.
([15]) پول يوهانس تيليش (1886 ـ 1965م): فيلسوفٌ وجوديّ مسيحيّ ولاهوتي، ألمانيّ / أمريكي. ارتكزَتْ فلسفته على إعادة فَهْم المسيحيّة على الأساس الوجوديّ، وإعادة كتابة تاريخ اللاهوت العقائديّ والفكر الديني. من أشهر مؤلَّفاته: (النظام اللاهوتي)، و(ديناميكيات الإيمان). المعرِّب.
([17]) ميستر إكهارت (1260 ـ 1328م): فيلسوفٌ وعالمُ لاهوتٍ مسيحيّ. أثارَتْ أفكاره بعض الأُرثوذُكسيّين الذين يتخوَّفون من كلّ جديدٍ؛ وأدّى ذلك إلى اتّهامه بالهَرْطَقة. ولكنّه توفّي قبل إصدار الحكم عليه. ظلّ إكهارت أحد أهمّ رموز الإصلاح اللوثري، ولكنّ شهرته خفتَتْ بعد ذلك، وظل منسيّاً إلى أن أحيى الثيوصوفي (فرانز بيفايفر) فكره الأفلاطونيّ الجديد، وقام بنشر مقاطع كثيرةٍ من أفكاره باللاتينية والألمانية. المعرِّب.
([18]) يورغن هابرماس (1929م ـ معاصرٌ): فيلسوفٌ وعالمُ اجتماعٍ ألمانيّ معاصر. يُعَدّ من أهمّ منظِّري مدرسة فرانكفورت النقدية، وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي. المعرِّب.