د. محمد بنعمر(*)
لا خلاف في أن التجارة تعتبر من المهن الشريفة التي يمارسها الإنسان؛ لغرض تحقيق الكسب المشروع، وقد شجَّع الإسلام الناس على العمل وطلب الرزق عن طريق ممارسة التجارة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (البقرة: 198).
وفي هذا البحث نسعى إلى بيان حقيقة التجارة الرقمية، ببيان حقيقتها، وسياقاتها، وظروفها التي نشأَتْ فيها، وخصائصها العامّة، وأحكامها، ومقاصدها في الشريعة الإسلامية.
ومما شدَّنا إلى هذا البحث هو المتغيِّرات الجديدة، وتزايد التحولات التي يشهدها العالم اليوم بشكلٍ طارئ وسريع في قطاع المعاملات المالية، وهو يلزم المعرفة العميقة بالمجالات والتخصُّصات التي لها صلة بالتجارة الرقميّة.
منهج البحث
يطلق المنهج أو المناهج في اللغة العربية ليُراد به الطريق الواضح، والمسلك البين، ومنه قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ (المائدة: 48).
ثم صار المنهج مصطلحاً يعني إجمالاً: «طريق البحث عن الحقيقة في أيّ علم من العلوم، أو في أيّ نطاقٍ من نطاقات المعرفة الإنسانية».
والمنهج هو مجموعةٌ من المسالك التي يعتمدها الباحث؛ للبرهنة على إشكالية البحث التي ينطلق منها في بحثه.
والحرص على اختيار المنهج ضروريٌّ لمَنْ قصد أو أراد البحث الجادّ والهادف؛ لأن الحصول على النتائج مرهونٌ بمدى الحرص على حُسْن اختيار المناهج.
مفاهيم البحث
إن تحديد المفاهيم، وتعيين المصطلحات التي تنتمي إلى علم الفقه، يُعَدّ عملاً ملزماً، ومسلكاً ملحّاً، لكلّ دارسٍ أو باحثٍ يودّ مقاربة ومدارسة مفاهيم الفقه الإسلاميّ؛ باعتبار أن لكلّ علمٍ مصطلحاته الخاصّة به، وقديماً قال الجاحظ: لكلّ علم كلماته.
وأهمِّية المصطلح الفقهي تتحدَّد في أن الوضوح والبيان من شأنه أن يخلق أكبر مساحة واسعة من الفَهْم الواسع، ومن التواصل المشترك بين الباحثين والمتدخِّلين في البحوث والدراسات الفقهية، فلا يستقيم علم الفقه باعتباره علماً عريقاً من علوم الإسلام إلاّ بوضوح مصطلحاته ومفاهيمه.
وبحكم المفاهيم في البحوث والدراسات الأكاديمية فإن مفاهيم هذا البحث هي: التجارة؛ الرقمية.
الدراسات السابقة
التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي، للدكتور سليمان عبد الرزّاق.
التجارة الإلكترونية من منظور الفقه الإسلامي، للدكتور أمداح محمد.
أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد منصور ربيع.
التجارة الإلكترونية في ضوء تعاليم الإسلام، للدكتور أحمد عمر.
أحكام التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي، للدكتور عدنان الزهراني.
عقود التجارة الإلكترونية بين الفقه الإسلامي والقانون العُمَاني، مجلس العقد أنموذجاً، للدكتور مهنا بن راشد بن حمد السعدي.
أهمِّية التجارة في الفقه الإسلاميّ
إن للتجارة أهمية خاصة في حياة الناس، وقد أباح الإسلام الاشتغال بالتجارة، وجعلها من أطيب أنواع الكسب وتحصيل الرزق، ودعا إلى استثمار المال، وإلى اجتناب الاتِّجار بالمحرّمات، وأن لا تكون التجارة شاغلاً عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن العبادات المفروضة بصفةٍ عامّة، ودعا في آياته القرآنية الكثيرة أن تكون التجارة أداة لكسب الرزق، والإنفاق، ووسيلةً لاستثمار المال، وأن تكون التجارة من طرق الإنفاق المشروعة، ومن أشكال الاستثمار في وجوه الخير المعهودة.
وتعتبر التجارة من المهن الشريفة التي يمارسها الإنسان؛ لغرض المعيشة والكسب المشروع. وقد ضمّت كتب الفقه الإسلامي كثيراً من أنواع وألوان التجارات، والبيوع، والسمسرة، التي يتوسَّط صاحبها بين البائع والمشتري؛ للدلالة على الثمن في مقابل أخذ السلعة.
واعتبر الإسلام المالَ قوامَ الحياة وعمودها الفقريّ والأداة المحرِّكة للاقتصاد والتجارة. وقيَّد المال بمجموعةٍ من القيود والضوابط، ومن أبرزها: اجتناب المعاملات الرَّبَوية، ومنع استثمار المال في المحرَّمات، مثل: بيع الخمر والمخدِّرات والقمار، والابتعاد عن أخذ المال بغير حقٍّ، وما إلى ذلك من الحدود الشرعية الملزمة لتنظيم المال، أخذاً بهذه القاعدة المستَمَدّة من القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة: 229).
ويظلّ البُعْد الديني والإنساني والأخلاقي حاضراً في التجارة الإسلامية بجميع صورها وأشكالها؛ فحفظ مصالح الإنسان والاعتناء بمقوّمات وجوده ورعاية مصالحة المادّية والمعنوية والاقتصادية، تُعَدّ من أهمّ المقاصد العليا التي جاء بها الإسلام، وأعني مقصد حفظ المال وصيانته من الضياع.
ومن جهةٍ أخرى، وحتّى يتمّ حماية التجارة والتصرُّفات المالية من النزاعات والخصومات، قام الفقهاء في مختلف المذاهب الفقهية بتنظيمها، والسهر على تطبيق أحكامها في المعاملات المالية، لهذا تيسَّر للفقه الإسلامي أن يقدّم إجاباتٍ وحلولاً فقهية وافية لكثيرٍ من المسائل والأقضية التي لها صلة بالمعاملات التجارية والتصرُّفات المالية.
وقد تطوَّرَت التجارة في الإسلام وعرفَتْ انتشاراً قويّاً، ولا أدلّ على ذلك من الكتب والمصنَّفات التي كُتبَتْ في بيان أهمِّية التجارة وأحكامها الفقهية([1]).
مشروعيّة التجارة في الإسلام
إن التجارة هي عصب الحياة الاقتصادية، وعلى عناصرها ومقوّماتها تقوم الحياة؛ فهي أداةٌ في تبادل المنافع بين البشر، وهي السبب في استمرار حياة الناس، وفي ديمومة هذه الحياة بين الناس، وهي أداةٌ في توفير وتحقيق العيش الكريم للإنسان بصفةٍ عامّة.
من جهةٍ أخرى تُعَدّ التجارة أداةً في استثمار المال وتروجيه وإنفاقه في الطرق المشروعة التي شرَّعها الإسلام، وليست التجارة أداةً لكنز أو احتكار المال، فلم يكن المال أداةً للاكتناز، وإنما كان دائماً أداةً لترويجه ودورانه واستثماره في المجتمع؛ ليحقِّق المنافع للإنسان، في عاجلته وآجلته.
والقصد من التجارة في الإسلام هو تحقيق الربح، وتحصيل المنفعة. وتبادل الربح أحد مقاصدها الأساسية، بل هو المقصود الأصلي من ممارسة التجارة. وهذا المعنى هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾. فالأصل في التجارة هو الدوران والرواج والاستثمار، وهو المعنى المستفاد من الآية الكريمة: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ (البقرة: 282).
ولأهمِّية التجارة في الإسلام عُدَّ المال هو المحرِّك للتجارة، وهو عصب الحياة، به يتمّ قضاء الحاجيات، وتتحقَّق المنافع في العمران البشري.
ومن اهتمام الإسلام بالتجارة عنايته الفائقة واهتمامه الواسع بالأسواق، صغيرة كانت أم كبيرة؛ فالسوق وأحكامه نالَتْ أهمِّية كبيرة في الفقه الإسلامي، وظهرت كتبٌ تحمل هذا العنوان: «أحكام السوق»، ومن أهمِّها: «أحكام السوق»، لابن عامر الكناني الأندلسي(289هـ).
لكنْ في الفترة المعاصرة؛ وبفضل التطوُّر الكبير الذي شهدَتْه تقنيات التواصل، وما أحدثَتْه ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من قفزةٍ نوعية في ابتكار أنجع الأساليب والطرق في الخدمات التجارية، ظهر هذا النوع من التجارة([2]).
وجاءت هذه التجارة الجديدة نتيجة مجموعة من التحوُّلات الكبيرة والتغيرات الطارئة والعميقة في العالم، ومنها: العالم الإسلامي بشكلٍ أخصّ. وقد مسّ هذا التحوُّل الرقمي المجال المالي والاقتصادي والمصرفي، بل مسّ جميع المجالات التي لها صلةٌ بالتجارة في أنواعها وأشكالها وفروعها، وظهر نوعٌ من التجارة ينعت بالتجارة الإلكترونية أو التجارة الرقمية، وهي تجارةٌ جديدة جاءت بفضل الثورة الرقمية التي شهدها العالم اليوم. وبفضل هذا التطوُّر في أشكال التواصل سُمِّي عالم اليوم ونُعت بـ «المجتمع الرقمي»، وهو الاسم الذي اختاره كثيرٌ من الدارسين والباحثين والمشتغلين بمجال الرقميّات وبأشكال التواصل الجديدة([3]).
وفي هذا السياق يقول الدكتور نبيل علي: «لقد خطَت التكنولوجيات المعلوماتية خطواتٍ واسعةً وسريعةً لصنع آلة ذكية تبصر وتسمع وترى، بل أيضاً تبرهن بلغتها الخاصة، بحيث يكون بمقدورها أن تحاور الإنسان بصورةٍ أقرب وأسرع ما تكون من حوار الإنسان مع أخيه الإنسان. فهذه التكنولوجيات الجديدة كسَرَتْ حاجز ملكة الذكاء للإنسان، وقامَتْ هذه التكنولوجيات بهذا الذكاء في حياة الإنسان، وفي مجالاته الحيوية، ومنها: المجال الاقتصادي([4]).
سياقات التجارة الإلكترونيّة
لقد أصبحت التجارة الإلكترونية عاملاً مؤثِّراً في نموّ اقتصاديات الدول المعاصرة، وتعزيز تجارتها الخارجية والداخلية على حدٍّ سواء، والنهوض بالعديد من القطاعات الحيوية، مضافاً إلى تمكين وتيسير الطلب الفوري للحصول على السلع والخدمات.
بل ازدادت الحاجة إلى هذا النوع من التجارة بشكلٍ أكثر في جميع العالم؛ نتيجة التحوُّل الكبير الذي أحدثته جائحة كورونا في الآونة الأخيرة، بحيث شهد العالم تحوُّلات عميقة وكبيرة مسَّتْ جميع المجالات والمرافق، بما في ذلك المجال المالي والاقتصادي([5]).
وأمام اتساع الحاجة إلى هذا النوع من التجارة، وفي ظلّ النموّ المتسارع للوسائل التقنية الحديثة في التواصل، التي ألقَتْ بظلالها على الحياة المعاصرة، شهدَتْ التجارة الرقميّة تطوّراً كبيراً، فكان من الضروري البحث عن أحكام شرعية مناسبة لهذا النوع الجديد من التجارة؛ لأن هذا النوع من التجارة يحتاج إلى الحكم الشرعي الموافق لمقاصد وأصول الشريعة الإسلامية، بناءً على القاعدة الأصولية القائلة: «لكلّ نازلةٍ حكمٌ شرعي»، وبعبارةٍ أخرى: «ما من نازلةٍ تقع إلاّ وتحتاج إلى حكمٍ شرعي، منصوصاً كان هذا الحكم أم مستنبطاً»، مع استحضار قِيَم الدين الإسلامي وأُسُسه ومقاصده الكلِّية، وفي مقدّمتها مقصد حفظ المال، واعتبار المال من الضروريات الخَمْس، التي إذا غابَتْ اختلَّتْ الحياة، وعمَّتْ الفوضى في المجتمع.
وقد امتدَّتْ يد التجارة الإلكترونية لتطال وتعمّ العديد من الأنشطة والمعاملات المالية والمصرفية، والتي منها: بيع البضائع، وسداد الالتزامات المالية، وبيع الخدمات والمنافع المعنوية، كالتصميمات الهندسية.
التجارة الإلكترونيّة، تعريفٌ وشروط
تتركَّب التجارة الإلكترونية من كلمتين: الأولى: كلمة تجارة؛ والثانية: كلمة إلكترونية.
وكلمة التجارة هي من فعل تجر يتجر تجر وتاجر وتجارة، أي باع واشترى([6]).
ومصطلح التجارة الإلكترونية من المصطلحات الغربية، وجاءت ترجمـةً للمـصطلح الإنجليزي Commerce Electronic. وتُعَدّ التجارة عبر شبكة الإنترنت قسماً ونوعاً من التجارة الإلكترونية؛ لأن معظم نشاطات التجارة الإلكترونية تـتمّ وتقوم عبـر خدمات الإنترنت([7]).
والتجارة الإلكترونية من قبيل: العقود المستجدّة التي أحدثها الإنسان؛ لتنظيم معاملاته المختلفـة وتيسيرها. وهي من الأمور الضرورية التي تتماشى مع تطوُّر الحياة، علماً بأن هذه العقود المستجدّة لا تنفكّ عن العقود المقرَّرة في الشريعة الإسلامية، ولا تختلف اختلافاً ظاهراً في ماهيّتهـا ومقاصدها عن تلك العقود الشائعة في المعاملات المالية، ولا تخرج عن الضوابط العامة للعقود المعتبرة شرعاً؛ لأنها منبثقةٌ عنها، ومستمدّةٌ منها، ولكنهـا تحمل صورةً جديدة، وبأساليب ووسائل حديثة، فهي تساير التطوُّر في هذا العصر؛ بغية تحقيق مصالح العباد، والتي تتوافق مع روح الشريعة ومقاصدها.
ومن أبرز التعاريف لهذا النوع من التجارة هذا التعريف الذي يحدِّد هذا النوع من التجارة في كونها «مبادلة مالٍ بمالٍ على وجهٍ مشروعٍ بالوسائل الإلكترونية الحديثة»([8]).
وهذا التعريف يحمل ثلاثة مفاهيم أساسية، وهي:
مبادلة: وهو أخذ شيءٍ وإعطاء شيءٍ؛ إذ إن كلاًّ من البائع والمشتري عـوض صـاحبه شيئاً بَدَل المأخوذ منه، وهي بصيغة المفاعلة، أي مشاركة، فالبيع لا يكون إلاّ بين اثنين، حقيقـةً أو حكمـاً؛ لتـولي طرفي العقد تنفيذه.
مال: وهو اسمٌ لجميع ما يملكه الإنسان، وأصله ما جـاز الانتفـاع بـه، وهو يشمل الذهب والفضة، وما يقوم مقامهما من النَّقْد والمتاع والمنافع.
والمال في اللغة هو من كلمة مُلْتَ وتمولتَ: معناه كثر مالك.
قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُمْلَك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها أكثر أموالهم([9]).
الوسائل الإلكترونية: أي الخدمات الجديدة التي تقدِّمها وسائل التواصل الجديدة والإنترنت.
ولقد ألقَتْ هذه التجارة الإلكترونية بظلالها على معظم دول العالم، وأثبتَتْ قدرتها على التواصـل المستمرّ، فهي تُعَدّ من أهمّ أدوات المعاملات المالية في الاقتصاد المعاصر([10]).
ومن التعاريف المختارة للتجارة الإلكترونية تعريف الدكتور أحمد كردي الذي عرف التجارة بقوله: التجارة الإلكترونية Electronic Commerce هي شكل من أشكال التبادل التجاري، أو الإداري، أو تبادل المعلومات، التي تجري باستخدام التقنيات التي جاءت بها المعلوميّات الجديدة في المعلومات والاتصالات.
كما تعرَّف بأنها تنفيذ مختلف أنشطة الأعمال باستخدام الوسائل المعلوماتية المؤلّفة من حواسيب تربطها شبكة حاسوبية؛ لتبادل المعلومات.
ويربط بعضهم تعريف التجارة الإلكترونية بشبكة الإنترنت، فتعرّف بأنها تنفيذ وإدارة الأنشطة التجارية المتعلِّقة بالسلع والخدمات عبر شبكة الإنترنت([11]).
وهذا النوع من التجارة سيكون له الهيمنة والانتشار في المستقبل؛ لأن النظام العالمي الجديد سيتحوَّل تدريجياً ليصبح عالماً إلكترونياً، ومجتمعاً رقمياً، يتمّ تعميم هذا العالم على جميع العالم.
وحتّى يصل ويتفاعل هذا الفقه مع المستجدّات، ويواكب الطوارئ، ويلبي الحاجيات الجديدة التي تقع في الحياة الجديدة بفضل التطوُّر، كان لا بُدَّ لهذا الفقه من أن يضع هذا الاعتبار التشريعي المحدّد في ضرورة استحضار المقاصد الشرعية لهذه النوازل المالية الإلكترونية الجديدة، مع السعي نحو البحث عن أحكام شرعية مناسبة لهذه النوازل الجديدة؛ لأن الأصل أن لكل نازلةٍ حكماً شرعيّاً، وأن العبرة في العقود بمعانيها ومقاصدها، لا بألفاظها ومبانيها، فالأساس موافقتها لمقاصد الشرع، فلا يصحّ تعميم حكم مسألةٍ شرعية، وتنزيل حكمها؛ بسبب تشابه أسمائها وأوصافها، دون النظر في حقيقتها ومقاصدها، وفي مدى عدم معارضتها لأصول الشريعة الإسلامية.
فالمواضيع الجديدة في الفكـر الاقتـصادي الإسـلامي الحديث لها تعلُّقٌ بمقصد أساس من مقاصد الشريعة، ألا وهو حفظ المال؛ لذا فإنـه يـستوجب الدراسة والاهتمام والمتابعة لهذا المجال الجديد في المعاملات المالية التي لها صلةٌ بالحياة الجديدة([12]).
مع الأخذ بهذا الاعتبار الذي يجعل من المال «في نظر الشريعة حظّاً لا يستهان به، وتتقوّم هذه الصفة للمال باجتماع خمسة أمور: أن يكون ممكناً ادّخاره، وأن يكون مرغوباً في تحصيله، وأن يكون قابلاً للتداول، وأن يكون محدود المقدار، وأن يكون مكتسباً»([13]).
والمعين علّة مواكبة الاقتصاد الإسلامي لهذه المستجدّات التجارية أن أساس التشريع الاقتصادي الإسلامي هو قيامه على المصلحة، وهو ما عبَّر عنه الأصوليون بقولهم: «حيثما وُجِدَت المصلحة فثمّة شرع الله».
علماً أن أحكام الشريعة الإسلامية تسعى أن تحفظ للناس مصالحهم، فهي شريعةٌ مبنيّة على اليسر والسهولة وتحقيق المقاصد، ويحضر هذا بشكلٍ جليّ في المعاملات المالية الجديدة، التي تعتبر قوام الحياة وعمودها الأساس في الاقتصاد المعاصر؛ لأن الحاجة تشتدّ إلى هذا النوع من التجارة([14]).
خصائص التجارة الإلكترونيّة
من أهمّ خصائص التجارة الإلكترونية:
ـ إن هذه التجارة تعتمد على استخدام التقنيات الحديثة في التواصل ونقل المعلومات؛ قصد إبرام الصفقات وعقد المبادلات التجارية.
ـ تعتمد هذه التجارة على مبدأ الرضا القائم بين المتعاقدين، فالرضا من أهمّ الشروط في عقود التجارة الإلكترونية.
ـ إن الصفقات التجارية بين الأطراف المشكِّلة للبيع تعتمد وبشكلٍ كلّي على الوسائل الحديثة في التواصل، وبشكلٍ أخص على خدمات الإنترنت.
ـ إن الخدمات والصفقات في التجارة الإلكترونية تقدّم بطريقة افتراضية على شبكات الإنترنت([15]).
ـ في هذه التجارة يكون الحصول على السلع وتقديم النقود بشكلٍ إلكتروني، وبطريقةٍ آليّة.
ـ السرعة في عقد الصفقات وإتمام الأعمال وتنفيذ البيوع من الأشكال الجديدة في هذا النوع من التجارة، وهو الأمر الذي لا يتوافر للتجارة التقليدية.
ـ الزيادة في القدرة التنافسية بين الشركات، بالإضافة إلى زيادة حجم التبادل بين المؤسّسات التجارية.
ـ انحصار التعامل الورقي، والاعتماد على الوسائط الإلكترونية والمغناطيسية والضوئية في تخزين وتبادل المعلومات التجارية والبيانات المصرفية([16]).
والجامع بين هذه الخصائص التي تتَّصف بها التجارة الالكترونية هو أنها جاءت في سياق ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي حقَّقت قفزةً نوعية في ابتكار أنجع الأساليب والطرق في الترويج للمنتجات التجارية والخدمات الاقتصادية.
فرغم هذه الإيجابيات التي تحملها هذه التجارة يحضر التحدّي الذي يعترض هذه النوع من التجارة في الكلفة المالية في بناء وإعداد المواقع الإلكترونية في الشبكات العالمية، فهي ما تزال مكلفةً؛ لأنها تعتمد على المحترفين في إنشائها وإدارتها وصيانتها؛ لضمان نجاحها واستمراريتها، ممّا يحمل هذا النوع من التجارة نفقاتٍ إضافيّةً، قد تكون على حساب ثمن السِّلَع.
أخلاقيّات التجارة الإلكترونيّة
كما تقدَّم فإن التجارة الإلكترونية قامَتْ على عمليات التبادل باستخدام التبادل الإلكتروني، وما تقدِّمه الإنترنت من خدماتٍ، مع الالتزام بأخلاقيات التاجر المسلم وضوابط المعاملات التجارية. وهذا سمةٌ مهمّة في عُرْف التجارة الإلكترونية، من حيث قيامها على مبادئ الصدق والأمانة وعدم الغشّ والتحلّي بالأخلاق الفاضلة.
وعليه حَمَتْ الشريعة الإسلامية المعاملات التجارية من كلّ أنواع التدليس والكذب والغشّ، وحرّمَتْ كافة أنواع غسيل الأموال التجارية، وأوجبَتْ وسائل السلامة في التعامل التجاري؛ حتّى يكسب المال الحلال ـ وهي أسس شرعية ينبغي أن يتحلّى بها التاجر، في الالتزام بالأمانة، والابتعاد عن الغشّ؛ للحديث النبويّ: «مَنْ غشَّنا فليس منّا»([17])، مع ضرورة التحلّي بالأخلاق الحميدة المنبثقة من العقيدة الإسلامية، والالتزام بالشروط والأحكام الشرعية الخاصّة بباب البيوع([18]).
ومن أبرز أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية التقيُّد بالأحكام الشرعية في عدم المعاملة بالرِّبا والاتِّجار بكلّ ما حرَّمه الله والاحتكار والغشّ، وترك الشبهات، والإعلانات الكاذبة، وعدم الصدق، والتبكير في التجارة، بالإضافة إلى التمسُّك بالسماحة في المعاملة، والتحلّي بمعالي الأخلاق، وترك المشاحنة والتضييق على الناس، ووجوب دفع الزكاة المشروعة في سائر الأعمال التجارية وعروضها([19]).
ومما يندرج في هذا القسم ترك الغَرَر والتدليس، من خلال خلق آليّاتٍ آمنة للتوثيق، تتحقَّق فيها جميع الضمانات للأطراف المتعاقدة في هذه التجارة الجديدة.
وفي هذا السياق قال الإمام ابن القيِّم الجوزية(751هـ): «فليس الشأن الإتيان بالطاعة، إنما الشأن في حفظها مما يبطلها»([20]).
ومن الأخلاقيات الأخرى المتَّصلة بهذا النوع من التجارة قيامها على المصلحة، فأساس التشريع المالي هو المصلحة، وقد عبَّر الأصوليون بقولهم: «حيث وُجدَتْ المصلحة فثمّة شرع الله». وإنما تربط جميع الأحكام الشرعية بالمصالح إذ الغاية من التشريع الإسلامي هو جلب المنافع ودَرْء المفاسد، وهو المعيار الفاصل بين التجارة المشروعة والتجارة المردودة، وهو ما يمنح ويحقِّق المشروعية لهذه التجارة الإلكترونية.
ومما يندرج في هذا النوع من أخلاقية التجارة الحرص على عدم الغشّ والخداع في التعامل؛ لما رواه أبو هريرة من «أن رسول اللهﷺ مرَّ على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالَتْ أصابعه بَلَلاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابَتْه السماء، يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس. مَنْ غشَّ فليس منّي»، وفي روايةٍ: «مَنْ غشَّنا فليس منّا».
ولقد نهى الرسولﷺ عن الخالبة، كما في حديث حبّان بن منقذ، الذي كان يغبن في المبايعات، فقال له رسول الله: «إذا بايعْتَ فقل: لا خالبة»([21])، والخالبة: هي كلّ أنواع الغشّ.
قال الإمام النووي، في شرح هذا الحديث: الخلابة هي الغشّ. والمضمون العامّ للحديث: قد ضبط الإسلامُ عقودَ المعاملات بين الناس؛ حتّى يحفظ عليهم أموالهم ومصالحهم من الغَرَر والخديعة، التي رُبَما تقع من بعضٍ.
ومن الأمور التي لها صلةٌ بأخلاقية التجارة الإلكترونية قيامها على الوازع الأخلاقي، والباعث الديني المتمثِّل في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وبهذا نستنتج أن المعاملات المالية بوجه عامٍ، والتجارة الإلكترونية خصوصاً، تعتمد في إطارها العامّ على النظام الأخلاقيّ القائم على التعامل الإيجابي بين سائر البشر، وأن المصلحة في هذا التعامل تُقاس بمعيار الإسلام([22]).
قواعد التجارة في الفقه الإسلاميّ
من أبرز القواعد التي تقوم عليها التجارة في الإسلام:
ـ مبدأ حفظ المال في التجارة، بتنميته واستثماره والتصرُّف فيه وفق قواعد الشرع، بما يؤدّي إلى تحقيق المصلحة العامة.
ـ تحقيق الرضا في التجارة؛ إذ يشكِّل الرضا أصلاً من الأصول التي تقوم عليها العقود التجارية، وهو أمرٌ خفـيّ لـيس بالإمكـان الاطلاع عليه، فلا بُدَّ من أمرٍ حسّي ينبئ عنه؛ لذا أقام الشارع الحكيم قرينةً تدلّ على وجـوده، منها: الألفاظ المعبِّرة على الرضا. لذلك كان الرضا هو أساس العقود التجارية. ويتحقَّق هذا بالعبارات الدالة عليه من قولٍ أو فعلٍ أو كتابةٍ([23]).
ـ إن الأصل في عقود التجارة التراضي وتحقيق المقاصد؛ لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ (النساء: 29)؛ وانطباق شروط البائع والمشتري على طرفي العقد؛ وأن يكون حلالاً، فلا يجوز بيع الأشياء المحرَّمة.
هذه المقاصدية للمال ينبغي الإشارة إليها؛ ذلك أن الشريعة الإسلامية جاءت بتحقيق المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ فكلُّ ما دعَتْ إليه فهو خيرٌ ومصلحةٌ ونَفْعٌ للعباد، وكلُّ ما نهَتْ عنه فهو شرٌّ وفسادٌ وضَرَر. ومَنْ تتبَّع أحكام الشريعة، واستقرأ أدلّتها، وتتبَّع نصوصها، وجدها شريعةً الأصلُ فيها أنها وُضعَتْ لمصالح العباد، في العاجل والآجل؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: 165)، ويقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
وبناءً على مقاصدية المال في الشريعة تمّ استخلاص مجموعة من القواعد المتعلقة بالمال، ومن أهمّها:
1ـ الأصل حفظ المال وصيانته من الضياع.
2ـ الرواج والتداول من مقاصد الإسلام الكبرى في المال.
3ـ الأصل تحصيل المال من الوجوه المشروعة والمباحة.
4ـ الأصل أن الإنسان مستَخْلَفٌ في المال([24]).
5ـ القصد من المال تحقيق الربح المشروع.
6ـ الاحتكار واكتناز المال عن التداول من العقود الممنوعة.
7ـ الضابط الشرعيّ هو الأساس في المعاملات الماليّة.
خاتمةٌ
يُعَدّ موضوع «التجارة الإلكترونية» من أهمّ الموضوعات الجديدة التي تزداد شـيوعاً وانتشاراً في العالم الإسلامي، وتمـارس على نطاقٍ واسع في محيط المشتغلين بأمور التجارة. والحاجة اليوم تزداد إلى هذا النوع من التجارة؛ بسبب التحوُّلات التي يعرفها القطاع الماليّ في العالم أجمع.
علماً أن لهذا النوع من التجارة إيجابياتٍ كثيرةً على الفرد والمجتمع، فهي تـوفِّر من الجهـد والوقت على العاملين في الميدان المالي والمصرفي، مما يلزم بيان الحكـم الشرعيّ في هذا النوع من التجارة.
وفي النهاية، أدعو إلى مزيدٍ من المتابعة والاهتمام والعناية بهذا الموضوع الجديد المتعلِّق بالتجارة الإلكترونية، من خلال الفحص والتنقيب عن أحكام التجارة في التراث الفقهي الإسلامي؛ لتنزيل هده الأحكام والاجتهادات الفقهية على النوازل الجديدة المتعلِّقة بالتجارة الإلكترونية أو الرقمية؛ لأن هذا النوع من الوسائل المستَحْدَثة في التواصل لم تكن معروفةً أو معهودةً عند الفقهاء المتقدِّمين، ولهذا لم يتطرَّق العلماء إلى حكمها في الفقه الإسلامي بشكلٍ واضح وصريح.
الهوامش
(*) باحثٌ في الفكر الإسلاميّ، وحائزٌ على دكتوراه في علم أصول الفقه، وأستاذٌ مساعِدٌ في كلِّية الآداب في وجدة ـ المغرب.
([1]) د. عبد الكريم الكعبي، التجارة الإسلامية في العصر الوسيط، مجلة دراسات تاريخية، العدد 14: 137، كلية الآداب، البصرة ـ العراق، 2013م.
([2]) د. رأفت رضوان، العالم الإلكتروني الجديد والتنمية: 17 ـ 18، المؤتمر الإقليمي الرابع للجان الوطنية العربية لدى غرفة التجارة الدولية، دمشق، 2002م.
([3]) المجتمع الرقمي هو المجتمع الجديد والحديث المتطوِّر، الذي يتشكَّل نتيجةً لاعتماد ودمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الحياة اليومية للإنسان. يراجع: طارق محمد عباس، مجتمع المعلومات الرقمي: 13.
([4]) د. نبيل علي، الثقافة العربية في عصر المعلومات، عالم المعرفة، العدد 265: 262، 2011م.
([5]) د. سمير بوديار، ما بعد لحظة كورونا (تقديم أعمال جماعية): 2، إصدار مركز الدراسات والبحوث، 2021م.
([6]) ابن منظور، لسان العرب 4: 89، دار صادر.
([7]) د. محمد شاهين، العولمة والتجارة الإلكترونية: 62.
([8]) سليمان عبد الرازق أبو مصطفى، التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي: 201.
([9]) ابن منظور، لسان العرب 14: 152، حرف الميم: مول، دار صادر، 2003م.
([10]) د. قاسم النعيمي، مستقبل التجارة الإلكترونية: 56، كلية الاقتصاد ـ جامعة دمشق.
([11]) موقع د. أحمد كردي، آفاق التجارة الإلكترونية، تاريخ النشر: 19 يونيو 2011م.
([12]) مجموعة من الباحثين، مصطلحات الفقه المالي المعاصر: 256، طبعة المعهد العالي للفكر الإسلامي.
([13]) الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: 254.
([14]) محمد منصور ربيع، أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي: 134.
([15]) د. السيد عودة، التجارة الإلكترونية ومهارات التسويق العلمي: 12.
([16]) د. قاسم النعيمي، التجارة الإلكترونية بين الواقع والحقيقة، موقع منتدى المجال القانوني، تاريخ النشر: 2015م.
([17]) رواه الإمام مسلم في صحيحه، رقم الحديث 102.
([18]) محمد منصور ربيع، التجارة الإلكترونية وآفاقها: 15.
([19]) أحمد عمر، التجارة الإلكترونية في ضوء تعاليم الإسلام: 10.
([20]) ابن القيِّم، عدّة الصابرين 1: 66.
([22]) د. محمد عقلة، الإسلام مقاصده وخصائصه: 130.