أحدث المقالات

مدخل

نلاحظ في صفوف المسلمين مع أداء فريضة الصلاة من يضع إحدى يديه على الأخرى، كما نلاحظ آخرين يقومون بتركهما على حالتهما الطبيعية، ويعبّر عن الحالة الأولى في الاصطلاح الفقهي بـ<التكتّف> أو <قبض اليدين>، وعن الحالة الثانية بـ<بسط اليدين> أو <إرسالهما> أو <إسدالهما>، وهذا التباين في حالة اليدين يبعث على التساؤل: يا تُرى هل يوجد في القرآن الكريم ما يدلّ على تعيين إحدى الحالتين؟ ثم أياً من الحالتين كان النبي 2 يلتزم بها في صلواته؟

آراء المذاهب الخمسة حول التكتف

المشهور بين فقهاء السنّة استحباب وضع اليد اليمنى على اليسرى أثناء القراءة في الصلاة، وتفصيل ذلك على النحو التالي:

أ ــ المذهب الحنفي: يستحبّ التكتف بوضع اليد اليمنى على اليسرى، ويستحبّ للرجال التكتف أسفل البطن، وللنساء على موضع الصدر([1]).

ب ــ المذهب الشافعي: يستحبّ التكتف بوضع اليد اليمنى على اليسرى، ويستحبّ للرجال التكتف أسفل البطن، وللنساء على الصدر([2]).

ج ــ المذهب الحنبلي: التكتّف مستحب، والأولى وضع اليمنى على اليسرى أسفل البطن([3]).

د ــ المذهب المالكي: يستحبّ الإرسال في الفرائض، ولا بأس بالتكتف في النوافل فيما لو طال القيام فيعين به على نفسه([4]).

وقد ذهب الأوزاعي وبعض أعلام السنّة إلى التخيير بين القبض والإرسال.

هـ ــ المذهب الجعفري: التكتف حرام ومبطل للصلاة بالإجماع، خرج عنه أبو الصلاح الحلبي القائل بالكراهة([5]).

القرآن والتكتف

في القرآن الكريم حوالي مائة آية تتطرّق للصلاة، إلا أنها لا تتعرّض إلى بيان الأحكام المختصّة بكيفية أدائها، بل تتطرّق إليها في إطار عام يشمل أهميتها وآدابها وآثارها المعنوية وأموراً أخرى في هذا السياق، لذا لا مجال للاستدلال بالكتاب العزيز فيما نحن فيه بشكل مباشر.

ولو طالعنا مجمل الأدلّة التي استدلّ بها علماء السنّة لإثبات التكتف، فلا نرى فيها سوى موضع واحد، فيه إشارة إلى آية شريفة متعرّضة لبعض ما يليق بالصلاة من الآداب، وهي قوله تعالى: >قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ< (المؤمنون: 1 ــ 2)؛ فالقائلون بنظرية التكتف يتمسّكون بهذه الآية المباركة ويصرّون على مسألة التكتف في الصلاة([6]).

ويمكن المناقشة في ذلك من ناحيتين:

1 ــ إنّ مسألة الخشوع والخضوع قضيةٌ نسبية تتبع العادات الخاصة والتقاليد المعينة، حالها حال سائر القضايا المشابهة، فإنا قد نرى عملاً خاصاً في منطقة خاصة أو عند القبيلة الفلانية يعطي انطباعاً مغايراً أو معاكساً للانطباع الحاصل من نفس هذا العمل لدى غيرهم، وهذا ما يفسّر ذهاب بعض أعلام السنّة إلى أنّ التكتف غير مناسب لأفعال الصلاة، وانما هو من باب الاستعانة([7]).

2 ــ مع التنزّل عما تقدّم، وفرض التكتف مصداقاً للخشوع والخضوع لدى الجميع وفي شتى البقاع، نواجه مشكلةً أخرى تكمن في لحن الخطاب الموجود في الآية، إذ لا يستفاد منه الإرادة الأمرية، ولا دلالة له على الإلزام بالخشوع والخضوع بأيّ وجهٍ من الوجوه.

وبهذا يتضح أنه لا مجال للاستدلال في المقام بالقرآن الكريم، وعليه فلابد من النظر في الأحاديث الواردة هنا.

سيرة الرسول الأكرم 2 في مورد التكتف

ليس هناك تفسير لكلّ هذا الاختلاف في العباديات التي يؤتى بها بشكل يومي وبصورة متكرّرة كالصلاة، على مستوى سيرة الرسول الأكرم 2، اللّهم إلا إذا قلنا بأنّ ذلك ناتج عن شدّة وضوح القضية لا غير! بمعنى أنّ فعلاً كالصلاة كان يتم الإتيان به بشكل جماعي على رؤوس الأشهاد وبمرأى الجميع في عصر الرسول 2، فلم يخلق دافعاً للرواة لروايته، ولم تستحوذ الحالة على كثرة الرواة بالمقدار المتناسب مع كثرة تكرارها، فلم يتطرّق إلى هذا الموضوع سوى القليل منهم، ممن كان هذا الأمر البديهي كافياً للفت انتباههم.

ولو راجعنا المصادر الروائية السنّية في هذا المضمار، لا نعثر سوى على ثلاث روايات، وهي: رواية سهل بن سعد في صحيح البخاري، ورواية وائل بن حجر في صحيح مسلم، ورواية عبدالله بن مسعود في سنن البيهقي.

أ ــ أما بالنسبة إلى الرواية الأولى، فعن سهل بن سعد قال: <كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة>([8]).

وهذا الحديث ــ كما يلاحظ ــ يصبّ في إطار تصوير حالة عملية عامّة عند المسلمين، وهو ما نسمّيه بـ<عرف المتشرّعة>، ولم يصرَّح باسم المروي عنه، كي يتضح مدى إمكانية عدّه أمراً شرعياً، ولذا نرى أبا حازم ــ الذي روى هذا الحديث عن سهل بن سعد ــ يقول هنا: <لا أعلمه إلا ينمّي ذلك ــ أي ينسبه ــ إلى النبي 2>([9])، ويقول السيوطي ــ تعليقاً على مثل هذه الموارد التي لا يذكر فيها الراوي اسم المروي عنه ــ : <تركوا الجزم بذلك ــ يعني بنسبة الحديث إلى النبي 2 ــ تورّعاً واحتياطاً>([10]).

ممّا لا شك فيه أن ترك نسبة الحديث إلى النبي 2 حتى في الموارد التي يقطع فيها الراوي بالانتساب أمرٌ جدير بالتقدير، وأنه من منازل التورع والاحتياط، لكنه لا يعدّ مسوّغاً للفقيه للإفتاء استناداً إلى ذلك الحديث، فمسؤولية الإفتاء تحتّم عليه مراعاة أشدّ الورع والاحتياط، فحتى لو استند الفقيه إلى حديث يصرّح فيه الراوي بانتسابه إلى النبي2 فإن عليه في مقام الإفتاء مراعاة جملة مسائل، كالتحقّق من حال الراوي، والتأمّل في نصّ الدليل، والفحص عن الدليل المعارض، وليس له الإفتاء قبل حصول الاطمئنان الكامل من سائر النواحي، فلو كانت هذه وظيفة المفتي في هذه الصورة فما بالك لو كان نفس الراوي محتاطاً في نسبة الرواية إلى النبي 2، أو ليس من المنطقي القول بأنّ احتياط المفتي حينئذ أولى وأجدر من احتياط الراوي؟

ثم إنه لو كان مقتضى تورّع واحتياط الراوي عدم التصريح باسم المروي عنه ــ مع كونه متيقّناً من ذلك ــ فحينئذٍ لابد من اعتبار هذا العدد الهائل من الرواة الذين صرّحوا باسم النبي 2 في رواياتهم غير متورّعين ولا محتاطين!

ب ــ أما بالنسبة إلى الحديث الثاني، فقد روى مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر، أنه رأى النبي 2 وقد <رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبّر ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب>([11]).

ويؤخذ على هذه الرواية:

1 ــ إنّ مجرد رؤية النبي 2 واضعاً إحدى يديه على الأخرى خلف ثوبه لا يثبت رجحان هذا الفعل، فقد يكون سبب ذلك برودة الجوّ، أو يكون لأجل ترتيب الثياب، أو لغير ذلك من الأمور الطارئة في حالات خاصة، وبالتالي لا يمكن عدّ هذا الفعل سنّةً يقتدى بها، بل غاية ما يثبته هو الإباحة، ولنفرض أنّ النبي 2 قد سعل قبل الركوع، فهل يعني ذلك استحباب السعال قبل الركوع؟!

2 ــ يقول الراوي: إن النبي 2 قد التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، ولنا أن نتساءل: كيف استطاع الراوي أن يرى خصوصيات حالة اليدين وهما مخفيّتان تحت الثوب؟

3 ــ يلاحظ وجود همام بن يحيى في سلسلة رواة هذا الحديث، وقد ضعّف أحاديثه بعضُ أعلام الحديث من السنّة([12]).

ج ــ أما بالنسبة إلى الحديث الثالث، فقد روى البيهقي في سننه عن عبدالله بن مسعود: <أنه كان ــ أي ابن مسعود ــ يصلّي، فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي2 فوضع يده اليمنى على اليسرى>([13]).

ويُشكل على هذا الحديث بأمور منها:

1 ــ يلاحظ الحجاج بن أبي زينب السلمي في سلسلة الرواة، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: <أخشى أن يكون ضعيف الحديث>([14])، وقال عنه النسائي: <ليس بالقوي>([15])، كما ضعّفه البلخي([16]).

2 ــ كيف يتصوّر جهل ابن مسعود بهذا الحكم، وأن لا يدري أيّ اليدين لابد من وضعها على الأخرى، حتى يقوم النبي 2 بتصحيح عمله، مع كونه من أوائل صحابة النبي 2؟

هذا، وفي مقابل هذه الروايات التي استُدل بها على رجحان التكتف، هناك آثار تنفي ذلك في سيرة النبي 2([17]).

كما أنّه من المسلّم من الناحية الفقهية أنه لو دار الأمر في مسألةٍ ما بين الحكم بالاستحباب والامتناع عنه؛ حذراً من الوقوع في محذور الابتداع؛ فالمتعين هو الثاني، ومما لا شك فيه أنّ أقصى ما ذهب إليه الفقهاء ــ على المذاهب الخمسة ــ في مسألة التكتف هو الاستحباب، بل إنّ الإمام مالكاً ــ الذي كان يعتبر فقيه دار الهجرة ــ يرى كراهة التكتف في الصلوات الواجبة، كما أنّ جماعة من علماء السنّة وصفوا التكتّف بـ<الممنوع>، كالنخعي وابن سيرين وعبدالله بن الزبير والحسن البصري([18])، وعليه، فحتى مع التسليم بعدم الممنوعية لا ينبغي الريب في كون الترك أولى؛ حذراً من الوقوع في محذور الابتداع.

من جهة أخرى، ومراعاةً لمصالح المسلمين ومنافعهم، على العالم الإسلامي السعي للوصول إلى النقاط المشتركة وموارد الاتفاق بين سائر الفرق والطوائف الإسلامية وحثهم على العمل بها، ومن هذا المنطلق نرى أن الإرسال في الصلاة لا يستلزم بطلانها حسب آراء جميع علماء المسلمين وعلى شتى مذاهبهم ومشاربهم، وبما أن بعض المذاهب الإسلامية لا تجيز التكتف حسب مصادرها، فالحلّ الوسطي والمنطقي أن يقوم الجميع بترك هذا الفعل، وبذلك نكون قد عملنا بوظيفتنا الشرعية والعقلية، وتوصّلنا إلى هدفنا الأرفع والأسمى، وليس سوى وحدة المسلمين واتحاد صفوفهم.

نشأة الخلاف في قضية التكتّف

لو طالعنا سائر المصادر الإسلامية ــ التاريخية منها والفقهية، الشيعية والسنّية ــ لا نجد فيها أدنى إشارة إلى حالة اليدين حين الصلاة في عهد الخلفاء، وحتى بالنسبة إلى معالجة الموضوع فقهياً، نلاحظ أن مسألة التكتف قد شغلت أقلّ المساحات في الكتب الفقهية والروائية، مع أنها تعدّ اليوم بمثابة أول اختلاف يشقّ صفوف المسلمين حين أدائهم صلاة الجمعة والجماعة.

وبما أن وضع إحدى اليدين على الأخرى حالةٌ غير طبيعية ولا اعتيادية أثناء وقوف الإنسان، كما هو واضح، فلو كانت سنّةً قطعية عند المسلمين لكان من المفترض الإشارة إليها بشكل أوضح مما هو عليه، وبصورة ترفع عنها علامات الاستفهام؛ لأن إثبات ما هو خلاف العرف والعادة يستدعي الاستناد إلى أدلّة قوية وحجج دامغة.

شعيرة التأمين والموقف الفقهي منها

ومن المسائل التي اختلفت فيها الآراء بين المذاهب الإسلامية، ذكر كلمة <آمين> عقيب قراءة سورة الحمد في الصلاة، وعلى الأخصّ أثناء أداء صلاة الجماعة.

وبصورة عامة، فإن جميع الملاحظات المذكورة في مسألة التكتف يمكن إيرادها هنا أيضاً، كما يلي:

1 ــ لا إشارة في القرآن الكريم إلى مسألة التأمين في الصلاة.

2 ــ لا يوجد قائل بوجوب التأمين، سواء على صعيد الفقه الشيعي أو السنّي.

3 ــ أقصى ما قيل فيه هو الاستحباب، إن لم نأخذ بالاعتبار عدّه مبطلاً للصلاة حسب بعض المذاهب.

4 ــ إن الأحاديث الواردة في فضيلة التأمين ضعيفة.

مطالعة في روايات التأمين

معظم الأحاديث الواردة في الحث على ذكر كلمة <آمين> بعد قراءة الحمد تنتهي ــ سنداً ــ إلى أبي هريرة، ونظراً لاختلاف الآراء وتباينها حول هذا الراوي في المعاجم الرجاليّة السنّية، ومع ملاحظة كثرة الأحاديث التي رواها عن النبي 2 والتي تعرّضت لها الكتب الفقهية السنّية على نطاق واسع واعتمدت عليها، فإنّ رأينا هو عدم إمكان الاعتماد على رواياته التي تفرّد بها، ومع غضّ النظر عن أن أكثر الأحاديث المتعلّقة بالتأمين مروية عن أبي هريرة، ومع الإغماض عن شخصية هذا الراوي، فإن هذه الأحاديث لا تكاد تصلح للاعتماد عليها؛ إذ لا دلالة لها عموماً على وجوب التأمين أو استحبابه بعد قراءة الحمد في الصلاة، خذ ــ مثلاً ــ رواية نقلها البخاري في صحيحه: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، قال الزهري: حدثناه عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي 2 قال: <إذا أمّن القارئ فأمّنوا، فإنّ الملائكة تؤمّن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه>([19]).

قال ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري: <ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك ــ يعني من القارئ في الصلاة ــ>([20]).

ويستطرد بذكر رواية استدل بها القوم في مسألة التأمين، معتبراً إياها قرينةً على ما احتمله، فيقول مضيفاً: <وورد في التأمين مطلقاً أحاديث منها حديث عائشة مرفوعاً: ما حسدَتكم اليهود على شيء ما حسدَتكم على السلام والتأمين>([21]).

وهناك أحاديث مروية عن رواة آخرين، وفيها تصريح بذكر كلمة <آمين> بعد قراءة سورة الحمد، وما يمكن الاستناد إليه منها حديثان رواهما ابن ماجة في سننه:

1 ــ حديث عثمان بن أبي شيبة، حدثنا حميد بن عبدالرحمن، حدثنا ابن أبي ليلى، عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي، عن علي، قال: سمعت رسول الله 2 إذا قال: <ولا الضالين> قال: <آمين>([22]).

2 ــ حدثنا محمّد بن الصباح وعمر بن خالد الواسطي قائلاً: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عبدالجبار بن وائل، عن أبيه، قال: صلّيت مع النبي 2، فلما قال: <ولا الضالين> قال: <آمين>، فسمعناها([23]).

ويناقش هذان الحديثان سنداً:

أ ــ عثمان بن أبي شيبة، ضعّفه بعض أعلام الرجال من السنّة.

ب ــ حجية بن عدي، ذكروا أنه شيخ لا يحتجّ بحديثه، شبيه بالمجهول([24]).

ج ــ عبدالجبار بن وائل، نقل الحديث عن أبيه وائل بن حجر، في حين أنه ولد بعد أن مات أبوه([25]).

د ــ عبدالرحمن بن أبي ليلى، اتهم بالنسيان([26]).

وعلى ضوء ما تقدم، ومع ملاحظة توقيفية العبادات وممنوعية الزيادة والنقصان فيها دون أدلة قوية ومتينة، وبالنظر إلى ضعف الأدلّة المقامة في هذه المسألة والتي لا تنهض لإثبات رجحان التأمين، فالعقل السليم والمنطق القويم يستوجبان الانصراف عن الإتيان بالتأمين حذراً من الوقوع في محذور الابتداع.

مكامن ضعف في الاجتهاد الفقهي والعقائدي

هناك ثلاثة عوامل أساسية تؤثر بشكل مباشر على الاستنباط، ويكون التطابق أو التباين في النظريات المستنبطة من مصدر واحد دائراً مدارها وجوداً وعدماً، وهي: 1 ــ نقاوة المصدر. 2 ــ سلامة المستنبط ودرايته. 3 ــ الإطار الذهني المتأثر بالمناخ الديني السائد، وهذا العامل هو أساس تبلور نظرية التعددية الدينية، أو ما يسمى بالبلورالية الدينية.

إنّ تخلّف أي عامل من هذه العوامل الثلاثة يؤثر بشكل سلبي على نتيجة العملية الاستنباطية، فمهما فرضنا وحدة المصدر الذي ترتكز عليه عملية الاستنباط فإن النتائج ستكون متباينة ومختلفة جراء مجمل التأثيرات الخارجية والداخلية، كما أنّ أكثر عمليات الاستنباط تأثراً بهذه التأثيرات تلك المتعلقة بالاستنباط من المصادر الدينية، ونحاول هنا بإيجاز؛ لملامسة السياق الفكري لموضوعنا تحليل هذه العوامل.

1 ــ إن وقوع الاختلاف في المسائل الاجتهادية، بمعنى المسائل المستنبطة من المصادر الفقهية والحقوقية، أمرٌ طبيعي، حاله حال سائر المناقشات والمحاورات التي تختلف فيها الآراء نتيجة تباين الاستنباطات الشخصية وتفاوتها، بل يمكن حصوله حتى في صورة تزامن استماع المخاطبين إلى مفردات الخطاب، إذ لا شك حيئنذٍ في أن تتباين الاستنباطات لدى المخاطبين، وبمرور الوقت تتسع دائرة الاختلاف والتباين وتتضاعف، حتى ليستدعي الأمر اللجوء إلى سائر القرائن والشواهد الخارجية لرفع مستوى الاطمئنان من بلوغ الأهداف المتوخاة من الخطاب أو الوصول إلى نظر المخاطِب ورأيه.

2 ــ نحن نعلم جميعاً ما حصل بعد وفاة النبي 2؛ فبادئ ذي بدء قام الخليفة الأول بمنع نقل الأحاديث النبوية([27])، بحجّة ضرورة احترام القرآن وحفظ كرامته؛ باعتباره المصدر التشريعي الوحيد عند المسلمين، ثم أصدر الخليفة الثاني فيما بعد تعليمات منع بموجبها كتابة الأحاديث النبوية([28])، وفي مرحلة أخرى، أمر بجمع الأحاديث النبوية وأضرم فيها النار([29])، وفي عهد الخليفة الثالث ازداد الترغيب بنقل أحاديث في مجالات ومواضيع خاصة، ما أسفر عن تكوين قاعدة هشّة للمصادر الروائية([30])، ثم جاء معاوية، وكان أن مُنع في عهده من نشر ما عدا الأحاديث المروية في زمن الخليفة الثاني([31])، ومن الطبيعي أن يكون لهذه القرارات المتخذة بشأن التراث الثقافي الإسلامي الأثر البالغ في ارتباكه واضطرابه، ومن العجيب أن نلاحظ ــ بعد كلّ ما حصل ــ وجود آثار باقية لحدّ الآن.

3 ــ لقد اتسعت ساحة الاختلافات السياسية والحزبية بعد وفاة الرسول 2، فشملت سائر الميادين الثقافية والحقوقية والفكرية، فكان البعض يعمد إلى أن يروي في المجالات الثقافية والعقائدية، وعلى نحو لا يرتضيه منافسه السياسي، ومن ثَمَّ كانت تصدر الفتاوى الشرعية على طبق تلك الأحاديث والروايات.

ومن نماذج ذلك ما يُنقل عن ابن أبي هريرة أنه كان يقول: من الأولى تسنيم القبور لا تسطيحها، فهو شعار الشيعة ومن الأفضل مخالفتهم، ثم يحتجّ على ذلك بأن النبي 2 كان كلما يرى جنازة يقف احتراماً لها، إلى أن أخبر 2 بأن اليهود يقومون بعمل الشيء نفسه، عندها ترك النبي 2 هذا العمل مخالفةً لهم.

نعم، إن هذا التشبيه للشيعة باليهود، ولزوم الفرار عن مشابهتهم كلزومه عن التشبّه باليهود لم يكن سوى نتيجة للنزاعات والصراعات السياسية وحسب.

4 ــ لقد أصبحت الفتاوى الصادرة من الفقهاء في الأحكام الشرعية وسيلةً لمعرفة هوية المفتي وتحديد اتجاهه الفكري والسياسي، وصارت الموافقة على هذه الفتاوى أو مخالفتها بمثابة القبول بالاتجاه السياسي الخاصّ أو رفضه، فكان أن وجدتهم يسعون للتماهي مع أفكار الحزب الحاكم لا لأجل الاقتناع العلمي بذلك، وإنما لخوف طائفة من تحديد هويتها الفكرية وتوجّهاتها السياسية، وما يترتب على ذلك من أمور لا تُحمد عقباها، وطمع الأخرى في الحصول على المميزات.

من جهة أخرى، فالأنظمة الحاكمة وجدت في الاختلافات الفقهية تلك وسيلةً للاطلاع على حقيقة التوجهات الفكرية والسياسية لدى عامة الناس، فاغتنمت الفرصة وعملت ــ قدر استطاعتها ــ على تهويل تلك الاختلافات وإظهارها أكبر من حجمها الواقعي، فكان أن فقدت طابعها الفقهي والعلمي واتسمت بطابع حزبي وسياسي.

5 ــ إن استراتيجية الاجتهاد بلا حدود، وورود الاستحسان والقياس في جملة أدلة الاستنباط، أطلق العنان أمام شتى أنواع التفسير والتأويل، ودون ضوابط وقواعد، وصار من لم يتمكّن من العثور على دليل من القرآن أو السنّة متوسلاً بالاستحسان والقياس، وهذا ما أدى ــ من ثمّ ــ إلى اتساع رقعة الاختلافات الفقهية والفتوائية.

أضف إلى ذلك، ما جاء في وصية الخليفة الثاني حينما اشترط على مَن يخلفه العملَ بسيرة الخلفاء السابقين، وهو ما أدّى ــ فيما بعد ــ إلى عدّ <سيرة الخلفاء> مصدراً ثالثاً لاستنباط الأحكام الشرعية، بعد أن كانت المصادر قبل ذلك منحصرةً بالقرآن والسنّة النبوية، وهي وإن كانت تطابق القرآن والسنّة في كثير من الموارد، إلا أنها كانت تفارقهما في بعض الموارد الكافية لإيجاد الاختلاف في فتاوى فقهاء المذاهب الإسلامية.

هذه الأمور وتلك، هيّأت المناخ لظهور اختلافات فقهية، فأمست الأمة الإسلامية على نشوب صراعات مذهبية وطائفية، تقوم فيها الفرق بتكفير أو تفسيق بعضها البعض، ونحن إذ ندعو الأمة الإسلامية للاعتماد على الأدلّة والبراهين القاطعة والاستناد إلى النقاط المشتركة المتفق عليها بين سائر الفرق والطوائف، نهيب بالمسلمين التحلّي بثقافة الرأي والرأي الآخر، والالتزام بمبدأ التعايش السلمي من أجل تضييع الفرصة على عدوّهم المشترك في انتهاز هذه الاختلافات ذريعةً للتدخل في شؤونهم والتحكّم في مصالحهم.

خلاصة واستنتاج

1 ــ لا مجال للاستناد إلى القرآن الكريم لإثبات استحباب التكتف، أما الروايات التي استدلّ بها على الاستحباب، فلا تكاد تخلو من مناقشات أصولية ورجالية، وعلى ذات الأسس المعترف بها لدى علماء السنّة، مضافاً إلى أن فقهاء السنّة أنفسهم لا يُجمعون على الاستحباب، فالإمام مالك لا يقول به أصلاً، كما أن سائر القائلين به يختلفون في جزئيات المسألة ولا تتطابق آراؤهم فيها.

2 ــ إن أساس ما يستند إليه فقهاء السنّة لإثبات استحباب التأمين، روايات ضعيفة السند لدى علماء الرجال عندهم، وحينئذٍ يحتمل ــ مع الإتيان به ــ الوقوع في محذور الابتداع <وكل بدعة ضلالة>، فالأولى إذاً ترك التأمين.

*     *     *

الهوامش



([1]) محمد جواد مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة 1: 216، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) أبو علي الفراء، المسائل الفقهية 1: 56، مكتبة المعارف، 1985م؛ والكافي 1: 107.

([4]) التنوخي، المدونة الكبرى 1: 81، دار صادر.

([5]) النجفي، جواهر الكلام 11: 15، دار الكتب الإسلامية.

([6]) النووي، المجموع في شرح المذهب 3: 313، دار الفكر، بيروت، 1996م.

([7]) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 107، دار المعرفة، بيروت.

([8]) صحيح البخاري 1: 180، دار الفكر، بيروت.

([9]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري 2: 186، دار المعرفة، بيروت.

([10]) السيوطي، تدريب الراوي: 120.

([11]) صحيح مسلم 2: 13، دار الفكر، بيروت.

([12]) أبو الحجاج المزي، تهذيب الكمال 19: 25، دار الفكر، بيروت.

([13]) البيهقي، السنن الكبرى 2: 28، دار الفكر، بيروت.

([14]) الرازي، الجرح والتعديل 1: 107، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([15]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 2: 212، مؤسسة التاريخ العربي.

([16]) المصدر نفسه.

([17]) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 107.

([18]) النووي، المجموع في شرح المهذب 3: 311، 312.

([19]) صحيح البخاري 7: 167.

([20]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري 11: 168.

([21]) المصدر نفسه.

([22]) سنن ابن ماجة 1: 278، دار الفكر، بيروت.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) أبو الحجاج المزي، تهذيب الكمال 3: 338.

([25]) المصدر نفسه 10: 142.

([26]) بشار عواد، شرح سنن ابن ماجة 2: 136.

([27]) الذهبي، تذكرة الحفاظ 1: 2، دار العميمي.

([28]) تقييد العلم: 49.

([29]) ابن سعد، الطبقات الكبرى 1: 140، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1986م.

([30]) المصدر نفسه 2: 336.

([31]) المتقي الهندي، كنـز العمال 1: 291، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1985م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً